كتب: مانويل دينق
جنوب السودان | جوبا
كل عشاق الأدب يحبون موراكامي بطريقة ما، حبٍ بفكرة جديدة، بل يصنعون له قُبة تليق به وبأدبه السلس الممتع، يعشقونه بقدسية حقيقية، ليس لأنه هاروكي فقط، لأنه أبعد من يوضع في قالبٍ معين، فهو ظاهرة إستثنائية فريدة، إذ أن لا أحد من القُراء يمكنه الإفصاح عن كرهه لموراكامي ( مع استثنينا القِلة)، هذا إن وُجد قُراء كهؤلاء الناس، الأدب نفسه يحب عبقري اليابان، ويفرض عظمته على أحقيته المستحقة إزاء الأمر، حين نطالع شيئاً من رواياته نوقن جيداً بأننا أمام ظاهرة أسطورية قوية، تستدرج معالم الوجود والحقيقة، كل شيء معه تخلده التاريخ، الذاكرة، والمعرفة، ليس لأنه مبدع بل لأنه يتناول مواضيع جديدة ذات حس مجتمعي/ عالمي مشترك.
ل موراكامي أسلوب فريد من نوعه، أسلوب التناغم اللامتناهي بين مكونات اللغة، والسرد والحبكة، خلق بصمة روائية فريدة من نوعها، ففي الكم الهائل من التابوهات والأسطورة والتاريخ، الذاكرة، والعادة، الدين والسلطة والسياسة والموسيقى هو نفسه ذلك الكائن الذي عرف مبكراً كيف يشتغل في حيز المجتمع العالمي، ويصنع عالم خاص به و القراء ، لا اعتقد بأن هذا الرجل لم يترك شيء دون ان ينبشه، فنجده يركز بشكل دقيق على الإنسان العصري، شخصياته دائماً يحملون أفكارا عظيمة، والعظمة هنا تأتي من الكم الهائل من المخزون المعرفي الذي لا يضاهي الكثير موراكامي فيها.
وعندما نتذكر موراكامي نستحضر تلقائيا التفاصيل الصغيرة في أعماله، وكل عمل له يتصف بسيمفونية عميقة من الأصوات الكثيرة، أصوات تتشابك معها خيوط اللغة وتختفي معها الهوية الرمزية للكِتابة، إذ أن الواقع لديه ليس الواقع نفسه، إنما المتخيل الذي يخفي الواقع الواقعي بحبكة متزنة، ويشكل نوعاً بعيداً من الأسلوب اللا متوقع على ذهن القارئ، وكذا الحال حينما نتطلع لأي رواية من رواياته الكثيرة فإننا نوقن منذ الوهلة الأولى بأننا نقف أمام واجهة عريضة من العظمة التي يجب التعامل معها بحذر ورقة. القراءة أسلوب عذب بحد ذاتها، فإن الكاتب هو الذي يختار نوعية قُرائه من خلال الأسلوب الذي يستخدمه، فلهذا نجد المئات من أنواع القُراء، أما في الجانب الآخر لا نجد سوى القليل من الكُتاب الذين تمكنوا الفوز بنصيب الأسد من هذه القراءات، ولكي يأسسوا فضاء تطلعي يستبين حلم الممشى، فلا بد من التفكير ملياً حول ماذا نكتب؟ وما الذي نريد أن نحصل بعد أن نكتب؟ وكما أن النجاح المقروء ليس عبث، إنما الأمر أبعد من أن تستمر في بوتقة صغيرة.
أما فيما يتعلق بأدب موراكامي فإن الواقع يختلف كلياً، هذا لأن هو نفسه يتقن مهارة القراءة، وثانيا لأنه عَرف مبكراً كيف يتذوق الكلمة والقارئ، لهذا نجد يفهم الذائقة جيداً ويتعامل مع الأمر بذكاء حصيف. الكاتب مشروع قارئ عظيم، لا يوجد كاتب بلا قراءة مطولة وعميقة، قراءة فلسفية عما يدور في الكتب، والفلسفة كأساس وجودي للإنسان يحمل معها حيثيات النجاة إذا ما نظر حولها بدهاء العقل وواجب العمل بها. الكاتب هو القارئ الممتاز، إذ أن التسهيل الذي يتلقاه من الإشادة بعمله لا يأتي بالسهل كما يمكن اعتقاده، وليس عبثاً أن يحاكم القارئ حسب الذائقة الخاصة به؛ لكننا نستطيع أن نعيب الكاتب إذا خرج عن مسار الأدب، هذا إذا كان لدينا قراء جيدين في مسألة فهم الأدب.
كل قارئ ل موراكامي يعرف جيداً بأن هذا المجنون الياباني قد خرج عن الحيز الضيق الذي يرسمه الناس حول الكُتاب، فلا أحد من الكُتاب نفسهم والقراء والنقٌاد إلا رقص مع أدب هذا الكائن الفريد، فبمجرد أن تطأ قدماك أرضه، حتى تشعر وكأنك وسط أرضك. يجعلك تعزف كماناً وتنشد لحن العذوبة النقية، وتلهو كالصغير الذي يتعلم اللغة، اسم قد لا يتكرر عمٌا قريب.
للموسيقى حضور الروح في أدب موراكامي، لقد أعطى للموسيقى خاصية عميقة في الأدب بل قام بإحيائها بطريقة غير عادية، فهو ذلك الموسيقار العميق والعازف البعيد، والفنان الماهر، المُلم بأدق تفاصيل الموسيقى، وعندما يتناول الموسيقى كأدب يتحوٌل اللحن إلى ترانيم نصوصية، كأنما يلحن العبارة ملائكة من عالمٍ آخر غير هو نفسه، وهذا التجسيد الموسيقى يتناغم كالشخوص ويسيرون في خط فلسفي مفادها الموسيقى نصف الحياة. وقد أجاد بشكل عبقري رسم الموسيقى في رواياته الثلاثة “كافكا على الشاطئ” “الغابة النرويجية” و” 1Q84 ” ففي هذه الروايات الثلاثة، نصوص أقرب إلى بحث عن تاريخ الموسيقى خاصة موسيقى الجاز الأمريكي، وهو الذي يعطي أولوية على أن أدب هذا العبقري يفوق من أن يوضع في خطة معينة، فهو يجعل المواضيع الصغيرة التي لا يهتم بها الأخرون إلى نصوص تسري فيها الحياة.
عبقري التفاصيل الصغيرة، كما أحب أن أطلق عليه. الموسيقى تمثل بالنسبة له حياة أخرى تتنفسها جميع الكائنات والشخوص والجمادات في رواياته، فتجد الطيور، الحيوانات، البشر، فصول السنة، الطبيعة، السماء، السحب، والنجوم والقمر، جميعها تعزف لحن الوجود الموسيقي الحسي، فلا يمكن استبعاد النطفة الأولى من ترانيم الحياة الإنسانية التي تغلفها الموسيقى والألحان الرقيقة العذبة، فإنني حينما اطلع إلى رواية 1Q84 أذوب وأتلاشى مع السيمفونية المطمئنة، من جنون الموسيقى، سحر الجاز الأمريكي الناعم، وقد اكتشفت بشكل دقيق جداً بين ألفة الموسيقى كاستماع، وجمال قراءة المقطوعات الموسيقية كنصوص أدبية، إذ أن الفرق بينهما لا تحتاج إلا إلى إنسانٍ ذائقته الموسيقية تقف على خط الانتماء والهوية، وهو شيء كأنما روح شفافة تسري بخفة في بواطن الروح لكي يشعر المرء بالاطمئنان النعيم، هذه الميزة الرحيمة تسبق أي خيال يسعى من أجل أن يترك أثر الانتماء.
كأي قارئ محب للأدب، دائماً أجد نفسي بين نصوص موراكامي، فيستصحب معي النمو الفكري لكل حدثٍ يرويه، ولو كان حدثاً عابراً. لماذا لا نكتب عن الموسيقى؟، أليس هذا النوع من الهدوء يخفف عننا القليل مما نعيشه في عالمنا الكئيب المليء بالكوارث، الحروب، الانتحارات، الموت، الهجرة والتشريد. كلٌما اقرأ لهذا الرجل الدقيق انجذب مع موسيقاه العذبة التي تفوح رائحة الأشياء، الحياة، والانتماء، روح باردة تستيقظ من كتبه، فإنني أشعر وكأنه يحاول مواساة العالم القاسي بطريقته الخاصة، ومهما حاولت أن أكتب عن موسيقى هذا الرجل أجد نفسي عاجزاً من إعطائه حقه الأدبي والمعرفي إزاء هذا الأمر، وكما أنني لا أحاول أن أقول شيء معين بقدر ما أسعى أن أنبش الجزء القليل من هذه السيمفونيات التي تحلٌق في السماء، هذا نوع بعيد للدرجة التي لا يمكن الإتيان بماهية المكوٌن النصي، وكذا الحال بين الكثير من الأشياء التي نقف عندها محتارون بدهشة الصدمة السعيدة، فالأمر نفسه مع عبقري اليابان . الشيء الذي أود توصيله هنا، هو البحث عنِ الاستمتاع الممتع مع الخيال والعمق الأدبي والمعرفي لدى هذا الرجل.