5 نوفمبر، 2024 10:53 م
Search
Close this search box.

اللغة والكتابة .. في التاريخ والصيرورة من الشرق إلى الغرب

اللغة والكتابة .. في التاريخ والصيرورة من الشرق إلى الغرب

خاص : كتب – عمر رياض :

اللغة سلطة داخل الفكر، حاجز بين الفكرة وكتابتها، ظلت لوقت كبير محكومة بعدد من الرؤوس أهمها التأويل والتعبير أو القول، كقواعد لصائب الأفكار.

وليس الأدباء والنخبة الفكرية فقط، من يشكلون قامعاً لها, بل السياسيون والعلماء والفقهاء وحتى علماء النفس، في نفس الوقت الذي انتصرت فيه “الألسنيات” أو علوم اللغة ذاتها كمؤشر على تلك السلطة التي راح الإعلام يتنامى فيها كلغة كبرى مهيمنة.

تعتبر اللغة من أكبر حقول البحث عند المفكرين والباحثين والفلاسفة، وقد مر تاريخها بأراضٍ ممطرة كما مر بـ”صحراوات” جافة، كما مرت أيضاً الكتابة بأساليب وتجارب متعددة ومتنوعة, وحتى وقت قريب كانت هناك لغات غير مكتوبة كاللغة “النوبية” مثلاً.

بين الشرق والغرب, ينتقل هذا المقال في فضاء اللغة, وفي غاباتها المتشابكة الكثيفة على إستحياء، كما يضرب في صحرائها  كـ”بدوي” بعيداً عن تكرار القواعد في محاولة لتفنيد ماهيتها ومفهومها في أشكال الكتابة المتعددة.

اللغة ولغة الكتابة..

د. لويس عوض

في الوقت الذي كان يبحث فيه فقهاء اللغة في الشرق عن الترجمات والأساليب والصور البلاغية, كانت اللغة في الغرب تتفكك لمفاهيم جديدة.

وبينما كان الشرقيون يمجدون الأسلاف أو يبحثون في اللغة كونها تاريخ، كسر الغربيون خلال ستينيات القرن الماضي لغتهم واتجهوا إلى جعلها “صيرورة” في حد ذاتها، ضد التقليد والإمتثال لنموذج، لغة تبتكر نفسها من الحياة والفن والطبيعة.

قد تأخذ الكتابة في الشرق لغتها من “القرآن” مثلاً، المؤثر الأول لزمن، وقد تدقق في الألفاظ والمفردات والتراكيب معتمدة على الأنساب وميراث الأدب والمعاجم والقواميس, وربما تلجأ للأساطير، لكن في الغرب استطاعت أن تتجاوز الموروث الديني أو الأسطوري وتتفكك، وتصير هي في ذاتها “كيان” يبتكر نفسه، على الأقل في الفكر أكثر منه في الممارسة, لتصبح اللغة كائن يعرج ويتأتيء أو يتلعثم ويرقص، أو كنار أوقدها أعرابي في صحراء تطقطق من انفلاق الحطب.

كانت مجامع اللغة في البلاد العربية مرجعاً هاماً للتدقيق في المفردات والألفاظ, بل وأيضاً مصدراً لابحاث الكتابة وأساليبها، ويعد الشيخ “محمد عبده” في مصر أحد أهم العلماء في هذا الحقل، فلم يكن مدققاً وفقيهاً فقط بل كان يضيف ويعرّب اللغات الأجنبية والمسميات الفرنسية أيضاً بسبب البعثات التي كان يشرف عليها، ويذكر أنه في أحد البعثات تعرف على علم “الميكانيكا” لأول مرة وأراد إضافة هذا الأسم إلى المعجم العربي فسماه علم “الحِيَل”.

قد يختلف علماء اللغة مع هذا التغيير الآن، فالأسم في اللغة كما يقول “جاك دريدا” الحداثي الغربى لا يترجم.

في منتصف القرن العشرين أثرت البعثات على مناهج البحث في اللغة وكتابتها.

وكان الأديب “طه حسين” نقطة فاصلة في هذا الخط الفريد، وجاء من بعده تلاميذه, مثل الدكتور “محمد مندور” والدكتور “لويس عوض”.

ليضع كل منهم لمسته التي تعتبر نقلة في فنون كتابة اللغة، فكتب “محمد مندور”, مثلاً, في أساليب الكتابة مراجع ضخمة أشهرها “الصحافة وحريتها” و”الفنون ووحدتها”، بالإضافة إلى أعمال النقد في الأدب، من “أحمد شوقي” و”عباس العقاد” إلى الفنون الحديثة كالسينما والموسيقى.

وجاء “لويس عوض” ليكسر نمط الكتابة بمقالته الشهيرة, التي قدم بها أهم اعماله النقدية, تحت أسم: “حطموا عمود الشعر”، ثم اتجه ليؤسس للكتابة باللغة العربية “العامية”، التي جاءت مع المماليك إلى مصر، ووضع ديوانه “بلوتو لاند” بالعامية.

صار هؤلاء ثوار اللغة وأطلق عليهم شيوخ النقد، لكنه كان نقد مستمد من “الألسنيات” الغربية والمثيلوجي الأسطوري اليوناني على سبيل المثال, كما اخذ على بعضهم.

في الغرب كانت اللغة أيضاً محصورة في “شكسبير” وقواميسه، حتى تعددت المدارس الفنية التي أثرت فيها، من “البنيوية” إلى “التفكيكية” وحتى “السريالية”.

وقد خرج بعض الأدباء الغربيون بمفاهيم جديدة كتجاوز الغرب ذاته والخروج لثقافات أخرى مثل الأديب الأرجنتيني “بورخيس”, الذى كان متأثراً بكتاب “ألف ليلة وليلة”, لكنه أيضاً لم ينجوا من ثورة جديدة على اللغة والكتابة.

جيل دولوز

تراكيب اللغة والكتابة..

“اللغة هي الشخص، أما الكتابة هي الشخص عندما ينظر في المرآة”.

هذا آخر المفاهيم التي أعطاها النقاد للغة والتعبير، فالكتابة مثل صورة الشخص في المرآة يراها الجميع كما يراها هو أيضاً.

لقد تعددت أساليب الكتابة والتعبير في كل لغة وذهب البعض ليرفع من شأن طرق بعينها كالسرد عند العرب.

في هذه الزاوية وصل النقد في الشرق إلى طريق مسدود، إنتهى عند الإستفادة من المدارس الغربية الحديثة مثل “البنيوية والتفكيكية” وما يطلق عليها مدارس “ما بعد الحداثة”.

لكن اللغة إستطاعت الهروب عبر الفلاسفة الجدد, وعلى رأسهم “ميشيل فوكوا”  و”جيل دولوز” و”كلير بارنيه”.

وكانت فلسفتهم هادمة لما قبلها, وإن لم تأخذ مساحتها من ذي قبل مع ثورات نهاية الستينيات.

وتعتمد بالأساس على التفرقة بين اللغة والكتابة، وتحويل المصادر التي تبتكر وتصنع الحصيلة اللغوية من التاريخ إلى الصيرورة، ووضع الفنون والأدب والسينما والطبيعة على سبيل المثال في مقدمة هذه المصادر، لتستطيع أي لغة أن تبتكر نفسها.

في ورقة مجهولة اكتشفت لـ”جيل دولوز” و”كلير بارنيه”, أوضح كل منهم ذلك بتعمق، وفي مقطع حول الأسلوب تقول الورقة: “أود أن أقول ما الاسلوب. إنه محاورة من يقال عنهم عادة (إنهم بلا أسلوب …), ليس الاسلوب بنية دالة، ولا منظومة مفكراً بها، ولا إلهاماً عفوياً، ولا غناء، ولا جملة موسيقية تتكرر… إنه ترتيب: ترتيب قول. يتمثل الاسلوب في أن نتوصل إلى التأتأة في لساننا نفسه. هذا صعب، لانه ينبغي أن تكون ثمة ضرورة لمثل هذه التأتأة…

الامثلة الأكثر سطوعاً عندي, هي: “كافكا، بيكيت، غيراسيم لوكا، وغودار”. إن “غيراسيم لوكا” لشاعر كبير بين أكبر الشعراء. لقد ابتكر تأتأة رائعة، هي تأتأته. حدث له أن قدم قراءات لقصائده أمام الجمهور، مائتي شخص، ومع ذلك فقد كان هذا حدثاً, إنه حدث يمر عبر مائتي مستمع. من دون أن يعود إلى مدرسة أو حركة. أبداً لا تمر الاشياء حيثما نحسب، ولا بالطرق التي نحسب.

يمكن الاعتراض بأننا إنما نطرح أمثلة ملائمة، فـ”كافكا” يهودي تشيكوسلوفاكي، كان يكتب بالألمانية، و”بيكيت” إيرلندي يكتب بالانكليزية والفرنسية، و”غيراسيم لوكا” روماني الاصل، و”غودار” سويسري. ثم ماذا ؟.. ليست هذه مشكلة أي منهم. إن علينا أن نكون مزدوجي اللغة حتى داخل لغة بذاتها: علينا أن نحوز لغة أقلية داخل لغتنا نفسها بالذات، علينا أن نستخدم لغتنا نفسها استخداماً أقلياً. ليست التعددية اللغوية هي حيازة نظم عديدة يكون كل واحد منها متجانساً في ذاته، فحسب، بل هي، أولاً، خط الهروب أو التنويع الذي يمس كل نظام مانعاً إياه من التجانس. لا أن نتكلم كإيرلندي أو روماني في لغة أخرى سوى لغتنا، بل بالعكس، أن نتكلم في لغتنا نفسها كأجنبي. يقول “بروسة”: “إن الكتب الجميلة مكتوبة في ضرب من لغة أجنبية. تحت كل كلمة، يضع كل منا معناه أو على الاقل صورته التي هي في الغالب معنى خاطيء. لكن في الكتب الجميلة، تظل جميع الاخطاء التي نرتكب جميلة”. هذه هي الطريقة الجيدة في القراءة. جميع الاخطاء أو المعاني المضادة جميلة، شريطة ألا تشكل تأويل…”, هذا هو تعريف الاسلوب. وهذه أيضاً مسألة “صيرورة”.. على حين يتمثل المشكل في الصيرورة – أقلياً: لا أن نتصنع، ولا أن نقلد أو نحاكي الطفل، أو المجنون، أو المرأة، أو الحيوان، أو التمتام أو الغريب، وأنما نصير هذا كله، حتى نبتكر قوى جديدة أو أسلحة جديدة.

الامر نفسه بالنسبة إلى الحياة. ثمة في الحياة ضرب من الخرف، من هشاشة الصحة، من البناء المعتل، ومن التأتأة الحيوية التي هي سحر أحد ما. السحر منبع الحياة، كما يكون الاسلوب منبع الكتابة. ليست الحياة هي تاريخك (حكايتك الشخصية)؛ إن من لا يتمتعون بسحر ليفتقرون إلى الحياة، إنهم كمثل الموتى.

الشذرة آخر إبتكارات الكتابة عند “سيوران”..

دائماً ما يلجأ الكتاب لمحاكاة جنس أدبي للتعبير في لغتهم، من الدين إلى الأدب والسياسة والفن حتى وإن كان موضوع الكتابة يختلف عن نمط الكتابة ذاته.

فقد يكتب شخص مقالة بطريقة “الهايكو الياباني” – قصيدة المفارقة -، أو بطريقة الجرس الموسيقي كـ”ألف ليلة وليلة” إلخ.

الكتابة هي عملية تفكير في اللغة ينتج عنها التركيب والشكل والأسلوب، وتعتبر “الكتابة الشذرية” أو “الشذرة” – الجمل القصيرة المكثفة – أخر الإبداعات في الكتابة واكثرها انتشاراً بين المهتمين وهي كتابة رشيقة قوية ومباغتة.

“الكتابة الشذرية” جنس أدبي ظهر على استحياء وتعثر في فترات تاريخية مختلفة من تاريخ الكتابة الأدبية والنقدية والفلسفية، وإذا ما عرفنا بأن “نظام الشذرة” ظهر في الفلسفة بسبب نقص التدوين، أو ضياع المكتوب من ذاكرة الكتابة منذ الفلسفة اليونانية في القرن الخامس قبل الميلاد، إذا ما اعتبرنا “الشذرات” التي وصلتنا من فلسفة “هيرقليدس، وبرمنيذس، وديمقريطس”، هي الشكل الأول لظهور “الشذرة” أو المقطعية في الكتابة، إلا أن الشذرة أو “البيوغراف” لم تكن شائعة بعد في مجال الكتابة والتأليف حتى ظهور خواطر “باسكال” (19 حزيران/يونيو 1623 – 19 آب/أغسطس 1662)، التي عرفت بهذا الاسم، ثم أعقبتها اعترافات وخواطر “جان جاك روسو” (28 حزيران/يونيو 1712 – 2 تموز/يوليو 1778)، التي تدرج في مجال التاملات أو المدونات النصية.

إلا أن الكتابة في شكلها الشذري وصيغتها المقطعية، لم تصبح منهجاً في التعبير وأسلوباً مطلوباً لذاته، إلا مع ظهور أعمال “فردريك نيتشه” (5 تشرين أول/أكتوبر 1844 – 25 آب/أغسطس 1900)، فنيتشه يمزج بين المقطعية الرقمية وبين الشذرة الشعرية، أو الحكمة الفلسفية، وغالباً ما يطلق لنفسه العنان في تقديم مقطعيات تبدو وكأنها مقطوعات أدبية مستقلة عن المتن الأصلي، ثم يجد لها رابطاً بمهارة خاصة، ولعل هناك أكثر من رأي بأن فلسفة “نيتشه” بأكملها تنحو نحو هذا المشروع التفكيكي أو التفصيلي في واقع الحال.

الآن هناك نوع آخر من الكتابة الشذرية ظهرت على يد كل من “إميل سيوران” (1911 – 1995)، و”فرناندو بيسوا” (ولد في لشبونة سنة 1888، ليموت فيها بعد سبع وأربعين سنة 1935)، ولسيوران بالذات التزام حرفي بمفهوم الشذرة، فهو يقدم كل تفكيره في عبارات موجزة ومقاطع مكثقة وقصيرة، وقد عانى كثيراً في الانشغال بكتبه والعمل على تدقيقها طويلاً قبل نشرها، ولعل الشذرة هي من ناحية أخرى تدل على فضاء منزاح من متن رحب، أو هي عتبة نصية قبل أن تكون هي بحد ذاتها نصاً، وكان “سيوران” قادراً على العزف على أكثر المفاهيم الفلسفية تعقيداً بجمل قصيرة مثل وخزات سريعة، أو لقطات تصويرية في غاية الروعة والجمال، كما في كتابه (مقايسات المرارة)، العنوان الأصلي: (للمياه بلون الغرق)، وكذلك في أعماله الأخرى مثل (غواية الوجود)، و(اعترافات ولعنات).

ربما يكون هذا النوع من الكتابة لم يلق تفضيلاً لدى الكاتب العربي، فالكتابة العربية كانت, وما زالت, كتابة مقالاتية تميل إلى الشرح والموضوعية والجدية والتصنيف، والكاتب العربي لا يكتب لذاته غالباً ولا يفكر بالتجريب في الكتابة كثيراً، مما جعله لا يقدم نوعاً مغايراً من الكتابة، كالكتابة الشذرية، لا يمكن لنا أن نعدم وجودها بالمستقبل، فهي كتابة مغرية ولها نكهة خاصة، وتدفع في الغالب إلى التأمل والتفكير، فضلاً عن فائدتها الجمالية وسطوتها الشعرية التي لا تنكر.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة