26 ديسمبر، 2024 1:44 م

  المثقف التوليفي.. الوضوح والشفافية ضرورية في أي خطاب نثري     

  المثقف التوليفي.. الوضوح والشفافية ضرورية في أي خطاب نثري     

                                        

كتب: حواس محمود                                                                 

إن الأزمة الثقافية العربية الراهنة لا تقتصر على العوامل الموضوعية من بنى تحتية، وظروف اقتصادية وسياسية محلية وإقليمية ودولية فحسب وإنما – بنظري – تتركز أيضاً في جانب ذاتي هو المثقف نفسه، فلا ننكر أن هناك مثقفين في العالم العربي يشهد لهم بالباع الطويل، والجهد المثابر في الإنتاج الفكري الذي يتقاطع في تلويناته ومشاربه الإيديولوجية والفكرية المتعددة في ملامسة واقع معني مشخص، ويستخلص من هذا الواقع استنتاجاته المنطقية بنسبة كبيرة، ولكن نجد أن الساحة الثقافية العربية قد ابتليت وبخاصة في الفترة الأخيرة – التسعينات حتى الآن – بنوع من المثقفين يعتمدون على الجمع والكم لا النوع والكيف، وعلى التوليف والإعداد لا التأليف والإنتاج، وعلى السرد والوصف لا النقد والتحليل.

فتأتي نتاجاتهم جافة جامدة خاوية من الجمال الأسلوبي والمتعة الأدبية، وفائدة لمضمون واضح مفيد، وهذه الفئة من المثقفين همها الأوحد هو التمظهر والاستعراضية، وتبيان العضلات الثقافية، ويتحول دماغ المثقف “التوليفي” إلى خزان هائل من المعلومات الثقافية تتراكم هذه المعلومات وتتداخل في دماغه ولا يستطيع تهدئتها إلا بإفراغها في ورق أبيض ناصع ولو على عجل لأن المهم ليس دقة ورصانة النص المكتوب، وإنما كمية النتاج الذي أثمر بضغط معلوماتي تراكمي هائل، وهكذا دون قدرة هذا المثقف على إدخال الكم المعلوماتي في مصفاة النقد والتحليل والمحاكمة والمنطق للخروج منها بنتاج نوعي عميق ومتميز، يقول جون لوك (تصوروا جون لوك في زمانه): “إنه لمن المؤكد أن المعرفة كان من الممكن أن تصل إلى درجة أكبر من الرقي والتقدم لولا اصطدام محاولات العلماء المجدين بعادة سخيفة هي استعمال التعابير والمصطلحات غير المألوفة وغير المفهومة والمصطنعة التي زج بها في العلم وجعل منها فن قائم بذاته إلى درجة أن الفلسفة وهي المعرفة الحقيقية للأشياء أصبحت غير مقبولة ولا ملائمة للأحاديث والمجتمعات الراقية”.

ويقول أيضاً: “لقد حسب ولمدة طويلة بأن أشكال الكلام المهمة وسوء استعمال اللغة هما من خفايا العلوم، وبالتالي ظنوا أن الكلمات الصعبة أو ذات الاستخدام المغلوط وغير ذات المعنى يجب أن تكون دليلاً على الثقافة العميقة والسمو في التأمل، وهكذا أصبح من الصعب إقناع أولئك الذين يستعملون هذه الأساليب أو الذين يستمعون إليهم بأن هذا الغموض هو مجرد غطاء للجهل (1)”.

ومداخلة على قول لوك نقول: إذا كانت الكتابة التوليفية الغامضة المليئة بالمصطلحات الغربية غير مقبولة في أيام لوك، فكيف يمكن أن تكون مقبولة في أيامنا هذه؟ في ظل الموجة العولمية الهائلة والمحملة بالكم الكبير والهائل من المعلومات والإشارات والرموز التي تتطلب ذهناً متفتحاً واعياً قادراً على فرز الغث من السمي ، ونتساءل ألا تتعاضد الثقافة التوليفية مع الثقافة الإعلامية العولمية – إن جاز التعبير – في إبعاد المتلقي عن الاهتمام الثقافي الرصين الواعي والحصيف؟ ثم ألا تشكل الكتابة الغامضة التجميعية عاملاً مثبطاً لنهل الثقافة الجادة والملتزمة، وانزياحاً وهجرة من المستوى الثقافي إلى المستوى الإعلامي بسلبياته العديدة؟.

إن معظم الكتابات التوليفية تأتي جامدة هامدة غير ممتعة للقارئ الذي يحاول جاهداً فك طلاسمها ورموزها ومصطلحاتها – الجديدة عليه – والمتكاثرة بين سطر وآخر، ولكن دون جدوى، يقول – في هذا الصدد – الدكتور علي حرب – “فرب مقالة قصيرة تنطوي على جدة في الطرح والتناول، أو على صعيد الفهم وأداة المعرفة، في حين هناك كتب ودراسات مطولة هي مجرد تراكم لا تنطوي على جدة في التفكير أو إناء للمفهوم (2)” وإذا كان الغموض الزائد في الشعر مسألة غير مقبولة فكيف يمكن قبولها في المقالة والدراسة.

إن الوضوح والشفافية ضرورية في أي خطاب نثري خاصة، وإنه يتوجه إلى شريحة واسعة من المهتمين بالثقافة والمعرفة، وإذا كانت ذريعة المثقف التوليفي أن كتابته للنخبة لا للجمهور؛ فهذه ذريعة واهية وغير مبررة وغير منطقية لسبب بسيط وهو أن رجالات عديدة من النخبة الفكرية يكتبون بأسلوب غير توليفي أي بأسلوب تتحقق فيه المتعة والفائدة معاً، وهذا هو المطلوب.

الهوامش :

  • جون لوك – عصر التنوير – فلاسفة القرن الثالث عشر – ترجمة د . فؤاد شعبان – مراجعة ناظم الطحان – وزارة الثقافة السورية 1980 م .
  • علي حرب – أوهام النخبة أو نقد المثقف – بيروت – المركز الثقافي العربي – 1998 – ص 133 .

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة