عرض/ عبد الله أحمد
يحتوي الكتاب على 30 مقابلة أجرتها تريب بين ربيع 2005 وخريف 2006 مع جنود أميركيين أتمّوا خدمتهم في العراق. في ذلك الوقت لم تكن الكاتبة تملك وجهة نظر مدنيّة من الحرب، ولم تكن على اطلاع بجوانب عسكرية أميركية حديثة، ما جعل المحاربين السابقين يشرحون لها أساسيات الحرب بينما كانوا يروون تجاربهم. مع ازدياد معرفة الكاتبة بعالم الجندية، تتفهم لماذا يفضل المحاربون السابقون عدم التطرّق إلى الحرب التي خاضوها، ولماذا يصعب عليهم مشاركة المدنيين قصصهم. فترددهم هذا يعود في جزء منه إلى إحساسهم بما يود المدنيون سماعه أو لا يودون من محارب سابق. وقد تزيد الحرب الشرخ بين المدني والعسكري، إضافة إلى إن بعض الجنود قد يؤلف قصصاً عسكرية ويستخدمها وفق الحاجة. تفيد الكاتبة بأنه في السنوات الثلاث والنصف الأولى على حرب العراق، قال وزير الدفاع دونالد رامسفيلد باعتزاز: «تذهب إلى الحرب بالجيش الذي لديك، فهو ليس الجيش الذي قد تريده أو تود الحصول عليه مستقبلاً». ويتضح للكاتبة من خلال المقابلات التي أجرتها أن جنوداً سابقين كثيرين يعيدون صياغة هذا القول بطريقة تعكس الازدواجية الخاصة بهم، فيقولون: «تذهب إلى الحرب التي تُستدعى إليها. فهي ليست الحرب التي تريدها أو تود خوضها». وما زال بعض الجنود السابقين حتى اليوم يتساءل عن معنى مهمتهم، خصوصاً مع اكتساب الحرب طابعاً أكثر دموية وصعوبة. وخلال خدمتهم في العراق بحث الجنود عن تبرير لمهمتهم، وما زالوا يتساءلون عمّا يحاربون لأجله، عن أسباب الحرب، واحتمال الانتصار فيها، وجدواها. تركز القصص على ثلاث مراحل من الحرب، إحداها فقط للقتال. وبغية فهم آراء الجنود، علينا أن نعرف شيئاً عنهم، وعمّا قاموا به خلال الوقت الذي أمضوه في الحرب، وماذا حصل معهم عندما عادوا إلى منازلهم. فمعظمهم لا يدافع عن الحرب ولا يحللها. يبدأ الجنود قصصهم بسرد سلسلة من الأسباب التي تطوعوا لأجلها في الجيش، ملقين باللوم غالباً على كذب مجنِّديهم الذين خدعوهم ليلتحقوا بالخدمة العسكرية. مغامرة توضح تريب أن المجندين يبحثون غالباً عن المغامرة، والحركة، والسفر في فترة مثيرة من حياتهم. فهم مفعمون بالمواطنية، ويأتون من عائلات سبق أن خدمت في الجيش.
أو يودون الثأر لأحداث 11 سبتمبر التي شكلت أول كارثة وطنية عاشوها. أما البعض الآخر فأراد الدفاع عن الولايات المتحدة الأميركية، وبناء أمنها المستدام، والمحاربة على أراض أخرى عوضاً عن أرضه. إضافة إلى أن الكثير منهم تطوّع للمحاربة ضد نظام ديكتاتوري عنيف، لإرساء الديمقراطية في العراق والأمن في الشرق الأوسط، وضمان حصول الولايات المتحدة على النفط. بحسب تريب، ما يجعل القتال في حرب العراق مختلفاً، عدم وجود عدو أو حتى نوع من عدو. عوضاً عن ذلك، ثمة قوة عدو تنشر خلايا جديدة وتستقطب متطوعين ومرتزقة بغض النظر عن الحدود الوطنية. فقد خاض الجيش الأميركي وقوات التحالف حرباً تقليدية فترة وجيزة، فهزموا الجيش العراقي في غضون ثلاثة أسابيع، لكن الحرب لم تنته هنا، إذ أعلن الرئيس بوش أن حرب العراق تندرج ضمن الحرب العالمية على الإرهاب. أما التناقض الحقيقي في هذه الحرب فهو مواجهة الإرهاب بالحرب على أرض الميدان. فالإرهاب عنيف ودموي وملاحقته هي ملاحقة عدو مجهول، وليس عدواً في أرض المعركة. تلفت تريب إلى أن الاحتلال الأميركي يتطلّب شيئاً من الفهم الثقافي لمنطقة مجهولة بالنسبة إلى الأميركيين الذين يحاولون إيجاد طريقهم في بيئة سياسية وثقافية غير مألوفة. ويتعامل بعضهم يومياً مع العراقيين، خصوصاً من يعمل مع القوات المسلحة على نقاط التفتيش والباعة وسجناء الحرب الأعداء والرجال والنساء والأطفال الذين ظهر الأميركيون فجأة في دولتهم. هكذا، تزداد معرفة الجنود بالعراق؛ بعاداته، ووضع المرأة فيه، والانقسامات الدينية، والهويات القبلية، والرعاة، والتجار. خصائص جديدة تذكر الكاتبة أن حرب العراق اكتسبت خصائص جديدة. فارتفع عدد النساء المجندات اللواتي انتشرن وخدمن في العراق إلى مستويات لم يسبق لها مثيل، ولقين حتفهن أيضاً.
وتمر النساء في حرب العراق في تعديلات عدة يمر بها الرجال، غير أنهن معرضات للاعتداء والاغتصاب. إضافة إلى ذلك يواجهن عدائية زملائهن الرجال ويتعاملن مع الضغوط الجنسية لأن عددهن أقل بكثير من الرجال. كذلك ثمة زوجات يعشن الحرب مجدداً نظراً إلى أنهن تزوجن جندياً سابقاً، وثمة نساء يحتجن من يفهم ما مررن به عندما كن في الخدمة. إضافة إلى والدات الجنود، وأمهات يتركن أولادهن للخدمة في الجيش، وعازبات خدمن في الحرب، وخرجن من موقعهن الاجتماعي لسنوات. تأتي غرابة حرب العراق أيضاً لأن جنوداً كثيرين ليسوا مواطنين أميركيين، إنهم مهاجرون. وفي هذا الإطار، تُظهر قصص الجنود السابقين أن المجندين يأتون من مختلف دول العالم، من بولندا إلى الفيليبين. ويخدمون في الحرب لأنها تسهل حصولهم على الجنسية الأميركية، وهو هدف يحققونه غالباً بعد انتشارهم. كذلك تسهّل القيادة العسكرية في الكويت والعراق طلبات الجنود للحصول على الجنسيّة الأميركية.
أما عن حالة الجنود النفسية، فتؤكد الكاتبة أن الجنود يعودون إلى منازلهم حاملين ما يدعى بالرقاقة الذهنية التي تطلق الخوف من الأصوات (تشبه المفرقعات النارية بالقنابل) والروائح (الشواء بالجلد المحروق) والصور (صور الأطفال وهم يلعبون كالأطفال المدهوسين). فالحرب تعني حالة التأهب القصوى، إذ تتحول القيادة بسرعة جنونية، والجلوس بطريقة دفاعية في المطاعم، وشراء المسدسات، إلى تقنيات بقاء يتوسلها الجنود السابقون، تقنيات لا تتماشى مع نمط العيش في المنزل. وتتمحور أحاديث الجنود في قصصهم حول التعذيب الذي مارسه الجنود الأميركيون في سجن أبو غريب، وهي مسألة تثير انزعاج معظمهم. فهم يفهمون حدوثها، غير أنهم يشددون على أنها ليست من شيم الأميركيين وليست مسألة عابرة. أما أكثر التجارب الصعبة التي خاضها الجنود فكانت عندما طُلب منهم عدم التوقف حتى عندما كان الأطفال يهرعون أمام الشاحنات، لئلا يعرضوا القافلة للخطر. كذلك يعاني الجنود من أنانية البقاء، ومن الخوف من القتل الذي يقض مضاجعهم، ومن خسارة أصدقائهم في السلاح. وتؤكد هذه المخاوف استمرار تجربة الحرب. تتابع الكاتبة إليز تريب أن صورة حرب فييتنام ترسم صورة قدامى الجنود كجنود عائدين من الحرب بعدما تخلت حكومتهم عنهم، ولاحقتهم شياطين الحرب الخفية. أما جنود حرب العراق فربما سيرسمون صورتهم الخاصة، فلن يكونوا أبطالاً ولا منبوذين. فحرب العراق هي قبل كل شيء حرب الرئيس بوش. وقد لا يشعر الجنود السابقون بالذل بسبب القتال في العراق، لأن المشكلة، كانت تتمحور حول السياسيين الأميركيين والعراقيين، والفصائل السياسية، والقادة والدينيين، والمجاهدين الأجانب. وبعبارة أخرى، سيتذكر العالم حرب العراق كالحرب التي يستحيل الانتصار فيها. تعتبر تريب أن جيلاً تقريباً فصل ما بين الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة في القرن المنصرم. وقد أغدقت الحكومة على الجنود المشاركين في الحرب العالمية الثانية بالتعليم، فيما وضعت حرب العراق الوعد بالتعليم حافزاً للمجندين. إنه جيش يتألف من مجندين من الطبقة العاملة، يبحثون عن وسيلة لسد حاجاتهم لاحقاً في الحياة. وهنا يسأل المواطنون ماذا باستطاعتهم أن يفعلوا لمساعدة الجنود السابقين. تؤكد المؤلفة أن كل ما يحتاج إليه الجنود ترحيب من القلب بالعودة إلى المنزل، أي أنهم يطوقون إلى فهم واستيعاب، وتعليم وفرص عمل. فهذا ما جعلهم ينضمون إلى صفوف الجيش.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب «النجاة من العراق: شهادات جنود»، للكاتبة والباحثة الأميركية إليز فوربز تريب (ترجمة ميشال دانو)
الناشر الدار العربية للعلوم ناشرون بيروت