خاص: إعداد- سماح عادل
قد يقع القارئ في فخ الهوس بالكاتب، حين تلمس نصوصه أعماق هذا القارئ، أو يعبر عن ذاته، ربما يتطور هذا الهوس لمشاعر إنسانية في حالة اختلاف الجنسين، كأن تحب قارئة كاتب، أو يحب قارئ كاتبة، ويتحول الهوس لحب بجنون، واندفاع، ولمحاولة للتعرف على ذلك الكاتب أو الكاتبة والنفاذ لشخصياتهم الحقيقية.
وأحيانا يكون الهوس بالكاتب كشخص قادر على التعبير والكتابة ورسم الشخصيات. كما أن الكاتب نفسه هو أيضا يقوم بالدور الآخر، أي أنه قارئ قد يتعرض لحالة الهوس تلك.
هذا التحقيق يتناول فكرة الهوس بالكاتب أو الكاتبة وقد طرحنا هذه الأسئلة على بعض الكتاب والكاتبات من مختلف البلدان:
- ككاتب هل تعرضت لحالة من الهوس من قارئة ما.. مثل أن تسعى للتعرف عليك أو تتقرب إليك؟ وماذا كان رد فعلك في حالة حدوث ذلك؟
- ما رأيك في هذا النوع من الهوس الذي ينتاب القارئ تجاه كاتب ما وما تفسيره؟
- كقارئ هل انتابك هذا النوع من الهوس تجاه كاتبة.. أو حتى كاتب وأحببت أن تعرف تفاصيل عن حياته، أو اهتميت به خارج حدود نصه؟
- هل يعني هذا الهوس بمعنى ما أن النصوص التي ينشرها الكاتب أصبحت وسيلة لعرض جزء من ذاته على الناس وبالتالي أصبحت بمعنى ما ملكا للجميع؟
هوس طبيعي أم مرض محاكاة..
يقول الكاتب والشاعر السوري “نديم الوزه”: عن تعرضه لحالة من الهوس من قارئة ما: “دائماً أتعرّض لمثل هذه الحالات، وأكون إيجابياً، بمعنى أنّني أساعد هؤلاء القارئات على التحرّر من حالة الإيهام التي تملكتهنّ بسبب قراءة النص الأدبيّ والتعامل معي كإنسان واقعيّ قد يكون أجمل وأرقّ وأكثر إثارة من النص الأدبيّ.
وبالتالي لا أخلق لديهنّ تناقضاً بين النص الأدبيّ وحياتي الشخصية، ويجدن أملاً في تغيير حياتهنّ نحو الأفضل، على اعتبار أنّ ثمّة مشتركاً من الوعي الجمعي يساعد على علاقات حرة وجميلة بين الرجل والمرأة.
وهذا الهوس الطبيعي يختلف عن الهوس الاكتئابي الذي يحتاج إلى طبيب نفسي”.
وعن رأيه في الهوس الذي ينتاب القارئ تجاه كاتب ما يقول: “أعتقد أنّ تعلّق القارئ بالكاتب شيء إيجابي، وهو نوع من البحث عن مشترك من الوعي والتعبير عنه. لكن هناك مرض المحاكاة الذي ينتاب بعض القراء ولاسيما حين يشعرون نفس مشاعر الكاتب ويملكون نفس أفكاره على ما يتوهمون ويستنتجون أنهم بمستوى هذا الكاتب وغالباً ما يحاولون الكتابة ويصبح لدينا كم كبير من الكتاب غير الناجحين. بينما الكتابة هي فنّ في تشكيل الشخصيات وخلق وعي مغاير لحياتها وسلوكها من خلال لغة يبتكرها الكاتب بعد مسيرة طويلة من التعلم والتجريب”.
وعن إصابته بهذا الهوس كقارئ يقول: “في الحقيقة لم يحصل معي هذا الشيء لقربي المبكّر من وسط الأدباء ولاسيما المشهورين منهم. يحصل لديّ نوع من الاهتمام النقديّ الخاص تجاه كتاب مميزين كتبت عنهم أو حاورتهم مثل “سعد الله ونوس” و”حنا مينه” ولم ألتقِ بهما سوى مرّة واحدة بشكل عابر. بينما أجريت حوارات مطولة مع “ممدوح عدوان” بعيداً عن حياته الشخصية. وآخر كاتب اهتممت به نقدياً كان الروائي “خليل النعيمي” وأتمنى حالياً لو يساعدني كاتب ما أو فنان ما على الخروج من سوريا لتحسين ظروفي المعيشية بحجة اللقاء به شخصياً”.
وعن كون هذا الهوس يعني أن النصوص التي ينشرها الكاتب أصبحت وسيلة لعرض جزء من ذاته يقول: “الكتابة هي ملك لكاتبها بكافة الأحوال. وقد يعرض الكاتب كتابته بشكل مجاني أو مقابل أجر حسب ما يرغب ومتاح له. والنص الواحد يمكن أن يُعرض مجاناً على الانترنت ومقابل نقود في الطباعة الورقية. أما إذا كان القصد هو فضح حياة الكاتب الشخصية فهذا شيء للتسلية وليس لتشكيل وعي جديد ومتحرّر”.
الهوس انحراف في الحب..
ويقول الكاتب والروائي السوداني “عمر الصايم”: “الهوس بالكاتب هو أحد أوجه اضطرابات المجتمع الاستهلاكي، إذ صار المجتمع يصنع النجم كما يصنع أي منتج ويغلفه بطريقة جذابة تغوي المستهلك بفض الغلاف؛ واستكشاف مذاق قطعة الشوكولاتة. في ذات الوقت وبفضل الانترنت ووسائطه يمكن أن يتحول الكاتب/ة إلى عارض/ة أزياء، والقارئ/ة إلى المواطن الذي صار كل ما هو ممكن فهو المثقف، والدولة، والمجتمع وهو الفيلسوف وطاقة الحراك العام، وعندما يجد شخص آخر في أبّهة الشهرة ومن موقعه كفاعل عظيم فإنه يصاب بالهوس به. يعرف بعض الكتاب كيفية صناعة الهوس لقرائهم ثم يتركونهم في حالتهم تلك ليزيدوا من مساحة شهرتهم التي تمثل في مجتمع كهذا معيارًا لتحقق نجاحهم”.
ويضيف: “المجتمعات العربية ولعوامل كثيرة تعتبر أقل هوساً بالكاتب، وقليل من السائد هو صنيعة الكاتب. لم أتعرض لهذا النوع من حالات الهوس، ربما لأن المجتمع الذي أعيش فيه لا يعطي ميزة كبرى للكاتب عن غيره، أو لأن طرائقي في التسويق للكتاب والنشر ليست مما يصنع نوعًا من الهوس.
من الطبيعي أن يتطلع القارئ لمعرفة سيرة وخفايا حياة كاتب أحبه، ولكن ليس لدرجة أن يتحول ذلك إلى هوس بالكاتب نفسه، فالهوس انحراف في الحب يفسد علاقة الكاتب بالقارئ والكتابة بالقراءة.
ويؤكد: “النصوص جزء من أعمال الكاتب ولكنها لا تمثل نمط حياته بالضرورة، قد تتفق النصوص مع حياة الكاتب في بعضها أو تختلف كلياً، وبالتالي فإنه لا مجال لجواز الهوس بالكاتب لمجرد إعجابنا بنصوصه. كقارئ في الصغر كنت أتطلع إلى معرفة حياة “جبران خليل جبران” مثلًا، أعرفه كسيرة ومسيرة حياة قد تشكل محفزًا لي، وقد تساعدني في فهم كتاباته وظروف ميلادها، هذا التتبع لا يمكن أن نسميه هوساً، لأن الهوس بلا غاية، هو محض رغبات لا تعود بالنفع على صاحبها مثل هوس جمع الكتب دون قراءتها”.
الكاتب يعرض جزءًا من حقيقة شخصيته..
ويقول القاص والروائي العراقي “أحمد غانم عبد الجليل”: “قبل أن تدخل نصوصي مجال النشر كنت عندما أقرأ أو أسمع عن هوس القرّاء أظن إنها من المبالغات، لكني تفاجأت بأن هذا الأمر حقيقي، وقد حدث هذا معي أكثر من مرة، إلا أنني أضع حدودًا لا أسمح بتخطيها لمّا أشعر إن الأمر قد تجاوز الإعجاب بالنص، فأنا أحاور القارئ من خلال أفكار نصوصي، من يقرأها بتمعن يستطيع أن يتعرف على رؤيتي في هذا الموضوع أو ذاك.
أما حياتي الشخصية فهذا من شأني وحدي، لا يمكن أن أعرضه على المشاع، وهذا أمر طبيعي ولا يتعارض مع وضعي ككاتب، فالقارئة لها النص وما تثير فحواه من دلالات، أما كاتب النص فهو شخص لديه حياته الخاصة، بتفاصيل قد يستفيد منها ضمن فكرة جديدة، وفق رؤيته الخاصة، وأظن إن القارئة الواعية تدرك هذا جيدًا، فالقارئ بشكلٍ عام يجب أن يكون مؤهلًا للقراءة ومواجهة شتى الأفكار والرؤى وإلا لصارت القراءة عبئًا يثقل شخصيته، لا أفقًا تحلق فيه”.
ويواصل: “هوس القارئ بالكاتب قد يكون وسيلة للهروب من قسوة الواقع بكل معطياته السلبية من حولنا، لذلك أجد من يطالبني بكتابة نصوص رومانسية لا علاقة لها بكل ما حدث ويحدث في بلادنا، لكن الكتابة ليست مجالًا للهروب من مواجهة الواقع، بل العكس تمامًا، كما صار من السهل جدًا الوصول إلى الكاتب ومراسلته وفتح أي موضوع معه، ولعل بعض يستغللن نصوصه لنيل اهتمامه، دون أن يقرأن منها شيئًا، يبحثن عن العلاقات المفتقدة في حياتهن جراء التسلط والتزمت الذي جنحت إليه أغلب مجتمعاتنا.
هنا يأتي دور الكاتب الحقيقي في عدم السماح لنفسه باستغلال مثل هذه الحالات التي تحتاج إلى دقة في التعامل، على أساس السن والخبرة وتراكم التجارب الإنسانية التي مر بها، ويجب أن نضع في الاعتبار أن الكاتب يمثل الحركة التنويرية في المجتمع، الصوت الهادئ الذي يطرح رأيه بعيدًا عن المنابر المتكاثرة من حولنا، فلا يصدر منها سوى ضجيج تبادل الاتهامات، والشباب عمومًا يبحثون الآن عن البديل الثقافي المنفتح لكل اللغط الانفعالي المتشنج الذي يدوي في الآذان، فيجب على الكتّاب استثمار هذا التوجه جيدًا لصالح أفكارهم، بعيدًا عن الأهواء الخاصة والنزوات المخادعة، وإلا تسببنا في المزيد من الانتكاسة الفكرية التي نشهدها اليوم”.
ويوضح: “كقارئ قبل أن أكون كاتبًا، فمنذ البداية لم أكن أهتم سوى بمضمون النص، من خلال ما يبث إليّ من أفكار أستطيع أن أتعرف على رؤية الكاتب عمومًا، وهناك عدد من الكتّاب المعروفين كانوا أصدقاءً لوالدي – رحمه الله – ومع ذلك لم أهتم سوى بفحوى نتاجاتهم الأدبية، بغض النظر عما أعرف عنهم من سلبيات أو إيجابيات.
من ناحية أخرى هناك كتّاب تحولت العلاقة بيني وبينهم من علاقة بين قارئ وكاتب إلى علاقة صداقة بين كاتبين، سمحت لي بالتعرف على جوانب من حياتهم الشخصية، مع ذلك عندما أقرأ لأي منهم أهتم فقط بالنص وما يطرح من جديد يثير اهتمامي، وأحيانًا أقرأ نصوصًا قبل نشرها لإبداء رأيي، فأعرف كذلك كيف أفصل بين الصداقة والرؤية الموضوعية المجردة من أي مشاعر شخصية، لأننا في النهاية لا نريد أن ندور حلقة مفرغة من المجاملات.
وكذلك الأمر بالنسبة للكاتبات طبعًا، نتبادل الآراء وندخل في نقاشات ويسأل أحدنا الآخر عن بعض المعلومات التي لا بد منها من أجل مصداقية النص، لذا في المجمل أنا بعيد عن مثل هذا الهوس الذي يصيب بعض القرّاء”.
ويؤكد: “الكاتب عندما يتناول أي موضوع فهو يعرض أفكاره الخاصة، وبالتالي جزءًا من حقيقة شخصيته، لكن بشكل غير مباشر طبعًا، عندما أكتب نصًا عن قصة حب، على سبيل المثال، فأنا أكتب رؤيتي الخاصة في هذا الشأن، وبذلك يتميز نصي عن نصوصٍ كثيرة جدًا، ولكن هذا لا يعني أني أنشر مشاعري الشخصية ضمن صفحات القصة أو الرواية، إنما طريقة تفكيري التي أحاول من خلالها طرح عدة أفكار مصاغة في ذات النص.
هناك أمر يحدث معي باستمرار تقريبًا، وهو ما أجده شهادة جيدة بحق نصوصي، أني كلما نشرت قصة أو رواية يظن الكثيرون إنها من ضمن سيرتي الذاتية، وبسبب هذا تحدث مفارقات مضحكة، تكشف لي عن مدى التفاعل الذي يحدث بين القارئ والنص، فصرت شخصيات كثيرة، وصرت أعشق الكثير من النساء، ومن مختلف الجنسيات، بينما وإن كتبت عن تجربة خاصة مررت بها فلا بد أن أجنح للخيال، وإلا لصرت مجرد مدون للحدث، وهذا ليس من فن الكتابة الإبداعية في شيء، وكقارئ أعرف النص الذي تمت كتابته دون أن يحلق به الكاتب في أفق الخيال، فيبدو لي مثل خبر أقرأه في صحيفة، مهما بدت فكرته غريبة للوهلة الأولى، فلا أستطيع التفاعل معه على المستوى الأدبي ولا أجد فيه ذلك الوهج الذي أتوقعه لدى البدء في القراءة.
لأجل كل ما سبق أقول يجب على القارئ أن يبحث في مضمون النص وأن يقدِر جهد الكاتب ليحصل على ما هو أكثر من معلومات شخصية عن هذا الكاتب أو ذاك، يحصل على رؤى جديدة تعمل على تنظيم أفكاره وتوسيع مداركه في مختلف المجالات الحياتية”.