26 ديسمبر، 2024 3:46 ص

الكتابة بوصفها عملية تكوين أو صرخة

الكتابة بوصفها عملية تكوين أو صرخة

 

حوار: مع آسلي اردوغان

حاورها: ايركوت توكمان

ترجمة: خضير اللامي

بعد حصولها على درجة الماجستير في الفيزياء، وكتابة أطروحتها في موضوع ما يُسّمى “جُسَيْمات هيغز بوسن Boson Particle Higgs، اشتغلت الكاتبة التركية ،آسلي أردوغان المولودة في اسطنبول العام 1967، على هذه الجسيمات، ثم انتقلت إلى ريودي جانيرو، Rio De  Janeiro . بعد طبع روايتها الأولى، “الرجل القوقعة،  199، “The Shell Man، تخّلت عن سيرتها العلمية، وكرّست نفسها للكتابة الأدبية حسب.

وكانت روايتها الأولى، “المدينة ذات العباءة القرمزية..” The City in Crimson Cloak , 2001، التي جلبتْ لها اهتمام العالم بها. ومع هذه الرواية، التي وُصفت أحيانا، بالكلاسيكية الحديثة، أختيرت اردوغان بوصفها واحدة  من بين “خمسين كاتب وكاتبة مستقبلية”.  قامت مجلة لير Lire الفرنسية بتنظيم إعداده، وعند العودة إلى تركيا، شرعت اردوغان بكتابة العمود، في الصحف المعارضة.

وبعد فشل محاولة الانقلاب التركي، العام 2016، اُعتقلت اردوغان بذريعة أنها كانت مستشارة أدبية لصحيفة كردية. لكن أطلق سراحها بعد حملة عالمية واسعة لحقوق الإنسان، بيد أنّ جلسات محاكمتها استمرت. وفي تموز July، 2017،  قلدتها الحكومة الفرنسية وسام شرف، بيد أنًّ عدم الموافقة على سفرها لتسّلُم الجائزة بعد مكالمة هاتفية من الجهات التركية حال دون ذلك. وقد التقيناها في إحدى جزر (الأمراء) قرب اسطنبول للاستمرار في حوارنا معها..

إيركوت توكمان: إنكِ قلتِ أنًّ كتبكِ، تبدأ من روايتك الأولى،”الرجل القوقعة،The Shell Man.” التي جاءت بصيغة روايات وقصص قصيرة؛ ولكنْ من الصعوبة بمكان وضعها في فصيلة جنس محدد، وقد ذكرتِ أيضا أنك تسردين نفسكِ بوصفها سيرة ذاتية. كيف تعللين هذه المفاضلات؟

آسلي اردوغان: أنا لستُ “روائية ” ولستُ كاتبة قصة بالمعنى التقليدي لهذا التعريف؛ فالعنصر الأساس، والمهم في أدبي هو اللغة ذاتها. فأنا استخدم أسلوب السرد الذي يعتمد على الصور، والاستعارات، وبطريقة مكثًّفة ومُختَرِقة، وقد وصفها ناقد بأنها: “وابل من النيران المتقاطعة”. فهي قريبة من الشعر، وحتى من الموسيقى إنْ صح التعبير، فالكلمات تؤثر، وتُحفِّز،  ويتصادى بعضها في بعض؛ وتضفي ظلالات غامضة في زواياها، والصوت معبأ بالإيحاءات، كلما ترادفت العبارات، بينما يكون الغموض والفراغ، دليلان ينيران كما ضوء.

وأكثر من ذلك، أنني سبقتُ تقاليد السرد القصصي الرئيسية، فنا، ومسرحة، وشخصنة، وهوية. ففي كتابي الأخير، البناء الحجري ومكانات أخرى، The Stone Building and Other Places، فإنَّ الساردين لم يكونوا شخصيات نموذجية لتلك القصص التي تكون مواضيعها أو حتى شخصياتها، تملك حدودا محددة؛ فإنّها تظهر ثم تختفي أكثر، كما أعضاء فرقة كورس تراجيدية، يقومون بخطوات قصة موحدة. أو أنهم إلى حد ما، كما قواقع جوفاء،  يُصدرون أصواتا مختلفة تمر من خلال تلك القواقع. وأحيانا كما صرخة، أو ضحكات مدويَّة في نف..

حين سُئلت قبل سنين مضت، “هل أنك تكتبين عن نفسك في كتبك؟” واجهت حيرة كبيرة في كتاباتي نصف الساخرة: “نعم، كل ما وجدت فرصة لذلك؟” فالذات غير موجودة، لكن ينبغي أن نخلقها. ينبغي أن نبدع، نبني ونبدع ونعيد البناء. وانطلقتُ من قولي:” أنا ساردة ذاتي أو أناي” ولسنوات طويلة كنت يائسة تماما وأدور بين ما قيل وما لم يقل، بين ما قد فُقد الآن، وما لم يُولد حتى الآن. ولكن على كل حال، تتغير المدارات حسب. وشرعتُ بالكتابة ذات مرة، وخلالها جعلتني أشعر بشيء شبيه ربما بسعادة عابرة: إذ رحت أجرب شعورا ممتلئا، عندما انتهيت من كتابة  المدينة ذات العباءة القرمزية،” الطبعة الانجليزية، شعرت كما لو أنني عشت حياتي كلها لذلك الموضوع، لأكتب هذا الكتاب الوحيد– كان كما لو أنَّ كل شيء اكتشف معناه التام. ولمرة واحدة وللأبد، قد وُجد في قصتي هذي. ولكي أكون متأكدة تماما من ذلك كانت حياة قصيرة “عابرة ” لكنها كانت حقيقية لا تُقارن.

توكمان: “إنَّ المدن تحتل مكانة خاصة في دواخلك؛ إنها تسحبك إلى دوامة وتربطك بآلام، وأنها بالطبع، تدفعك في نهاية الأمر للكتابة، والحصيلة الأكثر وضوحا لذلك هي روايتك المدينة ذات العباءة القرمزية. ومن خلال لوحة، فإنك تقارنين علاقتك بمدينة ريو دي جانيرو، مع ذلك المحبوب: أي أنك مرتبطة بآلام الحب، أنك ذلك الجريح الذي لا يغادرك. ألم تقولي ذلك، ألم تفكري أبدا بكتابة رواية عن اسطنبول، المدينة التي ترعرعتِ فيها؟

اردوغان: البطل الرئيس ل “المدينة ذات العباءة القرمزية” هو: مدينة ريو دي جانيرو، و”نهرجانوس” الإله ذو الوجه المزدوج؛ وجه ينظر للماضي وآخر ينظر للمستقبل. وتبدو المدينة كما متاهة، تنطلق إلى أكثر من بعديْن، وتتوزع في الفضاء، كما في زمن، حافلة بنهايات ميتة، وبقع عمياء، وأصداء مرعبة، ونبوءات خارقة للطبيعة، ومدينة ريو دي جانيرو بوضوح، هي استعارة للواقع الخارجي؛ وعالم داخلي ينعكس بظلاله عليها. وفي الحقيقة، أنَّ الاشتباك المستمر لعوالم الداخل والخارج، يُضبٍب مفهومنا عن الواقعية، إذ إنها استعارة حياة ، كما هي استعارة موت.

واوزكار بطل رئيسي في قصة أخرى، في رواية ” المدينة ذات العباءة القرمزية”. رواية غير كاملة داخل رواية، هي أوهما رواية إعادة تفسير لأسطورة أورفيوس التي كتبتها هيروديت نفسها. وكلمة أوزكار تعني  الحرية” في اللغة التركية، وقد قطعتُ منتصف المنعطف للرواية حين وجدتُ اسما لها وأدركت تأكيد المعضلة. والحرية قد تكون ضد القدر. وإنَّ اوزكار وريو هما وجهان كما لو أنهما مرآتان تعكسان إحداهما الأخرى. ولكنهما أيضا متنافستان خطيرتان في لعبة شطرنج قدرية، وكتابة أوزكار هي الموسيقى التي تفتح بوابات أرض الموت، والتي تحمل الموت أيضا باستمرار إلى الحياة، والحياة تحمل الموت في اليوم الذي وصلتُ فيه إلى ريو دي جانيرو. وإذا أدركت أنَّ هذه المدينة تحمل في داخلها أسطورة فربما أكون فيها أنا فقط، اورفيوس.

