15 نوفمبر، 2024 12:24 ص
Search
Close this search box.

اللاهوت السياسي

اللاهوت السياسي

صدر عن سلسلة ترجمان في المركز العربي للأبحاث والنشر كتاب اللاهوت السياسي لكارل شميت، وهو ترجمة رانية الساحلي وياسر الصاروط العربية لعملين لهذا المفكر الإشكالي، هما اللاهوت السياسي: أربعة فصول عن مفهوم الحكم واللاهوت السياسي: أسطورة إنهاء كل لاهوت سياسي.

يضم هذا الكتاب (192 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) تعريفًا بالكاتب وكتابه لياسر الصاروط. وهو تعريف ضروري يضع الكتاب في سياقه من مسيرة كارل شميت، الفقيه القانوني والدستوري والفيلسوف السياسي المثير لأشدّ الجدل والذي تركت أعماله الكثير كبير في النظرية السياسية والقانون والفلسفة واللاهوت السياسي وأثارت انتباه كثير من المفكرين والفلاسفة السياسيين، مثل فالتر بنيامين وليو شتراوس ويورغن هبرماس وفريدريش هايِك وحنة أرندت وسلافوي جيجيك.

في مفهوم الحكم
في الكتاب الأول اللاهوت السياسي: أربعة فصول عن مفهوم الحكم الذي صدر في الأصل في عام 1922 ويتألف من أربعة فصول، يرى شميت أن جوهر الحكم السيادي يتمثّل في تقرير ما هو استثناء وتقرير الإجراءات التي يجب اتّخاذها للقضاء على هذا الاستثناء. وهذا يعني، إذًا وأيضًا، أن الحاكم السيادي هو من يقرر ما هو “العادي”. فكي يكون لنظام قانوني معنى، لا بد من وجود وضع طبيعي، والحاكم السيد هو الذي يحسم ما إذا كان هذا الوضع الطبيعي موجودًا بالفعل. والحفاظ على “العادي” هو على وجه التحديد ما يبرر إقامة الاستثناء. وبهذا المعنى تكون السيادة نظريةً في الدولة موروثة ومتأصّلة: “الدولة تعلّق القانون في الحالات الاستثنائية على أساس حقها في المحافظة على الذات، كما يقال”.

القرار أو الحسم هو المفهوم العملي الأساس في نظرية شميت السياسية. ذلك أن “السياسيّ”، بالنسبة إليه، يُمَارس على قاعدة التمييز بين طرفي ثنائية الصديق/العدو (ضمن الدولة وبين الدول على حد سواء)، وقوة السيادة يجب أن تكون حكرًا على فاعل واحد يقف “خارج” النظام القانوني لكنه “ينتمي إليه” ويشكّل جزءًا منه في الوقت ذاته. وبذلك، لا يعود من الممكن تعريف السياسة على أساس الدولة بل على العكس يجب تعريف الدولة وفهمها على أساس السياسة والسياسيّ. من هنا، السيادة )وبالتالي الدولة نفسها (تكمن عند شميت في حسم هذا الجدال، أي في تحديد ما يشكّل النظام العام والأمن بشكل قاطع، وتحديد متى يتعرضان للتهديد، وهلم جرًا”. وبهذا، يكاد الاستثناء أن يكون تدبيرًا هروبيًا لإعادة ترسيخ الشروط التي يمكن فيها أن يجري السياسي من دون أن يعرّض الدولة ذاتها للخطر.

دور الدولة
بخلاف وجهة النظر الليبرالية، يقف شميت بوضوح ضد دور الدولة بوصفها مزيل الصراع وما هو سياسيّ، ويراها الوسيلة التي من خلالها لا يكون النظام والأمن ثمنًا لهذه العلاقات العدائية. يقول: “اليوم، لا يوجد أمر أكثر حداثة من الهجوم ضد ما هو سياسي”، ويجد الاشتراكيين والفوضويين والليبراليين على خطأ بهذا الصدد. فهؤلاء يرون أنّه “يجب ألا تكون هناك مشكلات سياسية، بل مهمات تنظيمية – تقنية ومهمات اقتصادية – سوسيولوجية فحسب”. بيد أن هنالك سببًا آخر لوقوف شميت ضد وجهة النظر الليبرالية، هو أن الدساتير لا تستطيع أن تتنبّأ بالحوادث الطارئة التي تقتضي تعليق القانون لمصلحة الحفاظ على الدولة ذاتها. لكن من الأهمية بمكان أن نلاحظ ما يقوله شميت في آخر كتابه هذا من أن الاستثناء ليس دكتاتوريةً لأنّه لا يزال يقوم على أساس شرعيّ. وهو يعطي الشرعية مسحة ديمقراطية ويسجّل لدونوسو كورتيس قوله إن البشر من الدناءة والرذالة ما يجعل استثناءهم بمنحهم مزايا ديمقراطية أمرًا متعذّرًا، لا سيما على النحو الجمعيّ كما هو الحال في الإطار الليبرالي.

قبل آخر هذا الكتاب، في الفصل الثالث الموسوم اللاهوت السياسي، كان شميت قد أشار إلى أن جميع المفاهيم ذات الدلالة الخاصة بالنظرية الحديثة للدولة “هي مفاهيم لاهوتية معلمَنة” لا تاريخيًا فحسب بل منهجيًا أيضًا. ومن يتكبد عناء دراسة أدبيات التشريع الوضعي يرَ أن الدولة تتدخل في كلّ مكان، مستخدمة قدرات خارقة، مثلها مثل الإله القادر على كلّ شيء لكنه إله رؤوف ورحيم يثبت بوساطة غفرانه وعفوه تفوّقه على قوانينه.

أي أهمية؟
يبدأ الكتاب الثاني، اللاهوت السياسي: أسطورة إنهاء كل لاهوت سياسي، بردّ على أطروحة إيريك بيترسون الموسومة “التوحيد باعتباره مشكلة سياسية: مساهمات في تاريخ اللاهوت السياسي في عهد الإمبراطورية الرومانية”. هذه الأطروحة الأخيرة المكتوبة في عام 1935 تحاول أن تضع حدًّا لأي اعتقاد بأنّ للإيمان بالله أيّ أهمية سياسية أو بأنّ للاهوت أيّ أهمية اجتماعية. وما يرمي إليه شميت هو رفض هذا الضرب من الإنهاء للاهوت السياسي، أو رفض هذه الخرافة كما يدعوها.

في الفصل الأول، أسطورة الإنهاء اللاهوتي المُبرم، يلخّص شميت أطروحة بيترسون وبعض الردود عليها. زعم بيترسون أنّه سيضع حدًّا لكل لاهوت سياسي مسيحي مرّة وإلى الأبد. وبحسب شميت، يقوم جدال بيترسون على اعتقاد مفاده أن اللاهوت نشاط مسيحي نوعيّ وخاص، وأنه لم يقم إلا في الفترة بين وفاة المسيح وقيامته الثانية. في الفصل الثاني، الوثيقة الأسطورية، ينطلق حجاج شميت من القول إن “كنيسة المسيح ليست حقًا “من” هذا العالم وتاريخه، لكنها “في” هذا العالم”. وفي هذا العالم، كما يقول، “هناك علوم لاهوتية سياسية كثيرة، لأنه من ناحية هناك أديان مختلفة كثيرة ومن ناحية أخرى توجد أنواع وأساليب مختلفة كثيرة للقيام بالعمل السياسي”. ينتقد على نحو خاص أنّه “أبعد من كل السياسات، فإن المناعة المطلقة، الحصانة والحماية للجانب السياسي يتم إنكارها على الأديان غير المسيحية، أي الأديان التوحيدية التي لا تؤمن بالثالوث”. كما ينتقد الربط المفهومي بين السياسة والهرطقة”.

لاهوت وقانون
في الفصل الثالث، الأطروحة النهائية الأسطورية، يرى أن “اللاهوت ليس نظير الدين أو المعتقَد أو رعشة الخشوع. يريد اللاهوت أن يكون وأن يبقى علمًا، طالما أن مفهومًا علميًا مختلفًا تمامًا لا يملك القدرة على أن يهوي بالدين ولاهوته إلى حضيض نمطه من الدنيوية”.

في الخاتمة، يواصل شميت الربط بين اللاهوت والقانون، مكررًا أن القانون واللاهوت يتأتيّان عن الدافع ذاته. وهو يرى أن “أعظم “تقدم” عقلاني للبشرية حتى يومنا هذا ]يتمثّل[ في نظرية القانون الدولي بخصوص الحرب، وأعني التمييز بين العدو والمجرم، وبالتالي القاعدة الأساس الوحيدة الممكنة لنظرية حياد دولة ما في أثناء الحروب في ما بين دول أخرى”. ويستنتج أن “عدم التَلَهوُت يقتضي ضمنًا عدم التسييس، بمعنى أن العالم يتوقف عن أن يكون ذا شكل سياسي. وبالتالي، يتوقف التمييز بين الصديق والعدو عن أن يكون معيارًا للشأن السياسي”. كما يستنتج أنّه “لا يمكن المرء أن يلغي العداء بين البشر في العالم من طريق منع حروب الطراز القديم بين الدول، وأن يبشّر بالثورة العالمية، وأن يجرب تحويل السياسة الدولية إلى الشرطة الدولية. أن الثورة، خلافًا للإصلاح، التجديد، المراجعة والتطور، هي نزاع عدائي. سيد العالم المزمع تغييره، أي العالم المخفق (الذي تُنسَب إليه الحاجة إلى التغيير، لأنه لا يريد الإذعان للتغيير، بل يقاومه( والمُحرِّر، الفاعل من أجل عالم جديد مختلف، لا يمكن أن يكونا صديقين حميمين. إنهما، إذا جاز التعبير، عدوّان بالسليقة”.
المصدر/ المركز العربي للدراسات والبحوث

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة