عرض/ شفيق شقير
أعاد اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في 14 من فبراير/شباط 2005 رسم الخريطة السياسية في لبنان والمنطقة، وطرح تساؤلاً كبيرًا حول قدرة اتفاق الطائف (1989) على الاستمرار وحول مصيره، لاسيما وأنه أطلق حراكًا شعبيًّا عارمًا أرغم دمشق على سحب جيشها وأجهزتها العسكرية من لبنان بشكل كامل (26 إبريل/نيسان 2005)؛ لتقوم بعض القوى اللبنانية -على رأسها حزب الله- بتنظيم تظاهرة حاشدة مؤيدة لدمشق في 8 من مارس/آذار 2005 تحت شعار: “شكرًا سوريا”. وتأكيدًا لاستمرار خطها “الممانع”. وردَّت حينها القوى المناهضة لسوريا -وعلى رأسها تيار المستقبل- بتظاهرة معاكسة حاشدة أيضًا في 14 من مارس/آذار 2005؛ لتؤكد انتهاء ما يُسَمَّى: “حقبة الوصاية السورية”، وانتصار “ثورة الأرز” ولتطالب بمحاكمة القتلة. أسفر المشهد اللبناني الجديد عن انقسام بين قوَّتين أساسيتين؛ إحداهما تؤيد النظام السوري والأخرى تعارضه، وبنى كل منهما على هذا الأساس تحالفاته المحلية وتوجُّهاته الإقليمية، ليبلغ الخلاف محليًّا ذروته مع الاغتيالات التي طالت وجوها بارزة في قوى 14 آذار، وإقليميًّا مع انطلاق الثورة السورية عام 2011 وما نتج عنها من تداعيات.
وحَدَثٌ بهذا الحجم -من حيث التأثير والتداعيات، وما زال إلى اللحظة فاعلاً أساسيًّا في إدارة وجهة الخلافات في المنطقة- استدعى مئات التحليلات حوله؛ من القاتل؟ ومن المستفيد؟ وما سبب الاغتيال أو الهدف منه؟ وما العواقب والتداعيات؟ وما إلى ذلك من أسئلة عملت جهات إعلامية وسياسية وبحثية على الإجابة عنها. ويُعتبر كتاب: “المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، اغتيال رفيق الحريري” -في هذا السياق- إحدى المحاولات المعتبرة التي حاولت استقراء الفعل السياسي للأطراف اللبنانية؛ وذلك من خلال الإضاءة على كيفية تعاملها مع المسار القانوني للتحقيق وللمحكمة الدولية، وجعل من اتفاق الطائف -الذي كان الحريري أحد أهم عرَّابيه- والظروف السياسية التي سبقت الاغتيال، بوصلة لتحديد الجهات المحتمل تورُّطها -سوريا إسرائيل وإيران- في الاغتيال ولو بوجه من الوجوه؛ وذلك بهدف “بحث تداعيات الاغتيال ونتائجه السياسية الداخلية والدولية، بالإضافة إلى التداعيات القانونية المتمثلة في إنشاء المحكمة الدولية الخاصَّة لمحاكمة قتلة الرئيس الحريري”(1).
ومؤلف الكتاب الدكتور طارق شندب محامٍ وناشط قانوني تولَّى قضايا الدفاع عن عدد من الإسلاميين المتهمين بقضايا أمنية، وهو ممَّنْ رفع دعوى ضد وزير الخارجية السوري وليد المعلم -أثناء وجود الأخير على الأراضي اللبنانية بداعي العلاج- بتهمة “قتل لبنانيين وقصف أراضي لبنانية وتشكيل عصابات إرهابية في لبنان”، كما رفع عدة دعاوى أو وضع بلاغات قانونية ضد أحزاب وشخصيات من قوى 8 آذار(2)، وتعتبره هذه الأخيرة خصمًا سياسيًّا وقانونيًّا لها، وشن الإعلام المقرَّب منها حملات إعلامية ضد هذا المحامي غير مرَّة(3). وشندب قريب سياسيًّا من بعض رموز قوى 14 آذار؛ وهو ما عكسه تقديم مدير أمن العام السابق ووزير العدل الحالي أشرف ريفي للكتاب، الذي قال: إن الكتاب انطلق من “المعادلة الواضحة” في أن “الجريمة ارتُكبت في ظلِّ الهيمنة السياسية والأمنية للنظام السوري على لبنان، ونُفِّذَتْ تحت عباءته الفضفاضة”(4). وهذا الانحياز السياسي لا يمنع من أن المؤلف كان دقيقًا في تتبُّع الشقِّ القانوني، وحاول أن يكون موضوعيًّا في “التزام المنهج العلمي” في مقاربته للشقِّ التحليلي؛ وذلك بغضِّ النظر عن مقدار الإصابة والخطأ فيه.
شرعية المحكمة بين القانون والسياسة
المحكمة الخاصة بلبنان هي محكمة ذات طابع دولي أنشئت لمحاكمة الأشخاص المتهمين بتنفيذ اعتداء الرابع عشر من فبراير/شباط 2005، الذي أدَّى إلى مقتل 22 شخصًا، بمن فيهم رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، وإصابة عدد كبير من الأشخاص. يقع مقرُّ المحكمة في هولندا؛ وهي تضمُّ موظفين لبنانيين ودوليين، وتُحاكم الأشخاص بموجب القانون الجزائي اللبناني(5).
تتبَّع الكاتب سلسلة القرارات الدولية قانونيًّا، التي أفضت إلى قيام “المحكمة الخاصة بلبنان”؛ ومن أبرزها القرار (1636) الصادر عن مجلس الأمن في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2005، واعتبر أن اغتيال الحريري يُشَكِّل “تهديدًا للسلام والأمن الدوليين”، الأمر الذي يُبَرِّر تشكيل محكمة بطابع دولي وذلك تحت الفصل السابع(6)، ومنها أيضًا القرار (1644) الذي صدر في 15 من ديسمبر/كانون الأول 2005، وتضمن إقرارًا من مجلس الأمن بطلب الحكومة اللبنانية إنشاء “محكمة ذات طابع دولي”(7)، كانت قد تقدَّمت به في 13 من ديسمبر/كانون الأول 2005، وصدر أيضًا عن المجلس القرار (1664) (2006) بتاريخ 29 من مارس/آذار 2006 يطلب من الأمين العام للأمم المتحدة التفاوض مع الحكومة اللبنانية على “اتفاق يرمي إلى إنشاء محكمة ذات طابع دولي، استنادًا إلى أعلى المعايير الدولية في مجال العدل الجنائي”(8).
وجاءت هذا القرارات لتُعَزِّز من انقسام اللبنانيين؛ حيث رأت قوى 8 آذار أن قرار تدويل المحكمة جاء لغايات سياسية، وأن الجريمة لها صلة بمؤامرة دولية لاستهداف حزب الله(9)؛ وليس لأنها تهدِّد الأمن الدولي، كما أن المحكمة أُنشئت بقرار دولي دون أن تأخذ شرعيتها من السلطة اللبنانية وفق الأصول الدستورية؛ حيث لم يحظَ قرار إنشاء المحكمة بموافقة مجلس النواب، فضلاً عن أن يُمهر بتوقيع رئيس الجمهورية.
والجدير بالذكر أن الأمم المتحدة والحكومة اللبنانية وقَّعتا وعلى التوالي -في 23 من يناير/كانون الثاني 2007، وفي 6 من فبراير/شباط 2007، اتفاقًا لإنشاء المحكمة الخاصة بلبنان؛ وأُحيل هذا الاتفاق إلى مجلس النواب اللبناني للتصديق عليه؛ ولكن رفض رئيس مجلس النواب نبيه بري دعوة المجلس إلى الانعقاد للتصويت عليه، واعتبر قرار الحكومة اللبنانية بإنشاء المحكمة غير دستوري؛ لانسحاب الوزراء الشيعة من الحكومة(10)؛ وهو ما يعني أنها غير ميثاقية؛ لأنها لا تضمُّ المكون الشيعي.
فاجتمعت غالبية نيابية (70 نائبًا) خارج مجلس النواب؛ ووقَّعت على وثيقة تُطالب مجلس الأمن بتشكيل المحكمة، وفي 14 من مايو/أيار 2007 وجَّه رئيس الحكومة اللبنانية آنذاك -فؤاد السنيورة- رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، يُعلمه فيها أنَّ “جميع الخيارات المحلية للتصديق على الصكوك المنشئة للمحكمة الخاصة بلبنان، قد استُنفدت”. وأشار إلى أنَّ أغلبية نيابية قد أعربت عن تأييدها للمحكمة -بموجب وثيقة وُقِّعت خارج قبة البرلمان- طالبًا من الأمين العام أن يعرض على مجلس الأمن إنشاء محكمة خاصة بلبنان، وذلك “على سبيل الاستعجال”. وانعقد في أعقاب ذلك مجلس الأمن وأصدر القرار (1757)، بتاريخ 30 مايو/أيار 2007، ونص على وضع الاتفاق حول المحكمة الخاصة بلبنان -المتفق عليها مع الحكومة اللبنانية- موضع التنفيذ تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، على أن يسري ذلك اعتبارًا من العاشر من يونيو/حزيران 2007(11).
يُظهر الكتاب بوضوح وجهةَ نظرِ قوى 14 آذار باعتبارها جزءًا من تفسير مسار القرارات الدولية التي تم إقرارها، وباعتبارها جزءًا من تفنيد وجهة النظر المعارضة لقوى 8 آذار؛ التي كانت تجتهد للحيلولة دون أن ترى المحكمة النور، ويضع المحكمة في سياق الدفاع عن “اتفاق الطائف” تمامًا كما كان دور الرئيس الحريري الذي اغتيل من أجله.
ومن جهة أخرى لا ينكر شندب وجود وجهات نظر متعارضة محليًّا حول شرعية المحكمة، ويتبنى بالجملة شرعية المحكمة وفق المنطق نفسه الذي برَّرت المحكمة شرعيتها، وهو ما أوردته في التعريف بنفسها: “أُنشئت المحكمة بناء على طلب قدَّمته الحكومة اللبنانية إلى الأمم المتحدة. وأما الاتفاق الذي توصل إليه لبنان والأمم المتحدة فلم يُصادَق عليه، وقامت الأمم المتحدة بجعل أحكامه نافذة من خلال قرار مجلس الأمن الدولي رقم (1757)”(12).
ولكن ما أغفل الكتاب مناقشته هو التأثيرات التي خلفتها المحكمة على البنية الدستورية والسياسية للوفاق اللبناني، فتقديم القرارات الدولية على القرار اللبناني المحلي في إقرار مسار المحكمة الدولية ونصبها، كان يأكل عمليًّا من شرعية “اتفاق الطائف” بالنسبة إلى فريق من اللبنانيين على الأقل؛ لأن إقرار المحكمة الدولية محليًّا –بالنسبة إلى هذا الفريق- تَطَلَّب اجتراح صيغ جديدة في تفسير الطائف؛ أدَّت إلى تجاوز صلاحية رئيس مجلس النواب نبيه بري (شيعي) في دعوة مجلس النواب للانعقاد، وصلاحية رئيس الجمهورية إميل لحود (ماروني)؛ المتمثلة في ضرورة توقيعه لما يصدر عن مجلس النواب ليحظى بالشرعية الدستورية، وهما معارضان لشرعية المحكمة.
وبهذا لا تزال شرعية المحكمة مهدَّدة لبنانيًّا؛ لأنها بهذا الاعتبار مخالفة لاتفاق الطائف، أو للتفسير الذي تم إقرار المحكمة وفقه بالنسبة إلى هذا الفريق، وهو يتعامل معها راهنًا باعتبار أنها تحظى بشرعية واقعية من تعامل الدولة اللبنانية معها لا أكثر(13)، وهي كذلك مُهدَّدة إقليميًّا لأن التطوُّرات السياسية في لبنان تدفع في اتجاه إعادة تفسير الطائف (بذريعة خرقه المتكرِّر ولوجود ثغرات فيه) أو استبداله بمؤتمر تأسيسي جديد يُراعي الدور الإيراني المتنامي في لبنان والمنطقة على حساب الدور السوري، وأي صفقة دولية بهذا الصدد (خاصة بين إيران وأميركا) ستؤدِّي إلى فشل المحكمة، أو تغيير بعض من طبيعتها؛ كأن تطغى عليها العناصر الجنائية أكثر من السياسية، أو أن تتغير وظيفتها بما يتلاءم مع الواقع الإقليمي الجديد.
مقتل الحريري والقرار (1559)
صدر قرار مجلس الأمن الدولي (1559) في 2 من سبتمبر/أيلول 2004 ونص على عدَّة بنود؛ من أبرزها: دعوة “كل القوات الأجنبية الباقية إلى الانسحاب من لبنان”، و”تفكيك كل الميلشيات اللبنانية وغير اللبنانية ونزع سلاحها”، ودعم “مدّ سلطة الحكومة اللبنانية على كل الأراضي اللبنانية”، وتأييد انتخاب رئيس الجمهورية المقبل “انتخابًا حرًّا… من دون أي تدخُّل أجنبي”(14).
رأى حزب الله في هذا القرار استهدافًا للمقاومة ولسوريا(15)، واتهمت القوى الموالية لسوريا رفيق الحريري بأنه كان وراء القرار، أو أنه كان متواطئًا مع عرَّابيه بصورة ما؛ وذلك ربما بسبب العلاقة المميزة التي كانت تربطه بالرئيس الفرنسي جاك شيراك، أحد أهم صانعي هذا القرار بالتفاهم مع الأميركيين؛ ولأن القرار جاء بالأساس في سياق رفض تمديد ولاية رئيس الجمهورية اللبناني إميل لحود الحليف القوي لسوريا ولحزب الله، وهو الموقف الذي كان يتبنَّاه الحريري وتنازل عنه لاحقًا تحت الضغط السوري، وهو البند الذي كانت تسعى إليه فرنسا من القرار حينها أكثر من سواه، وإن كانت معنية بالبنود الأخرى.
ويميل طارق شندب إلى أن القرار (1559) -بالاستناد إلى التحليل العلمي للدراسات المنشورة- من أهم أسباب اغتيال رفيق الحريري؛ لأن الأخير كان “متهمًا” بالعمل “على إنجازه وتحضيره”(16)؛ ولا شيء يمنع من هذا التحليل، لاسيما بعد أن أصبح من الواضح أن البعد السياسي كان الحاضر الأكبر في اغتيال الحريري، ولاسيما أن الاغتيالات لرموز 14 آذار كانت تسير في المسار نفسه والهدف ذاته اللذين اغتيل الحريري في سياقهما.
ولكن بسبب تداخل المصالح في رفض القرار- تكتيكيًّا لمصالح ضيقة أو استراتيجيًّا لمصالح عليا- وفي الاستفادة من غياب شخصية كرفيق الحريري، يصعب الجزم بهوية الجهة المخططة والمنفذة، فمثل أي اغتيال سياسي فإن كل الأطراف المتنازعة -خاصَّة عندما تفتقر للقيم والنزاهة الوطنية كما هو شأن الحالة اللبنانية، أو حتى المتخاصمة بنزاهة في أي نظام ديمقراطي- تنزع للاستفادة من تداعيات الاغتيال وتجهد للبناء عليه، وهو ما حصل فعلاً؛ حيث غلبت صورة “شهيد الوطن” على الحريري -على سبيل المثال- في الأيام الأولى لاغتياله، وأثنى أمين عام حزب الله حسن نصر الله على موقف رفيق الحريري من المقاومة، وأعلن عما جرى بينهما من لقاءات إيجابية “لصالح المقاومة” لم يكشف عنها سابقًا(17)؛ وذلك في محاولة لاستيعاب تداعيات هذا الحدث، ولمدِّ جسور التواصل مع تيار المستقبل وأنصاره، إلا أن هذا لم يمنع من تبدُّل المشهد إلى خلاف ذلك، بعد استفحال الخلافات بين الطرفين وحلفائهما؛ ليصبح رفيق الحريري خصمًا غير نزيه في إعلام قوى 8 آذار حيًّا وميتًا. وجرى الأمر نفسه مع زعيم تيار المستقبل سعد الحريري عندما ترأس حكومة برعاية أو بمباركة من سوريا؛ حيث زار الرئيس بشار الأسد -المتهم باغتيال والده- ونزل بضيافته في “قصر الضيافة” في ديسمبر/كانون الأول من عام 2009!(18)
ولا شَكَّ أن مقتل الحريري واختفاءه من المشهد السياسي وفَّر فرصة ذهبية للقوى الموالية لسوريا وإيران لتمد من نفوذها في لبنان، وربما الإقليم، وكشف بالفعل عن أبعاد أخرى للمشروع الإيراني؛ بغضِّ النظر عن الاتفاق معه أو رفضه، إلا أن تداعيات الاغتيال أيضًا أطلقت مدًّا هائلاً معارضًا للوجود السوري في لبنان لم يكن متوقَّعًا البتة، فقد دفع بالقوات السورية إلى الخروج من الأراضي اللبنانية، ويمكن لبعضهم أن يُؤَرِّخ يوم انسحاب الجيش السوري من لبنان إلى دمشق أنه يوم تكون جنين الأزمة السورية التي انفجرت بصورة “ثورة” أو “أزمة” لا تزال وقائعها الدامية مستمرَّة حتى اليوم.
والمراد أن البحث عن المستفيد من مرحلة ما بعد الاغتيال لن يحسم الجدل حول هوية الجهة المنفذة؛ لأن حسابات الاغتيال قد تعود بالضرر حتى على من وراءها؛ فعمليًّا تضرَّرت منها كل الأطراف في الإقليم من حيث تغييرها لقواعد اللعبة، وإدخال المنطقة في حالة من عدم اليقين، وإن استفاد بعضهم منها وفقًا لمهارته بالنقاط فإنه قد يخسر بالنقاط وربما أكثر.
المتضررون من المحكمة والاتهام السياسي
يُؤَكِّد الكتاب في المسار التحليلي الذي سلكه أن المتضرِّرين من إحالة جريمة اغتيال الحريري إلى المحكمة الدولية من مصلحتهم التشكيك بها؛ وهو ما كان واضحًا في مسألتين: ملف شهود الزور الذي أدَّى إلى توجيه الاتهام إلى سوريا، وتسريب بعض وقائع التحقيق التي تتضمن توجيه الاتهام إلى أربعة أعضاء من حزب الله. وبالفعل نجد وقائع هذا التحليل في القدرة السياسية التي أظهرتها في بعض المراحل قوى 8 من آذار في جعل المحكمة مفردة من مفردات العمل السياسي اليومي وتجاذباته؛ بما يُشَكِّك في نزاهتها، ويُثبت خضوعها لأهواء السياسيين؛ وليس لمعايير “وطنية”، ولا طلبًا “للحقيقة”. وتتشارك هذه القوى -8 آذار- في تضرُّرها سياسيًّا من مسار المحكمة؛ سواء في ملف شهود الزور أو في التسريبات التي وصلت إلى مرحلة التحقيق؛ ليس لأنها تخشى نتائج التحقيق أو لوجود صلة لها بالضرورة بالاغتيال؛ بل لأنها تصبُّ سياسيًّا في مصلحة قوى 14 آذار، وتُلحق ضررًا بالغًا بتحالفها؛ ولكن يمكن الجزم أن توجيه المحكمة اتهامًا واضحًا لأعضاء من حزب الله بمسؤوليتهم عن هذه الجريمة، وضع خطًّا نظريًّا فاصلاً بين الاتهام السياسي والمصالح المرتبطة به، وبين الاتهام القانوني وما قد يترتب عليه، وإن كان من الناحية العملية، سيضع المحكمة أمام تحدٍّ شبيه بذاك الذي واجه لجان التحقيق وسبق مباشرة المحكمة الدولية في عملها؛ أي التسريب مجدَّدًا وشهود زور جُدد، أو ما يشبه ذلك(19).
ومن هذا المنطلق هناك الكثير من الأسئلة التي يجب على حزب الله أن يُجيب عنها، وقد يفعل أو لا يفعل؛ لأن ارتباطه الإقليمي وطبيعته الأمنية والعسكرية ومتطلباتها تفرض عليه الاحتفاظ بمسافة بعيدة من المحكمة، وعدم التعاون معها؛ فمسارها سيُثير -كما التحقيق قبلها- الشكوك حول القوى الإقليمية الفاعلة في لبنان، وتحديدًا إيران وسوريا وإسرائيل؛ فاختار سياسيًّا أن يُعَزِّز الاتهام ضدَّ الأخيرة؛ كي لا يتعرَّض خياره السياسي المرتبط بمحور “الممانعة” للتشويه أو الانهيار. وعلى الصعيد الداخلي فإن تجذُّره السياسي والاجتماعي -خاصة على الصعيد المذهبي في مواجهة تحديات الداخل اللبناني، وارتباطها بمصالح الطوائف الأخرى- تغريه بالاستفادة سياسيًّا من الواقع الجديد الذي نشأ بعد مقتل رفيق الحريري، وعلى رأسها الهزيمة التي حلَّت بالمنظومة الأمنية والسياسية والاجتماعية، وربما الاقتصادية التي كان يمثلها هذا الأخير، وكانت من ورائها؛ سواء من حيث النسخة الوطنية التي كان يُقَدِّمها أو السنية السياسية التي نُسبت إليه؛ فاليوم بعد مقتل الحريري ومسار الاغتيالات الذي شهده لبنان هناك شيعية سياسية “منتصرة” تنسب إلى حزب الله، ونسخة وطنية جديدة يُعيد بناءها بقيادته لتحالف سياسي عابر لطائفته ويعطيها اليد العليا فيه.
وضع حدٍّ للاغتيال السياسي
يُكَرِّر مؤيدو المحكمة من قوى 14 آذار أن المحكمة “ستضع حدًّا للاغتيال السياسي في لبنان”، وطغى هذا على خطابهم تبريرًا لإنشاء محكمة دولية لقتلة الرئيس الحريري دون سواه، أو للدفاع عن خياراتهم المرتبطة بالمحكمة؛ على الرغم من الأضرار والصعوبات السياسية والأمنية المرافقة لها، أو ما سينتج عنها؛ لاسيما وأن أطرافًا داخلية وخارجية تُريد لخيار المحكمة أن يأتي بأضرار تفوق قدرة لبنان على التحمل بغية إسقاطها. واللافت أن هذا الغرض من إنشاء المحكمة لم يحظَ باهتمام كافٍ في الكتاب؛ فلم يزد على كونه أحد الأهداف التي تناولها الكاتب لمامًا ولم يُوغل في مناقشتها؛ ربما بسبب الأولوية القانونية التي جعلها مقصوده، إلا أن هذه القضية تحتاج مناقشة عميقة؛ لأن المآلات السياسية التي قد تنتج عن المحكمة تبقى هي المقصود الأول للبنانيين؛ سواء من حيث إيقاف الاغتيالات أو تحقيق العدالة الانتقالية ولمرة واحدة في لبنان؛ حتى يُغلق باب المساومات والتسويات، وهذا لا يكون إلا بإرساء نظام مستقرٍّ في لبنان؛ وإلا فإنه سيشهد في تاريخه أكثر من موجة اغتيال وأكثر من نسخة عن اتفاق الطائف، وكأن وظيفة هذه النسخ العفو عمَّا سبق وعمَّنْ سبق كل بضع سنين، وليس التأسيس لنظام دائم.
الخلاصة أن المحكمة الدولية وحدها لن تنهي عصر الاغتيالات في لبنان؛ بل لن تُحِدَّ منه؛ لأن لبنان يعيش أزمة تمس كيانه، وهناك رهان على أن أي اتفاق جديد سيفرغ السجون من متهمين بالقتل والتفجير المرتبط بقضايا سياسية وربما جنائية، وفي انتظار ذلك فإن هذا الرهان سيشجِّع بعض الفاعلين السياسيين على الاغتيال وسواه، لا بل اجتياح مناطق، والدخول في دوامة من المعارك والقتل، ولن يعدموا الأسباب السياسية لتبريرها؛ لا بل تمجيدها.
خاتمة
يطرح كتاب المحكمة الدولية الخاصة بلبنان رواية للظروف التي سبقت اغتيال رفيق الحريري؛ وذلك في محاولة لرسم صورة سياسية للقاتل، من خلال معرفة المستفيد من إقصاء الحريري وحذفه من المعادلة الوطنية اللبنانية، ويوفر سجلاًّ قانونيًّا يعكس الأبعاد الأخلاقية والسياسية التي ترمي المحكمة إلى تحقيقها، وعلى الرغم من أنه ترك مساحة واسعة من الفراغ في حاجة ماسة فعلاً للتحليل والدراسة -لاسيما تلك التي تتصل بالتداعيات الناجمة عنها، وستضرب عميقًا في الواقع السياسي اللبناني وبنيته السياسية، وهي تفعل حقًّا- فإنه يُشَكِّل بلا شكٍّ أحد المراجع المهمَّة لدراسة تلك الحقبة، أو للبناء عليها في المستقبل.
معلومات الكتاب
عنوان الكتاب: المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، اغتيال رفيق الحريري
المؤلف: طارق شندب
مراجعة: شفيق شقير – باحث متخصص في المشرق العربي والحركات الإسلامية
الناشر: منشورات الحلبي الحقوقية
سنة النشر: 2014
________________________________________________
شفيق شقير – باحث متخصص في المشرق العربي والحركات الإسلامية
المصادر
1- انظر المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، طارق شندب، اغتيال رفيق الحريري ص85.
2- انظر مثلاً:
– صحيفة الحياة الدولية، دعوى قضائية لتوقيف وليد المعلم في لبنان بـ”جرم قتل لبنانيين”،
http://alhayat.com/Articles/1150646/%D8%AF%D8%B9%D9%88%D9%89-%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D8%AA%D9%88%D9%82%D9%8A%D9%81-%D9%88%D9%84%D9%8A%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D9%84%D9%85-%D9%81%D9%8A-%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86-%D8%A8%D9%80-%D8%AC%D8%B1%D9%85-%D9%82%D8%AA%D9%84-%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86%D9%8A%D9%8A%D9%86-
– الموقع الإلكتروني “جنوبية”، عائلات لبنانية تدعي على حزب الله وأمل والقومي السوري “بتهمة قتل أبنائها”، 9 من مايو/أيار 2014
http://janoubia.com/178936
3- انظر على سبيل المثال لا الحصر، صحيفة الأخبار اللبنانية، “شندب للمحاماة” أحدث اختراعات المستقبل، 28 من ديسمبر/كانون الأول 2012.
https://www.al-akhbar.com/node/174515
4- المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، ص5.
5- انظر تعريف المحكمة الخاصة بلبنان على موقعها الإلكتروني:
http://www.stl-tsl.org/ar/about-the-stl
6- انظر مركز وثائق الأمم المتحدة، القرار (1636):
http://www.un.org/arabic/docs/viewdoc.asp?docnumber=S/RES/1636 (2005 )
7- انظر مركز وثائق الأمم المتحدة، القرار (1644):
http://www.un.org/arabic/docs/viewdoc.asp?docnumber=S/RES/1644 (2005)
8- مركز وثائق الأمم المتحدة، القرار (1664):
http://www.un.org/arabic/docs/viewdoc.asp?docnumber=S/RES/1664 (2006)
9- موقف حزب الله وقوى 8 آذار يقوم على هذا الأساس، انظر على سبيل المثال لا الحصر: “دراسة” منشورة على موقع تليفزيون المنار، المحكمة الدولية وقراراتها، قبس من التزوير والانتهاك القانوني، وائل كركي:
http://www.almanar.com.lb/adetails.php?fromval=2&cid=376&frid=106&seccatid=376&eid=76326
10- صحيفة الوسط 25 من نوفمبر/تشرين الثاني 2006، بري: حكومة السنيورة لم تعد دستورية.
http://www.alwasatnews.com/1541/news/read/758506/1.html
11- انظر صحيفة الأخبار، قراءة قانونيَّة في دستوريَّة المحكمة الخاصَّة بلبنان، حسين جمول.
http://www.al-akhbar.com/node/2015
12- موقع المحكمة الخاصة بلبنان، تعريف بالمحكمة الخاصة بلبنان.
http://www.stl-tsl.org/ar/about-the-stl
13- لهذا اكتفى حزب الله بالاحتفاظ بحقه في رفض شرعية المحكمة دون القيام بأي عرقلة واضحة لتعاون الدولة اللبنانية مع المحكمة؛ حتى إن حكومة الرئيس ميقاتي -التي حظيت بدعم حزب الله- دفعت حصة لبنان المتوجبة عليه لتمويل المحكمة.
14- انظر مركز وثائق الأمم المتحدة، القرار (1559):
http://www.un.org/arabic/docs/viewdoc.asp?docnumber=S/RES/1559 (2004)
15- أعد تليفزيون المنار تحقيقًا متلفزًا تحت عنوان: حرب القرار (1559):
http://www.youtube.com/watch?v=VTA0fO0sib4
16- المحكمة الخاصة بلبنان، ص83.
17- كشف نصر الله عن بعض ما جرى في حواراته مع رفيق الحريري؛ مؤكدًا أن الأخير كان مؤيدًا لسلاح المقاومة، وتطوَّر النقاش لاحقًا إلى حرب تصريحات حول صحة بعض ما قاله نصر الله في هذا الصدد.
18- موقع ناو، “سوريا الأسد” تتلقَّف الحريري ضيفًا استثنائيًّا.
https://now.mmedia.me/lb/ar/latestnews2ar/%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A_%D9%84%D8%A3%D8%B3%D8%AF_%D8%AA%D8%AA%D9%84%D9%82%D9%81_%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%B1%D9%8A_%D8%B6%D9%8A%D9%81_%D8%B3%D8%AA%D8%AB%D9%86%D9%8A
19- مؤخَّرًا استدعت المحكمة الخاصة بلبنان مؤسستين إعلاميتين للمثول أمامها بتهمة كشف هوية شهود سريين؛ وذلك على ما يبدو في محاولة للحؤول دون تكرار بعض ما حصل خلال مرحلة التحقيق. انظر موقع لبنان 24:
http://lebanon24.com/livenews/details/761200
المصدر/ الجزيرة للدراسات