عرض/ غيضان السيد علي
(قراءة نقديّة تحليليّة في كتاب: “معالم في الطّريق” للشّيخ سيّد قطب)
كتاب “معالم في الطّريق”؛ الذي صدر في طبعته الشرعيّة السّادسة عن دار الشّروق، بيروت/ القاهرة، في مائة وستة وثمانين صفحة، في عام 1979م، ولا زال يُطبع هنا وهناك في طبعات شرعيّة وأخرى غير شرعيّة، الذي ألّفه صاحبه في ظروف بالغة القسوة، داخل ظلمات السّجون وتحت وطأة التعذيب وسياط الجلّاد، ويعدّ هذا الكتاب – في الحقيقة – من أخطر الكتب الّتي استند إليها التطرّف الدينيّ الإسلامويّ المعاصر، فكان بمثابة المعين الذي استقت منه كافّة التنظيمات الدينية المتطرّفة في عالمنا الإسلاميّ، واعتمدت عليه كمرجعيّة أساسيّة؛ حيث وجدت فيه ضالّتها المنشودة، وكان بمثابة الدّستور الأمثل لجماعات التطرّف والغلوّ الإسلامويّ المعاصر عند كثير من الجماعات والتنظيمات، كـ “التّكفير والهجرة”، و”الجهاد”، و”الشّوقيين”، و”النّاجون من النار”، و”القطبيين”، و”طالبان”، و”بوكو حرام”، و”داعش”، وغيرها من الجماعات الإسلامويّة؛ فقد تَضمَّن هذا الكتاب رعاية وشرح وتأكيد فكرة “الحاكميّة” في مدلولها الشّائه، خاصّة، أنّها الفكرة الرئيسة والأساسيّة التي يبدأ منها المتطرّف مشواره المنحرف، ومن خلالها يفتّش المرء في إيمان الآخرين بدل أن يفتّش عن إيمان نفسه، والحاكميّة هي الفكرة التي على أساسها حكم الرجل بالجاهلية على الحضارة الغربيّة، وكذلك حضارتنا الإسلاميّة، لخروج كلتا الحضارتين عن “الحاكمية” الإلهية؛ بل ووصِمت مجتمعاتنا الإسلامية بالكفر والخروج من دار الإسلام، وعلى أساسها، أيضًا، خاصم الرجل القومية والديمقراطية، ورآهما نقيضين للإسلام؛ إذ يحلّان “حاكميّة” (القوم) و(الشعب) محلّ “الحاكميّة” الإلهيّة.
الأمر الأكثر خطورة في هذا الكتاب: هو ما لم يُكتب فيه، وهو ما يجعل لهذه القراءة النقديّة أهميّتها، لكنّه يتعلّق بما جاء في هذا الكتاب جملة وتفصيلًا؛ حيث إنّ هذه الأفكار من “الحاكميّة” وغيرها قد صيغت على يد أبي الأعلى المودوديّ، ذلك المفكّر الهنديّ الذي كان المعين الخصب الذي استقى منه سيّد قطب معظم أفكاره، وطبّقها على الواقع العربيّ المسلم، وفاته وفات الكثيرون ممّن آمنوا بهذه الأفكار؛ أن هذه الأفكار قد نمت في واقع هنديّ وهندوكيّ له ظروف وملابسات سياسيّة معقّدة؛ فيكفي، فقط، أن نذكر أن المودودي كتب أفكاره هذه قبل تقسيم شبه القارة الهنديّة وظهور باكستان كدولة مستقلة سنة 1947م، وكان المسلمون يعيشون، قبل هذا التّقسيم، كأقليّة في هذه البلاد، وكانت “الحاكميّة” البشرية في ذلك الوقت؛ إمّا سلطة الاستعمار الإنجليزيّ، أو السلطة الهندوكية، وكلتاهما لا شكّ في كفرهما، لذلك كان من الطبيعيّ أن يرى المودوديّ أنّ “الحاكميّة” البشريّة التي تثمرها الدّيمقراطية والانتخابات النيابيّة، هي كارثة على الإسلام والمسلمين بشبه القارّة الهندية؛ لذلك حرَّم الانتخابات، ورأى في الدّيمقراطية رجسًا من عمل الشّيطان، ويعدّ هذا أمرًا طبيعيًّا وبديهيًّا، أن يلعن الرجل تلك الديمقراطيّة التي لن تأتي إلّا بحاكميّة بشريّة هندوكيّة “بحكم الأغلبيّة”، تقهر الهويّة الإسلاميّة والشخصيّة الحضاريّة الإسلاميّة، لكنّه بعد ذلك، عندما استقلّت باكستان، وأصبح المسلمون يمثّلون أغلبيّة السكان، أَسهم المودودي في الانتخابات وفق قواعد الأغلبية والنظام النيابيّ، وبدأ يتحدّث عن الديمقراطيّة الإسلاميّة، مؤكّدًا على أنّه ليس هناك عاقل يعارض هذه الديمقراطيّة! فنجده يتحالف مع حزب الرّابطة الذي يتزعّمه “محمد على جناح” الشيعيّ المذهب العلمانيّ الفكر والتوجّه، ثمّ تحالف مع أخته “فاطمة علي جناح” في الكتلة البرلمانية المعارضة([1]).
ثم تأتي أهميّة تلك القراءة النقديّة لهذا الكتاب الخطير جدًّا؛ للوقوف على معانيه ومراميه الحقيقيّة مبيّنين ما له وما عليه؛ حيث يتكوّن الكتاب من ثلاثة عشر فصلًا: بدأها بمقدّمة أطلق عليها اسم الكتاب “معالم في الطّريق”، وعدّها مدخلًا تمهيديًّا لمحتويات هذا الكتاب، ثمّ أتبعها بأربعة فصول مستخرجة من سفره الضخم “في ظلال القرآن”، مع تعديلات وإضافات مناسبة لموضوع كتاب المعالم، وهي: “طبيعة المنهج القرآنيّ، التصوّر الإسلاميّ للثقافة، الجهاد في سبيل الله، نشأة المجتمع المسلم وخصائصه”، أما الثّمانية الأخرى؛ فقد كُتبت على فترات، حسبما أوحت به اللفتات المتوالية إلى المنهج الربانيّ المتمثّل في القرآن الكريم، ويعدّ سيد قطب هذه المجموعة من المقالات تمثّل المجموعة الأولى التي تمنى لو أتبعها بمجموعات أخرى، تكون بمثابة معالم أخرى في الطّريق، ليهتدي بها الجيل القرآنيّ الجديد.
وقد بدأ سيد قطب كتابه بـمقالة “معالم في الطريق” رأى من خلالها أنّ البشريّة تقف، اليوم، على حافّة الهاوية، لا بسبب الفناء المعلّق على رأسها، فهذا هو العرض، أمّا المرض الذي هو إفلاسها في عالم القيم، بعد ما انتهت الديمقراطية في العالم الغربيّ والماركسيّة في العالم الشرقيّ إلى ما يشبه الإفلاس؛ بل إنّ الحضارة الغربيّة كلّها على وشك الانهيار، لافتقادها التامّ للقيم؛ فالنهضة العلميّة أدّت دورها الكامل خلال الثلاث القرون المتتالية، من السادس عشر حتى التاسع عشر، ولم يبقَ لديها ما تقدّمه، كذلك الأمر في الأنظمة القومّية والوطنيّة، الّتي تمثّلت في فشل الأنظمة الفردية والجماعيّة، وأنّ قيادة الرجل الغربيّ للبشرية قد أوشكت على الزّوال؛ لأنّه لم يعد يملك رصيدًا من القيم يسمح له بالقيادة، والإسلام وحده هو الذي يملك تلك القيم، وهذا المنهج([2]).
لا أدري ما هي تلك القيم التي فقدها الرجل الغربيّ، أليس الرجل الغربي أكثر احترامًا لقيمة العمل وإتقانه؟! أليس الرجل الغربيّ أكثر إجلالًا لقيمة الوقت وتقديسه؟! أليس الرجل الغربيّ هو الأقل كذبًا والأكثر حرصًا على قول الحقيقة في التّعامل مع الآخرين؟! أليس هو الأكثر إخلاصًا لمبادئه البرجماتية المعلنة؟ لا أدري أيّ قيم تلك التي فقدها الإنسان الغربيّ؛ أهي الإباحيّة الجنسيّة الغربية؟! وهل يجوز أن تختصر كل القيم في قيمة واحدة؟! أم إنّه الخطاب العربيّ الذي يلجأ دائمًا إلى التعميم، والتّعميم دائمًا تعتيم وإقصاء للحقيقة.
ثمّ ينتقل بنا إلى “جيل قرآنيّ جديد” في فصله الثّاني، وهو الجيل الذي يسعي إلى تأهيله لقيادة البشريّة، الذي لم يطلب منه الإبداع الماديّ؛ لأنّ هذا الإبداع قد سبق إليه الغرب، وأنّه لم يعد بإمكاننا اللّحاق به، لذلك كان على “الجيل القرآنيّ الجديد” أن يتأهّل جيّدًا فيما يخصّ العقيدة والمنهج، ما يسمح للبشرية أن تحتفظ بنتاج العبقرية الماديّة، وأن يستقي هذا الجيل من النبع الصافي الذي استقى منه النّبي ﷺ وصحابته الكرام، وهو القرآن الكريم؛ حيث لم تكن السنّة سوى أثر من آثار ذلك النّبع، وحيث لم تكن هناك مؤلَّفات ولا دراسات([3]).
ثمّ يتساءل سيد قطب: ما الذي حدث؟ ويجيب مباشرة: اختلطت الينابيع، صبّت في النّبع الصّافي روافد أخرى، مثل: فلسفة الإغريق ومنطقهم، وأساطير الفرس وتصوّراتهم، وإسرائيليّات اليهود، ولاهوت النّصارى، وغير ذلك من رواسب الحضارات والثّقافات، فشابت النّبع الصّافي الشّوائب فلم يتكرّر هذا الجيل([4]).
لكن يمكننا أن نتساءل: ألم يتقدّم المسلمون تقدّمًا باهرًا حينما انفتحوا على الحضارات الأخرى، وامتدّت رقعة الدولة الإسلاميّة إلى ما لم تمتدّ من قبل ومن بعد؟
ثم يقرّر أنّ العالم اليوم يعيش في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام في بداياته، من ناحية الأصل الذي تنبثق منه مقوّمات الحياة وأنظمتها، جاهلية لا تخفّف منها شيئًا هذه التّيسيرات الماديّة الهائلة، وهذا الإبداع الماديّ الفائق، وهذه الجاهليّة تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض، وعلى أخصّ خصائصه الإلوهيّة؛ وهي “الحاكمية”، إنها تسند “الحاكمية” إلى البشر فتجعل من بعضهم أربابًا لبعض! أمّا النّاس في المنهج الإسلاميّ يتحرّرون من عبادة بعضهم لبعض، بعبادة الله وحده([5]).
وهذا “الجيل القرآني الجديد”؛ هو الذي يمثّل الطليعة التي تمضي في الطريق في خضم الجاهلية الضاربة الأطناب في أرجاء الأرض جميعًا، وهي تزاول نوعًا من العزلة من جانب، والاتّصال، من جانب آخر، بالجاهلية المحيطة، والغريب أنه يدعو ذلك الجيل للتخلص من كلّ العلوم والمعارف سوى القرآن الكريم، وكأنّ الزمن لم يتطوّر شيئًا، وكأنّنا ما زلنا نعيش في الصحراء العربية؛ فلا تقنيّات تكنولوجيّة، ولا تقدّم في سائر المجالات، إنّه دعوة إلى التقدّم للوراء عشرات القرون!
وفي فصله الثّالث: شرح “طبيعة المنهج القرآني”؛ حيث يرى أنّ القرآن الكريم ظلّ ثلاثة عشر عامًا ليفسر للإنسان سرّ وجوده ووجود هذا الكون من حوله؛ من هو؟ ومن أين جاء؟ ولماذا جاء؟ وإلى أين يذهب في نهاية المطاف؟ ومن أوجد هذا الكون؟ وكيف يتعامل مع ربّ الكون؟ وكيف يتعامل العباد مع العباد؟
وقد ظلّ القرآن هذه الفترة الطويلة لتقرير هذه العقيدة، فلم يتجاوزها إلى شيء من تفصيلات النّظام الذي يقوم عليها، والتشريعات التي تحكم المجتمع المسلم الذي يعتنقها، أليس هذا أمرًا يستدعي الاهتمام البالغ؟([6]).
ويرى أن الاهتمام البالغ يؤدّي إلى أنّ النّبي ﷺ قد انشغل بقضيّة العقيدة، وتقرير “لا إله إلا الله” في القلوب والعقول، وإلى ضرورة توجيه أذهان العرب إلى الإلوهيّة الخالصة التي تعني “الحاكمية” العليا لله تعالى.
كما يثير، أيضًا، جنسيّة المسلم التي هي عقيدته، والتي يتساوى فيها العربيّ والرومانيّ والفارسيّ وسائر الأجناس والألوان تحت راية الله، وهذا هو الطّريق! ثمّ يتحدّد “المنهج القرآنيّ” بقوله: “إنّه ليس “نظريّة” تتعامل مع الفروض! إنّه “منهج” يتعامل مع “الواقع”! فلا بدّ، أوّلًا، من أن يقوم المسلم الذي يقرّ عقيدة: أن “لا إله إلا الله”، وأنّ “الحاكميّة” ليست إلّا لله، ويرفض أن يقرّ بالحاكميّة لأحد من دون الله، ويرفض شرعيّة أيّ وضع لا يقوم على هذه القاعدة”([7]).
وأرى أن الغرض السياسيّ في مواجهة النظام السياسيّ الّذي يتزعّمه جمال عبد الناصر واشتراكيّته السياسيّة هي المقصودة، وكانت “الحاكمية لله”، بما تتحمّله من مدلولات دينيّة هي دعمه الأكبر لمواجهة هذا النّظام الذي أخذ كل شيء، ولم يعط لأصدقاء الأمس، أيّ شيء يذكر؛ بل أودعهم السّجون والمعتقلات.
وهو الأمر نفسه الذي يسعي المؤلّف إلى تقريره في فصله الرابع “نشأة المجتمع المسلم وخصائصه”؛ يقرّر فيه أنّ الدّعوة الإسلاميّة كما جاءت مع النّبي محمد ﷺ، كانت الحلقة الأخيرة من سلسلة الدّعوة الطويلة إلى الإسلام بقيادة موكب الرسل الكرام، وإنّها جاءت لا لتعرّف النّاس بربّهم الّذي لا يعرفونه، بقدر ما جاءت تحارب الشرك بالله إما في صورة الاعتقاد والعبادة، وإمّا في صورة “الحاكميّة” والاتّباع، وكلاهما شرك في وجهة نظر الكاتب، ثمّ كانت الدّعوة إلى الله تستهدف “الإسلام”؛ إسلام العباد لربّ العباد، وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد، بإخراجهم من سلطان العباد في حاكميتهم وشرائعهم وقيمهم وتقاليدهم إلى سلطان الله، وحاكميّته وشريعته وحده في كل شأن من شؤون الحياة، أمّا ما دون ذلك؛ فهو جاهليّة شأن الجاهليّة الأولى([8]).
حيث إنّ “لا إله إلا الله” الشّطر الأوّل من الشهادة؛ تعني إفراد الله بالألوهيّة والربوبيّة والقوامة والسّلطان والحاكمية، ولا تعدّ موجودة شرعًا، إلّا في هذه الصّورة المتكاملة، وأنّ حكم الله هذا يجب أن يعرفه البشر من مصدر واحد بعينه وهو رسول الله، وهذا هو الشّطر الثاني من الشهادتين ركن الإسلام الأوّل؛ أي هكذا ربط سيد قطب مآربه السياسية بالركن الأوّل من أركان الإسلام، فإمّا أن تكون معه، وإمّا أن تكون خارج الملّة والعقيدة، وهذه هي البذرة القويّة لنشأة التّكفير والتطرّف الدينيّ.
وفي “الجهاد في سبيل الله”، فصله الخامس، يعلن عن ما يعنيه مفهوم الجهاد عنده، مرتبطًا بمفهوم “الحاكمية”؛ فالجهاد هو الثورة الشّاملة على “حاكمية” البشر في كلّ صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، والتمرّد الكامل على كلّ وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصّور، ذلك أنّ الحكم الذي مردّ الأمر فيه إلى البشر؛ هو تأليه للبشر يجعل بعضهم أرباب بعض من دون الله، ومن ثم كان الجهاد هو انتزاع سلطان الله المغتصب وردّه إلى الله، وطرد المغتصبين له؛ الذين يحكمون النّاس بشرائع من عند أنفسهم، فيقومون منهم مكان الأرباب، ويقوم النّاس منهم مكان العبيد. إنّ الجهاد معناه تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض، التي لا تقوم على رجال بأعيانهم– هم رجال الدّين- كما كان الأمر في سلطان الكنيسة، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة، كما كان الحال فيما يعرف باسم “الثيوقراطيّة” أو الحكم الإلهيّ المقدس، لكنّها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة، وأن يكون مردّ الأمر إلى الله وفق ما يقرّره من شريعة مبينة([9]).
ولما كان ذلك لا يتسنّى بالبلاغ والبيان؛ لأنّ المتسلّطين على رقاب العباد، والمغتصبين لسلطان الله في الأرض لا يسلّمون بمجرّد التّبليغ والبيان، وجب الجهاد في سبيل الله، وأصبح ضرورة للدّعوة ضدّ أعدائها من الجاهلين، الذين هم، أوّلًا: “واهمون” فيما بدا لهم، وثانيًا: “كافرون”، فما يدّعي أحد أن المصلحة فيما يراه هو مخالفًا لما شرّع الله، ثمّ يبقى لحظة واحدة على هذا الدّين، ومن أهل هذا الدّين! وبناءً على النتيجة الثانية؛ يجب الجهاد المسلّح، وقتال أهل الكفر حتى يدخلوا الإيمان، ثمّ يعمل سيد قطب على رفض دعوى القائلين بالموقف الدفاعيّ للإسلام، كما يقول المهزومون أمام الواقع الحاضر، وأمام الهجوم الاستشراقيّ الماكر!
وإن الذين يلجؤون إلى تلمّس أسباب دفاعيّة بحتة لحركة المدّ الإسلاميّ؛ إنّما يؤخذون بحركة الهجوم الاستشراقيّة، في وقت لم يعد للمسلمين شوكة؛ بل لم يعد للمسلمين إسلام! إلّا من عصم الله ممّن يصرّون على تحقيق إعلان الإسلام العامّ، بتحرير “الإنسان” في “الأرض” من كلّ سلطان إلّا من سلطان الله، ليكون الدّين كلّه لله، فيبحثون عن مبرّرات أدبيّة للجهاد في الإسلام!([10]).
ثمّ يقرّر سيد قطب أنّنا بين دارين؛ دار الإسلام ودار الحرب، ثمّ يقف موقف العداء التامّ من غير المسلمين اليهود والمسيحيين، سواء كانوا مواطنين في دولة الإسلام أو خارجها، ويلزمهم بدفع الجزية عن يد وهم صاغرون.
ومن الواضح أنّ الكاتب يحصر مفهوم الجهاد، هنا، في معنى واحد؛ هو جهاد الحرب أو القتال، أو إقامة الدولة الإسلاميّة بالقوّة، والحكم بما أنزل الله، وفرض شريعته بالسيف، ولا شيء سواه، ونسي جهاد السّلم؛ جهاد النّفس والشّيطان والدّنيا والهوى، وفي الحديث: “رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر”، أليس الاجتهاد في طاعة الله جهاد، ومن أعلى درجات الجهاد؟ والسّعي في طلب الرّزق، وعلى اليتيم والأرملة والمسكين جهاد؟ أليست مقاومة المعاصي والشهوات والاجتهاد في إصلاح النفس الأمّارة بالسوء والاجتهاد في معرفة الحلال والحرام جهاد، ومن أعلى درجات الجهاد؟ أليس الاجتهاد في الصّبر على المرض والابتلاء بعد الأخذ بالأسباب جهاد، ومن أعلى درجات الجهاد؟ لكنّه التطرّف المقيت.
وفي فصله السّادس الّذي عنونه بـ “لا إله إلا الله منهج حياة”: يعرّف المجتمع الجاهليّ؛ وهو كلّ مجتمع لا يخلص عبوديته لله وحده، متمثّلة هذه العبوديّة في التصوّر الاعتقاديّ، وفي الشّعائر التعبديّة، وفي الشّرائع القانونيّة([11])، وبهذا التّعريف الموضوعيّ تدخل – كما يقرّر سيّد قطب – في إطار “المجتمع الجاهليّ” جميع المجتمعات القائمة اليوم في الأرض فعلًا؛ حيث تدخل فيه المجتمعات الشيوعيّة والوثنيّة واليهوديّة والنصرانيّة؛ بل والمجتمعات الإسلاميّة التي لا تعطي “الحاكمية” لله في كل شؤونها بالمعنى القطبيّ، وهنا تكمن البذرة الرئيسة للتطرّف الدينيّ عند كافة تنظيماته.
أمّا فصله السّابع “شريعة كونية”: يقصد بها تلك الشريعة التي سنّها الله لتنظيم حياة البشر؛ فهي شرعية كونيّة بمعنى أنّها متّصلة بناموس الكون العامّ، ومتناسقة معه؛ فالالتزام بها ناشئ من ضرورة تحقيق التناسق بين حياة الإنسان، وحركة الكون الذي يعيش فيه؛ بل من ضرورة تحقيق التّناسق بين القوانين التي تحكم فطرة البشر المضمرة، والقوانين التي تحكم حياتهم الظّاهرة، وضرورة الالتئام بين الشّخصية المضمرة والشخصية الظاهرة للإنسان، ثمّ يصبح العمل بشريعة الله شرطًا ضروريًّا لتحقيق التناسق والتناغم في الكون، فلا يحدث تصادم وصراع، ويعيش الإنسان مع أخيه الإنسان في وئام وسلام([12]).
أمّا فصله الثّامن “الإسلام هو الحضارة”؛ فيقرر فيه أن الإسلام لا يعرف إلّا نوعين اثنين من المجتمعات؛ مجتمع إسلاميّ، ومجتمع جاهليّ.
المجتمع الإسلاميّ: هو المجتمع الذي يطبّق الإسلام عقيدة وعبادة، شريعة ونظامًا، خلقًا وسلوكًا، والمجتمع الجاهليّ: هو المجتمع الذي لا يطبَّق فيه الإسلام، ولا تحكمه عقيدته وتصوّراته، وقيمه وموازينه، ونظامه وشرائعه، وخلقه وسلوكه، وفي هذا الأخير؛ تقبع كلّ المجتمعات القائمة اليوم بلا استثناء([13])، وهذه نتيجة كارثيّة بكلّ المعاني بلا شكّ، وعلى ذلك تكون الحضارة، ولا حضارة بعيدة، أبدًا، عن العبودية لله وتطبيق أحكامه وشرائعه، وهكذا يحصر الكاتب الحضارة داخل “الحاكمية لله”؛ حتّى يجرّد كلّ الأنظمة الأخرى من أي شكل حضاريّ يمكن أن توصف به.
وجاء الفصل التّاسع ليعكس “التّصور الإسلامي للثقافة”؛ حيث يفرّق سيد قطب بين ثقافتين؛ الثقافة الإسلاميّة والثقافة الجاهليّة، فيقول: “إنّنا اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم، كلّ ما حولنا جاهليّة، تصوّرات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم، حتى الكثير ممّا نحسبه ثقافة إسلاميّة، ومراجع إسلاميّة، وفلسفة إسلاميّة، وتفكيرًا إسلاميًّا، هو كذلك من صنع هذه الجاهليّة!”([14]).
ولا يجوز تلقّي الثقافة للمسلم في دولة “الحاكميّة” إلّا عن التصور الإسلاميّ ومصدره الربانيّ، تحقيقًا للعبوديّة الكاملة لله وحده، لكنّه يرى أنّه من الممكن أن يتلقّى المسلم في العلوم البحتة؛ كالكيمياء، والطبيعة، والأحياء، والفلك، والطب، والصناعة، والزراعة، وطرائق الإدارة- من الناحية الفنية الإدارية البحتة – وطرائق العمل الفنيّة، وطرائق الحرب والقتال- من الجانب الفنّي- إلى آخر ما يشبه هذا النشاط، يملك أن يتلقّى في هذا كلّه عن المسلم وغير المسلم، وإن كان الأصل في المجتمع المسلم حين يقوم؛ أن يسعى إلى توفير هذه الكفايات في هذه الحقول كلّها، باعتبارها فروض كفاية، يجب أن يتخصّص فيها أفراد منه، وإلّا أثِم المجتمع كلّه إذا لم يوفّر هذه الكفايات، ولم يوفّر لها الجوّ الذي تتكوّن فيه، وتعيش، وتعمل، وتنتج.
أمّا فيما يختصّ بحقائق العقيدة، أو التصوّر العام للوجود، أو يختصّ بالعبادة، أو يختصّ بالخلق والسّلوك، والقيم والموازين، أو يختصّ بالمبادئ والأصول في النظام السياسيّ، أو الاجتماعيّ، أو الاقتصاديّ، أو يختصّ بتفسير بواعث النشاط الإنسانيّ وبحركة التاريخ الإنسانيّ، فلا يجوز تلقّيه إلّا من ذلك المصدر الربانيّ، ولا يتلقّى في هذا كلّه إلا عن مسلم يثق في دينه وتقواه، ومزاولته لعقيدته في واقع الحياة([15])، وهكذا تبلورت وجهة نظر “حاكمية” سيد قطب من الثّقافة بصفة عامّة.
أمّا فصله التاسع؛ فخصصه للحديث عن “جنسية المسلم وعقيدته”، وأنّ هناك حزبًا واحدًا لله لا يتعدّد، وأحزابًا أخرى كلّها للطاغوت والشيطان، وأنّ هناك طريقًا واحدًا يصل إلى الله، وكلّ طريق آخر لا يؤدّي إليه، وأنّ هناك نظامًا واحدًا هو النظام الإسلاميّ، وما عداه من النّظم فهو جاهليّة، وأنّ هناك شريعة واحدة هي شريعة الله وما عداها فهو هوى، وأنّ هناك حقًّا واحدًا لا يتعدّد، وما عداه فهو الضلال، وأنّ هناك دارًا واحدة هي دار الإسلام، وما عداها هي دار حرب([16]).
ثمّ قرّر أنّه ليست قرابة المسلم أباه وأمه وأخاه وزوجته وعشيرته، ما لم تنعقد الآصرة الأولى في الخالق فتتّصل، ثمّ بالرّحم؛ فعصبية العشيرة هي عصبية جاهلية منتنة، ثمّ يرتبط أوّل هذه الأمة بآخرها، وآخرها بأوّلها، برباط الحب والمودة والتعاطف المكين؛ فالأمّة الإسلاميّة هي شعب الله المختار لا غيرها من الأمم.
وهنا تتحول عقيدة المسلم إلى وطنه، فلا حساب للأرض ولا الحدود الجغرافية؛ إنّما وطن المسلم كلّ بلاد دار الإسلام، ثم يكون الذود فقط عن دار الإسلام، بشروطها تلك لا أيّة دار، لا لمغنم ولا لسمعة ولا حميّة لأرض أو قوم، أو ذود عن أهل أو ولد إلّا لحمايتهم من الفتنة عن دين الله، ثمّ يصبح الوطن دارًا تحكمها عقيدة ومنهاج حياة وشريعة من الله، ثمّ تكون دار الإسلام هي الوطن؛ الجنسية فيها هي العقيدة، والحاكم فيها هو الله، والدستور فيها هو القرآن.
كما يرصد الكاتب لـ “نقلة بعيدة” في فصله العاشر، يرى فيها أنّه إذا كان هناك من يحتاج للدّفاع والتّبرير والاعتذار، فليس هو الذي يقدّمه الإسلام للناس؛ إنّما هو الذي يحيا في الجاهليّة المهلهلة المليئة بالتناقضات وبالنقائص والعيوب، وإنّ وظيفتنا الأولى: هي إحلال التّصورات الإسلاميّة والتقاليد الإسلاميّة مكان هذه الجاهلية، ولن يتحقّق هذا بمجاراة الجاهليّة والسّير معها خطوات في أوّل الطريق، إنّ هذا معناه إعلان الهزيمة منذ أول الطّريق، وهنا؛ تبدو النّزعة الصداميّة للكاتب في أبرز صورها، ما يؤصّل للعنف منذ البداية.
أمّا فصله الحادي عشر “استعلاء الإيمان”: يتحدّث فيه عن تلك الحالة النفسيّة التي ينبغي أن يكون عليها شعور المؤمن وتصوّره وتقديره للأشياء، والأحداث، والقيم، والأشخاص، إنّه يمثّل حالة الاستعلاء التي يجب أن تستقرّ عليها نفس المؤمن إزاء كلّ شيء، وكلّ وضع، وكلّ قيمة، وكلّ أحد، الاستعلاء بالإيمان وقيمه على جميع القيم المنبثقة من أصل غير أصل الإنسان، وكلّ قوى الأرض الحائدة عن منهج الإيمان، وكلّ قيم الأرض التي لم تنبثق عن أصل الإيمان، وعلى أوضاع الأرض كلّها التي لم ينشئها الإيمان، الاستعلاء مع ضعف القوّة وقلّة العدد وفقر المال([17])، تبدو هنا الرّسالة الّتي يرسلها الكاتب لمعارضيه السّياسيين، وكيف أنّه أفضل وأعلى مكانة منهم، ممّا يؤكّد أنّ مفهوم “الحاكميّة” هو، في الأساس، مفهوم سياسيّ في المقام الأوّل، وإن ارتدى مسوح الدين.
ثمّ يأتي الفصل الختامي “هذا هو الطريق”؛ الذي يبدأه بقصّة أصحاب الأخدود القرآنيّة، وكأنّه يشبه نفسه وصحبه بأصحاب الأخدود والنظام المضادّ له، بهؤلاء الجبلات الطّغاة الذين يتلذّذون بمشاهد التّعذيب المروّعة العنيفة الّتي يتعرّض لها هو وزملاءه في السجون والمعتقلات، ومع هذا يرسل لهم الرّسائل بأنّ هذا التّعذيب ترتفع من خلاله أرواح المؤمنين، وتتحرّر وتسمو، تمامًا مثل أرواح أصحاب الأخدود، وهذا هو النّصر في حدّ ذاته؛ فقصة أصحاب الأخدود لم تذكر مصير هؤلاء الطّغاة، بقدر ما ركّزت على تحرّر أرواح أصحاب الأخدود، فكان اختيار موفّق للغاية، يتناسب مع الوضع الذي يعيشه الكاتب وأصحابه، فيرى أن على هؤلاء الإخوان أن يؤدّوا واجبهم ثم يذهبوا، وواجبهم أن يختاروا الله، وأن يؤثروا العقيدة على الحياة، وأن يستعلوا بالإيمان على الفتنة، وأن يصدّقوا الله في العمل والنيّة، ثم يفعل الله بهم وبأعدائهم، كما يفعل بدعوته ودينه، ما يشاء، وأنّ الجزاء يقبضونه على دفع ثلاث؛ الدّفعة الأولى: تتمثّل في طمأنينة القلب ورفعة الشّعور، وجمال التصوّر، والتحرّر من الخوف والقلق، ثمّ تأتي الدفعة الثانية ثناءً في الملأ الأعلى، وذكرًا وكرامةً وهم ما زالوا على الأرض، إلّا أن يكون من ملاك الحقيقة المطلقة، أمّا الدفعة الثالثة؛ فتتمثل في الآخرة حسابًا يسيرًا، ونعيمًا كبيرًا، ورضوانًا من الله([18]).
وهكذا نجح سيد قطب بامتياز في تطوير نظرية سلفه المودودي، وإيجاد خطاب دينيّ متطرّف من حيث اللّغة والمضمون وطريقة التّفكير، خطاب يستهوي الإنسان الثوريّ، بقدر ما يجذب إليه حماسة الشّباب، ومصالح المعارضين السياسيين في البلاد العربية والإسلامية، ومع هذا، تظل قراءتي النقدية هذه مجرّد إعادة قراءة بعيون مغايرة، ورؤية سريعة للمضمون الذي أودعه المؤلّف بين طيّات كتابه، ولا يمكن أن تدّعي أكثر من ذلك.
([1]) حاتم صادق، أبو الأعلى المودودي؛ الأب الروحيّ للجماعات الإسلاميّة، القاهرة، مجلة الثّقافة الجديدة، الهيئة العامّة لقصور الثّقافة، العدد(289)، أكتوبر/ 2014م، ص 41.
([2]) سيد قطب، معالم في الطّريق، بيروت- القاهرة، دار الشروق، الطبعة الشرعية السادسة، 1979م، ص ص 3- 4.
([3]) المصدر السّابق، ص ص 13- 14.
([4]) المصدر السابق، ص 14.
([5]) المصدر السابق، ص ص 17- 19.
([6]) المصدر السابق، ص 20.
([7]) المصدر السابق، ص 33.
([8]) المصدر السّابق، ص 46.
([9]) المصدر السّابق، ص 60.
([10]) المصدر السّابق، ص 65.
([11]) المصدر السابق، ص 85. يتّضح، هنا، تأثّر سيد قطب الواضح بأبي الأعلى المودودي؛ الذي يرى ضرورة إزالة كلّ الأنظمة التي تستند إلى التشريع المدنيّ، فيلغي عن الإنسان كلّ إمكانية للتشريع في شؤونه الاجتماعيّة والسياسية، ويقيّد حريته في تدبير شؤون حياته، وبذلك يجرّد المودودي الإنسان من كلّ حقّ في الأمر والتّشريع والقانون (انظر: الحسن حما، التوظيف الإيديولوجي لمفهوم الحاكمية: مدخل لتجاوز أعطاب المفهوم الفكريّة والسياسيّة، ضمن الملف البحثيّ “مفاهيم ملتبسة في الفكر العربي المعاصر(2) السيادة والحاكمية”، مؤسّسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، المغرب، بتاريخ 3/ 4/ 2015م، ص 54.
([12]) المصدر السّابق، ص ص 99- 100.
([13]) المصدر السّابق، ص 105.
([14]) المصدر السابق، ص ص 17- 18.
([15]) المصدر السابق، ص 126.
([16]) المصدر السابق، ص 137. تأتي خطورة مفهوم الحاكميّة وخطورة التطرّف في فهمه؛ حيث يؤدّي إلى الدّعوة إلى قتال كل نظام سياسي أو فلسفي أو إنسانيّ لا يجعل التوحيد منبعه؛ لذا يقسم الأصوليون المتشدّدون البشر إلى منهجين: منهج الله ونظامه، وأتباعه هم أتباع الله أو حزب الله، ومنهج البشر ونظامهم؛ فهم، بالتّالي، أتباع الملك أو الأنظمة البشرية، أو حزب الشيطان، وتشكّل الجماعة الأولى المجتمع المستقيم، أما الثّانية؛ فتمثّل المجتمع غير المستقيم أو المجتمع الجاهلي (انظر: أحمد الموصللي، موسوعة الحركات الإسلاميّة في الوطن العربيّ وإيران وتركيا، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2004، ص 231).
([17]) المصدر السّابق، ص 163.
([18]) المصدر السّابق، ص ص 173- 182.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر/