25 فبراير، 2025 12:53 ص

الهوس بالكاتب/ة (14): حالة فقد ورغبة في اكتمال الذات تحتاج إلى تعامل هادئ لتحييدها

الهوس بالكاتب/ة (14): حالة فقد ورغبة في اكتمال الذات تحتاج إلى تعامل هادئ لتحييدها

 

خاص: إعداد- سماح عادل

من تداعيات هوس قارئة ما بكاتب ما الإفراط في التواصل والإفراط في التوقع، كأن تتخيل أنه هو عينه الرجل الذي تحلم به وتتمناه، وتسقط عليه أحلامها. كما قد يمنع هذا الهوس إمكانية حدوث تواصل حقيقي وواقعي بين الكاتب والقارئة، لأنها لا تهتم سوى بحكمها عليه من قراءتها لنصوصه، فتظل تلك النصوص حاجزا بينهما يعيق التواصل الصحي. لكن من ناحية أخرى هذا الهوس يرضي الكاتب، المهووس به، لأنه يكمل كينونته ويدعمها، ولأنه يشعر أن من يكتب من أجلهم ولهم يحسون به، ويتفاعلون معه لتكتمل دائرة التواصل والتفاعل، لكنه قد يكون وضعا مربكا للكاتب نفسه إذا لم يتعامل مع هذا الهوس بحكمة.

كما أن تلك المحبة الزائدة إذا تعامل معها الكاتب بغرور او تكبر قد يفقد قرائه، ويفقد إمكانية تواصل ثري معهم، والتعرف على تفاصيل هوسهم به، ويصبح معزولا عن متلقيه، لذا التحييد واللطف والتعامل بحذر وهدوء طريقة مناسبة لتجنب انفجار قنبلة الهوس.

هذا التحقيق يتناول فكرة الهوس بالكاتب أو الكاتبة وقد طرحنا هذه الأسئلة على بعض الكتاب والكاتبات من مختلف البلدان:

  1. ككاتب هل تعرضت لحالة من الهوس من قارئة ما.. مثل أن تسعى للتعرف عليك أو تتقرب إليك؟ وماذا كان رد فعلك في حالة حدوث ذلك؟
  2. ما رأيك في هذا النوع من الهوس الذي ينتاب القارئ تجاه كاتب ما وما تفسيره؟
  3. كقارئ هل انتابك هذا النوع من الهوس تجاه كاتبة.. أو حتى كاتب وأحببت أن تعرف تفاصيل عن حياته، أو اهتميت به خارج حدود نصه؟
  4. هل يعني هذا الهوس بمعنى ما أن النصوص التي ينشرها الكاتب أصبحت وسيلة لعرض جزء من ذاته على الناس وبالتالي أصبحت بمعنى ما ملكا للجميع؟

الإفراط في التواصل والتوقع..

الشاعر والكاتب السوري “عمر الشيخ” يقول: “لم يكن هوساً بالمعنى المرضي، بقدر ما كان فرصة للتواصل والتعارف على الناس، لأن الكاتب بشكل أو بآخر- برأيي- يسعى إلى الوصول إلى الناس وفهم الحياة معهم، والتشارك بأفكاره وسماعهم، لمواجهة الحياة والتحديات التي يعيشها الفكر والخيال والوجود، اليوم.

بالنسبة لي كانت التجربة تعود لسنوات مضت، كنت في دمشق وأعمل في صحيفة أسبوعية كمحرر ثقافي، وكنت أكتب زاوية أسبوعية فيها الكثير من السرد النثري، لأني أساساً جئت إلى الصحافة من الشّعر، وبالتالي باتت مقالاتي الثقافية واليوميات والنقد الذي أوجهه للظواهر والأفكار المعاشة آنذاك، والمتابعات، هي مقالات قادمة من قاموس شعريّ لا تشوبه شائبة من العمل الصحفي التقليدي- الأكاديمي أو الجامعي.

أي أني لم أدرس صحافة في الجامعة، بل كنت أكتب لأني لا أعرف فعل شيء آخر! وكنت أكتب بأسلوبي السردي مقترحات صحفية لمعالجة قضايا ثقافية وأفكار حياتية، وتعلمت مهارات التحرير لاحقاً، وكانت مقالاتي تحاول أن تحرض الآخر على التفكير وتدفعه للمشاركة بالرأي أيضاً.

المهم كان الحدث على نحو درامي غير متوقع، كنت راكباً في باص للنقل الداخلي، في ظهيرة يوم شتائي من عام 2012 أو 2013 لا أذكر بالضبط، قرب منطقة ساحة باب توما الشهيرة، في دمشق، وكان هناك في المقاعد الخلفية مجموعة من الصبايا – طالبات جامعيات على ما يبدو- وانتبهت إلى أن إحداهن تملك عيون زرقاء، وأنا منذ طفولتي إلى اليوم لا أستطيع أن أزيح عيوني عن مشهد العيون الزرق للنساء، وأسرح بشكل لا يصدق معها.

ابتسمت أنا، فبادلتني ذات العيون الزرق ابتسامة طفولية لن أنساها، ثم عدت لجريدتي أقرأ، فهمست إحداهن: “أليس هذا هو عمر الشيخ؟” استغربت حين سمعت اسمعي، نظرت مجدداً وابتسمت قلت في نفسي: ربما شبّه لي أنهم ذكروا اسمي، بعد قليل نزلت من الباص وإذ بالمجموعة الجميلة من الفتيات تتبعني لخطوات طويلة، ثم فجأة نادت إحداهن: أستاذ عمر!، التفت وتعرفت عليهن، وكانت ذات العيون الزرق بالضبط هي من تحتفظ بقصاصات مقالاتي في الجريدة، خصوصاً الزاوية الأسبوعية، حيث عرفت بعد محادثة قصيرة، مما قالت فيها: إذا كان ينقصك زاوية من زوايا “فاصلة” (وهو اسم زاويتي) يمكنك أن تجدها عندي، فأنا أحتفظ لك بكل تلك الكلمات” شكرتها كثيراً وهديتها مجموعتي الشعرية الثانية “متى أصبح خبراً عاجلاً- 2009″ وتبادلنا أرقام الهاتف للتواصل وأكملت طريقي وكنت في غاية الفرح لأنني وصلت إلى قارئ.

شخصيا اعتقد أن الهوس المتعلق بالرغبة في التعرف أو التواصل المستمر مع الكاتب أو الكاتبة، هذا الشكل من أشكال التواصل المسمى هوسا حالة فقد ورغبة في اكتمال الذات، قد تجد هذه الفتاة أو هذه القارئة جزء من كيانها لدي، أو جزء من أفكارها عن رجل ما لدي، فقد تحاول أن أكون أنا هذا الرجل بشكل أو بآخر، وهنا مضار هذا الهوس، يجب معرفة كيفية معالجته أو تلقيه.

وبناء على ذلك برأيي أنه من الصحي أن يكون لدى الكاتب أشخاص يكملون كينونته ويدعمونها، لأنه يكتب من أجلهم، هو يكتب بهم ومعهم، هو بشكل أو بآخر صوتهم، لذلك أعاني من هذا الجانب لأني أجد أن ذلك أمر طبيعي للغاية ولكنه في بعض الأحيان مربك، وهذه الجزئية التي أريد أن أتحدث عنها أنه يتحول إلى فعلا مرض لأن هذا الآخر أو هذه الأخرى، الفتاة، القارئة، تريد أن ترى فيك كل شيء، من خلال نصك قد تكون وصلت لها بشيء ما.

هذا الإفراط بالتواصل والتوقع هو أحد تداعيات الهوس، لذلك الحالة التي جرت معي وعيشتها كانت نتائجها أن تحولت إلى صداقة فيما بعد، ولكن هذه الصداقة كانت مبينة على ثقة القراءة الأولية لهذه الفتاة أو لهذه الصبية، وفيما بعد لم تبحث أكثر عني أو بالأحرى أنا لم أجد طريقة لأصل لها كصديقة، لأننا مازلنا عالقين بالنص، فقط بالنص”.

وعن هذا النوع من الهوس الذي ينتاب القارئ تجاه كاتب ما يقول: “لازلت معترضاً قليلاً على تعبير “هوس”، ولكن، أعتقد أنها رغبة في فهم الأشياء من خلال كثافة القول والتواصل مع إنسان يبسط ذلك، والدخول عميقاً في النفس البشرية من خلال التفرغ للبحث عن مفردات وصور ومشاهد حياة، تُكتب بطريقة فنية خاصة، تحقق ما يعجز أحياناً القارئ على الإحاطة به، وبالتأكيد لن يكون للنصوص أي قيمة ما لم تكن إلى جانب الناس الذين يبحثون ويريدون أن يعرفوا، وأرى بشكل واضح أن رغبة الناس بالتواصل مع الكتّاب الذين يحبون أعمالهم، هي شيء طبيعي ولكن يجب أن يأخذ شكلاً واضحاً من التواصل وتفهّم الرغبات بأننا جميعاً بالمحصلة بشر ونطمح لأن نقويّ شبكتنا مع أشخاص مختلفين، يفرحنا إنتاجهم وفكرهم وعملهم ووجودهم”.

وعن هوسه كقارئ يقول: “أجل كان لدي تجارب عديدة مع كتّاب محليين وعرب، كنت أحبّ أن أعرفهم عن قرب، وأصبحوا فيما بعد أصدقاء وأنا أتعلم منهم دائماً، مثل الشاعر والمترجم “محمد عُضيمة”، والشاعر الراحل “بندر عبد الحميد”، والشاعر والمترجم “عابد إسماعيل”، والكاتب الروائي “خليل صويلح”، والكاتبة الروائية “سمر يزبك”.

والعديد من الأصدقاء الكتّاب والكاتبات الذين يمنحوني الكثير من الطاقة وتجاربهم أطول من تجربتي أو أقصر أو تساويها زمنياً، كان محيطي فقط كتّاب وصحفيين وفنانين، كان محيطاً ثقافياً بحتاً، فهذا الحقل الذي  كبرت وتعلمت فيه خبرات الكتابة الصحفية والإبداعية، لذلك أعتقد أنه من الطبيعي أن أبحث عن كتّاب على قيد الحياة للتواصل معهم بقصد التعلم منهم ومن تجاربهم وليس الهوس المرضي. وعالمياً لطالما أحبب أدب “ميلان كونديرا” ولكن ما الفائدة من التعرف على حياته إذا كنت لا أتقن اللغة الفرنسية أو التشيكية، هناك الكثير من الأصوات الأدبية يسرني التواصل والتعرف بهم ولا يحضرني أسماء لكثرة ما في خيالي من أسماء لدى كل منهم تفصيل يعجبني وأحبّه”.

وعن كون هذا الهوس بمعنى ما أن النصوص التي ينشرها الكاتب أصبحت وسيلة لعرض جزء من ذاته على الناس ويقول: “النصوص هي فرصة الكاتب لتشجيع العالم على التفكير، وكثيراً ما يسرني أن يقول البعض أن ما أكبته يحقق أشياءً داخلهم، ويشعرون أني أتكلم بلسانهم، هذه قمة السعادة والوصول إلى الغاية الإنسانية أن نكون معاً في هذه الحياة الشاقة، وإذا كانت الكتابة تخفف من أعباء فهم هذا العالم، فذلك يعني بالنسبة لي إنجازاً إنسانياً كبيراً، كما أني لا أجد أن النصوص قد تكون دائماً هي صور عن واقع الكاتب فقط، فهي قد تحمل فلسفته، تعرضها، أو ربما تكون سيرته الذاتية مع كولاج الخيال الذي يحلم به، وبرأيي أن فن الكتابة الإبداعية لا يمكن أن يكون مجرد تدوين للواقع دون التحليل وفهم جذور الأشياء والتاريخ والطباع والمشاعر والتجارب على اختلافها وتنوعها وأزمنتها”.

امتصاص هذا الهوس وتحييده..

يقول الكاتب السوداني “أحمد هارون البلالي”: “يوجد هذا الهوس ولكن أن لم تقابله بحكمة قد تسقط في نظر الطرف المهووس، فعلى الكاتب التواضع ثم التواضع ثم التواضع. ولكن بالعكس عندنا هنا يحصل من المهووس به التكبر والأنفة والتعالي بحكم أنه مشهور وخلاص.

ويضيف: “الهوس هو حالة يمكن أن توصف عند علماء النفس بالحالة المرضية، وعند علماء الاجتماع بالمحبة الزائدة، وعند العامة بالمرايدة أي بمعنى المريد. في وجهة نظري هوس القارئ شيء طبيعي لو لم يجانبه المرض، لأن القارئ وجد ضالته في نصوص الكاتب قبل أن يهتم بالكاتب نفسه، فتطورت العلاقة ما بين القارئ والنص لتصل لمرحلة الهوس بما ينتجه الكاتب من أفكار، أو بما يضيفه من معلومات تستهوي القارئ، ومن ثم تتعمق العلاقة لتصل إلى تتبع حركة الكاتب في المشاركات ومنها تتم هوس المقابلة الشخصية والتعلق به. ومعرفة كل صغيرة وكبيرة تجاه الكاتب أو لتصير بالمعنى الصديق المقرب إليه”.

ويؤكد: “هذا الهوس هو حميد في وجهة نظري كذلك لأن السعي يقوي علاقة الكاتب بما ينتج تجاه مريديه أو قراءه فيزيد من إنتاجه الذي يلامس خلجات القراء.  وبهذا إن لم يكن الكاتب حصيف فيما يقابل من هوس القراء ستنهار مملكته الكتابية ويمكن أن تلفظه خارج دائرة الاهتمام. وعندما يقل اهتمام القارئ يتناقص منتوج الكاتب. والمبدع الحقيقي هو الذي يصنع كلا الطرفين المادة الإبداعية والقارئ المهووس. تعرضت لمثل هذا الهوس وقابلته ببرود ولطف، حتى لا أفقد قارئ يمكن أن أستفيد منه في بعض الجوانب. لأن من القراء أن تستنتج بعض من أفكارك في حل معضلة أو إظهار حالة من حالة الهوس.

ولكن كما ذكرت لك أن لم تكون حصيف في امتصاص هذا الهوس يمكن أن تسقط بالتكبر والتعالي والأنفة. وكل المتوج الأدبي هو حراك بين الكاتب والعامة الذين يحركون المشهد في الواقع وهم إذن نصفهم إن لم يكن أغلبهم من رواد كتابات الكاتب.

ومن حق الكاتب الجيد أن يمر بهذه الفعل أو ردات الفعل من القراء وهي محمودة تصيب من يستقبلها بحنكة من طرف الكاتب، وتخيب إن لم يتقبلها بحكم الشهرة جدار لا يمكن تتسلقه إن كنت من الأطراف الأخرى”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة