15 نوفمبر، 2024 4:10 ص
Search
Close this search box.

“المسحراتي” .. بين الفن والسياسة وإيقاظ الوطن !

“المسحراتي” .. بين الفن والسياسة وإيقاظ الوطن !

خاص : كتب – عمر رياض :

“تم تتم تم تم”.. بأسلوب الناقد والمفكر المصري، “لويس عوض”، في تدوين الإيقاعات؛ تنسب الجملة الإيقاعية السابقة إلى، “المسحراتي”، أو صاحب مهنة التسحير، وهي المهنة المرتبطة دائمًا بـ”شهر رمضان” عند المسلمين.. لم يكن يخلو شارع عربي من “المسحراتي”، إلا أن المهنة التي إرتبطت شخصيتها بـ”الطبلة” – كآلة إيقاظ، منبه، بجانب صوت المسحراتي -، ولازمت الفوانيس والزينة كشكل مميز إختفت من بعض البلدان لأسباب مختلفة.

تاريخ عبر شخصية مهمشة..

في حارة من حواري “الجيزة” في مصر؛ وقبل آذان الفجر خلال “شهر رمضان” بدأت إيقاعات “المسحراتي” تصل لآذاننا.

لم يكن صوت الطبلة المعهود – طبلة صغيرة الحجم على شكل “قمع” مغلفة بالجلد -، كان أقرب لـ”مارشات عسكرية” مع طرق نحاسي بالإضافة إلى “دف”، كانوا ثلاثة من الشباب لم يتجاوزوا العشرين يقطعون الشوارع بالترتيب، مع تغير دقة الطبول مرتين أو ثلاث مرات مختلفة بطريقة أقرب لمشجعي كرة القدم، “الأولتراس”، وكلما قطع الشباب شارع فتحت أبواب منازله لتنضم الأطفال إلى مسيرة التسحير بفرحة عارمة.

لم يكن هذا هو الشكل التقليدي لـ”المسحراتي”، عبر عقود من الزمن، فقد أخذ “المسحراتي” شكلاً، ربما أضيف إليه تغيرات بسيطة مع جريان الحداثة، حتى أخذ يتلاشى مثل الكثير من العادات والتقاليد.

وعلى الرغم من ظهور المنبهات والأجهزة الذكية؛ إلا أن شعوب البلدان العربية، وعلى الأخص المصريين، يفضلون سماع طبلة وصوت “المسحراتي” في ليال “رمضان”.

يرجع تاريخ التسحير إلى العصر العباسي، وعلى حسب التدوين ظهرت شخصية “المسحراتي” في عام 238 هجرية – 853 ميلادية – في عهد الخليفة “المنتصر بالله”، وكان “عتبة بن إسحاق”، والي مصر في تلك الفترة، حيث كان يطوف شوارع القاهرة ليلاً في “رمضان” لإيقاظ المسلمين ودعوتهم إلى تناول طعام السحور.

وكان شكل “المسحراتي” في العصر العباسي لا يختلف كثيرًا، حيث يحمل طبلة صغيرة يدقّ عليها، مستخدماً قطعة من الجلد أو الخشب، ومعه طفل صغير يحمل مصباح لإنارة الطريق، وكانت النساء تترك له على باب منازلهن قطعة نقود معدنية ملفوفة داخل ورقة، فيأخذها ويدعو لأصحاب البيت وينادي بأسمائهم..

كذلك لم تختلف نداءات “المسحراتي”، التي كان يرددها وهو يطوف الشوارع في العصر القديم عن عصرنا هذا، مثال: “عباد الله تسحّروا فإن في السحور بركة”.. وكان ينشد قصائد مقسّمة على أربع فترات، يقول في الأولى: “أيها النوّام قوموا للفلاح.. وأذكروا الله الذي أجرى الرياح.. إن جيش الليل قد ولّى وراح.. وتدانى عسكر الصبح ولاح.. أشربوا عجلى فقد جاء الصباح”.. وفي نداء آخر؛ يقول: “تسحّروا رضى الله عنكم.. كلوا غفر الله لكم.. كلوا من طيبات وأعملوا الصالحات”.. بينما ينشد في نداء ثالث: “يا مدبر الليالي والأيام.. يا خالق النور والظلام.. يا ملجأ الأنام ذا الجود والإكرام”.. ويختم: “كلوا وأشربوا وعجلوا.. فقد قرب الصباح.. وأذكروا الله في القعود والقيام.. وأرغبوا إليه.. تعالى بالدعاء والثناء”.. وهي التي لا تختلف من حيث المضمون مع نداءات “المسحراتي” في عصرنا الحالي، وقد تطوّرت وأصبحت أكثر شهرة: “أصحى يا نايم.. وحّد الدايم”.

مسحراتي الفن والأدب..

يأتي والد الشعراء، “فؤاد حداد”، في قائمة الفنانين الذين وظفوا تيمة “المسحراتي” في أعمال فنية.

وفي ديوانه الذي حمل نفس الأسم مزج، “فؤاد حداد”، المسحراتي رمزًا يمكن الإسقاط به على الأحداث والشخصيات وتفاصيل المجتمع المصري والعربي خلال حقب تاريخة هامة.

فتنوعت جمل النداءات بين الوطنية والحب والخيال..

يقول:

أصحى يا نايم وحّد الدايم

وقول نويت بكره إن حييت

الشهر صايم والفجر قايم

أصحى يا نايم وحّد الرزاق

رمـضــان كــــريــــــــــــم

مـســــحــــــــــراتــــــــــي

مـــــنــــــــقــــــــــراتــــــي

وأنا قلبي راضي

أنا قلبي رايق

أنا قلبي طايق

سبع طرايق

على الوريد

الأوله دي

عيون ولادي

صبح ميلادي

بتاريخ جديد

والتانيه ساير

تحت المناير

رمضان يناير

طالع سعيد

والتالته عيني

على البريد

بينك وبيني

سكه حديد

والرابعه داخ اللي

قلبه داخل لي

يبقى دا خلّي

بالأكيد

والخامسه أمسِي

فرش في شمسي

أنا اللي همسي

صبح نشيد

والساتّه يومي

جميل في قومي

أنا اللي صومي

وصلاتي عيد

والسابعه بشرى

من قبل بكره

على كل أكره

يبقى لي إيد

عصر العجايب

جايب مجايب

جايب ما جاب لي

والمشي طاب لي

والدق على طبلي

ناس كانوا قبلي

قالوا في الأمثال:

… “الرجِل تدب مطرح ما تحب”.

 

يقول أيضًا في حب الوطن..

ومن المفارقات؛ أن يكتب “فؤاد حداد” هذه الأبيات قبل ثورة (كانون ثان) يناير..

عايز أهادي ولادي

بغنوه أجمل غنوه حبوا الوطن

حبوا الوطن في الغيط أبو الفدادين

وفي حصة العربي ودرس الدين

حبوا الوطن

حبوا الوطن في الجبهة والميدان

يوم الجهاد الكل مجتهدين

حبوا الوطن

وتعملوا من قبل ما تقولوا

حبوا الوطن بالحق وأشقوا له

لولا العرق ما كنش نور الجبين

حبوا الوطن

حبوا الوطن في الحي في الشارع

من نور لنور والجي والطالع

نادوا الحضور في جمعة الملايين.

إرتبطت قصائد “المسحراتي” بصوت المطرب والملحن المصري، الشيخ “سيد مكاوي”.

وتبدأ قصة “المسحراتي”، مع الشيخ “سيّد”، في مرحلة الطفولة.. فقبل تلحينه لقصائد “فؤاد حداد”؛ كان “المسحراتي” يجوب حارته خلال شهر “رمضان” وينادي على أبناء الحارة كل واحد باسمه، وعندما ينادي على “سيد مكاوي”، يقول: “أسعد الله الليالي عليك يا شيخ سيد، الصلاة والصوم وصالح الأعمال، وأسعد الليالي عليك، إصح يا شيخ سيد”.

ولد “سيد مكاوي” عام 1928، في حي “الناصرية” ـ أحد أحياء حي السيّدة زينب العريق ـ في أسرة شعبية بسيطة، وكان لكف بصره عامل أساس في إتجاه أسرته إلى دفعه للطريق الديني بتحفيظه القرآن الكريم، فكان يقرأ القرآن ويؤذن للصلاة في مسجد “أبو طبل” ومسجد “الحنفي” بحي الناصرية.

من هنا جاءت نداءات “مكاوي”، الذى كبُر وسط أحياء تشتهر بأجواء دينية ورمضانية..

ويعتبر “مكاوي” أشهر “مسحراتي” في العصر الحديث، حيث كان يجول بطبلته ينادي في أرجاء القاهرة القديمة حتى وصل إلى قلوب ناسه وأهله والغلابة، الذين يجتمعون في الساحات الممتدة أمام الجوامع والمشربيات والشرفات للإستمتاع بصوته الشجي.

ويقول في إحدى النداءات: “إصحى يا نايم إصحى وحد الدايم.. وقول نويت بكرة إن حييت الشهر صايم والفجر قايم.. إصحى يا نايم وحد الرزاق .. رمضان كريم”..

قوموا تسحّروا وأعبدوا رب الأنام

ويلي يصوم رمضان يا هناه

يا سي محمد يا رب يخليك لنا والسنة الجاية تكون على منى.

 

كما كان يحمل بعضها الفكاهة:

قومي يا أم محمد وصحي جوزك بلاش كسل…

وانت يا سي فؤاد، هو النوم مالوش آخر ؟

أتفضل وأتسحر بالهناء والشفاء وإدعي ربك بالتقى….

إذاً، كان “مكاوي”، وعلى مدى سنوات عديدة خلال ليالي شهر رمضان المبارك، يقوم بالتجوال في أحياء سيدنا “الحسين” والسيدة والقلعة وبولاق والقنطرة والعريش ومعه غلامه يحمل فانوساً مضيئاً، وبيده طبلة تسمى “بازة”، وبيده اليمنى جلدة يضرب بها على الطبلة.

وكان يقول أيضاً:

مسحراتي منقراتي بأفراح قلبي بيتنقل بي

أشوف قبالي على الطبالي

أقول يا زرعة وأنتي يا زلعة

لقمة هنية تكفي مية

متسلطنة قال الزبادي

ست الحبايب يا محضنة روح الضنى

وأخضر بقشرة أقول لو أطرا

بادور وأدور من نور لنور صحبة زهور

هاتي السحور سبع بحور في سلطانية.

مسحراتي مجهول وآخر في بلاد الحرب والحظر..

“الزمالك” أحد أحياء الطبقة الراقية في مصر، كان عنوان لفيلم تسجيلي قصير عن “المسحراتي”..

يحمل الفيلم اسم: (مسحراتي الزمالك)؛ ويحكي بصوت رواي حكايات حول شخصية الفيلم.. حيث يطوف “مسحراتي” يرتدي القميص والبنطلون لتسحير سكان “الزمالك”، ويتطرق الفيلم لحال هذه المهنة التي قاربت على الإختفاء في أماكن كثيرة في مصر.

ربما يتحدث الفيلم، وبعض الأبحاث التراثية، عن المسحراتي كـ”مهنة”، أي عمل بأجر خلال شهر “رمضان”.

لكن في الكثير من الأحياء والقرى والمدن المصرية الأخرى يوجد “المسحراتي” بها، ولكنه لا يقوم بمهمة التسحير مقابل أجر معين؛ أو تقتصر على الفقراء والمعوزين، بل يعتبر بعض المسحراتية من المقتدرين على المعيشة، يعتبرونها “صدقة”، إلا أن بعض سكان الأحياء يمنحونه مالاً أو خبيزًا على سبيل التشجيع والاعتراف بالموهبة، ومن أجل إدخال السرور عليهم.

إختلاف أداء “المسحراتي” من “الزمالك” إلى الأحياء الشعبية إلى نجوع وقرى الصعيد، جنوب مصر، حيث أدخل الجنوبي “الطبل” و”المزمار”..

وقد يختلف أسلوب وطريقة “المسحراتي” مع تنوع المدن والبلدان العربية.. ففي “مصر” قد يردّد “المسحراتي” الأناشيد والنداءات المختلفة. وفي “اليمن والمغرب” فيدقّون الأبواب بالنبابيت، أما “أهل الشام” فيطوفون على البيوت ويعزفون على العيدان والطنابير وينشدون أناشيد خاصة برمضان، وتطوّرت بعد ذلك مهنة “المسحراتي”، فاستخدم “الطبلة الكبيرة” منشداً الأشعار والأغاني الشعبية.

من الموروثات القديمة، والتي لازالت باقية في “قضاء الزبير”، الواقع غرب “البصرة”، والتي تميز تلك المدينة بعاداتها وتراثها في التقاليد والطقوس ولها نكهة مميزة في أغلب المناطق، وخاصة في هذا الشهر الفضيل، شهر رمضان، هي ظاهرة مجموعة “المسحراتي”، أو (أبو طبيلة)، كما يسميه البعض، وقد بدأت في التلاشي، حيث كان “المسحراتي” يخرج للنقر على الطبلة.                                                                 

وتخرج في أزقة مناطق “الزبير” القديمة، والتي تعرف (بالسكك).. مجموعة من الشباب وبزيهم التراثي وهم ينقرون على “الدُف” أو ما يسمى بالـ (طيران)؛ مرددين: “يالله.. يالله.. يالصايم قوم أذكر الله وقوم تسحر بسم الله، أحلى طعام نطيتك ومن الشيطان حرستك”.

ويذكر أنه خلال تصاعد أعمال العنف، سابقًا، اضطرت السلطات العراقية إلى فرض حظر تجوال على معظم المدن، بدءًا من منتصف الليل وحتى ساعات الصباح الأولى، غير أنها استثنت “المُسِحر” من الحظر.

في “مصر” أيضًا، وتحديدًا في محافظات “سيناء”، إختفى “المسحراتي” مع تصاعد أعمال العنف.. إلا أنه في الآونة الأخيرة بدأ يظهر على أستحياء في العواصم، ولكن قبل مواعيد الحظر، أي مع الحادية عشر مساءًا.

في الأيام الأخيرة من “رمضان”؛ يواظب “المسحراتي” على نزول الشوارع، حيث يبدأ السكان في التصُدق من المال الذي يحصل على البعض منه كمكافأة على مجهوده، بينما يرفض البعض الحصول على مال.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة