خاص : كتب – عمر رياض :
كيف أثرت الحرب في الموسيقى ؟.. كيف غيرت في تركيبات الذوق العام، وطمست ذوق خاص أيضًا ؟!
هذا السؤال يصلح لعبور التاريخ.. لكن ليس له إجابة كاملة.
لم تنقطع الحروب أبدًا منذ بداية التكوين، وربما نمر هذه الأيام بعدد كبير من الحروب بمختلف أنواعها، الكبير منها والصغير، طويل الأجل والنوعي..
ومع هذه الحروب عزفت الموسيقى في منحنى أشبه بتردد الصوت صاعدًا وهابطًا؛ بل وصامتًا أيضًا على سبيل السكوت، بإنسحاب أصحابها من الساحات مرات ومنعهم بالأمر في أوقات أخرى.
من هزيمة حزيران/يونيو إلى حرب تشرين أول/أكتوبر..
بعد هزيمة حزيران/يونيو عام 1967؛ دخلت “أم كلثوم” في نوبة إكتئاب شديدة، مثل معظم المصريين، وأمتنعت عن الغناء حتى قررت الإعتزال بسبب اتهام أعمالها بالتسبب في إلهاء الشعب وبالتالي الهزيمة.
مكالمة واحدة من “جمال عبدالناصر” أعادت “أم كلثوم” مرة أخرى للساحة الغنائية بمشروع “غنائي حربي”، وقررت توظيف صوتها وموهبتها لدعم الجيش، فأقامت حفلات في معظم محافظات مصر، ومنها “الإسكندرية ودمنهور والمنصورة وطنطا والغربية”، وقدمت حوالي حفلتين في الشهر بكل محافظة لمدة عام كامل..
وبلغت إيرادات حفل “محافظة البحيرة” (39) ألف جنيه، وهو رقم كبير، حيث إن أعلى إيراد لحفلات “أم كلثوم”، في ذلك الوقت، لم يكن يتعدى (18) ألف جنيه، أما حفل “الإسكندرية” فقد بلغت إيرادته، من تبرعات وخلافه، (100) ألف جنيه، وأربعين كيلوغرامًا من الحلي قيمتها أكثر من (82) ألف جنيه، وحققت في حفلها بـ”مدينة المنصورة” بمحافظة الدقهلية (125) ألف جنيه، وفي حفلها بـ”مدينة طنطا” بمحافظة الغربية حققت (283) ألف جنيه، وقد قدمت كل هذه الإيرادات لدعم المجهود الحربي..
وحسب ما ذكرت بعض الأرشيفات؛ أنه في تشرين ثان/نوفمبر 1967 جاءتها دعوة من، الجنرال “شارل ديغول”، رئيس فرنسا، عندما قال: “لقد خرج العرب بعد هزيمة 67 بمأساة وأريد من أم كلثوم رفع معنويات العرب هنا في فرنسا”.
قبلت “أم كلثوم” الدعوة؛ وكان الحدث الفني على مسرح “الأولمبيا”، والذي يعد واحدًا من أقوى الأحداث الفنية في القرن العشرين، وحصلت وقتها “أم كلثوم” على أعلى أجر يحصل عليه مطرب أو مطربة، وبلغت إيرادات حفلة باريس (212) ألف أسترليني، ذهبت كلها إلى المجهود الحربي، ومن “باريس” إلى “السودان” إلى “المغرب”؛ بدعوة من الملك “الحسن الثاني”، ثم “تونس ولبنان وليبيا والإمارات والكويت”، وفي “الكويت” أحيت حفلًا بمسرح “الأندلس”؛ وبلغت إيراداته (100) ألف دينار كويتي ذهبت كلها لمتضرري حرب 1967.
معظم رؤساء الدول حرصوا على استقبالها في المطار كما حرصوا أيضاً على حضور حفلاتها..
أرسلت “أم كلثوم” إيرادات حفلاتها لخزانة الجيش، وقدرت بثلاثة ملايين دولار، كانت تتقاضاها سبائك من الذهب في بعض الأوقات.
صعد “عبدالحليم حافظ” هكذا من “مطرب ضباط يوليو”؛ إلى “مطرب حرب تحرير سيناء”، بينما منعت أغاني مثل (مصطفى يا مصطفى) بسبب غضب السلطة.
كان “مبارك” آخر جنرالات (تشرين أول) أكتوبر التى حكمت مصر، وقد خلف عصره قدرًا كبيرًا من “الأوبريتات الغنائية” – أوبريت (أختارناه) – التي صنعت خصيصًا من أجل إقامة إحتفالات النصر السنوية كعادة سابقيه.
في أحد هذه الإحتفالات الخاصة – حفل القوات الجوية – قال المطرب “محمد منير”، الذي أحيا الحفل، مخاطبًا “مبارك” وقادة الدفاع، وقتها، على رأسهم وزير الدفاع، المشير “حسين طنطاوي”: “أن معركة أكتوبر رافقها مبدعين مصر”. وكان يقصد كل الذين غنوا ولحنوا الأغاني المشهورة؛ مثل “بليغ حمدي” و”ورده” و”عبدالحليم حافظ” إلى آخرهم.
ثم أستأذن في غناء (ميدلي أكتوبر) – منوعات من هذه الأغاني المشهورة.
على أرض الحرب – سيناء ومدن القناة – كان هناك غناء آخر، لكن السلطة لم تقوم بتلميعه مثل المقربين – رغم التصاق هذا الغناء بالشعب المقاوم – الذي لم يكن مجند نظاميًا – وكانت فرق مثل “الطنبورة” في “بورسعيد” تغني (سبع ليالي وصباحية)، كما غنت “أبناء السويس”، (غني يا سمسمية)، وأشعرت البادية في سيناء مربوعة (عشيش)، لـ”عنيز أبو سالم”.
ومؤخرًا ظهرت حكايات وأغاني أخرى، طمسها النظام، ربما بسبب التهميش والتخوين لمجتمعات بعينها.
“الجركن”؛ هي آخر تلك الفرق البدوية التي بدأت تظهر على الساحة وجالت بين الأوساط والأجيال المختلفة للسميعة، حتى وصلت للعالمية.
وقد إتخذت أسمها – “جركن” – محاكاة للموسيقى التي كانت تعزف على مخلفات الحرب؛ كـ”الجراكن، والأوعية الفارغة، والصناديق”، إلى أن أضيف إليها آلات من نفس الجغرافيا.
أوروبا..
في 28 تموز (يوليو) 1914، اندلعت الحرب العالمية الأولى..
دفع البريطانيون بالموسيقى الكلاسيكية في تلك الحرب؛ ألغوا حفل عزف مقطوعة (دون غوان) لـ”شتراوس”، في 15 آب (أغسطس). وبعد أيام ألغوا كل عروض موسيقى “فاغنر”. ثم عاد البريطانيون عن قرارهم.
وفي رسالة وجهها “جورج برنار شو” إلى صديق في فيينا؛ كتب: “صفق كل ناس للقرار، ولكنهم أحجموا عن إرتياد الحفلات الموسيقية. وبعد أسبوع، عادت موسيقى بيتهوفن وفاغنر وريتشارد شتراوس لتصدح”. ووقعت هذه الرسالة في يد صحيفة (فرانكفورتر تسايتونغ)، التي نشرتها في 1915، ورأت أن بريطانيا هي (أرض من غير موسيقى). وتصدرت العبارة هذه عنوان كتاب يزعم أن الثقافة البريطانية أدنى شأن من الثقافة الألمانية. ودليله على ذلك بأن أعظم المهرجانات الموسيقية البريطانية لا تقوم لها قائمة إذا لم تعزف فيها موسيقى ألمانية.
في بحث قصير عن موسيقى الحرب، كتب “إيفان هيويت”: “هزت الحرب العالمية الأولى أركان الحياة كلها، وعاث الدمار والموت. ولم تنجُ الموسيقى الكلاسيكية من براثنها. فعدد كبير من مؤلفي الموسيقى والعازفين لقوا حتفهم في المعارك أو إنسحبوا منها إثر صدمة وخوف. وهي غيّرت وجه الموسيقى الكلاسيكية”.
وتاريخ الموسيقى في الحرب العالمية الأولى معقد الأوجه. ففي أحيان كثيرة، جندت الموسيقى في المعارك، ولكن صوتها علا، في أحيان أخرى، على صوت المعركة، ولم تكن أداة حرب، وخرجت عن القوالب القومية والإيديولوجية. ونفخت في مشاعر التسامح والحب والحنين والحزن، وليس في مشاعر العداء. وذاع صيت حادثة وقعت أثناء وقف إطلاق النار على الجبهة الغربية عشية عيد الميلاد. ويومها، نظمت مباريات كرة قدم ودية بين الجيشين البريطاني والألماني. وبادر كل فريق إلى إنشاد أغاني العيد الخاصة به. وحين عزفت موسيقى «سايلنت نايت» (الليلة الهادئة)، غنى الفريقان سوية. ولم ينظر الضباط البريطانيون ولا الألمان بعين الرضا إلى الغناء المشترك هذا الذي يمد الجسور بين جنود جيشين لدودين.
وعلى رغم إن الموسيقى سلمية، لم يكن مؤلفوها أو الفنانون أصوات «العقل» أو دعاة سلام في الحرب الأولى. وكتب الموسيقار الروسي، “سترافينسكي، في 1914: «كراهيتي للألمان تتعاظم يوماً بعد يوم». ووجه “شتراوس” رسالة إلى كاتب مخطوطاته الموسيقية، “فون هوفمانستال”، في تشرين أول (أكتوبر) 1914: «الفوز قدرنا»، وكتب في الصفحة الأخيرة من مخطوطة «داي فرو أوهن شاتن»: 20 آب 1914، يوم الفوز في ساربورغ. تحية إلى جنودنا العظماء. وحمى الحرب أصابت كذلك، المؤلف الموسيقي النمساوي وقائد الأوركسترا، “أنتون فيبيرن”، الهادئ الطباع، فدعا إلى «موت الشياطين (الروس)» وتمنى لو وسعه المشاركة في مسيرة النصر الألمانية إلى باريس.
سيرة “بني هلال” أقدم ملاحم الحروب العربية..
ألف عام تقريبًا هو عمر “السيرة الهلالية” المشهورة بـ”سيرة أبو زيد”.
تناقل الشعراء الشفاهيون هذه الملحمة وحفظها عن ظهر قلب السميعة في قرى “مصر” بالسماع فقط، بسبب ما تتميز به من بساطة وبسبب محتواها المتنوع بين الحب والأعراف والحروب التي تأخذ الجزء الأكبر من الرواية.
فى حرب “خليفة” و”الزناتي” وهم ضمن شخصيات السيرة. تعزف “ربابة” الحرب الكبير، وهي الآلة المصاحبة دائمًا للحكي.
تربط السيرة عدد من البلدان العربية، مثل “مصر وتونس”، وفي مربعات تعلوا فيها النغمات وتنخفض نعرف هذه الموسيقى التي صنعتها حرب أيضًا..