إعداد/ د. عصام عبد الشافي
تمهيد:
يتم التمييز في إطار التحولات الأساسية التي تشهدها بنية العلاقات الدولية، من منظور النظام الدولي، بين مستويين أساسيين لهذه التحولات، الأول، ويمكن تسميته بالتحولات المهمة التي من شأنها إدخال عدد من المفاهيم أو النظريات الجديدة على مستوى التحليل، أو بروز عدد من الفواعل أو الظواهر السياسية الجديدة على مستوى الممارسة، ولكنها، مع أهميتها لا تؤثر في البنية الهيكلية للنظام الدولي.
أما المستوى الثاني، فيمكن تسميته بالتحولات الجذرية، وهو ما يعني تغيير هيكلي في بنية النظام الدولي، وتحوله بين الثنائية والأحادية القطبية وتعددية الأقطاب، ويرتبط هذا المستوى في كثير من تجاربه التاريخية، بالحروب الكبرى التي شهدتها العلاقات الدولية، كالحرب العالمية الأولي (1914-1918) والحرب العالمية الثانية (1939-1945) أو الحرب الباردة التي امتدت فعلياً بين 1945 و1990، وصولاً لانهيار الاتحاد السوفيتي رسمياً في 26 يناير 1991.
وفي إطار هذين المستويين يمكن القول أن التحولات السياسية التي شهدتها المنطقة العربية بداية من العام 2011 وحتى الآن، والتي يطلق عليها الكثيرون “الثورات العربية”، تندرج ضمن المستوى الأول، أي التحولات المهمة وليست الجذرية، لأنها أفرزت مجموعة من المفاهيم والاقترابات التحليلية الجديدة، كما أفرزت مجموعة من الفواعل الدولية، سواء ما فوق الدولة أو ما دون الدولة، إلا أنها لم يترتب عليها تغييراً جذرياً في بنية النظام الدولي، والذي ما زال أحادى القطبية تهيمن عليه الولايات المتحدة الأميركية حتى الآن، رغم الأحاديث الكثيرة عن عودة روسيا الاتحادية وتمددها في عدد من المناطق والملفات الإقليمية والدولية، وسعيها لإعادة تشكيل هذه البنية، وهو ما ظهر جدياً في قمة شنغهاي (يونيو 2018) التي عقدت في نفس التوقيت الذي عقدت فيه قمة الدول الصناعية السبع الكبرى في كندا (يونيو 2018)، وفي الوقت الذي ضمت فيه شنغهاي أطرافاً جدداً ووقعت بياناً يعزز بنيتها، انقسمت قمة الكبار وأطلق عليها (6+1) بعد أن وجدت الولايات المتحدة نفسها وحيدة في مقابل باقي أعضاء المجموعة، بما يمكن أن يشكل بداية مهمة نحو تحول كبير على مستوى بنية العلاقات الدولية.
وفي إطار هذه الاعتبارات، وسعياً نحو تحليل الاتجاهات المستقبلية للتحولات التي يمكن أن تشهدها منطقة الشرق الأوسط، خلال السنوات القادمة، يمكن رصد عدد من السيناريوهات والمسارات الأساسية حتى العام 2025، في محاولة استقرائية لأهم ما انتهت إلىه أطروحات عدد من الباحثين والمؤسسات البحثية خلال السنوات القليلة الماضية.
وتستعرض هذه الورقة أهم هذه المسارات التي تقع بين قوسين كبيرين: الأمل والإحباط، وإن كان التحليل الموضوعي لا يعترف بمثل هذه المصطلحات، بل فقط بما يحكم التفاعلات الدولية من ضوابط ومصالح وتوجهات واستراتيجيات وقدرات وإرادات حقيقية وليس أوهام وأمنيات عبثية.
محتويات الدراسة:
تقوم الدراسة على مستويين أساسيين، الأول عرض أربعة سيناريوهات أساسية يمكن أن تتحرك فيها المنطقة خلال السنوات السبع القادمة (2018-2025)، وتتمثل في السيناريو الأول: تحقيق طفرة العربية وانتصار الثورات الشعبية، السيناريو الثاني: الفوضى والانهيار، السيناريو الثالث: سيناريو التفكيك والتركيب، والسيناريو الرابع: الأخطر من التقسيم، والمستوى الثاني: ويتناول عدد من المقترحات التي يمكن من خلالها التعامل مع هذه السيناريوهات ووضع بدائل أولية لإدارة التحديات الراهنة.
المستوى الأول: السيناريوهات المستقبلية:
وتتمثل هذه السيناريوهات، من وجهة نظر الباحث في أربعة سيناريوهات أساسية، الأول: تحقيق طفرة العربية وانتصار الثورات الشعبية، الثاني: الفوضى والانهيار، الثالث: سيناريو التفكيك والتركيب، والسيناريو الرابع: الأخطر من التقسيم
السيناريو الأول: تحقيق طفرة العربية وانتصار الثورات الشعبية:
يقوم على أن بعض الدول ستقدم عدداً من المبادرات لحل الأزمات الاقتصادية التي تعاني منها دول المنطقة، وهنا تتوقع الدراسة تقديم خطة اقتصادية موسعة على غرار خطة “مارشال” بعد الحرب العالمية الثانية، والتي من شأنها أن تقدم تمويل قيمته 100 مليار دولار لإنعاش الاقتصادات العربية، وتقديم الدعم الحيوي لها للقيام بالإصلاحات الضرورية بطريقة مستدامة اجتماعياً بهدف تحقيق النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل.
وستساهم تلك التنمية الاقتصادية في تقليل أعداد المنتمين للتنظيمات الإرهابية، ومحاصرة الإرهاب بشكل يحول المشكلة من تهديد استراتيجي لأمن الدول إلى مجرد مشكلة عادية، وذلك بالتزامن مع السياسات العربية المشتركة في مكافحة الإرهاب، والتي ستثبت فعإلىتها في تقويض هذا الخطر، بل وستزيد من ثقة العرب في بعضهم البعض.
ووفق هذا السيناريو، من المتوقع أن تؤسس الدول العربية قوات حفظ سلام خاصة بها تكون تابعة لجامعة الدول العربية، وتكون أول مهمة لها في سوريا، والتي سيمهد اتفاق السلام فيها إلى إعادة بناء الدولة على أسس جديدة. فالاضطراب السياسي داخل الإقليم سيظل حاضراً، لكن لن تكون له نفس الآثار التخريبية، كما أن المظاهرات في بعض الدول مثل مصر والجزائر لن تؤدي إلى استقطاب في المشهد السياسي، كما ستنخرط بعض تيارات الإسلام السياسي في العملية السياسية حتى لو تحت مسميات جديدة، لكن بأفكار أكثر انفتاحاً فيما يتعلق بحقوق الإنسان والمساواة وغيرها.
وستكون إيران قد أنهت برنامجها النووي، وهو ما سيؤدي في البداية إلى تخوف دول الخليج في ظل عدم ثقتها في نوايا طهران، إلا أنه بمرور الوقت وبوساطة الأمم المتحدة ستؤدي إجراءات بناء الثقة إلى تحسين الأوضاع وتوفيقها بين إيران ودول الخليج( 1).
وفي سياق هذا السيناريو، يطرح البعض احتمالات نجاح الثورة في مصر، وبناء سياسي مستقر، يمكن أن يكون مقدمة لتعزيز قدرات دول الثورات العربية في ليبيا وتونس وسوريا وليبيا، ويحول دون انهيار الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويكون خطوة لبناء نموذج حضاري جديد، في إطار موجة رابعة للتحرر من النظم الاستبدادية، في المنطقة العربية. فقد أثبتت سنوات ما بعد 2011 أن استخفاف قوى الداخل بتداعيات أحداث مصر على المحيط العربي أمر كارثي، وأن إجهاض الثورات العربية بدأ بإجهاض الثورة المصرية، وأن استخفاف القوى الإقليمية بمصر واعتقادها أنه بإمكانها اجهاض ثورتها بلا ثمن، هو سبب أساسي من أسباب اختراق العالم العربي وتمدد قوى إقليمية ودولية داخله. ولهذا فاستعادة ثورة مصر مطلب مصري كما أنها ضرورة عربية ملحة(2 ).
ويستند أنصار هذا السيناريو إلى عدد من العوامل الحاكمة لتأثير الثورات في العلاقات الإقليمية، وفي تغيير الأوضاع السياسية والاجتماعية والفكرية في المنطقة، ومن بين هذه العوامل، وكذلك الدروس التي أفرزتها الثورات العربية:
1ـ الإمكانيات والقدرات:
يتم الحديث عن الإمكانيات المتوافرة لدي الدول العربية ودول الجوار الجغرافي، مثل المساحة، والسكان، والدخل القومي، والإنفاق العسكري. وتثير البيانات المتوافرة حول هذه الإمكانيات سؤالا حول إمكانية تحويل هذه الإمكانيات إلى قدرات Capabilities ، بمعني تحويل هذه العناصر المتناثرة بين مختلف الأقطار العربية إلى عناصر قوة عبر إرادة سياسية مشتركة بين تلك الأقطار. وتشير حالة الثورات العربية إلى احتمال انتقال الدول العربية من الاعتماد على السلوك الفردي أو الإقليمي، إلى السلوك الجماعي، في مواجهة الأطراف الخارجية، وهو ما يعني الانتقال من حالة التجزئة إلى حالة التكامل الإقليمي الذي يستجيب للحاجات الأساسية، ويدفع مصادر التهديد الرئيسية والثانوية عن الوطن العربي.
2ـ الثورات العربية والمبادرات الإقليمية:
حيث يمكن أن تتجه العلاقات العربية ـ العربية من حالة التفكك والتشرذم إلى حالة أقرب إلى الاندماج والتكامل في تفاعلاتها الإقليمية والدولية، كما أنه من المتوقع، في ظل الثورات العربية، أن تتنوع العلاقات الخارجية العربية، بحيث تمتد إلى روسيا، والصين، وإلىابان، وأوروبا، وهي قوي تمثل قمة النظام الدولي، كما يمكن أن تمتد كذلك إلى قوي إقليمية فاعلة مثل الهند، والبرازيل، والأرجنتين، والقارة الإفريقية. وهذا التحول سيؤدي، في التحليل الأخير، إلى تحول هذه الدول من نمط العلاقة بين المركز والأطراف، إلى علاقة بين الأطراف بعضها والبعض الآخر، في إطار رغبتها السياسية في تحقيق علاقات دولية أكثر عدالة(3 ).
3ـ توفر إمكانيات ومتطلبات بناء نظام إقليمي قوي:
حيث الجوار الجغرافي، الذي يصل إلى حد التماس الأرضي، وبهذا المعني، فإنه بالفعل يمكن الحديث عن نظام إقليمي عربي، يمتد من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، كما يمكن أيضا الحديث عن نظام شرق أوسطي يضم، إلى جانب الدول العربية، دولا أخري هي دول الجوار الجغرافي مثل تركيا، وإيران، وإثيوبيا، وربما يمتد إلى باكستان وأفغانستان، هذا من ناحية.
ومن ناحية ثانية، كثافة التفاعلات البينية بين أطراف النظام الإقليمي، مقارنة بمثيلاتها مع الأطراف خارج النظام. فالتفاعلات الإنسانية بين الشعوب العربية أعمق بكثير من التفاعلات الإنسانية بينها وبين الشعوب الأخرى، وهو ما يؤكد عمق المصالح المشتركة، والتي لا يمكن الاستغناء عنها بين أطراف النظام.
ومن ناحية ثالثة، وجود دولة أو دول إقليمية مركزية تقوم بدورين مهمين، هما تكثيف عمليات الجذب أو التكامل، والحد من عوامل التنافر، ولكن الأمر يرتبط بمدي توافر إرادة سياسية بين الدول أطراف النظام الإقليمي، حيث من الممكن أن توجد دول متجاورة جغرافيا، بينها تفاعلات كثيفة، وتوجد دولة أو دول مركزية، بينما تغيب الإرادة السياسية لتشكل نظام إقليمي فاعل، مما يؤدي إلى الفرقة والتشرذم إلى كيانات ضعيفة ومعتمدة علي دول وفاعلين خارج النظام الإقليمي( 4).
4ـ جدلية الأمن والحرية:
ما أكدت عليه الثورات من أنه لا تعارض بين الحرية والكرامة من جهة والأمن والاستقرار من جهة أخرى. فالثورات جلبت الحرية والكرامة بعض الوقت، أما الثورات المضادة فقد ضربت دعاة الحرية والكرامة، وفشلت في تحقيق الأمن والاستقرار بل وفرطت في الدم والأرض وقسّمت المجتمعات وأشعلت الصراعات الصفرية.
5ـ الحتمية الثورية:
إن الثورات عمل حتمي تُدفع لها الشعوب دفعا ولا تختارها، بعد أن أغلقت أمام الشعوب كل طرق التغيير السلمي والتدريجي، وفشلت أنظمة ما بعد الاستقلال في تحقيق كل الأهداف التي تشدقت بها، ولهذا تصبح مسألة خروج الشعوب مرة أخرى للميادين مسألة وقت إذا استمرت هذه الأوضاع الحإلىة، فبعد الثورات أصبح الشعب جزءا من المعادلة، ولن تنجح الثورات المضادة في إبعاده، فالمعتقلات والمنافي بها عشرات الآلاف في صفوف الثورة، وهناك الملايين الذين يلوذون بالصمت في كافة قطاعات الدولة والمجتمع، ومن هؤلاء آلاف لديهم القدرة على قيادة أوطانهم، فالتغيير تقوم به نسبة صغيرة من الشعب بشرط أن تمتلك رؤية للمستقبل وأدوات التغيير، وبشرط أن تُعبر عنها قوة أو قوى منظمة.
6ـ الثورة بين الغاية والوسيلة:
الثورة ليست غاية في حد ذاتها، وهي ليست أفضل الطرق لتحقيق التغيير السياسي، لكنها تفشل بفشل القوى التي تدافع عنها وبانقساماتهم وعدم قدرتهم على وضع مشروع متماسك يعبر عن مطالب الجماهير. وكما أن الطغيان صناعة تحتاج إلى إرادة وتدبير وتخطيط ورؤى وقوى تتكتل من أجل بنائه والدفاع عنه، فإن الحرية والكرامة صناعة أيضا تحتاج إلى إرادة وتدبير وتخطيط ورؤى وقوى تتكتل من أجلها.
7ـ الثورة والعمل المشترك:
أوضحت الثورات الشعبية والثورات المضادة أن المعركة ضد الاستبداد معركة الجميع، وأنه لا حرية لفصيل دون الآخر. فالثورة أثبتت أهمية وإمكانية العمل المشترك لكافة التيارات الإسلامية والليبرإلىة والاشتراكية، بينما أثبتت الثورة المضادة أن الجميع مستهدف وأن الازدواجية في النظر في القضايا الحقوقية والإنسانية أمر مدمر للجميع، كما أثبتت الثورات أن للعنف تداعيات وخيمة، فالتغيير بالقوة المسلحة يتطلب توازنا أو تقاربا في القوى المادية بجانب داعمين إقليمين أو دوليين، كما أن استهداف الجماهير بالقتل والاعتقال والنفي والأحكام المسيسة لا يقضي على إرادتهم، فالنظم التي تعيش بالعنف لا تتغير إلا به، وهو ما يجب الحذر منه والوعى بأخطاره.
8ـ الثورة والتوافق:
إن التغيير طريق طويل، ومن غير الممكن إحداث التغيير بلا توفر متطلباته وشروطه وأهمها ظهور تيار تغيير وطني قوي وامتلاك طليعته ونخبته القدرة على وضع الرؤى الجامعة وقيادة الجماهير والتعبير عن آمالها، فضلا عن امتلاك القدرة على إقامة التحالفات وتغير موازين القوة. وهنا يكون الرهان في نجاح هذا السيناريو على بناء التوافقات الكبرى على موائد حوار شاملة حول المسائل الكبرى التي تهم المواطن، تمكين قطاعات أوسع من المشاركة وتغيير نمط السلطة وتعزيز حكم القانون ودولة المؤسسات والمواطنة والعدالة الاجتماعية وزرع ثقافة المساءلة والمسؤولية ومواجهة الفساد والاستبداد ( 5).
السيناريو الثاني: الفوضى والانهيار:
يشير هذا السيناريو إلى أن الدول العربية ستواجه خلال السنوات القادمة حتى عام 2025 العديد من التحديات فيما يتعلق بالبطالة والمشاركة السياسية، فضلاً عن تمدد تهديد الإرهاب. وبرغم محاولات احتواء هذا الخطر الأخير، فإن نطاقه سيجعل الإقليم عالقاً في صراع ممتد، بما يؤجل أي عمليات إصلاح داخلية من منطلق الأسباب الأمنية. فالصراع والعنف الممتد في سوريا ولبنان وإسرائيل والعراق وإلىمن لن يمنع التكامل الإقليمي فقط، بل يعوق أيضاً التنمية الاقتصادية على نطاق واسع داخل المنطقة.
ولذا، فإن البطالة التي يعاني منها غالبية الشباب، والتي كانت محركاً أساسياً للثورات في العالم العربي، سترتفع بشكل أكبر في عام 2025، إذ تقف نسبة البطالة في الوقت الحإلى عند 30% نتيجة عدم قدرة أسواق العمل على استيعاب العمالة خصوصاً الحاصلين على مؤهلات عليا. كما أنه رغم بعض الإصلاحات التي قامت بها بعض دول الثورات العربية، فإن النتائج ليست مشجعة بشكل كبير.
كما أن تنامي خطر الإرهاب أدى إلى انخفاض معدلات الاستثمار الأجنبي في العديد من البلدان، وهو ما ترتب عليه تقليل فرص العمل؛ كما تواجه الدول العربية كذلك تحديات أخرى تهدد استقرار الإقليم؛ لعل أبرزها التوترات الأمنية في سوريا وليبيا، واستمرار إيران في تطوير برنامجها النووي، والحرب الباردة بين السعودية وإيران، بأبعادها المصلحية والمذهبية.
ويفترض هذا السيناريو تراجع العالم العربي في العديد من الجبهات:
1ـ تنامي دور تنظيم “داعش”، والذي أدخل الإقليم في اضطراب كبير جعل الدول العربية تُرسِّخ كل إمكانياتها لمحاربته، وإهمال تحقيق إصلاحات اقتصادية التي من شأنها خلق فرص عمل جديدة وتحقيق التنمية، حيث سيؤدي إهمال أو تأجيل الإصلاح إلى تآكل نمو الاقتصادات العربية، نتيجة لعدد من العوامل منها عدم الاستقرار، وعدم استدامة الدعم، وارتفاع أسعار الغذاء وغيرها. ومع استمرار هذا الأمر، سترتفع البطالة في الدول العربية بشكل كارثي، وبالتإلى لن يكون أمام هذا الشباب العاطل إلا أن ينضم للتنظيمات الإرهابية الإقليمية أو يشارك في المظاهرات العنيفة الرافضة للحكومات وسياساتها.
2ـ ليبيا: ستتحول، مع استمرار الصراعات داخلها، إلى منطقة كبيرة غير محكومة، حيث ستعمل فيها الشبكات الإجرامية والتنظيمات الإرهابية بحرية تامة، مما سيؤثر سلباً على جيرانها. كما ستبدأ تلك الجماعات والتنظيمات الإرهابية في إنشاء هياكل للبنية التحتية الخاصة بها، فيما ستركز جماعات أخرى على عمليات الخطف ومبيعات الأسلحة.
3ـ سوريا: الصراع سيكون قد انتهى بعد 15 سنة، إلا أنه لم ينته على أساس من الاتفاق المشترك، بل على افتراض استسلام الجيش السوري الحر. كما يمكن القول إن النظام السوري الجديد لن يكون قادراً على السيطرة على البلاد بالكامل في ظل استمرار تعاون بعض الجماعات داخل سوريا مع تنظيم “داعش”.
ـ إيران، ستكون قد امتلكت سلاحها النووي بعد أن غادرت معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT )، كما ستعزز من التوترات الطائفية ليس فقط في إلىمن ولبنان، ولكن في أماكن أخرى. وستسعى كل من السعودية ومصر إلى بحث خيارات شراء الأسلحة النووية لأنفسهم أيضاً. كما ستمتلك منظمتا حماس وحزب الله – حلفاء إيران من غير الدول – الصواريخ البإلىستية، مما يهدد الإقليم كافة بالانهيار وليس فقط بالاضطراب.
4ـ تصاعد التوترات الطائفية الأخيرة في المنطقة، خاصة في العراق، وسوريا، ولبنان، والتي قد تزيد من فرص قيام حرب شاملة بين القوى السنية والشيعية، وربما تقسم الشرق الأوسط الجديد إلى مجموعات ذات حكم ذاتي على أساس طائفي، مع احتمإلىة استمرار الصراع، وسيحقق الأكراد أكبر مكاسب من الصراع الطائفي في المنطقة. وفي إطار هذا الاحتمال سيدخل أيضا هدف تقسيم تركيا، أو سيكون الهدف التإلى تقسيم تركيا، من خلال استخدام المنظمات الارهابية، إلى جانب بعض التدخلات الصريحة من أدوات النظام العالمي، وهذا الاحتمال من شأنه تعميق الفوضى بهذا الحجم في المنطقة، وتصفية ما تبقى من الشرق الأوسط ( 6).
وفي توصيف لهذه المرحلة، ونطاقها الزمني، يقول “ريتشارد ن. هاس”( 7): “إننا نشهد إلىوم نهاية حقبة من تاريخ العالم وبزوغ فجر حقبة أخرى جديدة، لقد مر أكثر ممن ربع قرن من الزمان منذ سقط سور برلين، 1989، ونهاية الحرب الباردة. والآن، تبدأ حقبة جديدة أقل خضوعا للنظام وأقل سلمية، يعيش فيها الشرق الأوسط المراحل المبكرة من النسخة المعاصرة من حرب الثلاثين عاماً (1618-1648)، حيث ستعمل الولاءات السياسية والدينية على تأجيج صراعات مطولة ووحشية أحيانا داخل وعبر الحدود الوطنية، فالشرق الأوسط يعاني، في هذه المرحلة، من قدر كبير من عدم التسامح ونقص كبير في الوفاق، سواء بشأن الحدود بين الحكومة والمجتمع أو الدور الذي يلعبه الدين داخلها”8 .
وعن تداعيات هذه المرحلة، عالمياً وإقليمياً، يقول “نورييل روبيني”9 : “بين المخاطر الجيوسياسية التي تهدد العالم إلىوم، عدم الاستقرار الطويل الذي يمتد من المغرب إلى الحدود الأفغانية الباكستانية، وبعد تحول الربيع العربي إلى ذكرى بعيدة على نحو متزايد، تزداد حالة عدم الاستقرار على طول هذا القوس عمقا. فمن بين دول الربيع العربي الثلاث الأولى، أصبحت ليبيا دولة فاشلة، وعادت مصر إلى الحكم السلطوي، وتعمل الهجمات الإرهابية على زعزعة استقرار تونس اقتصادياً وسياسياً. وينتشر العنف وعدم الاستقرار من شمال أفريقيا إلى جنوب الصحراء الكبرى. وإذا تجاهل الغرب الشرق الأوسط أو سعى إلى حل مشاكل المنطقة بالاستعانة بالسبل العسكرية فحسب، بدلاً من الاعتماد على الدبلوماسية والموارد المإلىة لدعم النمو وخلق فرص العمل، فإن حالة عدم الاستقرار في المنطقة لن تزداد إلا سوءاً. ومن المؤكد أن مثل هذا الاختيار سوف يطارد الولايات المتحدة وأوروبا ـ وبالتإلى الاقتصاد العالمي ــ لعقود قادمة من الزمن”10 .
السيناريو الثالث: سيناريو التفكيك والتركيب:
أدت التغيرات في توزيع القوة في الإقليم، وتغير أشكال الحكم فيه، إلى تغيرات على مستوى الجغرافيا السياسية، سواء توحيداً له، أو تفتيتاً، أو إعادة تشكيل وفق تلك المتغيرات، فقد أعادت الثورات العربية طرح مسألة الأمن القومي، وفقاً للمتغيرات الجديدة في البيئة العربية. وقد أدت عمليات إعادة الهيكلة، والتفكيك، وإعادة البناء، إلى طرح مسألة الأقليات في الدول العربية من جديد، سواء ضمن دساتيرها، أو ضمن إعادة تأطير الفكر الوحدي للدولة الواحدة، في ظل مطالب تتعدى الحقوق السياسية والاجتماعية للأقليات، إلى مطالب بحق تقرير المصير.
وتشكل عملية الانفصال/ التفتيت، للدول العربية، خطراً على الدولة وعلى المنظومة العربية ككل، حيث تؤدى لخلق صراعات على الأطراف، ذات صبغة عرقية أو دينية، تؤجل أو تعيق عملية التحول الديمقراطي في المنطقة. كما أن غالبية الأقإلىم الساعية للانفصال أو المنفصلة، هي أقإلىم ثروات قومية للدولة، أي أن انفصالها هو تهديد لأمنها الاقتصادي المناط به المساهمة في إعادة بناء الدولة، وقد تدفع عملية الانفصال، إلى دفع مجموعات سكانية أخرى للمطالبة بذلك، وصولا إلى حالة تفتيت وتلاشي الدولة، أو دخولها في حالة حرب متسمرة مع الأطراف المنفصلة أو الساعية للانفصال.
والتغير في الخارطة المشرقية مرتبط بمستقبل الثورة السورية، حيث تعتمد الخريطة الجيوسياسية على ذلك، وخاصة أن سوريا تشهد طرحين انفصإلىين وان كانا في بداياتهما، أحدهما شرقاً (الطرح الكردي)، والذي سيتعزز في حال انفصال إقليم كردستان العراق، فيما يتمثل الطرح الآخر غرباً (الطرح العلوي، وأية تغييرات على مستوى الخارطة السورية والعراقية، سيترافق بتغيرات على الخارطة اللبنانية، وخاصة في منطقتي طرابلس- عكار، التي تشهد بدورها هي الأخرى توترات طائفية ازدادت مع الدفع الطائفي في الحرب القائمة في سوريا، في محاولة إيرانية كذلك لاستعادة نفوذ على ساحل المتوسط(11 ).
ويقوم سيناريو التقسيم، على عدة مسارات كانت محلاً لعدد من الخطط والتحليلات، الصادرة عن باحثين ومفكرين وصانعي قرار، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وليست وليدة مرحلة الثورات العربية، ومنذ لك:
1ـ خطة أودد ينون 1982:
نشرت خطة “أودد ينون” لأول مرة في فبراير/ شباط 1982 تحت عنوان استراتيجية لإسرائيل في الثمانينات، ونُشِرت في مجلة “كيفونيم” الإسرائيلية، وترجمها “إسرائيل شاهاك”، تحت عنوان “خطة إسرائيل للشرق الأوسط”. وترتكز خطة ينون على أنه يجب إعادة تقسيم العالم العربي إلى دويلات صغيرة غير فعالة وغير قادرة على الوقوف في وجه الإمبريإلىة الإسرائيلية وتحطيم الدول المركزية مستغلة عدم التجانس العرقي والديني والإثني في سائر الدول العربية.
وهنا يكون التفكير في العمل على تفكيك العراق إلى دولة شيعية وأخرى سنية وانفصال الجزء الكردي، وتقسيم سوريا بين دولة علوية على الساحل، ودولة سنية في حلب، ودولة سنية أخرى في دمشق، ودولة للدروز في الجولان وحوران وشمال الأردن.
2ـ خطة برنارد لويس 1992:
“برنارد لويس” هو بريطاني أمريكي، من موإلىد مايو/ أيار 1916، أستاذ فخري لدراسات الشرق الأوسط في جامعة برينستون، وله مؤلفات متخصصة حول الشرق الأوسط والإسلام، تعتمد خطة “لويس” بشكل كبير على (إشعال) الحروب الطائفية في المنطقة، وقد نشرت ملامح خطة “لويس” في مقاله الذي نشره في مجلة “فورين أفيرز” تحت عنوان “إعادة التفكير في الشرق الأوسط” في عام 1992.
وبنى “لويس” فلسفته على ما وصفه بأنها “نهاية القومية العربية” وفقدان الدول العربة لوظيفتها ككيانات سياسية، ونهاية عصر استخدام النفط كسلاح فعال في أعقاب حرب الخليج الثانية، وهو ما يعزز من ضمور العرب كقوة سياسية فعالة، وأولت خطته اهتمامًا خاصًا بتفكيك الجمهوريات الإسلامية في شرق آسيا والاتحاد السوفيتي السابق، كما أعطى اهتمامًا خاصًا من خطته لتفكيك إيران. كما أكد على أهمية قيام الدولة الكردية مقتطعًا جزءًا من تركيا، كما أشار إلى تقسيم العراق بين دولتين سنية وشيعية مع اقتطاع جزء لصالح الدولة الكردية، وبقيت سوريا متماسكة في خطة “لويس” (قبل قيام الحرب في سوريا) باستثناء منطقة خاضعة للسيطرة الكردية، كما أولى “لويس” اهتمامًا خاصًا للأهمية الاستراتيجية لسيناء بالنسبة لإسرائيل.
3ـ خريطة جيفري جولدبرج 2007:
نشرت لأول مرة في مجلة (ذا أتلانتيك) أواخر عام 2007، وقد أولت اهتمامًا خاصًا لتقسيم السودان إلى شمإلى وجنوبي، وتقسيم المملكة العربية السعودية، وبناء دولة كردستان مع إعادة تقسيم سوريا والعراق والأردن ضمن 4 دول هي (سوريا الكبرى، والأردن الكبرى، العراق السنية، العراق الشيعية)، مع وضع شبه جزيرة سيناء تحت سيطرة دولية12 .
4ـ خريطة رالف بيتر 2006:
ظهرت خريطة الكولونيل “رالف بيتر”، في مجلة القوات المسلحة الأمريكية، يونيو/حزيران من العام (2006) تحت عنوان “حدود الدم: كيف يمكن للشرق الأوسط أن يبدو بشكل أفضل؟”، وترتكز الخريطة على خرائط قديمة وضعت للشرق الأوسط منها الخرائط التي وضعت بعد الحرب العالمية الأولى في عهد الرئيس الأمريكي “وودرو ويلسون”، ووصف “بيتر” الحدود الموضوعة في الشرق الأوسط وإفريقيا حإلىا بأنها “حدود مشوهة وضعها الأوربيون لتمرير مصالحهم”. واصفًا الحدود الجديدة التي وضعها بأنها عملية “تصحيح للأخطاء بحق تجمعات سكانية شديدة الأهمية مثل الأكراد والبلوش والعرب الشيعة”13 .
وتقوم الخريطة على تقسيم مثلث (باكستان وأفغانستان وإيران) عبر اقتطاع (بلوشتان المستقلة) من حدود الدول الثلاث، إضافة إلى دولة كردستان والتي تضم أجزاء من سوريا والعراق وتركيا الحإلىة وإيران، ثم اقتطاع جزء آخر من إيران لصالح أذربيجان، ثم دولة للسنة في العراق تجمع بين مساحات من العراق وسوريا حيث تتواجد الأغلبية السنية، ودولة للعلويين على الساحل السوري ودولة للشيعة العرب، تحاصر الإمارات الخليجية الصغيرة: الكويت والإمارات والبحرين. أما السعودية فينضم الجزء الشمإلى منها إلى “دولة الأردن الكبرى”، وتأسيس دولة للمقدسات الدينية في مكة والمدينة “أشبه بالفاتيكان”، وضم الجزء الجنوبي ضمن إطار الحدود إلىمنية14 .
5ـ خريطة نيويورك تايمز 2013:
نُشرت في 28 سبتمبر/ أيلول من عام 2013، حول سيناريو تقسيم 5 دول في الشرق الأوسط وتفتيتها إلى 14 دولة جديدة:
تقسيم سوريا إلى 3 دويلات: إحداها للعلوين على الساحل، ودولة للسنة في القلب، ودولة أكراد سوريا المرشحة للانضمام إلى أكراد العراق.
تقسيم العراق إلى 3 دويلات: العراق السني في الشمال (ويرتبط بدولة السنة في سوريا)، مع دولة شيعية في الجنوب، ثم امتداد كردي موازٍ لأكراد سوريا.
تقسيم السعودية إلى 5 دويلات: في الشمال والجنوب والشرق والغرب والوسط.
تقسم إلىمن إلى دويلتين: إلىمن شمإلى، وإلىمن الجنوبي.
تقسيم ليبيا إلى 3 دويلات على أساس قبلي: دولة في الشرق عاصمتها بنغازي، ودولة في الغرب وعاصمتها طرابلس، ودولة في الجنوب وعاصمتها سبها.
ومع تعدد الخرائط والمسارات، تعددت التصريحات والأطروحات على طريق تقسيم سورية والعراق، ففي 17/6/2015 قال وزير الدفاع الامريكي آشتون كارتر أمام لجنة القوات المسلحة في الكونجرس، في جلسة استماع عن الوضع في العراق: “إذا لم تستطيع حكومة العراق أن تقوم بما يتوجب القيام به سنبقى نساعد القوات المحلية المتواجدة على الأرض، ما داموا راغبين في ذلك للمحافظة على الأمن، ولكن لن تكون هناك دولة عراقية واحدة”. وفي 30/6/2015 نشر معهد بروكينجز Brooking Institution خطة عن الوضع في سوريا بعنوان “تفكيك سوريا” (Deconstructing Syria ) جاء في الخطة أن جهود السلام بين الفرقاء السوريين قد ماتت، ومات معها ربع مليون سوري وتم تشريد 12 مليوناً آخرين15 .
وفي العراق، كذلك، تم وضع الجذور الممهدة لترسيخ الدولة الكردية منذ 1991، فبعد حرب الخليج الثانية، وفرض مناطق حظر في شمال وجنوب العراق، عمد الزعماء الأكراد إلى تقوية وضع الحكم الذاتي الكردي في شماله، وتعزز بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، وصولاً إلى طروحات تدعو للانفصال الكامل عن العراق، وتأسيس دولة كردية نواتها الشمال العراقي نتيجة الدفع الأمريكي والإسرائيلي للقوى الكردية لتعزيز وضعها الانفصإلى، وإقامة علاقات خارج إطار السلطة المركزية، وخاصة فيما يتعلق باتفاقيات تصدير النفط من المناطق الكردية. وقد كرس الدستور العراقي لعام 2005، حالة التقسيم الفدرإلى، التي تؤهل الأقإلىم لحكم ذاتي، قد يتحول إلى شكل انفصإلى16 .
وقد أسهمت حكومات العراق المتتإلىة، وعدد من الأطراف الإقليمية والدولية في تكريس حالة الاحتقان الطائفي والعرقي في البلاد، مما دفع بعدد من الإشكإلىات بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان، لتخرج مطالب كردية بالانفصال عن الدولة المركزية، خاصة بعد أن امتلك الإقليم الكردي مقومات إنشاء الدولة، من أرض وشعب وسيادة، وتشكيل مؤسسات سياسية وإدارية واقتصادية وعسكرية خاصة بالإقليم، مع هوية إثنية واضحة المعالم، وخاصة بعد اعتماد اللغة الكردية لغة رسمية في هذا الإقليم.
وتمتد المطالب الكردية في إنشاء كيان قومي كردي، لتشمل إقليماً متصلاً يقع في أراضي كل من إيران والعراق وتركيا وسورية، مما يشكل تحدياً إقليمياً لمجموع تلك الدول، والتي تدفع هي الأخرى باتجاه عرقلة نشوء كيان كردي في شمال العراق، كنواة لدولة كردية أوسع منه(17 ).
إلا أنه في مواجهة هذه الأفكار وتلك التصورات، يذهب “د. إبراهيم فريحات” إلى هناك العديد من العوامل التي قد تحول دون حدوث سيناريو التقسيم وإعادة رسم الحدود، أهمها:
1ـ طبيعة النظام الدولي؛ إذ أنه مع حالة الفوضى التي تسوده والتحول في موازين القوى الدولية هناك صعوبة شديدة في اتفاق هذه القوى على قضية شائكة جدا مثل إعادة ترسيم الحدود، فبعد عام 1990، أصبحت الولايات المتحدة القوة الرئيسة الوحيدة القادرة على إعادة تشكيل النظام الدولي والحسم في قضايا مثل إعادة ترسيم الحدود وحل النزاعات الدولية، لكن بعد أحداث سبتمبر/أيلول 2001، سيطرت حالة من الفوضى على النظام الدولي لجأت معها الدول الكبرى إلى تصفية حساباتها دون الاستناد لشرعية دولية.
وانقسمت الآراء بين تيارين، الأول يرى أن الولايات المتحدة ما زالت تحافظ على وضعها ضمن نظام أحادي القطبية، بينما يرى الثاني أن النظام الدولي قد انتقل فعلا إلى نظام متعدد الأقطاب والقوى، وأن أميركا ليست سوى إحدى تلك القوى. وغياب الاستقرار وعدم وضوح الرؤية على قمة النظام الدولي، يجعل من الصعوبة بمكان التوصل إلى “سايكس بيكو جديدة” مقارنة بما كان قائماً عام 1916 و1920، حيث كانت هناك هيمنة بريطانية فرنسية، تقاسما بموجبها التركة العثمانية، واعترف كل منهما بقوة الآخر واحترم مناطق نفوذه.
2ـ أن المرحلة الراهنة تشهد وجود فاعلين من غير الدول، تشكلوا على أسس طائفية وإثنية وسياسية وحزبية وأيديولوجية، ومن الصعب على القوى الدولية أن تقوم بإعادة ترسيم الحدود دون التنسيق المباشر مع هذه القوى، كما أنه من الصعب الجمع بين هذه التنظيمات على طاولة واحدة للاتفاق على شكل الحدود الجديدة، كما أنه من الصعب أن تقوم هذه القوى المحلية بإعادة ترسيم الحدود بمعزل عن التوافق الدولي على الحدود الجديدة.
3ـ موقف الأنظمة العربية الرسمية ودول الجوار غير العربية الرافضة لفكر التقسيم، خوفاً من انتقال التقسيم إلىها في مراحل تإلىة18 .
السيناريو الرابع: الأخطر من التقسيم:
إن المنطقة يمكن أن تواجه بدائل أكثر خطورة من التقسيم، وهنا يميز بين ثلاثة أنماط أساسية:
النمط الأول: التقسيم بحكم الواقع (De facto Partition ):
ويقوم على ما يسمى الدولة الفاشلة (Failed State ) وهذا النمط يهدد دولا مثل سوريا وإلىمن وليبيا والعراق، ويحدث هذا النوع من التقسيم عندما تطول فترة الانفصال ويتحول المؤقت إلى دائم وتعجز القوى المحلية والدولية عن تغيير الواقع.
وفي هذا النمط من التقسيم الجغرافي، الناتج عن الحروب، تصاحبه تشكل هويات واقتصاديات جديدة تصبح فيما بعد عائقا أمام الوحدة الوطنية للدولة، وهذا النوع من التقسيم سيتم على أسس طائفية أو عرقية أو قبلية أو غيرها بحيث تصبح الدولة مقسمة بنيويا على أرض الواقع ولكنها تبقى دولة بالشكل فقط فاقدة لأهم مكون لها وهو المتمثل باحتكار القوة.
النمط الثاني: الدولة الفيدرإلىة:
إذا كان النظام الفيدرإلى بحد ذاته لا يعني دولة ضعيفة بالضرورة (الولايات المتحدة وألمانيا وروسيا وغيرها دول فيدرإلىة) لكن المشكلة هنا أن دول ما بعد الصراعات الدموية، كحالات سوريا وإلىمن وليبيا والعراق، قد يؤدي إنشاء دولة فيدرإلىة على أسس طائفية أو عرقية، إلى استمرار الصراعات، وإن لم تنقسم لاحقا قد تتحول إلى دولة هشة (Fragile State ).
النمط الثالث: أشباه الدول:
هي التي تفرض حكوماتها السيطرة على حدودها ولكنها تفتقد للقدرة التشغيلية للدولة وتعتمد على المساعدات التي تأتيها من المجموعة الدولية (مثل مصر بعد انقلاب 3 يوليو 2013)19 .
ومع هذا التعدد في السيناريوهات، هناك ترجيح لحدوث السيناريوهات السلبية بشكل أكبر، بعدما أصبحت بعض دول المنطقة ملاذات آمنة للجماعات الإرهابية مثل سوريا، والعراق، وامتداد الأوضاع في تلك البلدان حتماً إلى البلدان المجاورة، مما سيقوض الاقتصاد العالمي. وهو ما دفع أحد الباحثين إلى القول إن: “التطورات في الشرق الأوسط لا تُشكَل من خلال الاتجاهات العالمية، ولكن من المرجح أن تُحدد المنطقة مستقبل بقية العالم. فأي سيناريو محتمل في الشرق الأوسط ستكون له تأثيرات كبيرة في بقية العالم. وما هو مؤكد أن مستقبل الشرق الأوسط ستكون له آثار عميقة على الصعيد العالمي، وسيستمر تأثير ذلك في البيئة السياسية، والاقتصادية، والأمنية العالمية”(20 ).
المستوى الثاني: نحو بدائل أولية لإدارة التحديات الراهنة:
في كتابه “نهاية الشرق الأوسط الذي نعرفه”، يقول “فولكر بيرتيس”: إنَّ ما يحدث حإلىا في المنطقة ليس سوى “بداية لمرحلةٍ من الاضطراب”، ذلك لأنَّ مجمل الدول والأنظمة التي أنشأتها القوى الغربيَّة في النصف الأول من القرن العشرين شرق وجنوب البحر الأبيض المتوسط تقف على حافة الهاوية، وعلى الرغم مع أنَّ نظام سايكس بيكو، كان مرفوضًا في الكثير من بلدان المنطقة منذ البداية، إلا أنه مع التحديات التي تواجه الكيانات الناشئة عنه، أصبح هناك نوع من الحرص عليه بل والدفاع عنه. حيث يتزايد عدد من يرون أنَّ النظام القديم كان “سيئًا”، إلا أنَّ البديل لنظامٍ سيءٍ ليس نظامًا أفضل بالضرورة، بل من المحتمل ألاَّ يكون هناك نظامٌ نهائيًا”، بسبب الفساد والاستبداد وممارسات القمع والقهر وتنامي هويات وجماعات ما دون الدولة”.
ويضيف: “كلما زاد غياب النظام والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وإلىقين في الحاضر والمستقبل، قلَّت ضمانات التعايش بين مجموعات السكان المختلفة في إطار كيان الدولة الموثوق، وازدادت أهميَّة الهويات والروابط الطائفيَّة والعرقيَّة والعشائريَّة، ومن هنا يأتي دور القوى الدولية، في العمل على التغلُّب على صراعاتها مع دول المنطقة، وعلى الصراعات بين هذه الدول وبعضها البعض، وعلى الصراعات داخل هذه الدول، فالتعامل مع شريكٍ صعبٍ فاعلٍ أسهل من التعامل مع دول فاشلة، الأمر الذي يتطلب العمل على إحلال هدناتٍ قابلةٍ للاستمرار ومفاوضاتٍ جادة وعمليةٍ سياسيَّةٍ انتقإلىةٍ تـُشكِّل مصداقيَّةً كافيةً لاستقطاب الساعين للتغيير بما يدفعهم للاستجابة الحقيقية وفق أطر سلمية وقابلة للاستمرارية”21 .
وفي هذا السياق، تبرز مجموعة من المسارات والبدائل المهمة، من بينها:
المسار الأول: المصالحة الصامتة:
في كثير من، إن لم يكن في جميع، الصراعات التي تشهدها المنطقة، برزت مجموعة من العوامل التي عرقلت إمكانية الوصول إلى مصالحات وطنية حقيقية بناءة وشاملة، ومنها شكلية بعض المبادرات، والإخفاق في التوافق حول صيغ تشمل جميع أطراف الصراع السياسي، وتنامي دور جماعات العنف، والامتداد الخارجي للصراعات الداخلية، فضلا عن التجذر المجتمعي لحالة الاستقطاب السياسي والديني.
وبين استمرار النزاع وإخفاق عمليات المصالحة الوطنية، يأتي مسار “المصالحة الصامتة” كمرحلة وسيطة بين استمرار الصراع والمصالحة الشاملة، حيث يقوم على وقف الاعتداء والتدمير المتبادل بين المتنازعين، دون الاضطرار إلى تقديم تنازلات سياسية كبيرة، في ظل تشدد مواقف الأطراف المتنازعة، وتعقد حدة الصراعات.
ويُعطي هذا المسار مساحة لبناء الثقة بين الأطراف المتنازعة، وإعطاء المصالحة طابعًا مجتمعيًّا بما يمهد الطريق أمام إجراءات المصالحة التقليدية، عبر عملية تفاوض وتوافق حول عناصر العدالة، وإجراء إصلاحات مؤسساتية.
ومن الأمور التي يمكن أن تدفع باتجاه هذا المسار عدم قدرة أطراف الصراع على الحسم، واستنزاف قدراتها، وصعوبة الاستمرار في النزاع، بالتوازي مع أزمات اقتصادية تواجهها القوى الإقليمية والدولية، وتبني بعض الدول سياسات انعزإلىة، بما قد يحد من قدرة الخارج على استمرار تغذية الصراع مإلىا وعسكريًّا.
ونجاح هذا المسار يتطلب العمل على المعوقات الأساسية التي تواجهها، ومنها مصادر تغذية الصراعات، والتي يتمثل أبزرها في أن حالة الانقسامات المجتمعية التي تشهدها بلدان المنطقة خلقت هويات اجتماعية متضادة دينية أو قومية أو قبلية تغذي استمرار الصراع، وتعيد إنتاج نفسها من خلاله، هذا من ناحية، والتنافس الإقليمي والدولي الذي يدفع أطرافه إلى الحفاظ على تغذية الصراع حتى لو كان الأمر أكبر من طاقتها، بالإضافة إلى نجاح تنظيمات عابرة للدول في فرض وجود مؤثر داخل مناطق النزاعات22 .
إن المصالحة الصامتة حالةً أدنى من فكرة المصالحة التقليدية المعلنة، أو خطوة تمهيدية لها عبر تجميد النزاع ووقف العنف، وقد تأخذ نمطين أحدهما سلبي والآخر إيجابي وفقًا لمدى ودرجة التعايش، وذلك على النحو التإلى:
النمط الأول: المصالحة الصامتة السلبية: تقوم على توقف أطراف النزاع عن ممارسة العنف والاستهداف المتبادل عبر اتفاق ضمني أو سري أو معلن، وقبول التعايش والوجود الاضطراري في نفس المساحة دون التحرك إلى ما هو أبعد من ذلك. أى أنها أشبه بحالة سلام بارد أو هدنة مؤقتة أو وقف اعتداء، سواء لفترة قصيرة أو طويلة، أو مرحلة لالتقاط الأنفاس وإعادة ترتيب الأوراق وبناء القدرات.
النمط الثاني: المصالحة الصامتة الإيجابية: وتقوم على الاتفاق على وقف الاعتداء والتفاعل والاحترام والثقة وتطوير علاقات أكثر تجانسًا. وإعداد بيئة حاضنة للمراجعة والتفكير في صياغة علاقة إيجابية أبعد.
ومع بساطة الأطروحات التي يقوم عليها مسار المصالحة الصامتة، فإنها تتسم بعدم القابلية للاستمرار لافتقادها العناصر الرئيسية اللازمة لخلق حالة من السلام الممتد عبر تأسيس جديد للعلاقات بين أطراف النزاع، وذلك أمام التحديات التي تواجهها، ومن بينها، عدم القدرة على تجاوز سلبيات الماضي، واحتمالات تجدد النزاع، وعدم اتفاق المتنازعين حول المصالح، فاللجوء إلى حالة تكيف أو تعايش دون وجود تسوية تضمن هذا الاعتراف تجعل من التعايش بين الأطراف حالة هدنة مؤقتة غير قابلة للصمود حال تغير موازين القوة، هذا من ناحية.
ومن ناحية ثانية، الامتداد الخارجي للنزاع، فحينما تكون النزاعات الداخلية ذات امتدادات خارجية، تبقى احتمإلىة التعايش الصامت بين أطراف النزاع الداخلي محل تهديد. ذلك أن هذا النوع من التعايش قد يتحول إلى مرحلة نزاع جديد، حال الدعم أو التحفيز الذي يمكن أن تقدمه الأطراف الخارجية لأطراف الصراع،
ومن ناحية ثالثة، غياب التجذر المجتمعي للمصالحة، وعدم وجود ظهير أو قناعة مجتمعية لفكرة المصالحة، بما يوفر غطاءً شرعيًّا للنخب التي تتولى عملية التفاوض لتقديم التنازلات الضرورية سعياً نحو تحقيق مصالحة حقيقية ممتدة لاحقًا، وبما يضمن تطبيقًا فعليًّا لفكرة المصالحة وإمكانية استمراريتها وتمتعها بحماية شعبية 23.
المسار الثاني: تعزيز الأطر الأمنية:
كشفت سنوات ما بعد أحداث سبتمبر 2001، وما بعد الثورات العربية 2011، عن فشل الصيغ الأمنية القائمة، الدولية والإقليمية والعربية في التعاطي مع التحولات السياسية والأمنية التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط، عامة، والمنطقة العربية عامة، الأمر الذي يتطلب إعادة النظر في هذه الأطر، على المستوي الفكري والعملي، بما يتوافق مع متطلبات المرحلة الراهنة:
1ـ الأمن الجماعي:
برز استجابة للآثار التدميرية التي شهدتها الحرب العالمية الأولى، فكانت الدعوة لتكوين عصبة الأمم، 1920، ولكنها أخفقت في الحيلولة دون قيام الحرب العالمية الثانية 1939، فجاءت الدعوة إلى تأسيس الأمم المتحدة، 1945، وبالتوازي مع هذه المحاولات ذات الطابع العالمي، برزت بعض المحاولات الإقليمية الكبرى، مثل منظمة الوحدة الأفريقية، 1963، التي تحولت إلى الاتحاد الإفريقي لاحقاً، ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي. لكن تأسيس هذه الكيانات لم يكن كافيا لضمان فاعلية تحقيق الأمن الجماعي. بسبب تباين الإرادات، خاصة بين الفواعل الكبرى فيها، وعدم التوافق بين أعضائها، قيمياً ومصلحياً.
2ـ النظام الأمني:
يقوم على وضع عدد من المعايير والقواعد التي يتعين أن تلتزم بها الدول التي تقبل الانخراط في هذا النظام، بما يضمن تحقيق نتائج إيجابية ومنافع مشتركة لها، ويتضمن النظام الأمني إلىات لتطبيق تلك المعايير، وتعزيزها، والتحقق من الالتزام بها، ويمكن أن يشمل “مدونات للسلوك”، يتم الالتزام بها بهدف الحد من احتمالات نشوب الحروب، أو الصراعات المسلحة، مثل عدم استخدام القوة، واحترام الحدود الدولية القائمة، ويندرج في هذا الإطار إجراءات ضبط التسلح علي نطاق إقليمي، مثل المناطق الخإلىة من الأسلحة النووية، أو معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا، 1990.
3ـ الجماعة الأمنية:
يقوم على وجود عدد من الأطراف تتوافر فيما بينها ضمانات حقيقية بأنها لن تلجأ إلى محاربة بعضها بعضا بشكل مادي، وستعمل على تسوية نزاعاتها بطرق أخري، ويفترض تحقيق درجة من التفاعلات البينية التعاونية الأكثر كثافة، واستدامة، وشمولية.
ومع هذا التعدد في الأطر الذي يمكن الاختيار فيما بينها، في منطقة الشرق الأوسط، خلال السنوات القادمة، تأتي أهمية التأكيد على عدد من الاعتبارات الأساسية، منها:
(أ) إن هذه الأطر، من خلال تركيزها علي خفض عوامل الصراعات المسلحة والحروب، ونزع أسبابها، أو الحد منها، لا تعني بزيادة القدرات العسكرية للدول المنخرطة فيها، بل قد تعمل علي تقييد تلك القدرات، وبالتالي تحييد البنية الاستراتيجية للقطبية الدولية، مقابل إرساء البنية المعيارية لها، والتي ترتكز بشكل أساسي على ما يتوافر لدي أطراف التفاعل من موارد فكرية وقيمية، كالتزامها بالقانون الدولي، والعمل المؤسسي الدولي، والإحساس بالهوية الجمعية، وكذلك العمل على تعزيز سياسات التعاون الدولي، وتعزيز الأمن، من خلال إتاحة فرص متبادلة لتعزيز مصالح جميع الأطراف بشكل جمعي وعادل.
(ب) إن هذه الأطر تعكس التطور في مفهومي الإقليمية والأمن، حيث لم تعد الإقليمية تقتصر على التقارب الجغرافي، بل تشمل أيضا التقارب الوظيفي، وهو ما يعني احتمالات قيام تعاون، أو تكامل، في أحد المجالات بين دول لا يجمعها نطاق جغرافي واحد أو متقارب، الأمر الذي يزيد من الفرص المتاحة أمام دول المنطقة لتوسيع وتنويع مساراتها التفاعلية، في إطار مواجهة التحديات التي تعاني منها.
(ج) إن اتساع مفهوم الأمن يعكس الطبيعة متزايدة التعقيد للقضايا الإقليمية والدولية وتداخلها مع العديد من الأنشطة الإنسانية، الأمر الذي يمكن البناء عليه في الحركة المستقبلية، لمختلف الفواعل الأطراف في المنطقة، من الدول والمنظمات والهيئات والحركات والتيارات، في إطار إدارتها للأزمات الراهنة24 .
المسار الثالث: التشاركية السياسية والمجتمعية:
ويقوم هذا المسار على عدد من الأطر والضوابط الحاكمة، التى أفرزتها خبرة السنوات الست الماضية منذ انطلاقة الثورات العربية في يناير 2011، ومن بين هذه الأطر وتلك الضوابط:
1ـ أنه لا مستقبل الدول العربية دون تصالح حكوماتها مع الشعوب، عبر بناء دولة القانون والمؤسسات والشفافية والتنمية، وإقامة قواعد إنتاجية حقيقية واستخدام كل الثروات العربية لصالح كل الطبقات في كل المجتمعات العربية، عبر برامج تنمية وعدالة اجتماعية يستفيد منها كل عربي، والتمسك بمقومات هويتهم الجامعة من لغة ودين وتاريخ وحضارة، بل واستخدام القوة الكامنة في كل هذه المقومات الناعمة لتقوية المجتمعات العربية ومؤسساتها وسياساتها، ومواجهة عدوهم الحقيقي، ممثلاً في الكيان الصهيوني وسياساته العنصرية والتوسعية، ومواجهة كافة سياسات الهيمنة العالمية.
2ـ أنه لا مستقبل للعرب إلا بالتعامل مع الأتراك والإيرانيين كحلفاء وأصدقاء وليس كمنافسين أو أعداء، ومع قيام حكومات عربية مسؤولة أمام شعوبها سيتم النظر إلى تركيا وإيران بالشكل الطبيعي، كجارتين شقيقتين وحليفتين طبيعيتين لأي تكتل عربي حقيقي.
3ـ العمل على امتلاك إرادة العمل وإصلاح الخلل عبر حكومات إنقاذ وطنية وبناء نظام إقليمي جديد، ولن يكون هناك بديل لهذا الخيار، إلا انتظار موجة جديدة من الثورات العربية، والتي لا مفر أمامها إلا أن تأخذ شكل حركات تحرر وطني ضد الحكومات العاجزة في الداخل وضد التبعية والهيمنة من الخارج، ولن يكون أمام هذه الحركات إلا الهدم أملا في إفساح المجال لشعوب المنطقة وقواها الوطنية لتولي موقع المسؤولية25 .
خاتمة:
السيناريو أسلوب من أساليب استشراف المستقبل، يتم تعريفه على أنه وصف لوضع مستقبلي ممكن الحدوث عند توافر شروط معينة في مجال معين، أو مجموعة من الافتراضات المتماسكة لأوضاع مستقبلية محتملة الوقوع في ظل معطيات معينة، أو تنبؤ مشروط يركز على حركة المتغيرات الرئيسية ودورها في تشكيل صورة المستقبل حيث يبدأ التنبؤ بمجموعة الافتراضات المحددة مسبقا حول المستقبل .
ويعتمد بناء السيناريوهات على التنبؤ بمستقبل الظاهرة انطلاقاً من التعرف على تاريخها وطبيعة التأثيرات المتبادلة لهذا التاريخ ومجموعة القوى التي شكلته والتي يحتمل أن تؤدى تحول مساراتها المستقبلية، وبالتالي إمكانية الوقوف على طبيعة هذه المسارات.
ودراسة المستقبل من خلال السيناريوهات تكشف الاحتمالات والإمكانات والخيارات البديلة التي تنطوي عليها التطورات المستقبلية، الأمر الذي من شأنه أن يكون عملاً توجيهياً أو إرشادياً لصانعي القرار إلى ما هو ممكن وما هو محتمل، وبيان نوع التغيير المتوقع، وحدوده، ومتطلبات التعاطي معه.
وحتى تحقق الدراسات المستقبلية، عن طريق بناء السيناريوهات أهدافها، يجب أن تتصف هذه السيناريوهات بالاتساق الداخلي بين مكوناتها، وأن يكون عدد السيناريوهات محدودا بحيث تتضح الاختلافات والتمايزات فيما بينها، ولا تؤدى إلى قدر من الإرباك والالتباس في عمليات التحليل وعرض النتائج.
وسعياً نحو تبني هذه الأطر النظرية، تناولت هذه الدراسة أربعة سيناريوهات أساسية (الأول: تحقيق طفرة العربية وانتصار الثورات الشعبية، السيناريو الثاني: الفوضى والانهيار، السيناريو الثالث: سيناريو التفكيك والتركيب، والسيناريو الرابع: الأخطر من التقسيم)، وقامت على بيان مبررات الدفع بكل منها، ومساراته الداخلية.
وإذا كان عرض السيناريوهات أمراً مهماً، في إطار الدراسات المستقبلية، فإن الأهم من عرض وبناء السيناريوهات المستقبلية للتحولات السياسية، هو تقديم عدد من البدائل والمسارات الاستراتيجية التي يمكن من خلالها التعاطي مع هذه السيناريوهات في إطار تحديد الفعل ورد الفعل، بما يساهم في الحد من السلبيات وتعظيم الإيجابيات في كل مسار من هذه المسارات، وبين عرض وبناء السيناريوهات من ناحية، وبدائل ومسارات إدارتها من ناحية ثانية، تبقى في المقابل إشكاليتان رئيسيتان، الأولى توفر القدرات اللازمة للبناء والإدارة، والثانية الإرادة السياسية الحقيقية سواء على مستوى الشعوب أو على مستوى النظم السياسية ( 26).
الهامش
1 Florence Gaub, Alexandra Laban (Editors), Arab futures: Three scenarios for 2025(Paris, European Union Institute for Security Studies, February 2015).
2 د. عبدالفتاح ماضي، دروس السنوات الست للثورات، مصر العربية، 4 يناير 2016.
3 د. عبد المنعم المشاط، تأثير الثورات العربية في العلاقات الإقليمية في الشرق الأوسط، مجلة السياسة الدولية، (القاهرة، مؤسسة الأهرام، يوليو 2012).
4 المصدر السابق.
5 د. عبدالفتاح ماضي، دروس السنوات الست للثورات، مصر العربية، 4 يناير 2016.
6 وداد بيلغن، ثلاثة احتمالات لمستقبل المنطقة، صحيفة أكشام، ترجمة وتحرير ترك برس، 2 سبتمبر 2015.
7 ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية في الولايات المتحدة، منذ تموز/يوليو 2003. وكان مدير تخطيط السياسات في وزارة الخارجية، ومستشاراً أول لوزير الخارجية كولن بأول، وعمل منسقاً للسياسة الأمريكية فيما يتعلق بمستقبل أفغانستان، والمسؤول القيادي في الحكومة الأمريكية لدعم عملية السلام في أيرلندا الشمالية، وعمل مساعداً خاصاً للرئيس جورج بوش، خلال الفترة 1989-1993. (المزيد، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، الرابط).
8 أنظر: ريتشارد ن. هاس، عصر الفوضى، الجزيرة نت، السبت 1/11/2014. وأنظر أيضاً:
Richard N. Haass, the Unravelling: How to Respond to a Disordered World, Foreign Affairs, November/December 2014.
9 نورييل روبيني، الرئيس التنفيذي لمؤسسة روبيني ماكرو أسوشيتس، وأستاذ الاقتصاد في كلية شتيرن لإدارة الأعمال في جامعة نيويورك .
10 نورييل روبيني، انهيار الشرق الأوسط والمخاطر العالمية، بروجيكت سنديكيت، 1 أكتوبر 2015
11 عبد القادر نعناع، التحولات الجغرافية في المشرق العربي، الشبكة العربية العالمية، الجمعة، 01 مارس 2013.
12 محمد فتحي، كيف خطت دوائر صناع القرار في الغرب حدود الشرق الأوسط؟، هافنغتون بوست عربي، 26/07/2015.
13 “رالف بيتر”: كولونيل متقاعد في أكاديمية الحرب الأمريكية، أحد المحللين العسكريين المقربين من دوائر صناعة القرار في الجيش والاستخبارات الأميركية.
14 خريطة “رالف بيتر” لم يتم الاعتراف بها بشكل رسمي أميركياً، لكنها واجهت احتجاجات واسعة بعد ظهورها، أبرزها ردود فعل غاضبة في تركيا، بعد عرض الخريطة في كلية الحرب في حلف الناتو، مما أثار غضب الضباط الأتراك. وهو ما دفع رئيس الأركان التركي لمخاطبة رئيس هيئة الأركان المشتركة للحلف احتجاجًا على الخريطة مما دفع البنتاجون للتأكيد على أن الخريطة لا تعكس السياسة الرسمية للولايات المتحدة وأهدافها في المنطقة” (أنظر: محمد فتحي، كيف خطت دوائر صناع القرار في الغرب حدود الشرق الأوسط؟، مصدر سابق).
15 Michael E. O’Hanlon, Deconstructing Syria: A new strategy for America’s most hopeless war, Brookings, June 30, 2015.
16 من نصوص دستور العراق 2005، التي ترسخ هذا الانفصال: المادة 117 (يقر هذا الدستور عند نفاذه إقليم كردستان وسلطاته القائمة، إقليمياً اتحادياً. كما يقر هذا الدستور الأقاليم الجديدة التي تؤسس وفقاً لأحكامه)، المادة 119 (يحق لكل محافظة أو أكثر تكوين إقليم بناء على طلب بالاستفتاء عليه)، المادة 120 (يقوم الإقليم بوضع دستور له، يحدد هيكل سلطات الإقليم، وصلاحياته، وآليات ممارسة تلك الصلاحيات، على ألا يتعارض مع هذا الدستور).
17 عبد القادر نعناع، التحولات الجغرافية في المشرق العربي، الشبكة العربية العالمية، الجمعة، 01 مارس 2013.
18 د. إبراهيم فريحات، هل العرب أمام سايكس بيكو جديدة؟، الجزيرة نت، الإثنين 23 مايو 2016.
19 د. إبراهيم فريحات، هل العرب أمام سايكس بيكو جديدة؟، الجزيرة نت، الإثنين 23 مايو 2016.
20 ماثيو بوروز، “الشرق الأوسط 2020: دور الشرق الأوسط في تشكيل الاتجاهات العالمية”، المركز الأطلنطي، عرض سارة خليل، موقع مجلة السياسة الدولية.
21 أنِّه ألمِلينيغ، عرض كتاب فولكر بيرتيس: “نهاية الشرق الأوسط الذي نعرفه”، برلين، دار سور كامب للنشر 2015، ترجمة: يوسف حجازي، موقع قنطرة 2015.
22 عمرو صلاح، هل تصلح المصالحة الصامتة لتجميد نزاعات الشرق الأوسط؟، مركز المستقبل، 25 ديسمبر 2016.
23 عمرو صلاح، هل تصلح المصالحة الصامتة لتجميد نزاعات الشرق الأوسط؟، مركز المستقبل، 25 ديسمبر 2016.
24 مالك عوني، هل يعزز الأمن الإقليمي انتقالاً عسيراً إلى التعددية القطبية؟، ملحق تحولات استراتيجية، مجلة السياسة الدولية، عدد 205، يوليو 2016.
25 د. عبد الفتاح ماضي، مصير النظام الإقليمي العربي، الجزيرة نت، الأحد 26/7/2015.
المصدر/ المعهد المصري للدراسات