إعداد/ د. سيف الدين عبد الفتاح
التاريخ ونظرية المؤامرة:
نظرية المؤامرة – عقلية المؤامرة – ذهنية المؤامرة – فكر المؤامرة- نفسية المؤامرة – نموذج المؤامرة – منهجية المؤامرة – التفكير بالمؤامرة – التفسير التآمري- المؤامرة العالمية أو الكبرى – المخططات السرية العالمية – الماسونية والحكومات الخفية، اليد الخفية، اليهودي العالمي – ما وراء الكواليس – عرائس في المسرح العالمي – أحجار على رقعة الشطرنج – لا تسأل كيف ولا من أين؟ – . وكثير من العبارات والعناوين التي يراد بها أن ثمة عقليات وذهنيات أو نفسيات وثقافات أو مناهج ونظريات تميل إلى تفسير الأحداث والوقائع في العالم ليس بأسبابها الظاهرة: المباشرة أو غير المباشرة، بل بأسباب خفية، وعمليات مستترة، وخطط استراتيجية ومحكمة تحت الأرض أو وراء الأستار، وهذا الميل يستغرق معظم تفسيراتها للوقائع والأوضاع إن لم يكن كلها.
هذه العقلية أو النفسية أو الطريقة في التفكير وجدت لها شواهد عبر التاريخ وعبر البقاع المختلفة من الأرض، وسادت في حقب وفي أمم ثم تراجعت ثم قد تعود لتنزوي ثانية وثالثة، ومن ثم فهي جديرة بالنظر والبحث لكشف أسبابها والظروف المساعدة على ولادتها ونموها واستقرارها واستفحالها أحيانا، وكيفيات تفاديها ومعالجتها.
وليس التاريخ الإسلامي –الذي هو على كل حال جزء من التاريخ الإنساني العام وإن كان له ما يميزه- ببعيد عن أن يناله ما نال الأمم من أعراض هذه العقلية أو النفسية، ولا يعني ذلك بحال أن ذلك كان بسبب من الإسلام نفسه أو أن الإسلام –معاذ الله تعالى- كان سببا أو بعض سبب في ذلك، أو أن فيه ما يسهل سلبية ما أو يكرسها أو يسمح بها أصلا. إن عدم فهم قواعد أو تعاليم هذا الدين حينا، وسوء هذا الفهم في أحايين أخرى، وغيبة تأثيره أو ضعفه. وما شابه مما شهده تاريخ المسلمين. كل ذلك هو الذي يمكن أن يسمح بتسلل السلبيات العقلية والنفسية إلى أبناء الحضارة الإسلامية، وبما قد يوهم بادي الرأي أن الحضارة الإسلامية كان فيها ما يسمح بهذا التسلل أو يقره، وبما قد يستغله مرضى العقول والقلوب في التشنيع بعد التأويل والإسقاط والتعميم بغير استقراء ولا حسن استنباط ولا احتراس علمي ولا توثيق كاف ولا احتجاج سليم.
من هنا تنبع أهمية الاحتراز في التعميم على تاريخ يصعب جدا استقراؤه استقراء لا أقول كاملا بل حتى استقراء عادلا أو كافيا، ولعل الأنسب في تصوري ألا نعنى بالتعميم على الواقع؛ إذ الوقائع –وهي وحدة بناء الواقع- لا تحصر، ولا نعنى بالخلوص إلى مقولات إطلاقية أو حتى تغليبية من قبيل: إن التاريخ الإسلامي غلب عليه كذا أو كذا.، أو إن التاريخ الإسلامي ساده وحكمه وهيمن عليه كذا أو كذا.، إنما غاية المراد والمتاح أن نرصد صورا للظاهرة محل الدراسة –إن وجدت- ونقف إزاءها بالتحليل والتفسير والاستفادة العلمية والعملية، وأن نقف كذلك على الصور المقابلة التي تلفظ هذه العقلية أو تلك النفسية الاستئمارية ونحاول كذلك أن نعمق التفكير فيها بالتحليل والتفسير ومحاولة الاستفادة العلمية والعملية منها.
نظرة عجلى إلى الميل العام للتاريخ الإسلامي من زاوية عقلية الاستئمار
لعل النظر العاجل للباحث في الوقائع المشهورة والمهمة في التاريخ الإسلامي سيما الأول منه يلمح إلى أمر طريف: أن التاريخ الإسلامي خاصة الأول منه “ضد-استئماري” بالأساس، وأنه إن وصف بالتطرف والمغالاة في هذه الضدية إلى درجة الغفلة أو التهور أو عدم الحنكة السياسية كان أقرب من أن يفترض فيه الميل الاستئماري.
ذلك أن ثلاثة من الخلفاء الراشدين الأربعة قد اغتيلوا على أيدي أعداء تبدت واضحة مؤشرات تربصهم بهم بل تحرشهم بهم من قبل أن تتم عمليات الاغتيال، إلا أن هذا الميل الذي قد يصفه البعض بالتوكلي أو غير المكترث بالأخطار دفع إلى مواقف وسياسات غير مبالية بمؤشرات الخطر ولا بسعي ما إلى الاعتصام من الشرور والمكائد. فعمر –رضى الله تعالى عنه- وهو قائد دولة كبيرة في حالة حروب متصلة لا حارس له ولا حجاب، وهذا الهرمزان الفارسي كان من قواد الفرس، وقد أسره المسلمون بتستر وأرسلوه إلى المدينة في خلافة عمر بن الخطاب، فلما رأى عمرَ سأل: أين حرسه وحجابه؟ قالوا: ليس له حارس ولا حاجب، ولا كاتب، ولا ديوان فقال: “ينبغي له أن يكون نبياً”، وقال قولته الشهيرة: حكمت فعدلت فأمنت فنمت. ثم وهو الذي يشكك في ولاء السبي الذين لا تزال تفجعهم هزائم بلادهم يطلب من الفارسي أبي لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة أن يصنع له رحى، فقال له: لأصنعن لك رحى يتحدث الناس بها، فأقبل عمر على من معه من الصحابة فقال: توعدني العبد. وفي روايات أخرى أن عمر فزع من رد أبي لؤلؤة وأن علي بن أبي طالب هو الذي فسر رد أبي لؤلؤة بأنه توعد بالقتل. (راجع فتح الباري وكنز العمال). ومثله عثمان يحاصر بيته وتكشف وتتحول النوايا السيئة ضده إلى مؤشرات واضحة منذرة بالغدر والانقلاب عليه فما يضطرب بل ما يأبه لها حتى تنتهي باغتياله، ثم علي في حالة حرب وقد كسر عدوا ذا شكيمة –هو الخوارج- ثم لا يحترز أن يخرج في الظلام لصلاة الفجر بلا حارس ولا حاجب ليلقى نفس مصير صاحبيه رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
لم يبدُ في عصر الراشدين –في حدود النظرة العجلى وما هو مشتهر- ما يمكن أن يحمل على أن ثمة عقلية متحكمة أو حتى غالبة أو ربما موجودة أصلا تميل إلى تفسير النكبات أو السيئات السياسية أو الاجتماعية بسبب أحادي أو أساسي يقع وراء الظاهر ويكمن في مخططات تحت أستار الظلام. حتى الفتنة التي اُحتمِل من بعد أن تكون أياد ذات أصول يهودية قد لعبت فيها دورا لم يظهر في هذا العصر ميل لتبني مثل هذا التفسير كما لم يبدُ عند المتأخرين من المؤرخين أو حتى القصاص ميل لإشاعة مثل هذه الفكرة، اللهم إلا في التعامل الحديث والمعاصر مع التاريخ والذي يبحث عن جذور تاريخية لما يصنعه اليهود أو غيرهم اليوم بعالم الإسلام من أفعال وسياسات تبدو لكثيرين منتظمة وكأنها معدة مسبقا ومطبوخة بين أكثر من طرف كما جرى في سان استيفانو وبرلين 1878 وفي بازل بسويسرا والاتفاق الودي ووعد بلفور وسايكس بيكو ومؤتمر فرساي 1919 وسان ريمو وسياسات الانتداب على البلاد العربية وبالأخص فلسطين، ثم السياسات الأمريكية المعلنة تجاه الشرق الأوسط منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية، هذا علاوة على عمليات التبشير والاستشراق ما ينشر من وثائق حول كل ذلك.
الحاصل أن الشواهد الشهيرة عن التاريخ الإسلامي المتقدم تكاد تخلو من الميل الاستئماري، سواء على المستوى الداخلي: التفسير الشعبي للفعل السياسي بالتآمر، أو التفسير السياسي للتحركات الشعبية تفسيرا تآمريا، وكذلك على المستوى الخارجي: أن الدولة الإسلامية الفتية والآخذة في الاتساع وكسب الأعداء إنما هي رهينة مخططات عدائية مستترة تتحالف فيها القوى المختلفة لإيقاف الصعود أو لاستئصال الشأفة.
ثم إن التاريخ ما بعد الراشدي –ولا زلنا ضمن النظرة العجلى والقريبة للمشتهر من الوقائع الكبرى والسياسية بالأخص- لم يبدُ أنه أصيب بهستيريا التفسير التآمري بالضرورة، على الرغم من أن الأحداث الصراعية قد زادت كثافة وحدّة، وتعددت الفرق المعارضة ومحاولات الانقلاب وإثارة القلاقل، إلا أن الميل الاستئماري بدا محدودا في مقتضيات المبارايات السياسية المعتادة من أخذ الحذر وتوقع السيئة من العدو الداخلي أو لاخارجي وتوقع خيانات ما أو “عمليات تآمرية جزئية ما”.
وهذه التوصيفة الأخيرة (عمليات جزئية) تبدو شديدة الأهمية من حيث الكشف عن حدود الميل الاستئماري في العقلية التاريخية المسلمة في العصرين الأموي والعباسي وعلى المستوى السياسي تحديدا؛ ذلك أنه لا يكاد يتأكد مؤشر على تحكم فكرة وجود مخطط عالمي تآمري يسيِّر الأمور وتخضع له الوقائع والنوازل، ولا أن بمكنة قوم -ما مهما خبثت نواياهم أو مكروا مكرهم أو بلغ كيدهم أو اتسعت إمكانياتهم- أن يقدروا الأقدار أو يسيروا الأحوال أو يحركوا القوى المختلفة ضمن مخطط محكم بالطريقة الحديثة التي تعرض بها ما تسمى بنظرية المؤامرة أو عقليتها أو نفسيتها، وأن “المؤامرة” السياسية في الداخل أو الخارج والتفسير بها تميزت بالجزئية لا الكلية، والجزئية ضمن عوامل أخرى لا الأحادية ولا الوحيدة، والجزئية لا الأساسية الجوهرية، والجزئية لا الدائمة، والجزئية لا العامة، والجزئية لا المهيمنة الغالبة.
والسؤال الآن: هل ثمة شواهد موثقة وواضحة في التاريخ الإسلامي (السني أو الشيعي، الخلافة أو الدويلات، في المشرق حتى بلاد ما وراء النهر أو في المغرب الأفريقي أو الأندلسي، وحتى العصر العثماني المملوكي الذي هيمن على قلب العالم العربي حتى قبيل غزوة بونابرت نهاية القرن الثامن عشر الميلادي وفي الربع الأول من القرن الثالث عشر الهجري) على التحول على عقلية أو نفسية أو نمط تفكير استئماري كلي أحادي جوهري مهيمن عام ودائم؟ أو هل تبدت درجات من هذه الخصائص تمكن من افتراض التباس المسلمين وتاريخهم بوصف التفكير الاستئماري؟ إن الجواب بنعم يكاد لا يتلمس سبيله إلا في ظلال ظاهرة “عقلية الوهن” التي يمكن أن تصف وتفسر حالات وقع فيها قطاع عريض من المسلمين وأحداث عدة من تاريخهم في الميل الاستئماري والتفسير بـ”الآخر المتآمر”، والتي يمكن أن تجد شواهد لها في التاريخ المتأخر والمتآخر: مكانا ومكانة، موقعا وموضعا.
إذا كانت الشواهد البارزة في التاريخ الإسلامي تشير إلى ضعف الميل الاستئماري بل احتمال كبير لغلبة الميل الـ”ضد-استئماري”، فالسؤال هو: كيف يمكن أن نفسر هذا الميل الإيجابي طويل المدى واسع المجال؟
لا شك أن طول مدى الظاهرة واتساع مجالها إلى هذا الحد يلزم غالبا أن يعود إلى عناصر أساسية ومحورية ومشتركة بقوة في التاريخ الإسلامي وعالم المسلمين، ولعل أبرزها يمكن أن يقع في العقيدة البسيطة والمجملة التي اجتمع عليها سائر المسلمين وبالأخص المتعلقة بالقدر والتقدير والقدرة الإلهية، والتعامل القرآني والنبوي مع الأعداء والمخاطر والنوازل وما أشبه حالات: المكر والكيد والتربص والتآمر، ومن عناصر تلك العقيدة المجملة التي استوى فيها الخواص والعوام “متصلات” عقلية ونفسية يقع على أحد طرفيها إيمان بالإحاطة الإلهية بكل شيء إطلاقا، وعلى الطرف الآخر سعي على أقصى ما تبلغه الطاقة البشرية، وفي المنتصف لا ارتياب ولا اضطراب ولا حرص زائد ولا خوف من غير ذي قدرة على إضرار حقيقي إلا بإذن الله تعالى، ومن أمثال ذلك مقولات وعبارات استقرت في النفسية والعقلية العامة عبر التاريخ الإسلامي نذكر منها:
لا يغني حذر من قدر. يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم.
لن يضروكم إلا أذى. ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة.
ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله. وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال.
إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا. فالذين كفروا هم المكيدون. وأملي لهم إن كيدي متين.
وإذا خلوا على شياطينهم قالوا إنا معكم. وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول.
وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين. . [وحذر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في هجرته إلى المدينة].
إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا فمهل الكافرين أمهلهم رويدا. . فكيدونِ جميعا ثم لا تنظرون. . ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين. وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين.
يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود. وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين. وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم. ومن ينكث فإنما ينكث على نفسه. يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم.
وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله. . استعن بالله ولا تعجز واحرص على ما ينفعك. واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك. . ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. واؤمن بالقدر خيره وشره.
إن هذه الجمل القصار من آيات أو أحاديث أو غيرها قد يكون ترسخها في الذهنية والنفسية العامة قد أورث حالة عامة من الدعة وعدم الاضطراب المرضي تجاه النوازل والملمات، وقد يكون المغالاة في فهمها والخروج بالمتصل عن أحد طرفيه أو كليهما قد أفضى –في حالات- إلى ميل استئماري يرد الملمة إلى غير أسبابها البينة أو في حالات أخرى أدى إلى ميل استغفالي يحتج بالأقدار الإلهية خطئا لتبرير سلبياته وأخطائه.
إن واقعية العقل المسلم واعتقاده بالصراع الطبيعي بين المتخالفين على الأرض ومسائل ظهور الأمر الديني على الدين كله. الخ، كل ذلك أسهم في عدم تفسير الهجمات الكبرى سواء الصليبي في القرنين الثاني عشر أو الثالث عشر في المشرق أو الرابع عشر والخامس عشر في المغرب أو الاجتياح المغولي في القرن الثالث عشر أو حركات الالتفاف والتطويق البحري الأوربية في القرون الخامس عشر وحتى الثامن عشر وحتى ما قبل الاستقهار الأوربي في القرن التاسع عشر والعشرين، بالتفسير التآمري بالمعنى الرائج. لقد فسرت النوازل والمصائب والنكسات والنكبات في كتب العلماء والمؤرخين بالتخلف العقدي والسلوكي الأخلاقي وبشيوع الظلم والتظالم والخيانات للأمانات وما إلى ذلك مما يتناول سلوك المسلمين أنفسهم لا غيرهم فلنتدبر ذلك جيدا؟
فمتى يمكن القول إن هذه الفكرة قد تسربت على العقل المسلم؟
لا يبدو ذلك واضحا إلا في العصر الحديث والتاريخ المعاصر، فلم؟
لعل هذا العل قد فقد العنصر الجوهري الذي حفظه عبر القرون: العقيدة المؤمنة بالإحاطة الإلهية، ثم التواصل مع التعاليم القرآنية الرنانة والممارسات النبوية والراشدة الراسخة في الذهنية العامة والتي ملؤها التوكل والتفويض وعدم التفكير فيما وراء الوسع والطاقة؟
لعل مبدأ المسألة المعاصرة في الميل إلى التفكير بالمؤامرة يكمن في تسرب أفكار: الهيمنة الإنسانية على الطبيعة ثم على الحياة ثم على سائر مجالاتها، تلك الهيمنة التي تولدت مع حالات الكشف “للطبيعة” باسم العلم الجديد والمنهج العلمي الحديث وعقائده ولاهوته الكامن، وما تولد عن ذلك من ثورة في عالم الأشياء والصناعة، ثم تصاعد مقام معان جوهرية ومركزية في العقلية الغربية والمتغربة لخصته منظومة مفاهيم أهمها: الصناعة، الإدارة، التخطيط، التنظيم، الكنترول والسيطرة، الدومينانس والدومين والسيادة (السوفرينيتي) المطلقة، ولااسترتيجية والتكتيكات، والسياسة اللعبة المباراة، والمطابخ السياسية والمعمل السياسي، والبرامج والخطط والمؤتمرات السرية والتحالفات السرية و. وعالم السياسة القذرة.
إنه الغرب والتغرب!!
ذلك هو سر التحول، فابحث عن نظرية المؤامرة وعقليتها ونفسيتها وبيئتها ونمط تفكيرها وتفسيرها وتبريرها.هناك لا هنا، وفي هذا التاريخ لا في ذاك.
لكن السؤال الآن: ما هذه العناوين الإسلامية والعربية التي تتحدث عن المؤامرة على الإسلام والأمة العربية والمسلمة؟ مؤامرات الاستعمار والصهيونية والصليبية الجديدة؟ والمؤامرة الأمرييكة لبناء الامبراطورية.؟ الخ؟
هذا هو السؤال المهم والمفيد: والجواب إن التفكير بالمؤامرة ناتج عن اقتراب المسافات بين المتقاربين (الحلفاء والقابلين للتحالف: كالتحالف الدولي الراهن ضد .) وكذلك فيما بين المتنافسين والمتنازعين والمتصارعين، بما يسر الهمس والاتفاق السري وما شابه. ثم انغراس فكرة التخطيط المستقبلي في السياسات الداخلية والخارجية نتيجة سيطرة مفاهيم ومناهج السياسة والإدارة التي نبتت في البيئة المادية الغربية. ثالثا- غلبة الروح المادية على معظم العاملين بالسياسة حتى المتدينين منهم والإسلاميين أيضا، فهم يخططون وغيرهم بالتأكيد يخطط وكل يسمي ذلك تآمرا ويفكر فيه تفسير وتبريرا وتحذيرا، وليس ذلك بالضرورة سلبيا كله أو إيجابيا كله، بل هو على القبول لهما حسب الظروف والشروط وجودا وعدما.
المعرفة والتاريخ والسلطة: قراءة في لحظات من التاريخ بين توظيف المؤامرة والتحليل الاستراتيجي:
لحظات في التاريخ بين توظيف المؤامرة والتحليل الاستراتيجي
“الفتنة” حالة موضوعية تحمل عناصر رؤية استراتيجية لحدوثها لأسباب وسنن توفرت فحدثت الفتنة وتطورت وقائعها.
“الفتنة” عملية مؤامراتية تشير إلى شخصية تمحورت حولها الأحداث فأنتجت مؤامرة كبرى تطورت إلى فتنة كبرى.
المؤامرة عملية وحالة مؤسسية استطاعت أن تستغل الظرف الموضوعي الذي يشكل قابليات الفتنة، وهو أمر مثّل تحديًا بكل المعايير، ومثلت أدواته في استدعاء الأحداث وتراكمها ضمن تخطيط من طرف، بينما الطرف الآخر لم يكن يملك إطار استراتيجيًا للحركة أو إدارة الأزمة ومن ثم تحركت الفتنة وتراكمت واستحكمت.
دور عبد الله بن سبأ في الفتنة:
دراسة الفتنة إذن يمكن النظر إليها بين تصورين:
التصور المؤامرتي فإنه يقوم على قاعدة من قدرة الفرد الخارقة في تشكيل الأحداث والتأثير عليها، وفيها (عبد الله بن سبأ) شخصية محورية يدور حولها ذلك التفسير في هذا المقام.
الأمر الثاني يتعلق بيهودية عبد الله بن سبأ؛ وهو يعطي في إطار الفكر التبريري نظرة لتفسير: لماذا تآمر عبد الله بن سبأ على الخبرة الإسلامية في أوائل سنواتها؟ ذلك أن يهودية عبد الله بن سبأ تشكل -وفق هذا التفكير- مسوغًا للقيام بالكيد للإسلام والمسلمين، وغالبًا الكتابات التاريخية في هذا المقام قد تتحدث عن أن ابن سبأ يهودي أظهر إسلامه ثم اندس ليخطط للفتنة.
ويبدو ذلك التفسير لدى أصحاب هذا الاتجاه تفسيرًا منطقيًا خاصة أنه يعفى الصحابة وأدوارهم في مسألة الفتنة ينسب الأدوار لبعد مؤامراتي.
إلا أن هذا التفسير لا ينهض بأي حال على قواعد ثابتة؛ حيث إنه في حقيقة الأمر يمكن أن يتخذ من البعض بأن ذلك الفرد -والصحابة ذوو عهد قريب من النبوة وفي عهد الخلافة الراشدة- استطاع أن يهدم ذلك النموذج بتفاعلاته وعلاقته وأنساقه القيمية.
وقد يصور من حيث لا يدري غفلة بعض الصحابة في هذا المقام واستغلال عبد الله بن سبأ لكثير من تصرفاتهم ليوجه الأحداث في طريق الفتنة لا طريق التماسك، وغاية الأمر إن الفتنة قد شكلت هاجسًا لا يمكن إنكاره في التراث الإسلامي وفي تاريخ المسلمين إلا أن بروز هذا النموذج السلبي في الفترة الأولى في صدر الإسلام وعهد الخلافة الراشدة إنما يعبر في إطار الفهم الاستراتيجي والسنني أن الظرف الموضوعي كان له من الآثار المباشرة وغير المباشرة في بناء أحداث الفتنة كنموذج سلبي في التعامل عقب جملة من النماذج الإيجابية في عهد الخلافة الراشدة.
* إن حجم الإشاعات -على سبيل المثال- وتراكمها فضلاً عن الملاحظات التي يمكن أن يدلي بها هنا أو هناك على نمط ممارسة السلطة وترك ذلك من دون مواجهة حقيقية إنما يؤدي إلى واحد من أهم قابليات الفتنة.
* إن بروز واستدعاء بعض التعاملات التي تسفر عن القبلية القبيحة في التعامل السياسي يمكن أن يشكل مدخلاً.
* إن تراكمات الأخطاء الاستراتيجية من جانب أطراف متعددة في حادثة الفتنة إنما يعبر عن ضرورة معالجة هذا الحدث في إطار العقول السياسية الفاعلة فيها والقابليات الممهدة لها والأسباب الفاعلة منها والمآلات التي آلت إليها تلك الفاعليات والمواقف المختلفة، والآليات التي استخدمت في تأجيج حوادث الفتنة واستمراريتها.
هذه الرؤية السننية هي التي يجب أن نتوقف عندها في هذا المقام لنعبر بذلك عن رؤية سننية استراتيجية في مواجهة رؤية مؤامرتية فردية ذات مصادر وتعامل تقليدي في هذا المقام.
أما المحطة الثانية التي تتوقف عندها فهي محطة المحنة.
المحنة حالة موضوعية حملت رؤية استراتيجية، جعلت من المحنة عملاً تاريخيًا استند إلى السياقات التاريخية في تطور أحداثها وتراكم وقائعها.
المحنة تأسيس لتواطؤ بين السلطان وعلماء السلطان في إطار حركة سياسية امتحانية شكلت تحديًا يشير إلى أهمية الفطنة إلى التعاون السلبي بين السلطان وعلماء السلطان في مواجهة المجتمع، وهو أمر يمثل تحديًا حضاريًا واستراتيجيًا مبكرًا، من المهم أن يتطلب عملية تقويم الحركة المتعلقة بالفعل الحضاري الممتد.
وغاية الأمر في تصور هذا الحدث ما قد يطلقه البعض من مسئولية فيه وكذلك يمثل لامعرفة في هذا المقام (جانب الفقهاء – مدرسة الاعتزال) المسئولية الكاملة عن هذا الحدث مهلاً عنصرًا غاية في الأهمية يتعلق بحجم التحالف السلبي الذي قد يكون بين معرفة توظف لمصلحة السلطة وسلطة توظف لفرض معرفة.هذه الرؤية التي تتعلق بعناصر التحالف بين الجهتين إنما يشكل حالة من تبادل المصالح بين السلطان والمعرفة. وهو أمر أنتج في تراث المسلمين ظاهرة فقهاء السلطان، وفي السياق المعاصر أنتج ظاهرة دكاترة السلطان.
إن وقائع المحنة لتؤكد في هذا الاعتبار أن جناحًا من المعتزلة مثله بن دؤاد قد انضم إلى السلطان وأن تيارًا لا بأس به من مدرسة الاعتزال كان يعترض على بن دؤاد وتولية وعلى المحنة التي قاد إجراءاتها في هذا المقام.
إن هذه الرؤية الاستراتيجية للعلاقة بين المعرفة والسلطان والسنن الحاكمة لهذه العلاقة إنما تشكل بعدًا يجب أن لا نغفل عنه في تفسير هذه المحنة التاريخية التي تجد أصولها في فكر التغلب واستدراج الفقهاء في ورطة أدى بهم ذلك إلى القول بجوار التغلب على سبيل الاستثناء فإذا به بعد ذلك يتحول إلى قاعدة ومواضعة مسكوت عنها وفيها وعليها يطول بنا المقام لو أردنا أن نحلل فكرة تغلب في هذا السياق وتعلقه بعلاقة غير سوية بين السلطان والفقيه إلا أن الأمر لا يزال في حاجة إلى دراسة متأنية لأنماط التعامل والعلاقة بين العالم والسلطان.
فالأمر لا يقتصر على فرد زين أو حاكم قبل ولكن الأمر أبعد من ذلك يتمثل في مخالفة غير برئية بين سلطان القوة وسلطان الحجة والمعرفة. وحينما يستخدم سلطان الحجة والمعرفة في خدمة سلطان القوة فإن ذلك يعني غطًا من التحالف غير سوي يأتي بالسبيات على مجمل العلاقة السياسية بين الحاكم والمحكوم.
إلا أن هذه الحالة السابقة لا يمكن الوقوف عندها من دون التحرك صوب النموذج الفرعوني وهو نموذج مركب قوم على قاعدة من علاقة فرعونية استبدادية (فاستخف قومه فأطاعوه) إنه يحمل في هذا السياق مؤامرات متداخلة.
المؤامرة الأولى هي مؤامرة أبو العريف(*) تلك التي تقوم على قاعدة من تقدير الذات بأعلى من مقامها وذلك في حالة معرفية يقوم فيها صاحب السلطة بالاستيلاء على المعرفة (إن أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) ادعاء المعرفة المطلقة وادعاء الصواب لمطلق عمليات تشير بناءً فرعوني يقوم على قصة التوجهات الحكمية وعلى استخفاف من صاحب السلطة لعقول تابعية صناعة الرض الكاذب (المؤامرة اصطناع الأزمات من قبل النظم السياسية لأحداث حالة من التعبئة العامة).
أما المؤامرة التي تتضافر مع هذا المعنى فإنها مؤامرة الصمت والتي تشكل بأطرافها قابليات مهمة لعناصر صناعة الاستبداد حتى تشكل حالة من حالات اغتصاب السكوت أو فرض السكوت مؤامرة الصمت هنا تتداخل لتنتج حالة ثالثة تتعلق بمؤامرات التواطؤ والعجز بحيث تؤدي في النهاية إلى تؤاطو على الطاعة من غير مصوغ أو من غير حجة إنها الطاعة العمياء والعبودية المختارة وفي هذا المقام تقام أركان هذه لمؤامرة على أسس من علاقة نماذجية ترتبط بعلاقة السيد بالعبد في أطر كلها قد تتشكل في حالة توزيع للأدوار متفق عليه وإن شئت الدقة متعارف عليه.
هذه الصياغة الفرعونية الاستبدادية تتحرك في إطار شروط من الاستخفاف ومؤامرة تتعلق بعقلية العبيد، هذه الرؤية النماذجية يمكن أن نربطها بإطار رؤية سننية تتحكم في صياغة هذا النموذج الاستبدادي الفرعوني في علاقاته ومؤسساتهه وقدراته وتأثيراته وآلياته.
وفي كل الأحوال فإننا ضمن هذه اللحظات التاريخية والنماذج التاريخية في آن واحد إنما نتحدث عن رؤية للتاريخ تقوم على قاعدة أن المؤامرة لا تكون فقط من الخارج بل قد تكون مؤامرة على الذات، والمؤامرة لا تدبر بليل ولكنها عناصر إحكام واستحكام والمؤامرة، والمؤامرة لا تكون سرًا فقد تكون من العلانية إذا ما صار القول في قوته والضعيف في هو أنه إلا أن يخلق حالة من الاستخفاف والاستهانة فيحكم قواعد وعناصر تلك الحلقة الفرعونية وحبك مؤامراتها.
التاريخ ونظرة المؤامرة:
سقوط الدول في تاريخ المسلمين مؤامرة أم عجز ووهن؟
لقد ظهر التاريخ الإسلامي من خلال هذا التركيز وكأنه تاريخ أسطوري وكأن الذين عاشوه وأسهموا في صنعه ملائكة وليسوا بشرًا. ولقد كان هذا المنهج في التناول خطيرًا من عدة وجوه:
أولاً- لأنه ترك مهمة التحليل العلمي للتاريخ الإسلامي -باعتباره تاريخ بشر لهم مزايا وغرائز– لأعداء هذا التاريخ، فراحوا يركزون على الجوانب السلبية في هذا التاريخ، وصادف هذا هوى من بعض العقليات التي كانت تسأم التركيز على الماضي بهذه الصورة غير الموضوعية، وبالتالي انساقت هذه العقليات وراء جماعة المستشرقين الذين يدرسون التاريخ الإسلامي. من نقطة الانطلاق المحددة؛ وهي تشويه هذا التاريخ وأصحاب هذا التاريخ.
وثانيًا- وفي غمرة الانبهار العقلي بالمناهج الاستشراقية وبحكم رد الفعل ضاعت حقائق موضوعية تتصل بهذا التاريخ، وانقسم الناس حول هذا التاريخ قسمين: قسما يرفضه بالجملة ويراه عقبة في طريق التقدم والمستقبل، وقسما آخر يراه كل شيء ويراه من جانبه العالي الإيجابي هو النموذج الحرفي الذي يجب إعادته وتكرار خطه.
وبين طرفي النقيض. يمكن أن توجد الحقيقة ويمكن أيضًا أن تسقط الحقيقة!
ثالثًا- لقد صرفنا منهج التركيز على المدح عن الاستفادة الحقيقية من التاريخ الإسلامي، ولعل بعض الناس قد وقر فى أذهانهم بفعل هذا التركيز أن ما يعانيه التاريخ الإسلامي من مشكلات حضارية ومن تحديات مصيرية هو نموذج لم يتكرر في التاريخ اللإسلامي؛ ومن فهناك يأس شديد: لم يعد مع المسلمين ما يمكن أن يعطوه للحياة بل هم يطلبون الدواء من العدو.
إن تجربة التاريخ الإسلامي تكشف عن حركة التاريخ في دائرة الحضارات الكبرى الجامعة كالحضارة الإسلامية، فهي حركة دورية تنتظمها مراحل الهبوط والصعود: الهبوط بفعل التناحر والفساد الداخليين، والصعود بفعل الاستجابة لتحديات خارجية قوية.
ومن الملفت للنظر أن مراحل الهبوط –في التجربة التاريخية لهذه الأمة- قد ارتبطت بأوضاع داخلية فهذه الأمة لم تخرب من خارجها بقدر ما خربت من داخلها، بل إن الأعداء الخارجيين لم ينفذوا إليها إلا من خلال السوس الذي ينخر فيها من الداخل.
لقد كانت الأمة المسلمة قادرة بما فيها من عناصر القوة الكامنة على الاستجابة للتحديات الخارجية كأروع ما تكون الاستجابة للتحديات، ولو لم ترهق هذه الأمة –في أغلب مراحل تاريخها- بحكام يشلون حركتها ويخنعون أمام أعدائها ويبددون من طاقتها حفاظًا على أنفسهم. لو لم تكن هذه الظاهرة مستشرية على هذا النحو، ولو أن هذه الأمة قد تركت لفطرتها وتراثها وقيمها وحضارتها التي غرسها ورعاها الإسلام. لو تم هذا لكان في الإمكان أن تحدث انعطافات كثيرة في تاريخ هذه الأمة هي لصالحها ولحساب رقيها وازدهارها.
تمويه الكلمات المعبرة عن الأمة وذاكرتها التاريخية هل هذا مؤامرة عليها؟
كيف أن كلمة “مؤامرة” صارت تستخدم في سياقات أخرى مثل كلمة “التخطيط، الدراسات المستقبلية، سيناريوهات المستقبل، تحقيق المصالح الاستراتيجية، التخطيط للسياسة الخارجية، نماذج المحاكاة” لتسويع المعاني التي كان يطلق عليها قديمًا “بالمؤامرة” دون اعتبار ذلك من أشكال المؤامرة في هذا السياق؟
هذه الكلمات رغم ما توحي به من مسائل علمية أو منهجية فإنها لا تزال تشير إلى عمليات يجب التوقف عندها.
ومن هذا الباب تقع جملة الكلمات تتحكم بها عناصر “القوة”؛ كحالة من النص بالكلمات وتحويل معاينها، والتأثير بها في حروب الكلمات وعمليات الغزو المعنوي والحضاري (الاستعمار – الإرهاب. إلخ). كلمات مظلومة في هذا المقام. كلمات تشير إلى معان بعينها قد تكون حسنة أو لها من الآثار الإيجابية ما لها، فإذا بها تدخل عليها معان وحمولة سلبية تجعل من استخدامها وكأنه عمل إما ألا يوحي بمنهجية، أو ينقلها إلى معان أخرى.
كلمة “المؤامرة” في أصلها كانت تطلق على معاني الاستشارة والمشورة، والائتمار إنما تعني المشاورة، أما معاني الخداع والكيد فهي معاني زائدة بحمولتها السلبية والتي تعني معاني (التآمر على.).
واكتملت حلقة “المؤامرة” في عملية الاستخدام متجاوزة حالة من “الوضع” ومستندة إلى حالة من “التداول”، صارت فيه المؤامرة معنى اتهاميًا سواء ممن يثبتها أو من ينفيها.
ذاكرة الكلمات والسياق المحيط بها، وعلم تاريخها عملية مهمة في عالم المفاهيم لا يمكن إهماله ونحن بصدد الحديث عن التاريخ والمؤامرة.
دراسات الشخصية العربية: محاولات التنميط كمدخل من مداخل التفكير المؤامراتي وحوادث التاريخية:
من الأهمية بمكان أن نحلل هذا الأمر مرتبطًا بتساءل غاية في الأهمية يقول: لماذا شاع في التفكير العربي الاتهام بالمؤامرة إلى الحد الذي جعل البعض يعدة قسمة من قسمات هذا العقل وأنماط تفكيره دون أن يعي حقائق السننية الكامنة خلفه؟ ذلك أن معظم هؤلاء المؤرخين والمنظرين في كثير من التحليلات التي صدرت عن خصائص الشخصية العربية سواءً أكانت بتأليف غربي أو عربي تضفي عليها آفاق الانحطاط الراهن للإنسان العربي وشخصيته المنهزمة وواقع أزمته، وقد جاءت هذه الدراسات في معظمها ضمن ملابسات الهزائم العربية المستمرة في وجه إسرائيل، كما أن بعضها قد جاء في إطار الثورة على التخلف الاجتماعي والفكري.
وهو أمر جعل ذلك الخطاب يتخذ أسلوبًا لنقد الذات يصل إلى الحد الذي يرمي ذلك العقل بنوعية من الأوصاف السلبية الأبدية، تصل إلى حد “جلد الذات” الذي يخرج عن إطار النقد الذاتي الدافع إلى تقويم أنماط التفكير والتدبير والتغيير.
وبدا لهؤلاء أن يتحدثوا من خلال الاتهام بالمؤامرة عن نمط تفكير لا يحسن تفسير الأمور إلا على هذا النحو ووفق هذا المسار.
والفارق بين الدراسات العربية وغير العربية في هذا المجال مع تبادلهما النظريات والتحليلات هو أن معظم الدراسات العربية تنطلق من تشخيص الموجود والارتداد به إلى مسبباته في التكوين التاريخي، أما الدراسات الغربية والإسرائيلية فتأتي ضمن محاولات هدم العربي من الداخل وتكريس ذاتية العجز النظري في تكوينه، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لم تستوعب معظم هذه الدراسات التاريخ العربي والإسلامي استيعابًا صحيحًا: فهي من جانب تغافلت عن الجهد الحضاري الذي بذل في المراحل السابقة ولم تعطه وزنه التاريخي الحقيقي، ثم تغافلت أيضًا عن الإطار التاريخي لذلك الجهد والكيفية التي تطور ضمنها. وتستند كل هذه النظريات في تحليلها للتاريخ العربي الإسلامي على بداية خاطئة؛ فهي في محاسبتها للعربي المسلم على عدم التواصل الحضاري بالطريقة التي داخلت بها أوروبا مثلاً مع توافر الإمكانيات لذلك.، لم تفهم منذ البدء علاقة العربي بالعوامل الدافعة والمتحركة لتكوينه تاريخيًا. كما أنها تهمل كيف اقتحم العربي المسلم المجال الحضاري العالمي بأقصى ما أعطته مرحلة التحول القرآني في ربع قرن من مزايا سلوكية وحضارية جديدة.
غاية القول إن هذه الدراسات التي حاولت تفسير التخلف بتمثل العوامل السلبية في تكوينها العربي ومقارنتها بإيجابيات شعوب أخرى متقدمة أو تقدمت بعد تخلف، قد انطلقت من تبين أسباب انحدار الإنسان العربي عبر تحليلها ومرافقتها لأزماته المختلفة ولم تعمد قط إلى مقارنة ذلك بتبين أسباب وكوامن صعود الإنسان العربي نفسها؛ أي من قبل أن يبتدئ في التدافع والانحدار وذلك بوصفه شرطا علميا لفهم التجربة كاملة في إطار وحدتها العضوية التاريخية وتحديد (جدليتها)؛ وبالتالي تفهم آفاقها التحويلية. لذلك لم تدرج هذه الدراسات تجربة الصعود العربي في مقابل تجربة الانحدار ضمن معادلاتها في محاولات (بعث) الشخصية العربية فانتهت بالضرورة -ونتيجة لهذا الفراغ- إلى تقديم بدائل عامة هي من جملة ما يطرح عادة على نطاق المجتمعات المتخلفة في العالم الثالث دون أن يكون لماضي هذه الأمة الذي يؤثر في بناء حاضرها أي خصوصية تميز أوضاعها التاريخية على ما سواها.
إنه ليتحتم منهجيًا وعلميًا على أي منظر لحركة التاريخ في سبيل الوصول إلى منطلقات التحرك التاريخي للشعوب أن يحيط بحركة الأمة ضمن وحدتها العضوية التاريخية،. إذا لا يمكن بحث الانحدار السريع دون ربطه بذلك الصعود السريع جدًا.
المدخل السنني وأنماط التفكير:-
السنن وفق هذا التحليل قانون الله العادل في الخلق، المؤثر في حياة الناس لا يحابي أحدًا، فالأمم تدور مع فعلها الحضاري إن سلبًا وإن إيجابًا، إن قوة وتمكينا وإن وهنا وهوانا، فبمقدار فعلها ووعيها وتفاعلها وتفعليها للسنن بمقدار ما تعطيها السنن من نتائج تتناسب والفعل الحضاري ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ إن في الآخرة وفي سابقتها في الدنيا.
السنن وفق هذه المعاني جميعًا عملية تربوية تعليمية وتدريبية وتحصيلية، إن من أهم عناصر العملية التربوية في ساحات الفعل الحضاري هي التربية بالسنن، وهو أمر يستحق دراسة مستقلة، السنن كعملية معرفية وحركية ترتبط بعناصر فقه قضية السببية في أصولها وجوهرها، ذلك أن العامل الأساسي والتأسيسي في البناء الحضاري. هو فقه سنن الله في الحياة والتزامها منهجًا وشريعة في حياة الناس، وتواصل النتائج بالمقدمات بما يحقق عناصر الفاعلية الحضارية بالتزام سنن الوجود ولا مبدل لأمر الله ولا مغير لحكمه، والعلم بالسنن حقيقة تنصرف إلى الوعي بأسبابها الذي هو شرط للتفاعل بالنسبة ومعها، أما الجهل بها أو التقصير في التعامل مع عالم أسبابها لا يمنع إجراء السنن أو يوقفها أو يعطلها بمعنى النفاذ.
والسنن بهذا الاعتبار هي من كليات أصول الفقه الحضاري، والذي يجعلها من أهم أبوابه لفهم الأفعال الحضارية والمنتجة لعلاقات متعددة، على تنوع تلك الأفعال وتعدد تلك العلاقات وتداخلها وتفاعلها.
والسنن من حيث مجالاتها التي تتعلق “بالفعل الحضاري”، فهي تشكل أحكامًا كلية تتحرك صوب إفعل ولا تفعل، ولكن في الفعل الممتد المتراكم، فإذا كان الفقه يهتم بالأفعال الإنسانية الجزئية، فإن السنة تهتم بالأفعال الإنسانية الكلية الممتدة، وتظل العلاقة التراكمية، والتدرجية بين الفعل الجزئي والفعل الحضاري الممتد أكيدة تتطلب مزيدًا من البحث والتقصي.
إن السنن تتعلق بالتحريك بالفعل الحضاري بكل التفاعلات فيها بين الساحة الحضارية الممتدة لتشمل الآفاق الكونية، والإنسان الفرد بكل دخائله النفسية والسلوك المترتب عليها، والاجتماع والجماعة والمجتمع بما يمثله من مواقف ورؤى وممارسات، والتاريخ بما يمثله من ذاكرة للفعل الحضاري وامتداده لتحقيق معاني بالحدث، والاعتبار في الحركة، والعبور نحو عناصر الفاعلية والتمكين.
إن الإنسان يستطيع، في حال قوته أن يتفاعل مع هذه السنن فيستثمر كل مكوناتها، بحيث يحدث فعلاً حضاريًا إيجابيًا، أما المسلم الواهن فيقف من هذه السنن مواقف متعددة هي في حملتها مواقف سلبية لا تحقق الفعل الحضاري الإيجابي.
ويوضح هذه المواقف السلبية للتعامل مع السنن الإلهية، إن المسلم المعاصر يجهل فعل السنن أحيانًا، وفي أحيان أخرى يغفل عن أثرها، وفي موقف ثالث يتعامل معها بضعف فلا تعطي له وفي موقف رابع يزيف هذه السنن.
ويأتي تزييف السنن عندما يزيف الإنسان فهمه لها، يحدث ذلك في تعامله مع منتجات الحضارة المعاصرة حيث يتبنى فهما للسنن يؤدي به إلى الركون إلى استهلاك منتجات الحضارة لا إنتاجها، فيقول مثلاً: إن الله تعالى قد سخر لنا الغرب بتقنياته وعالم اشيائه فهو ينتج ونحن نستهلك هذا الانتاج، وهذا الفهم بالطبع لا يمت بأي صلة لسنة التسخير التي تعبر عن التفاعل الخلاق مع الطبيعة لانتاج الحضارة أو التفاعل مع الجانب الحي منها.
فكل المجالات الحضارية وحركات الفعل الحضاري خاضعة لحقائق السنن وفعلها.
وللسنن جملة من الأهداف أهمها الهدف التربوي والتعلمي.
والسنن في دراستها في دراستها لابد من البحث عن:
منظومة السنن (العلاقات المختلفة).
قدرات السنن (التفعيل الوعي والسعي).
مجالات السنن وفعلها (كل ما يستوعب عناصر الفعل الحضاري والقابلة للتفسير والتحليل والتقويم).
السنن ترتبط أيضًا بالأصناف البشرية والنماذج، وأنماط التفكير، ومناهج التغيير والبحث في هذه السياقات إنما يعني البحث في استقرائها للعوالم المختلفة وباعتبارها مجالات ذات أهمية ضمن التعامل البحثي (عالم الأفكار- الأشخاص- والأهداف).
السنن تقوم بدور تفسيري ضمن حقائق التباين في المستوى الحضاري، كما أنها توضح الأصول الدافعة لعملية الحراك الحضاري (سنة التداول)، بل إن الحراك هنا ليس إلا سنة في غاية الأهمية زمن الواجب الوقوف عند حدودها ودراسة متغيراتها، والبحث في مآلاتها وآثارها.
السنن عملية منهجية تحرك كل عناصر التفكير المنهجي المنظم في الأمور والأحداث، وهي تضاد عناصر أخرى مختلفة تحاول أن توهم على السنن وتعطل فعاليتها:
* الصدفة تفريغ للمفهوم السنني وقدراته وتوجيهاته العلمية والمنهجية.
* العبثية حركة تضاد مفهوم السنن، وتحيل العالم إلى تفسير عبثي.
* العدمية.
* الفوضوية.
* السنن ضد الحتميات الجبرية فهي لا تنافي عناصر الإرادة أو حركة الاختيار الإنساني.
* الأسطورية والخرافة ضد التفسير والتفكير السنني والتفكير بهما، وهما ليسا من العلم النافع، ولكنها ليست ضد الغيب الذي يحدد مساحة القصور الإنساني والتي تقع فيها دائرة قابلة للكشف، والإكتشاف الإنساني في حركة سننية لابد من اعتبارها، الغيب كمفهوم ليس ضد السنن، بل هو حافز لها خاصة في جانب تحصيل الوعي والسعي.
* السنن ضد التفسير التجزيئي أو التفسيخي أو التشطيري أو الواحدي.
– المنظور الحضاري يجعل من السنن أهم مباحثه الكبرى التي تسهم في فهم كل القضايا المتعلقة بالحضارة أو التابعة لها: البناء الحضاري، البنية الحضارية، المسيرة الحضارية، القيم الحضارية، الدفع والتدافع الحضاري، التحدي الحضاري، الابتلاء الحضاري، التداول والحراك الحضاريين، الفساد الحضاري والترف العمراني، الطغيان والاستكبار الحضاري، الصراط الحضاري، العاقبة الحضارية، الدورة التاريخية، والتعاقب الحضاري، الفاعلية الحضارية، الإبدال الحضاري، وشروط الاستبدال، التمكين الحضاري، الحركة الحضارية، العقل الحضاري السلبي والإيجابي، العمارة الحضارية، الاستخلاف الحضاري والإنساني، التداول الحضاري والانهيار الحضاري، الإخفاق الحضاري، عناصر التجدد الحضاري، والقدرات الحضارية، الرموز الحضارية، الاستيعاب الحضاري، التواصل الحضاري، الحوار الحضاري، التأسيس الحضاري، الصراع الحضاري، صدام الحضارات، الحضارة الغالبة، الحضارة المنتصرة.إلخ.
والسنن التحذيرية هنا هي في مقام السنن التي تقوم بجملة من الوظائف المتساندة والمتكافلة: – فهي سنن مبيّنة، وأيضًا فهي سنن معرَّفة، وسنن كاشفة لعناصر الذات الإنسانية، وسنن مرشدة إلى عناصر الفعل الإيجابي ضمن منظومة من الأفعال (ما ينبغي عمله)، كما أنها تلفت النظر إلى جملة السنة الدالة على إمكانات الانحراف وقابلياته.
– وضمن هذا السياق فإن السنن وضمن عناصر الحالات والعلاقات وتراكم الأفعال ضمن طريق معين يأتي ثباته في إطار “الجزاء من جنس العمل”، ولكن يظل هناك فرصة ضمن سنة التغيير إلى تغيير الفعل فيتغير الجزاء، إلا أن الواقع أن منطوق القاعدة لا يزال ساريًا، ولكن في قاعدة سنة التغيير، ومن ثم علينا دائمًا أن نرى السنن ضمن أفعالها ونتائجها ضمن منظومة من العلاقات بالسنن الأخرى (السنن المنظومة ومنظومة السنن).
والسنن ترتبط بالأفعال الحضارية سلبية كانت أم إيجابية:
سنن التحذير، سنن التأصيل، سنن التحريك، سنن التفعيل، سنن التشغيل، وفي هذا السياق إن جملة هذه العمليات، تؤصل عناصر الفعل الحضاري ومكناته، إنها تحاول ترتيب عناصر الفعل ضمن حركات متتابعة بحيث يرتبط منها ما يرتبط بمناهج التفكير، وبعضها يرتبط بأصول عمليات التغيير والتأصيل والتسيير والتدبير والتأثير والتمكين.
– قد يتصور البعض أن السنن حينما لا تؤتي أكلها من خلال التقصير الإنساني، فإن ذلك إنما يعود إلى السنن وعملية (الثبات والتغير)، فإن معرفة جهة الثبات في السنن مهمة، وكذلك معرفة جوانب التغيير، ومعرفة أهم العوامل الحاجبة للتفاعل مع السنن مثل تغييب السنن أو تزييف السنن أو التعويل على أشباه السنن، وغير ذلك من أمور قد لا تجعل الإنسان في تمام تفاعله مع السنة أو تمام إدراكه لأصول الوعي بها.
إن هذه الأطر الحاجبة يمكن أن نسميها آفات السنن، وهي غير الضغوط الحضارية التي من الممكن تحويلها، آفات السنن والعبوديات المختلفة، تترك آثارها في حجب الوعي والسعي بالسنن.
– أن الظواهر التي تحكمها السنن يجب ألا تختلط بالسنن يجب ألا تختلط بالسنن أو فعلها، وهذه من الأمور المنهجية التي نعتبرها غاية في الأهمية ضمن التعرف على السنن والفعل المتعلق بها ونتائجها، (الظواهر السننية) غير السنن.
– “قل كل يعمل على شاكلته”، إن هذه الأطر السننية، إنما هي تعبير عن السياقات السننية والتي تشير إلى أصول ومنهج للتفكير، فيما يحدث ويتراكم من أفعال حضارية إيجابية أو سلبية، يكمل هذا السياق “قل: هو من عند أنفسكم” إنه لفت للنظر إلى منهجية تحليل وتفسير وتقويم لعناصر الفعل الإنساني الحضاري، ويشير إلى مناطق بحثية يجب التوجه إليها، وتحكم عناصر الصلة بين الداخل والخارج، والذات والغير.
– سنن القابليات هي هم السنن التي يجب أن تظل في نسق تفكير لإنسان، إنها تحرك عناصر تفكير يبحث في القابليات قبل عناصر التأثير، والتي تعطي الأصول لبقاء جملة التأثيرات أو الأفعال غير المرغوبة، والتي تؤثر سلبيًا على الفعل الحضاري الإيجابي فتشله أو تحوله أو تعوقه، أو تؤثر جملة على الكيان الحضاري ذاته فتصيبه بالضعف والوهن المؤثر الذي يخلق بدوره عناصر قابليات جديدة تكون تعبير عن إحكام حلقة القابليات (القوم البور)، ترسخ جملة الأفعال السلبية، تحول الإيجابي لسلبي، تحريك الإمكانات في سياق الهدر، كل ذلك يقع ضمن سنن القابليات بما يعطي عناصر تحفظ حول (التفكير المؤامرة) (وعناصر معادلة الخروج).
– من أهم العناصر التي تحجب السنة فعلاً وتفاعلاً مع الإنسان هو افتراض العبثية في الوجود أو في الفعل أو في كل متعلقات الوجود ذلط أن هذا التصور يحرك “عمل بلا مبدأ” أو “عمل بلا منهج” أو “عمل بلا هدف” أو قد يجمع بين المستويات الثلاث، ليحرك كل أصول البيئة تصورًا وحركة.
– ويعتبر ذروة العبث في التفكير وفي الفعل هو القضية الخاصة باختلال الموازين، وهي من أهم الآفات الحضارية التي تفسر حركة الذات الإنسانية فتفسر ما تصنعه أو تقيمه ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا {18/103} الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾.
– والسعي هنا حركة حضارية لا يمكن وصفها بالسلب والإيجاب إلا من خلال مقصودها. إلا أنها تشير وفق معانيها وأصولها المعجمية واللغوية أن السعي حركة تكرارية تراتبية، مقصودة يبدو ذلك في معنى الكلمة تمييزًا لها عن عناصر “العمل”، السعي دأب في الحركة وإصرار عليها، ودوام في الفعل، كما تؤكد أنها حركة إلى الأمام بقصد الحصول على شيء أو بلوغه أو اغتنامه أو تحقيق وجوده.
– إن من أهم عناصر ارتباط السنن ارتباطها بسياق الإطار التفكيري، وما يؤكد تأثيرها ضمن البنية المعرفية.
* ذلك أن السنن تحقق أصول عملية التفكير والتدبير والنظر ووالاعتبار باعتبارها عمليات أولية تمكن لأصول هذه العمليات العقلية وإعلاء شأنها وفقًا لوظائفها وتأثيراتها.
* أن النهج السنني يعبر في مكنونه، ويستند في إبتدائه، ويحرك عناصر الفاعلية فيه ما يعكسه من تصور كلي للحياة، وهو نهج يقوم في هذا السياق على منهج تفكير وأصول معرفية يرتفع فيها العقل فوق الجزئيات، فهو من ثم يختص بالظواهر الكلية للوجود ومنها الظواهر الطبيعية (الكونية) والفردية (النفسية) والاجتماعية (الاجتماع) ذات التأثير المصيري في حياة الوجود الإنساني.
* أن هذا النهج السنني ضمن عناصر صياغته وأصوله في تكوينه المنظومي يقوم علىعمليات تدريبية وتربوية، ومن خلال النظر إلى الحياة (تفاعلات – علاقات- ظروف وحالات) من خلال الظواهر الكلية (الالنتظام- الاطراد- العموم) البحث عن الجوهر الناموسي والقانوني، بما يدفع إلى ضرورة تبني نظرة شمولية منتظمة الدرجات متدرجة الأطوار.
ومعنى هذا أنه ضمن هذا النهج فإنه يعبر عن تدريب على كيفية التفكير المنظم والمنهجي سواء في البحث والتمحيص، أم في المقابلة بين النتائج لاستخلاص القاعدة، وإمكانات القياس بين الأحداث وتواترها ضمن عناصر منهجية لإدراجها على صعيد واحد. إنها تفرض الجمع بين علوم الاشباه، والنظائر، وكذا علوم الفروق والخصائص وما يشير إليه ذلك من إمكانات للبحث في عناصر الأشباه الكلية والفروق الكلية.
* إن طريقة النهج السنني تسهم في بناء العقلية وإعادة تشكيلها بما يؤصل عناصر فاعلية حقيقية لا متوهمة، ومن ثم فإن ذلك النهج ينبه الوعي، فهو يجعله في حضور فكري متفتح وبذلك يستنقذه من غفلة اللا مبالاة وجمود الإلف.
* إن هذا النهج السنني في رؤيته لجملة الظواهر الكلية إنما يصحح علاقة ال؟إنسان بذاته فكرًا وشعورًا وإمكانات حضارية، وبذلك يصبح كائنًا حيًا شاعرًا بنفسه شعورًا حرًا، واعيًا لوجوده وعيًا نقادًا ممحصًا، إنه يكون أصول الأوابة المنهجية، ومناهج التحقيق المنهجي والبحثي، والتعرف على مفاصل النموذج وسماته الكلية والجوهرية.
– أن هذا النهج السنني يؤصل عناصر قدرات التحرير للإنسان من عناصر الضغوط الحضارية المتعددة، الضغوط الحضارية قد تختلط بالآفات الحضارية الحاجبة لوعي وسعي التفاعل الإنساني مع السنن، الضغوط الحضارية على أنواع متعددة، ووفقًا لمعادلات الفعل والتفاعل الإنساني يمكن أن تؤثر هذه الضغوط ضمن مسارات سلبية (ضغوط المانعية) و(الضغوط المفجرة) و(الضغوط المفرغة) وجملة هذه الضغوط تشل الفعل الحضاري، أو تجعله شظايا متناثرة، أو تجعله خاويًا من المغزى والمعنى، والفعل والفاعلية، والغرض والمقصود والمصلحة.
كما يمكن أن تؤثر هذه الضغوط ضمن مسارات إيجابية (الضغوط الدافعة) و(الضغوط الرافعة) و(الضغط الجامعة)، وجملة الضغوط تلك تؤدي ضمن مساراتها إلى الدافعية والتجدد في الفعل الحضاري، أو رافعة للفعل الحضاري ضمن مدارج الترقي والبناء والعمارة الحضارية، أو تحرك أصول الضغط نحو التجميع لا التفجير، والتلاحم والتماسك لا التجزؤ المفضي إلى حركة تشرذم وتشتت، هذا التلاحم هو حركة إيجابية إما تحرك المسار ضمن دفع الضغوط، أو مواجهة التحديات ضمن استجابات فاعلة.
في هذا السياق ما الذي يحرك وجهة الضغوط إلى مساراتها السلبية وما الذي يدفعها إلى هذه المسارات الإيجابية؟!
تساؤل يجد إجابة في حقيقة السنن والوعي بجوهرهًا، وعناصر فعلها، وإدراك حقائقها، وتوابعها ومآلاتها ومجالاتها وتأثيراتها المنظومة الشاملة، في استطراق الفعل السنني عملاً وتمامًا وسيرة ومسيرة وصيرورة، إن معادلة الوعي والسعي السنني هي التي توصل وتمكن من توجيه جملة الصضغوط نحو لفعل الإيجابي، الفاعلية المبتغاة والمقاصد الأصلية والجوهرية، إن وجود الضغوط الحضارية هو أمر لا فكاك منه ضمن عناصر الساحة الحضارية وتفاعلاتها، وضمن المسيرة الحضارية بكل تنوعاتها وعلاقاتها وحالاتها وضمن تأثيراتها على الفاعلين الحضاريين وتفاوت عملية التأثير.
إن الضغوط الحضارية لازالت تفعل فعلها ضمن الظاهرة والقابليات لها (هذه السنة القاضية) التي لفت النظر لها مالك بن نبى ضمن مقولته الشهيرة المفتاحية (الاستعمار والقابلية للاستعمار)، القابليات إنما تكمن في عناصر طرائق التفكير وعمليات التغيير والتصور الإنساني لهذه العمليات وهذه القابليات، تولد أنماط سلوكية تشكل البيئة والوسط الملائم لعقليات متعددة تحرك الضغوط ضمن مساراتها السلبية، ولكن الوعي بالقابليات والسنن الكفيلة بالتحكم فيها، وتحريك القابليات نحو أصول الطاقات والقدرات إنما يرصل مسارات التحرك الإيجابي والفاعلية (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء. وما كان عطاء ربك محظورًا)، والضغوط الحضارية ضمن هذا المسار كثير الفئات ومتنوعة التأثيرات منها ما يتعلق بالتاريخ والماضي، ومنها ما يتعلق بالحاضر والواقع، ومنها ما يتعلق بالتدبر والمستقبل.
وغالبًا ما تقترن هذه الضغوط بالتنازع بين أحوال القوة والضعف، العزة والوهن، الغثائية والتمكين، وفي ظل هذه الضغوط قد يتحرك الإنسان إلى إعفاء نفسه من التقصير فيركن إلى هذه الضغوط التي تبرر عجزه عن الفعل وقعوده عن الحركة والفاعلية، إن التعرف منذ البداية أن لكل أمر وكل فعل حضاري سننه الشرطية القاضية والحاكمة هي من أوليات عناصر التفكير والتدبير، وأن أحوال الضعف والقوة هي أحوال نتيجة تحصيل البشر وتفاعلهم مع السنن (قل هو من عند أنفسكم)، إن النظر إلى سنن الضعف والتجزئة والتدهور عمليات بعضها من بعض. والاعتبار والنظر إلى الساحة التاريخية الممتدة والتي تشتمل على أفعال حضارية متنوعة فنتعرف على سننها، خاصة أن اكتمال الحدث (وقائع ونتائج) يشكل بحق معملاً تجريبيًا مهما للتفكير والبحث والتدبير والاعتبار، باعتبارها جميعًا ضمن عناصر تفكير منهجي ممتد ومتراكم.
السنن بهذا تعبر عن نظرة شاملة كلية ممتدة تمتد عبر الزمن وعبر المكان وعبر عالم الأحداث المتنوع وتفاعلاته، وعبر العلاقات بأطرافها المختلفة ومستوياتها المتعددة، إن الوعي بالضغوط الحضارية يحرك عناصر حافزة لفهم السنن وتأثيراتها، وينفي كل العناصر التي تحجب فهم السنن والوعي بها والسعي من خلالها.
ومن الصور الأساسية التي هي موضع التبصر العقلي ووزنها بميزان التعقل، وتطبيق أصول الوعي السنني، هي جملة الظواهر التاريخية الرئيسية والمحددة تحديدًا كليًا، ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ .
– إن الوعي السنني يقوم بدوره في تأصيل أحد مستويات هذا الوعي، وهو الوعي التاريخي فضرورات التدبر للظواهر الاجتماعية، ومقومات البناء الحضاري تدبرًا علميًا يشير إلى وجوب تدبر التاريخ كذلك تدبرًا علميًا فنخضعه للبحث العلمي حيث نستخلص من ظواهره وتتابع أطواره، القوانين التي تتحكم في حركته وتدافع أحداثه، والتي يمكن بواسطتها أي بواسطة هذه القوانين –ترجيع احتمالات الضرر وما قد يسفر عنه.
وعلى هذا فإن هذه الرؤية تسهم في تأصيل ثلاثة أمور عظيمة بالنسبة للإنسان ووجوده الحضاري وبالنسبة لتفسير التاريخ وفلسفة أحداثه. وهي:
أولاً- تربية الوعي التاريخي وإذكاؤه في ضمير الإنسان وفكره.
ثانيًا- دعوة الإنسان إلى دراسة التاريخ دراسة علمية قائمة على أساس القواعد الرئيسية التي تتحكم في حركة التاريخ.
ثالثًا- دعوة الإنسان إلى معاناة الأحداث التاريخية معاناة وجودية كأنه يحياها، ويعالج أحداثها حتى يتمكن من تصور التاريخ وفهمه وتفسيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) قصة أبو العريف: تشير هذه القصة إلى نمط في التفكير والتدبير والسلوك يجب التوقف عند عناصره، فيحكي في المخيال الشعب، أن هناك شخصًا في قرية أسماه أهلها “أبو العريف”، كلما عقدة أو مشكلة فزعوا إليه وهرولوا، أو انتقلوا به إن كانت المشكلة مادية ليعانها على الطبيعة، ثم يتفق ذهنه عن الحل والشروع في تنفيذه.
وفي ذات مرة عطشت إحدى البقرات، فدفعت باب إحدى الدور، وهجمت من عطشها على “زير” أدخلت فيه رأسها لتشرب، فانحشر الرأس، فكانت الواقعة، فما كان من شهد الحادثة إلا المطالبة بالفزع إلى “أبو العريف” على جناح السرعة قبل تفاقم المشكلة، ومن تقديرهم الكاذب له، كانوا يحملونه على هودج في موكب، فحينما وصل إلى الدار عرضوا عليه الأشكال وطالبوه بالحل، وحيث أن مزكبه عريض لا يسعه باب الدار فأمر بهدم واجهة الدار ودخل بموكبة، ثم بدأ عملية الانقاذ في مذهبه، فطالبهم بذبح البقرة ذات الرأس المحشورة، فقالوا أن الرأس لازالت في الزير، فأمرهم بكسر الزير حتى يخرج رأس البقرة، ومن هوانهم واستخفافه بهم جلس أبو العريف في زواية من هودجه يبكي، فعجب الجميع لذلك، خاصة أنه في عرضهم قد قام” بحل المشكلة”، فبادرهم بالإجابة عند سؤاله سبب بكائه، فبادرهم بالجواب “إن بكائي بسبب ماذا ستفعلون من بعدي وبعد مماتي وماذا سيكون حالكم”.
بادرهم بذلك بعد أن خرّب الدنيا أو خربها.
المصدر/ المعهد المصري للدراسات