بقلم أمين الساطي
أشعلت سيجارة اللف اللعينة، رفعت رأسي، ونفخت دخانها بقوة، فتصاعد بشكل لفات رمادية متموّجة، سبحت إلى أعلى السقف، ما أعطاني شعوراً بالسيطرة والنشوة، ثم نفثت الدخان أمامي، فتشكلت غيمة شفافة بيني وبين التلفزيون، شوّهت صور أبطال المسلسل على شاشته، فازداد ميلي للاسترخاء، وتضاعفت متعتي، وشعرت أن كل هذه الأشباح في الغرفة أصبحت غريبة كثيراً عني، كأنها لم تكن في مكانها، أو ربما لم أكن أنا في مكاني.
نظرت إليها بشغف، ولقد قاربت على الانتهاء، ولطالما تمنّيت لو أن هذه الجلسات لا تنتهي أبداً، لقد خسرت الآن هذه السيجارة، ولن يسمح لي راتبي الشهري بتعويضها بسهولة، وخصوصاً في هذه الأوقات الصعبة التي يمرّ بها لبنان، فتذكرت أني قرأت مرة مقالاً في إحدى المجلات عن المخدرات الرقمية، وأن كل ما تحتاجه للحصول عليها سماعة للأذنين، تسمع من خلالها ملفات صوتية موجودة أصلاً على الإنترنت بلا مقابل.
من دون أي تردّد، ولكي أحافظ على النشوة التي أمر بها، قررت استخدام الهندسة المبرمجة لخداع الدماغ، وضعت سماعة الأذنين، وأوصلتهما بالملف الصوتي على الإنترنت، سمعت بأذني اليسرى صوتَ طنينٍ عالياً متناوباً، بينما سمعت في أذني اليمنى صوت نقير خافت، فشعرت بشيء من البهجة والمتعة، إنَّ بثَّ أمواج مختلفة التردّد في كل أذن يدفع الدماغ لتوحيد التردد للحصول على مستوى واحد من الصوت، ما يؤدي إلى حدوث اضطرابات في وظيفته، ينتج عنها اختلال في كهرباء المخ، فيؤدي الخلل إلى أعراض انفعالية تشبه إلى حدٍّ ما تأثير المخدرات العادية، ولكن أحياناً يكون بشكل أعنف من المعتاد.
بعد أن انتهيت من سماع المقطع الموسيقي المبرمج هندسياً، أصبحت في حالة نشوة ويقظة حادة وإحساس عالٍ بالثقة بنفسي، وغمرتني قوة هائلة، أعطتني الشعور بالجنون والعظمة، فاستيقظت مشاعري القديمة القوية نحو بنت خالتي نوال، حيث إن أمها كانت دائماً تقول في أيام صغرنا، إننا عندما نكبر سوف تكون نوال من نصيبي.
مضت الأيام، تخرّجتُ في معهد المعلمين، وأصبحتُ مدرساً في المدارس الابتدائية الحكومية، بينما نضجت نوال، وأمست صبية جميلة، فزوَّجتها أمها رغماً عنها من تاجر غني يكبرها بأكثر من عشرين عاماً.
بصورة لا إرادية سيطرت عليَّ دوافع جنسية مكبوتة، لم أستطع مقاومتها، أخذت مفتاح “الرنش” الذي أستخدمه لربط أسطوانة الغاز، وأخفيته في جيب معطفي، نزلت من الملحق ذي الغرفة الواحدة التي أعيش فيها، أوقفت أول تكسي صادفته بالشارع، واتجهت إلى الرملة البيضاء، الحي الراقي، حيث تقيم نوال، محدّثاً نفسي طوال الطريق، بأن كرامتي تطالبني بأن أضع حداً لهذا القهر الذي أعانيه، وأن عليَّ الآن، أن أستعيد نوال، مستغلاً عدم وجود زوجها في البيت، في مثل هذا الوقت من اليوم.
ركبت المصعد، ووصلت إلى الطابق الخامس، مشيت في الممر حتى وصلت إلى شقة نوال، قرعت جرس الباب، ففتحت لي شغالة أثيوبية سوداء لم أشاهدها من قبل، ومن دون أدنى تفكير ضربتها على رأسها بـ”الرنش”، فوقعت على الأرض وهي تئنّ من الألم مستنجدة بكلمات غريبة لم أفهمها، وشققت طريقي بالبيت باحثاً عن نوال، فجأة وجدتها أمامي، ولعلها جاءت على صوت خادمتها، فابتسمتُ لها، واتجهتُ لأحتضنها، فبدأت هي الأخرى في الصياح، بدلاً من أن تفرح لمشاهدتي، فأخذتها بالقوة بين ذراعي لتهدئتها، ودخلنا في عراك بسيط، خلاله لمحت بطرف عيني الخادمة اللعينة، وهي تهوي بسكينة المطبخ على كتفي، فانحرفت بسرعة إلى اليسار، فخدشت السكينة أعلى ساعدي مسببةً لي جرحاً بسيطاً، فما كان مني إلا أن ضربتها مرة ثانية بـ”الرنش” على رأسها بكل عزمي، فانبطحت على السجادة.
تأزم الموقف، وتغلغلت في متاهة لم أتوقعها، فوجدت نفسي أركض إلى الباب، وأنزل الدرج بسرعة لأغادر البناء، قبل أن يجتمع عليَّ سكان العمارة.
بعدها دخلت في حالة اكتئاب شديد، لما شاهدت نفسي جالساً بغرفتي أمام التلفزيون، و”الرنش” على الطاولة إلى جانبي ملطَّخ بالدماء، وهناك بقعة صغيرة من الدم على قميصي، يخالطها شعور خفيف بالألم، أدركت صعوبة تذكّر الأحداث التي مررت بها منذ ساعات، فالصور التي تمرّ أمام عينيّ مشوشة وغير مترابطة وغير منطقية، ولا يمكنني القيام بها في أحوالي الطبيعية.
لكي أتخلص من هذا الهذيان، وتتوضح الأمور أمامي، أخذت الموبايل، واتصلت برقم بنت خالتي نوال، فسمعت على الطرف الآخر نغمة صوتها الذي لا يمكن أن أنساه ما حييت، “جاءت الشرطة فأخبرتهم بأن عصابةً مؤلفة من رجلين ملثمين، هاجمانا بالمنزل، فسرقا مصوغاتي الذهبية، وكل النقود الموجودة في الخزنة الحديدية، لا تتصل معي حالياً مهما كان، وسنتكلم لاحقاً بعد أن أحصل على الطلاق، وأغلقت الخط”.
انتابتني السعادة بعد سماع صوتها، وشعرت بنوع من الطمأنينة والبهجة السحرية، وأني قد انتقلت من عالمي إلى عالم آخر، بينما أنا مسترخٍ ومنتشٍ برؤية الأشياء حولي بطريقة مختلفة وغريبة، قطع شريط أحلامي صوت جرس البيت، فقمت متثاقلاً من مكاني بصعوبة، عندما فتحت الباب، شاهدت جارنا أبا محمود منتصباً أمامي كالخازوق، فهزَّ رأسه: “خير جار، عيونك حمراء، إن شاء الله مالك مريض”، فخطر لي بلحظتها بأنه قد شاهد بقعة الدم على قميصي، فنظرت بطرف عيني إلى ساعدي، فلم أشاهد شيئاً، لقد اختفت بقعة الدم، فانقلب الشعور بالنشوة والثقة إلى شعور بالقلق والذعر، فأجبته: “إني أعاني من الرشح والسعلة”، فحرّك رأسه مشفقاً، ثم قال: “دخيلك جار، أخفض صوت التلفزيون، فابني فادي نائم، وعنده بكرا فحص بمادة الفيزياء، لم أجد بداً من أن أجيبه: “تكرم جار”، وأغلقت الباب.