24 نوفمبر، 2024 10:09 م
Search
Close this search box.

المحركات الداخلية للأزمة الليبية: مدخل تحليلي

المحركات الداخلية للأزمة الليبية: مدخل تحليلي

إعداد/ إسماعيل القريتلي
بات ضروريا فهم وتحليل المحركات الداخلية للأزمة الليبية، فبدون ذلك لا يمكن لجميع الفاعلين الليبيين إعادة بناء أجنداتهم الحوارية بعيدًا عن الاصطفاف خلف شعارات ومصطلحات تضلِّل وعي الليبيين. ففهم مسألة المحركات الداخلية للأزمة الليبية تعني وضع صرح يشارك فيه الجميع بعيدا عن الإقصاء والمغالبة.

يحاول هذا المقال تحليل محركات الأزمة الليبية في بُعدها المحلي؛ لظني أن أساس الأزمة داخلي. ورغم توسع التأثير الخارجي، خاصة بعد التدخل الغربي والعربي لإسقاط حكم العقيد القذافي في 2011، فإن الأزمة في ليبيا قديمة ظهرت مع مناقشات تأسيس الدولة الوطنية (Nation State) في ليبيا منذ نوفمبر/تشرين الثاني 1949 ولا تزال مستمرة حتى لحظتنا الراهنة.

وعليه، لن يشير المقال إلى المحركات الخارجية للأزمة في مسعى متعمد للتذكير بأهمية الالتفات للمحركات المحلية، وبذل الجهد المحلي الوطني والأممي ممثلًا في الأمم المتحدة وبعثتها الخاصة إلى ليبيا لتوسيع النقاش والحوار والتفاوض بخصوص تلك المحركات، وعدم الاكتفاء بتصميم عملية انتقالية بين بعض الأطراف السياسية التي أنتجتها 17 فبراير/شباط ثم الاتفاق السياسي الموقع عليه في مدينة الصخيرات المغربية في ديسمبر/كانون الأول 2015.

وعلى النخب ووسائل الإعلام خصوصًا الليبية أن تعيد بناء أجنداتها الإخبارية ومواضيعها الحوارية بما يخدم التنوير بتلك المحركات بعيدًا عن الاصطفاف خلف شعارات ومصطلحات تضلِّل وعي الليبيين عن سؤالهم: لماذا الصراع في ليبيا؟ وعرض إجابات تفسيرية لذلك السؤال يشارك فيها الجميع وعدم الاكتفاء بعرض ادعاءات أطراف الصراع السياسي والمسلح.

تقديم

يصعب من جهتَيْ العلاقات والواقع الفصل بين محركات الأزمة الليبية ثنائيًّا أو جماعيًّا، فمثلًا المحرك الاقتصادي مرتبط عضويًّا بالمحرك السياسي؛ إذ تتحكم حكومة الوفاق في موارد الدولة بسبب وجودها مع مصرف ليبيا المركزي في طرابلس، بل ويتصل من جهة الواقع بالمحرك الجهوي كما نلحظ في المطالبات الفيدرالية التي تتحدث عن غياب العدالة في توزيع الثروة أو عائدات النفط، وأحيانًا يرتبط السياسي بالمحرك الإثني مثل ما كان من مواقف المكونات القومية من مسودة الدستور.

غير أنه من باب التفصيل المنهجي رأيت أن أتحدث عن كل محرك للأزمة بشكل منفصل عن الآخر مع ذكر الروابط بينها كلما كان ذلك ضروريًّا.

المحرك الاقتصادي

تبدأ إشكالية الاقتصاد في ليبيا من اعتماديته الكلية على مورد واحد يتمثل بعائدات تصدير النفط الخام والغاز؛ إذ يشكِّل النفط والغاز وبعض المواد الكيميائية المستخرجة من النفط قرابة 100% من الصادرات الليبية، في مقابل أن الحكومة تعد ميزانية استيرادية تستورد بها تقريبًا كل شيء من المواد الغذائية إلى الآليات والأدوات الميكانيكية والأدوية والمنسوجات والوقود وغيرها(1).

وعزَّز طبيعةَ النظام الاقتصادي في ليبيا الذي يتسم بتحكم الحكومة المركزية بكل قطاعاته؛ فحتى القطاع الخاص يخضع للاعتمادات المالية الحكومية، وعقود المشاريع العامة المختلفة سواء المتعلقة بالبنية التحتية أو قطاعات الخدمات أو استيراد احتياجات الحكومة نفسها، أنه لا توجد حصة تُذكر للمستثمر المحلي والأجنبي بصيغة الشراكة بين القطاعين العام والخاص بصيغها التعاقدية المختلفة مثل (BOT – BOOT – BOO)، وأدى ذلك إلى هيمنة الاقتصاد الريعي على النشاط الاقتصادي في ليبيا(2).

وينتج عن الاقتصادات الريعية التي تعتمد على مورد/موارد طبيعية تركُّز الوظائف بالقطاعات الحكومية مثل وظائف الوزارات والهيئات الحكومية، التي توجد أساسًا في المناطق الحضرية في ليبيا، خاصة في مدينة طرابلس بصفتها مقر الحكومة والنظام السياسي والاقتصادي ومصرف ليبيا المركزي فنتج عن ذلك عمليات نزوح وهجرة من الدواخل والمناطق الريفية تجاه طرابلس، وبنسبة أقل نحو بعض المدن الكبرى مثل بنغازي.

من النتائج التي ترتبت على تعديل الدستور سنة 1963 إلغاء مستويات الإدارة والحكم المحلي فعززت التعديلات هيمنة الحكومة المركزية المستقرة في مدينة طرابلس وتحكمها في عائدات الموارد الطبيعية (النفط والغاز) بسبب غياب هيكل سياسي وإداري لمستويات الحكم ما بين حكومة وطنية وحكومات جهوية (بغضِّ النظر عن مسمياتها) وحكومات/إدارات الحكم المحلي.

ومنذ سيطرة القذافي على حكم ليبيا، في 1969، وتعديلات عدد وجغرافية المحافظات حتى إلغائها في 1995 واستبدال الشعبيات بها والتي لم تثبت كذلك عدديًّا وجغرافيًّا وحتى ثورة فبراير/شباط وما بعدها، اندمجت المؤسسة السياسية والاقتصادية والأمنية لتؤسِّس مجتمعةً منظومة سياسية اقتصادية تتصف بالمركزية لا تلتفت عمليًّا إلى المستويات المحلية.

وزاد الانقسام السياسي والحرب الأهلية في ليبيا وإنكار إشكالية النظام المركزي في الحكم والإدارة والاقتصاد والمال من انغلاق منظومة الحكم المركزية؛ الأمر الذي عزز التجاذبات الجهوية خاصة بين إقليمي برقة وطرابلس، بل حتى داخل إقليم طرابلس نفسه إذ تعرضت مدينة طرابلس إلى محاولات عديدة للسيطرة على نظام الحكم فيها من قبل مجموعات مسلحة مدعومة اجتماعيًّا وسياسيًّا من مناطق ومدن مثل مصراتة والزنتان وترهونة.

المحرك الهوياتي للأقاليم

إلى جانب إشكالية النظام السياسي والاقتصادي المركزي فإن عوامل جغرافية وتاريخية منعت أقاليم ليبيا الثلاثة من تحقيق اندماج يعزز ركائز الدولة الوطنية، فطبيعة الجغرافيا والفواصل الطبيعية بين الأقاليم وضعف أو انعدام وسائل المواصلات مثل الطرق وخطوط السكك الحديدية وغيرها في حقبة ما قبل الاستعمار الإيطالي، وعدم وجود هياكل ومؤسسات للدولة قبل احتلال إيطاليا لليبيا، سنة 1911، كل ذلك أسَّس لمجموعات سكانية غير مندمجة في كل من برقة وطرابلس وفزان.

ولم تنجح إيطاليا في إقرار أسس الدولة الوطنية رغم محاولتها في عام 1934 عندما شكَّلت إدارة موحدة لجغرافية ليبيا وسمَّتها ليبيا الإيطالية. غير أن اندلاع الحرب العالمية الثانية وهزيمة إيطاليا وألمانيا وضم شمال ليبيا للانتداب البريطاني ثم تأسيس إمارة برقة، في مارس/آذار 1949، بدعم من بريطانيا وربما بدافع عرقلة تأسيس دولة ليبيا الوطنية، كما لاحظنا لاحقًا عندما قدَّم وزيرا الخارجية، البريطاني والإيطالي، مشروع الوصاية على ليبيا، قبل أن يفشل المشروع ويصدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار 289، في نوفمبر/تشرين الثاني 1949، الذي يقضي بحق الليبيين في تأسيس دولتهم الوطنية بدعم ورعاية أممية(3).

لا شك أن في الحقبة الملكية وحقبة سلطة القذافي تأسست عديد المؤسسات التي طورت تواصلًا أفضل بين سكان الأقاليم الليبية، مثل الجامعات والقوات المسلحة وغيرها من المؤسسات وهياكل الدولة، إلا أن ذلك كان دائمًا يؤثر فيه سلبًا مركزية القرار السياسي والاقتصادي والمالي وعدم ثبات الشكل الإداري والسياسي للدولة إبَّان حكم القذافي، ثم استمر الأمر بعد ثورة فبراير/شباط؛ إذ عجزت سلطات فبراير الانتقالية غير المنتخبة والمنتخبة في الالتفات لأهمية عقد حوارات ومفاوضات تأسيسية بين الليبيين بل كانت العجلة هي المناخ الذي ساد الحالة السياسية في ليبيا بعد رحيل العقيد القذافي.

ولعل الإشكال الجهوي يتضح أكثر من زوايا الأبعاد الهوياتية؛ فاختلاف العادات والأعراف ومرويات المخيال الشعبي واللهجات في الأقاليم الثلاثة تعزز هذا التمايز الهوياتي.

ولم يحظ هذا التمايز بالاعتراف في مستوى المدونات التشريعية والقانونية، وفي نظام الحكم وشكل الدولة، ولم تمنح الأقاليم مساحة واسعة للمشاركة السياسية، إلى جانب غياب لمستوى حكم محلي ثالث مستقل إداريًّا وتشريعيًّا وماليًّا عن الحكومة الوطنية والحكومات الجهوية غير الموجودة كذلك.

وتداخل الإشكال الجهوي مع حقيقة تركز جزء من الموارد الطبيعية كالنفط في مناطق برقة وفزان، بالإضافة إلى عجز النظام المركزي عن تحقيق عدالة في توزيع عوائد بيع الموارد الطبيعية لجهة هيمنة منظومة حكم ريعية تسيطر فيه الحكومة المركزية حتى على القطاع الخاص.

لكن من المهم التنبه إلى أن المحرك الجهوي أساسه خلافات الهويات المحلية وليس فقط نتيجة غياب العدالة في توزيع عوائد الموارد الطبيعية بسبب مركزية القرار وطبيعة نظام الحكم الذي لم تتغير مركزيته حتى بعد 17 فبراير وصدور قانون الحكم المحلي رقم 59 لسنة 2012؛ إذ منح القانون وزير الحكم المحلي سلطات واسعة على المجالس البلدية المنتخبة، ناهيك عن عدم تمثل البعد الهوياتي سواء الجهوي أو الإثني في القانون(4).

المحرك الاجتماعي/الإثني

تسكن ليبيا إلى جانب الأغلبية العربية مجموعات عرقية أخرى، مثل: الأمازيغ والطوارق والتبو، وتتميز عن المكونات العربية بلغاتها الخاصة وإرثها الثقافي، إلى جانب انتماء المكون الأمازيغي إلى المذهب الإباضي الذي تُظهر نخبتهم المتدينة تمسكها به.

وكان للتبو حراك سياسي إبان حكم القذافي رفع عددًا من المطالب تتركز على الاعتراف بخصوصيتهم الثقافية وحقهم في الحصول على المواطنة الكاملة.

وعرف الأمازيغ كذلك حراكًا مطلبيًّا قادته نخبة اضطرت إلى العيش خارج ليبيا إبان حكم القذافي الذي سجن عديد المثقفين الأمازيغ.

ومنذ سقوط نظام القذافي ارتفعت أصوات المكونات الثقافية بمطالبها، وشاركت في العملية السياسية، ثم اعترضت على مسودة الدستور، كما حدث عديد المواجهات المسلحة بين تلك المكونات وبين المكون العربي أو ما يحدث أحيانًا بين مكوني التبو والطوارق.

وقد اتضح من المواجهات المناطقية والقبلية التي اندلعت في ليبيا بعد 17 فبراير/شباط حساسية العلاقات الاجتماعية بين مكونات السكان؛ فلا تزال مناطق الجنوب والغرب الليبي وبعض مناطق الجنوب الشرقي تشهد مواجهات مسلحة أساسها نزاعات قبلية أو مناطقية؛ ففي إقليم طرابلس نشأت نزاعات داخل مدينة طرابلس بين مجموعات مسلحة من عديد المناطق منها الزنتان ومصراتة ومناطق مدينة طرابلس، ولعل السبب في النزاعات داخل مدينة طرابلس هو السيطرة على الحكومة المركزية هناك، كما حصل من كتائب ومجموعات مسلحة من الزنتان ثم مصراتة ثم من المدينة نفسها(5).

كما شهد الإقليم نزاعات مسلحة عديدة مثل ما يحصل بين الزاوية وورشفانة أو في جبل نفوسة بين عديد المناطق وما حدث بين مصراتة وبني وليد.

ونجد في برقة إشكالًا داخليًّا ذا بعد جهوي تمثل في اندلاع مواجهات بين مجموعات مسلحة تنتمي لقبائل الإقليم، وأخرى ينتمي قادتها إلى مدن ومناطق وقبائل إقليم طرابلس خاصة مدينة مصراتة.

المحرك السياسي

مثَّل عدم ثبات هياكل وشكل نظام الحكم في ليبيا إلى استحواذ القذافي فعليًّا على القرار السياسي والاقتصادي من خلال منظومة سياسية اقتصادية أمنية مركزية محركًا لعديد الحركات المناهضة للقذافي في أقاليم ليبيا.

ورغم ادعاء القذافي تبنيه لنظام سياسي يسمح بأوسع مشاركة ممكنة للسكان في الشأن العام إلا أن التطبيق الواقعي كرَّس هيمنة حركة اللجان الثورية على منظومات الحكم السياسية والاقتصادية والأمنية وتثبيت هياكلها العليا في مدينة طرابلس ثم خضوع الحركة للقذافي بشكل مطلق.

ونظرًا لاستقرار النظام السياسي والاقتصادي والأمني للقذافي في مدينة طرابلس فقد تحولت واقعيًّا إلى مركز مالي للدولة يدفع الراغبين في ممارسة الأعمال سواء في القطاع العام أو الخاص إلى السعي نحو الاقتراب من هياكل منظومة الحكم المركزية التي تهيمن على القرار الاقتصادي كذلك.

ونتج عن ضعف المشاركة السياسية اتساعُ السخط على نظام القذافي؛ الأمر الذي قاد مع محركات اقتصادية وأمنية إلى اندلاع حركات تمرد عديدة خاصة في تسعينات القرن المنصرم، مثل تلك التي اندلعت في مدينتي بنغازي ودرنة، ثم اندلعت ثورة فبراير التي حملت آمالًا عريضة للناس لم تتحقق حتى الآن؛ إذ استمرت المنظومة المركزية بهياكلها القديمة في الهيمنة على القرار السياسي والاقتصادي والمالي وتمركزها في مدينة طرابلس.

حتى العملية السياسية منذ انتخابات المؤتمر الوطني العام، في يوليو/تموز 2012، لم تنجح في خلق مناخ حواري وتفاوضي، بل عجزت السلطات الناتجة عن تلك العملية السياسية عن تحديد أولويات سياسية واقتصادية وأمنية تتساوق مع مطالب الناس في مختلف مناطق ليبيا، وانشغلت القوى السياسية ثم المناطقية القريبة من مركز القرار في صراعات تهدف للهيمنة على المنظومة المركزية، وبدأت السلطتان، التشريعية والتنفيذية، تتناكفان وتستعين كل واحدة منها بكتائب مناطقية أو قبلية أو أيديولوجية(6).

وعمَّقت العملية السياسية الخلافات بأنواعها، الجهوية والإثنية الهوياتية والاجتماعية، وتراكمت الخلافات حتى اندلعت عملية الكرامة في برقة وفجر ليبيا في طرابلس، ثم جاء اتفاق الصخيرات ليعمِّق الخلافات ويؤسِّس للانقسام السياسي والجهوي، ويُمكِّن فقط بعض القوى الجهوية والسياسية الناتجة عن فبراير، التي تسعى للتموضع في الحالة الليبية كأمر واقع لا يمكن تجاوزه وتحتمي باتفاق الصخيرات أو انتخابات المؤتمر العام وانتخابات مجلس النواب وهيئة الدستور لتصبح هذه الطبقة السياسية الوصية على الحالة الليبية كما حصل في لبنان بعد اتفاق الطائف وفي العراق بعد الغزو الأميركي، وتتنازع الشرعية فيما بينها.

وآخر فصول المحرك السياسي العملية العسكرية التي شنَّها حفتر بالتحالف مع مكونات جهوية وإثنية وسياسية على مدينة طرابلس بهدف السيطرة على الدولة المركزة في طرابلس المستمرة منذ 4 أبريل/نيسان 2019.

التشكيلات المسلحة

شكَّلت التشكيلات المسلحة العنصر الأكثر تأثيرًا على الصراع في ليبيا، وبحسب تقارير أممية وأخرى صادرة عن مراكز دراسات ذائعة الصيت، بل وتصريحات وزير الداخلية بحكومة الوفاق، في فبراير/شباط 2019، فإن المجموعات المسلحة في مدينة طرابلس تغلغلت في هياكل الدولة الأمنية والسياسية والمالية، وباتت تفرض شروطها على الحكومات المختلفة والمؤسسات المالية، إلى جانب امتلاك عديد المدن والقبائل مجموعات مسلحة ومجالس عسكرية تمثل ذراعها العسكرية في فرض مطالبها السياسية والاقتصادية سواء بالحصول على الأموال أو التعيين في مناصب الدولة، ولعل حادثة يوم الأربعاء، 4 ديسمبر/كانون الأول 2019، التي حاصرت فيها مجموعات مسلحة مبنى وزارة المالية يعكس الهيمنة التي تفرضها المجموعات المسلحة على مؤسسات الدولة وهياكل الحكومة، ولم يعد الحديث سرًّا عن الابتزاز الذي تمارسه مختلف المجموعات المسلحة على هياكل السلطة السياسية والاقتصادية والمالية، بل إن الواقع يشير إلى تحالفات بين القوى والشخصيات السياسية والحكومية مع عديد المجموعات المسلحة(7).

يقابل ذلك العددَ الكبيرَ من المجموعات المسلحة ضعفُ مؤسسة الجيش التي تتبع حكومة الوفاق، فحتى الاتفاق السياسي الموقَّع عليه في الصخيرات المغربية، في ديسمبر/كانون الأول 2015، أقرَّ بضعف الجيش هناك، ودعا في فصل خاص (المواد 33 إلى 46) إلى ترتيبات أمنية تُخلى فيها المدن والمقار الحكومية والعامة من المجموعات المسلحة ونشرها خارج المدن، ثم جمع سلاحها ونشر قوات عسكرية نظامية بدلًا عنها، وحُددت جداول زمنية للترتيبات الأمنية غيرها لم تتحقق في الواقع.

وفي سبتمبر/أيلول 2018، أعاد المجلس الرئاسي تشكيل لجنة لتنفيذ الترتيبات الأمنية لم تنجح هي الأخرى، وفي فبراير/شباط 2019، أقرَّ وزير الداخلية بحكومة الوفاق بهيمنة المجموعات المسلحة التي وصفها بالميليشيات على وزارة الداخلية بما في ذلك ميزانية الوزارة.

ولعل الحرب الأخيرة على طرابلس عززت مكانة المجموعات المسلحة ومنحتها شرعية كادت تفقدها، وهذا يعمق مشكلة حل تلك المجموعات التي يعتقد قادتها وأفرادها أنهم من يدافع عن مدينة طرابلس وبالتالي عن حكومة الوفاق الأمر الذي سيجعل من الصعب إعادة وصفها بالميليشيات أو الجماعات الخارجة عن القانون.

خلاصة

على الرغم من استمرار التدخل الخارجي منذ قرابة 9 سنوات وتحول الحرب في ليبيا إلى حرب بالوكالة للأحلاف الإقليمية وبعض القوى الكبرى، والتوسع في تبرير الصراع بناء على التدخلات الخارجية، إلا أن أساس الأزمة الليبية يظل محليًّا تلخصه المحركات التي أشرت إليها في هذا المقال، وهذا يعني أن إنهاءَ الأزمة في ليبيا رهنُ إرادة الليبيين من خلال رمي السلاح وترك الاحتكام إليه، والاعتراف بالمحركات الداخلية للأزمة، والتوقف عن صناعة عناوين غير حقيقية للخلافات الليبية التي يروجها إعلام المتصارعين، وتأسيس مسار تفاوضي يبعد عن منطق المغالبة وفرض المطالب بالقوة، ورفض الخضوع لضغوط القوى الخارجية، ومن المهم أن لا تتحكم في المسار التفاوضي مخرجات اتفاق الصخيرات، بل بتوسيع المسار التفاوضي بمشاركة مكونات تمثل بشكل صريح محركات الأزمة الداخلية، والاتفاق وطنيًّا على منع تدخل أي قوى خارجية، إقليمية أو دولية، وقصر الاستعانة الفنية قبل استقرار الأوضاع في البلد على الأمم المتحدة والمنظمات الدولية ذات العلاقة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نبذة عن الكاتب
إسماعيل القريتلي
كاتب ليبي.
مراجع
أحمد الخميسي: نمو إيرادات ليبيا النفطية 24% في مايو، العربي الجديد، 27 يونيو/حزيران 2019، (تاريخ الدخول 25 يناير/كانون الثاني 2020):
https://bit.ly/2GObzq2

(2) حسين مفتاح: ليبيا.. اقتصاد ريعي لا خلاص له من سيطرة النفط، بوابة افريقيا الإخبارية، 30 ديسمبر/كانون الأول 2017، (تاريخ الدخول 25 يناير/كانون الثاني 2020):

https://bit.ly/390XIIR

(3) د. الحسيني الحسيني معدي: الملك محمد إدريس السنوسي حياته وعصره، القاهرة، كنوز للنشر والتوزيع، ص 55.

(4) النصوص القانونية المتعلقة بالقطاع الأمني في ليبيا، مركز جنيف لحوكمة قطاع الأمن، 18 يوليو/تموز 2012، (تاريخ الدخول 29 يناير/كانون الثاني 2020): https://security-legislation.ly/ar/node/31807

(5) دور القبيلة في المجتمع الليبي، موقع الجزيرة نت، 2 أغسطس/آب 2015، (تاريخ الدخول 31 يناير/كانون الثاني 2020): https://bit.ly/2OjltnJ

(6) المؤتمر الوطني العام الانتخابات في ليبيا التقرير النهائي، مركز كارتر، 7 يوليو/تموز 2012، (تاريخ الدخول 31 يناير/كانون الثاني 2020): https://www.cartercenter.org/resources/pdfs/news/peace_publications/ele…

(7) أبرز القوى المسلحة المتصارعة على النفوذ في المشهد الليبي، موقع دويتشة فيله، 5 أبريل/نيسان 2019، (تاريخ الدخول 31 يناير/كانون الثاني 2020): https://bit.ly/2u0zAr7
المصدر/ الجزيرة للدراسات

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة