خاص : بقلم – عدّة بن عطية الحاج (ابن الرّيف) ـ مستغانم ـ:
يُعتبر كتاب (ألف ليلة وليلة) من عيون الأدب العالمي؛ والذي تُرجم من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية على يد مترجمين مجهولين في العصر العبّاسي، وهو كتاب يتضمن قصصًا وحكايات شعبية ترويها الوصيفة “شهرزاد”؛ للملك الفارسي “شهريار”، الذي أصيب بعقدة نفسيّة اتجاه النّساء بسبب خيانة زوجته له حيث رآها تزني مع عبدٍ حبشيّ من عبيده الذين يقومون بخدمته في القصر، هنا قرّر “شهريار” أن يتزوّج كلّ ليلة فتاة شابّة جميلة وعندما ينفجر الفجر يقوم بقتلها بكلّ برودة دم كأنّه يُريد أن ينتقم لشرفه الذي دنّسته زوجته الخائنة، ولكنّ “شهرزاد”؛ نجلة الوزير، تطوّعت لإنقاذ بنات جنسها من سطوة هذا الزّوج المجرم السّفاح، فلعبت دور الطّبيبة النّفسانيّة التي حاولت أن تُعالج زوجها المُعقّد من مرضه النّفسي وتُطهّره من كلّ العُقّد النّفسيّة المكبوتة، وهذا من خلال المعالجة عن طريق القصص المشوّقة التي تحمل طابع “suspense-السوسبانس”، كانت كلّ ليلة تُقصّ عليه قصّة مشوّقة وتترك نهايتها مفتوحة كأنها مسلسل تليفزيوني، وهذا حتّى لا يقتلها الملك “شهريار” ويتركها تُكمل له حلقات القصّة المشوّقة، واستمرت على هذه الوتيرة حتّى حبلت وأنجبت له ولدًا بهيّ الطّلعة سيحكم بلاد “فارس” من بعده، هنا قرّر الملك “شهريار” أن يتخلّص نهائيًّا من عُقدته النّفسيّة هذه ويعفو عن بنات حوّاء ويسامحهنّ لأنّ لا ناقة لهنّ ولا جمل في هذا الخطب العسير وفي هذا المُصاب الجلل.
كان يغلب على أسلوب قصص (ألف ليلة وليلة) طابع النّثر،هناك قصص كُتبت بأسلوب أدبيّ رفيع وهي القصص البغداديّة مثل: قصص (السّندباد البحريّ) وقصص (علي بابا واللّصوص الأربعون) وقصّة (علاء الدّين والمصباح السّحريّ)، وهناك قصص كُتبت بأسلوب أدبيّ ركيك وهي القصص المصريّة مثل: قصّة (معروف الإسكافي) وقصّة (أبوقير وأبوصير) وقصّة (مسرور التّاجر مع معشوقته زين المواصف)، وهناك بعض القصص يتخلّلها بعض الشّعر مثل: قصّة (الصّيّاد والعفريت)؛ وهذا من أجل إضفاء لمسة جمالية على حبكة القصّة حتّى تبلغ الذّروة وتنتهي نهاية جميلة ومفرحة تسرّ القاريء وتُبهج المتلقي، تعود قصص وحكايات (ألف ليلة وليلة) إلى قرون موغلة في القدم وإلى القرون الوسطى؛ ونجد في هذه القصص والحكايات العجيبة أصداء الحضارة العربيّة الإسلاميّة والحضارة الفارسيّة والحضارة الهنديّة والحضارة المصريّة القديمة (الفرعونيّة) وحضارة بلاد الرّافدين (البابليّة)، ولكنّ الأصل في كتاب (ألف ليلة وليلة) هو أنّه فارسيّ الرّوح عربيّ الجوهر؛ ويكاد يكون التّرجمة النّثريّة لكتاب (الشّاهنّامه)؛ لـ”أبي قاسم الفردوسي” (935م ـ 1020م)، وهو عبارة عن ملحمة فارسيّة ضخمة تتكوّن من ستّين ألف بيت شعريّ؛ وهي تروي تاريخ ملوك “بلاد فارس”؛ (إيران حاليًا)، منذ فجر التّاريخ إلى غاية سقوط الدّولة السّاسانيّة على يد الفاتحين في العصر الذّهبي للإسلام، وقد قام بترجمتها إلى العربيّة “الفتح بن علي البنداري”؛ (1190م ـ 1245م)، وقام بتحقيقها وتصحيحها وإكمال ترجمتها والتّعليق عليها الدكتور “عبدالوهّاب عزّام”؛ (1894م ـ 1959م)، يُعتبر هذا الكتاب هو الأصل الأوّل لكتاب (ألف ليلة وليلة)، ويبدو أنّ القصص ذات الطّابع الهنديّ، مثل: قصّة (الملك شهريار وأخيه الملك شاه زمان) وحكاية (الحمار والثّور وصاحب الزّرع) وحكاية (التّاجر مع العفريت) وحكاية (الملك يونان والحكيم رويان) وحكاية (الحمّال مع البنات) وغيرها من القصص ذات الأصل الهنديّ؛ قام بترجمتها عن “الفهلويّة”؛ وهي اللّغة الهنديّة القديمة، إلى اللّغة العربيّة؛ “عبدالله بن المقفّع”؛ (724م ـ 759م)، لأنّه من أصل فارسيّ وهو أوّل من أسّس “الحركة الشّعوبيّة”، وهي حركة تُريد أن تُعيد أمجاد الماضي الفارسي وتجعله يتوغل في أوصال الحضارة العربيّة الإسلاميّة، خاصة في العصر العبّاسي الأوّل، وهي حركة هدفها قلب نظام الحكم في “بغداد” والإستيلاء على الخلافة، واستطاعت أن تزرع أعوانها في دوحة الخلافة العبّاسيّة وتجعلهم هم من يتحكّمون في الشّأن السّياسي في “بغداد” ويُسيّرونه من وراء ستار؛ وخير من يُمثّلهم “جعفر البرمكي”؛ (767م ـ 803م)، وزير الخليفة العبّاسي؛ “هارون الرّشيد”، (766م ـ 809م)، كان “جعفر البرمكي”؛ هو الحاكم الفعلي في عصر الخليفة العبّاسي “هارون الرّشيد”، الذي كان كالخاتم في إصبعه يُسيّره كيفما يشاء، ولكنّه سرعان ما تفطّن لخطورته وقام بعزله عن دفّة الحكم.
يتمثّل المسكوت عنه في التّطرق إلى التّابوهات بمختلف أنواعها وأشكالها، كالتّابو الدّيني والتّابو الإجتماعي والتّابو الأخلاقي (الجنس) والتّابو السّياسي والتّابو التّاريخي، وكلّ هذه الأشكال موجودة في عوالم (ألف ليلة وليلة)، فالتّابو الدّيني يتمثّل في شيوع ظاهرة السّحر في المجتمع العبّاسي وخير من يُمثّله قصّة (علاء الدّين والمصباح السّحري)، لقد سيطر السّحر والتّنجيم على كلّ مظاهر الحياة في العصر العبّاسي وصار لكلّ خليفة عبّاسي مُنجّمه الخاصّ به، فـ”هارون الرّشيد” كان يستعين بالمنجمين عندما يُريد أن يخوض حربًا ما ضدّ أعدائه المناوئين له، وعندما ولد له “الأمين”؛ (787م ـ 813م) و”المأمون”؛ (786م ـ 833م)، أحضر “الرّشيد” مُنجّمه الخاصّ وطلب منه أن يقرأ له طالع كلّ من “الأمين” و”المأمون” وليته ما فعل ذلك، سيتقاتل “الأمين” مع “المأمون” من أجل كرسي الخلافة وسوف تسيل الدّماء بغزارة، فالمُنجّم كان له مكانة مرموقة في سدّة الحكم بل سيُصبح هو الحاكم الفعليّ الذي يسّوس الحكم ويُديره من وراء ستار، ولكنّ الخليفة “المعتصم”؛ (796م ـ 842م)، سيقضي على دولة المُنجّمين الذين نصحوه بألاّ يقوم بفتح مدينة “عمّوريّة”؛ لأنّ طالع ذلك اليوم لا يُبشّر بخير، ولكنّ “المعتصم” عزم على فتحها متوكّلاً على الله ولا يدور في رأسه إلاّ حديث الرّسول: “كذب المنجّمون ولو صدقوا”، وبالفعل خاض “المعتصم” المعركة وانتصر في الحرب وذهبت أقوال المنجّمين مع أوراق الخريف ومع سحب الصّيف، أمّا التّابو الإجتماعي فيتمثّل في شيوع ظاهرة اللّصوصية والشّطّار الذين يقطعون السّبيل ويسلبون النّاس أموالهم وحلائلهم وذراريهم وهذا بسبب ذيوع وانتشار الفقر والفاقة في المجتمع العبّاسي؛ ونُلاحظ ذلك في قصّة (علي بابا واللّصوص الأربعون)، حيث كان لزعيم العصابة التي تحترف السّرقة مكانة إجتماعيّة مرموقة تجعله يتحكّم في دواليب المجتمع وكواليسه الخفية، وكان يحمل روح التّمرد على السّلطة الحاكمة وعلى أعراف المجتمع؛ ويُحاول أن يستعين بالقوّة النّاعمة (المال، الدّعاية)، لكي يُصبح فاعلاً في المجتمع ويدخل التّاريخ ولو من النّوافذ.
وأمّا التّابو الأخلاقي (الخمر، الجنس)؛ فيتمثّل في شخصية “هارون الرّشيد”؛ في (ألف ليلة وليلة)، الذي كان يعشق الجواري والغلمان ويشرب الخمر ويأكل لحم الغزال، ونحن نعلم بأنّ كتب التّاريخ الإسلامي ككتاب (سير أعلام النبلاء) لـ”الذهبي”؛ (1274م ـ 1348م)، صوّرت “هارون الرّشيد” بأنّه كان يحجّ عامًا ويغزو عامًا، فما هي الشّخصية الحقيقية لـ”هارون الرّشيد” ؟، وأمّا التّابو السّياسي فيتمثّل في تلك القصص التي جرت وقائعها وأحداثها على ألسنة الحيوانات وهي قصص هندية ترجمها عن “الفهلوية”؛ (اللّغة الهندية القديمة)، “عبدالله بن المقفّع”، وهي قصص في مضمونها نقدٍ لاذع للحاكم ولزمرته مثل حكاية (الحمار والثّور وصاحب الزّرع)؛ وهي قصص تُشبه قلبًا وقالبًا قصص (كليلة ودمنة)؛ لـ”ابن المقفّع”، وهي قصص على ألسنة الحيوانات ترجمها عن “الفهلوية”؛ “ابن المقفّع”، الذي اتهم بالزّندقة في عهد الخليفة العبّاسي؛ “أبي جعفر المنصور”، (714م ـ 775م)، وتمّ قتله، أمّا التّابو التّاريخي فيتمثّل في تشويه فترة عصر الخلافة العبّاسيّة في “بغداد”؛ واعتباره عصر لذّة ومجون وخير من يُمثّله شخصية “هارون الرّشيد”؛ الخليفة العبّاسي التي اعتبرت شخصية ماجنة تبحث عن اللّذّة وعن الشّهوات الخفية، ونحن نعلم بأن العصر العبّاسي هو العصر الذّهبي للإسلام وفيه نشأت العلوم العقلية والنّقلية والفرق الإسلامية كـ”المعتزلة والأشاعرة والماتريدية والمتكلّمين والزّهّاد والمتصوّفة” الذين ساهموا في البناء الحضاري للمجتمع العبّاسي، فـ”بغداد” عاصمة الخلافة العبّاسيّة كانت موئلاً للعلم وللفكر الحرّ وللتصوّف الرّاقي وكانت موطن الفنّ العريق كالموسيقى العربية التي ظهرت على يد “إبراهيم الموصلي”؛ (742م ـ 804م)، وابنه “إسحاق الموصلي”؛ (767م ـ 850م)، ففي “بغداد” الحضارة العريقة والفنّ الرّاقي، لقد بلغت الحضارة العربية الإسلامية أوج رقيّها الإجتماعي في هذا العصر، وكان لابدّ أن يظهر أدب الهامش وهو أدب خارج عن المألوف، فكتاب (ألف ليلة وليلة) صوّر الجانب المظلم في الحضارة العربية الإسلامية في العصر العبّاسي، أمّا الجانب المشرق فقد تم إخفاؤه وربما هو موجود في الأجزاء المفقودة من كتاب (ألف ليلة وليلة)؛ التي تم تغييبها بفعل فاعل حتى لا ننهض من جديد كسالف عهدنا.