لكن اسطنبول، المدينة التي ولدتُ وترعرعتُ فيها، هي من الصعوبة بمكان أنْ تبني مثل لعبة تلك المرآة؛ لأنها تتطلب مواجهة عميقة جدا. وحين كتبت الرواية كنت في الثلاثين من عمري، وبعد عقدين من السنين؛ شعرت أنه ينبغي عليَّ أن اقطع الطريق الذي كنت أسير فيه نحو الموت، والآن عدت إلى الحياة، وربما ولدتُ من جديد. كنت اشتغل على رواية عن اسطنبول لسنين عدَّة. وفي ذلك الوقت، فإنَّ كل ما استطيع قوله، هو بناء صخرة جرداء، حجيراتها وأنفاقها هما اللتان ندخل من خلالهما إلى رواية البناء الحجري) ترجمة: سيفنتش توركان، التي من المؤمل أن تصدر في نوفمبر 2017 عن دار ستي لايت) و تتضمن استعارات عن اسطنبول.

توكمان: اُتهمتِ بالإرهاب العام 2016، وسُجنتِ لأربعة أشهر ونصف، وأطلق سراحك بشروط الآن. لكن منعك من السفر بقي ساري المفعول. وخلال هذا الوقت؛ تدفق التضامن معك عالميا، وفي تركيا نفسها أيضا للدفاع عن حريتك. باختصار، ما الذي ربحت فيه وما الذي خسرت فيه في السجن؟

إردوغان: بكل بساطة، أُدرج اسمي على قائمة الإرهاب بطريقة رمزية تماما من قبل “لجنة استشارية”. بذريعة دعم صحيفة، اوزغورغونديم ، özgur Gundem الكردية؛ في هذه الأثناء قصفت الشرطة منزلي، ووضعتني قيد الاعتقال لمدة 136 يوما، وطالبت النيابة العامة بعقوبة السجن المشدد مدى الحياة، وعلى مدى خمس سنوات كان اسمي قيد قائمة “المستشارين“. وعلى كل حال، لم يلتفت أحد لمئات القضايا المدرجة في أدراج المحكمة ضد الصحيفة التي تحركت لمؤازرتي أو مستشاري قضيتي من أمثال اللغوي نيكمي البي NecmiyeAlpay.  ومؤسس حزب عالم البيئة وحزب الخضر بيلغي كونتيب Bilge Contepe، ورجب زاراكولي ناشر وحاصل على جائزة نوبل للسلام. ناهيك عن قانون الصحافة الواضح تماما،  إذ يقر أن المستشارين ليس لديهم صفة شرعية للصحيفة. وباختصار، أن هذه القضية سياسية بامتياز، فضلا عن أنها اعتباطية، وبالتالي أن أمر الاعتقال غير قانوني من الجهات العليا. ويعتقد كثير من الناس أن المقصود به إلحاق الضرر بجميع الكتّاب والمفكرين. والهدف كله من ذلك التدخل؛ هو القضية الكردية.

دعنا نواجه ذلك الأمر: ففي تركيا اليوم؛ من الممكن أنْ نتصور اعتقال امرأة على أرضية إرهاب لأنها تكتب روايات وتنظم قصائد نثرية وجودية، وتُرجمت أعمالها الأدبية إلى عشرين لغة تقريبا، وحاصلة على عديد من الجوائز المحلية والعالمية كل هذا، بذريعة هي مستشارة أدبية لصحيفة معارضة، رغم إنها صحيفة شرعية أصلا. فضلا عن ذلك كله، نشرتُ العديد من الأعمدة والأعمال الأدبية التي بدأت مع صحيفة فكرية يساريةRadical، قبل ثمانية عشر عاما،  واستمر صدورها مع ثماني صحف متنوعة فضلا عن مجلة، لم يُفتح ضدها أيِّ ملف مخالفة؛ ولا أيّ من مقالاتي المنشورة فيها بما فيها تلك المنشورة في صحيفة اوزغور مندم، بما فيها أيضا ملفاتي الأدبية كما يحدث اليوم! إنني أدرك أنني قد أزعجت الحكومة، لإحباطي التابوات، مثل التعذيب، والاغتصاب،  والاعتقالات، واختراقات حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، والقضية الكردية، والإبادة الجماعية للأرمن الخ..

ولا يفوتني هنا، أن أذكر أنني تعرضت إلى إطلاق رصاص، ناهيك عن مكالمات التهديد الهاتفية لسنين عدة. وصموني فيها بكلمات شائنة ومهينة، فضلا عن اتهامي بالتعاون مع الإرهاب، بخاصة إذا وضعنا  في الاعتبار؛ أنني لست ميّالة للعنف أصلا! وفي الواقع، وبوصفي كاتبة مقالات، فإنني حاولت أنْ ابني نظرية اللاعنف، في نظام يفرِّخ باستمرار العنف، بيد أنني أوضحت ما أملاه عليّ الإستنكاف الضميري قبل ثلاث سنوات؛ ومن هنا، رفضت أن حمل السلاح! فما هي جريمتي الفعلية التي لا تُنسى؟! هل لأنني رفعتُ صوتي من أجل الضحايا… كل الضحايا… نعم، فأنا كتبت ليس عن السجن والنساء والأكراد حسب؛ بل عن المهاجرين الأفارقة والعنصرية والحرب والعسكرة والأرمن، والأطفال المتشردين والمثليين والأرمن والرومانيين والبوسنيين والفلسطينيين الخ؛ محاولة بذلك مدّ الجسور “بيننا” و “الآخر” في مساهماتي المحدودة وشعوري بمسؤوليتي، بوصفي كاتبة تناضل من أجل تشكيل ضمير فردي وجمعي في آن..

وبعد أن زجتني السلطات الأمنية في السجن؛ وجدتني فجأة بين جدران، بطريقة غير متوقعة، وغير مهيأة لها، جدران، أسلاك شائكة، وأقفال، وأصفاد… ولم امتلك الشجاعة حتى الآن، لأتساءل مع نفسي كيف أواجه مثل هذه الصدمة المرعبة؟! ليس ثمة مِنْ عزاء أو تعويض أوامكانية لأقلب هذه المعادلة. دعني أقول لك: قبلتُ وقيّمتُ مكافآت التأييد بوصفها من مبادرات التضامن، ليس معي حسب، لكن مع الكتّاب الآخرين والصحفيين المضطًهدين بسبب مواقفهم. أنا منزعجة من حقيقة تلك الشهرة، التي حاولتُ تجنبها لزمن طويل، والتي هبطت عليَّمن السماء. إنني اشعر بمرارة السخرية في عمودي الادبي، لكنني أعرف تماما،  أنني لم استطع البقاء على قيد الحياة دون هذا التضامن  وإنني احتفي جدا لهذه الحياة.

ليس هذا حسب؛ بيد أنَّ ثمة حكاية قصيرة: تحت عنوان (دولة الطوارئ) OHAL، تتضمن منع أغطية النوم، والوسائد، واللوحات الزيتية، ونباتات الأصص في الزنزانة، أما المزهريات، والنباتات التي ازدهرت عبر عقد من السنين، فقد أُهملت وتعفنت خارج باحة السجن. واختفى نبات الريحان والحبق تدريجيا داخل دورات المياه، بعد أن أُكتشف خلال إحدى دورات التفتيش الروتينية. وبهذا، فإنك لن تجد أية تربة في السجن، ولا أشجار، ولا خضرة، ولا لون؛ إنما تجد يباس الحياة وجدبها حس.. ولكن، حاولنا انتاج ما يشبه التربة من خلال تجفيف أوراق الشاي لعدة اسابيع، وأضفنا اليها قشور البيض لتكتسب قليلا من السماد. لكن، يا للعجب، تبرعم أخيرا نبات قبيح جدا، ومع هذا، قد انتفضنا وغمرنا شعور بالإرتياح، ورحنا نسقيه بمياه الأمطار. وترعرع كصولجان أمير صغير. لكن، واحسرتاه! فقد قُطع هو الآخر، وحكم عليه بالموت!. وقبل أيام قليلة من موعد المحاكمة، اعتذرت لأصدقائي في الزنزانة. كما أدركت ماذا فعلت بحديثي عن الانتحار في بداية ايام سجني، إذ كنت مستغرقة بذكرياتي عن الموت؛ بينما كنت اتصارع في كل هذا الوقت بقوة لأحافظ على نبتة حية صغيرة..

توكمان: بوصفكِ كاتبة، مَن الذي حاول أن يكون مدافعا صارما، وصوتا لأولئك الذين كانوا مغتربين. كيف تفكرين أنّ العنف والصدمات ستشكل ثيمات لكتاباتك من الآن فصاعدا؟

اردوغان: منذ كتابي الأول “معجزة شجرة الماندرين” Miraculous Mandarin ، قصة المرأة ذات العين الواحدة، شرعتْ كتاباتي تتمحور مليّا حول مواضيع كما الرياح، غياب، فراغ ؛ أو وعي بفناء الجنس البشري؛ ضياع، عنف، تفسخ؛ تعذيب، وخيانات. وكان بحثي الأساس هو أن أسرد ما لا يمكن سرده. وأنّى لي أن أذهب أقصى ما يمكن أنْ تحمله التجربة الإنسانية. وفي كتاباتي، خاصة، المقدس والمحرم منها، يقفان جنبا إلى جنب، وأحيانا يأتيان في جملة واحدة، ويتداخلان بطريقة عفوية. يأتي هذا حتى في مقالاتي التي أحاول أن أبقى فيها، في حدود الأدب، وأحاول حسب، ضمن مقاييس الأدب في سرد غير المسرود كما قلت، وقصص الضحايا غير المسموعة. واعتقد أن هذا بدون صوت، أو صرخة ضحايا سيذهب في مهب الريح، فإنًّ كلمتنا هنا ينبغي أنْ تكون، هي العالم، وستكون أيضا أكثر تكريسا للمعنى.  ولكني الآن، واحسرتاه!  أنا الضحية..

وحين كنت مودعة في زنزانة، مساحتها لا تتجاوز ثمانية أمتار مربعة، كان معي ثلاث نساء أخريات، كنت أحيانا، أعيد إلى ذاكرتي، جُملي، واستعاراتي. هل أنا غرّيرة الى حد اتخيل ذلك الملاك الذي انشطر وجهه إلى نصفين غير متساويين عن طريق ندبة. بناية الحجر ؟.فإنه أي الملاك قد اجتاز ليلة انسانية من نهاية إلى أخرى، وصولا إلى البناء الحجري، مركز الأمن، ويداه مليئتان بالهدايا . جالبا هدية لكل سجين. من شخص ما، ذكريات الطفولة، طفولة أخرى، مِن رائحة البحر، صوت البحر، أو الريح إلى شخص آخر. في ليلة مظلمة كنت أفكرفيها كثيرا؟ في أي كلمة تجري الى كلمات أخرى؟ هل كان بإمكاني أن اشخص ندبته على وجهي؟

توكمان: هل تعتقدين أنَّ بلاغة الأنثى كانت تشكل خلفية لكتاباتك؟ أم أنها هي نزعة مؤلفة حسب؟

اردوغان: اعترف بذلك تماما، الى أنْ قرأت التحليل المدهش للكاتب الاسترالي روث غلوكير Ruth Kluger- لرواية المدينة ذات الرداء القرمزي؛ الذي كان هو الآخر رهينا في معسكرات الإعتقال الجماعي سابقا، وقد ناقشته بأنني اخترت بقصد ثيمة الشذوذ الجنسي، واللغة الديونيسيةDionysian، في هذه الرواية. وعلى كل حال، وفضلا عنْ موسيقى أورفيوس، فإنًّكلوغير قد سمع أيضا أغنية بيرسيفون Persephone، الملكة والسجين في العالم السفلي حيث قال: “اسلي اردوغان تصور الخطر، أنه السقوط العظيم، الدمار التام، الذي هو حتى الآن ثيمة الأدب؛ إذ الرجال وحدهم يستطيعون العيش حتى النهاية، دون مشاركة إحساس المؤنث وصوته” وبهذه المادة المترفة، استيقظتُ في ليلتي تلك، وأدركتُ كم كنت أنا صماء لصوت الأنثى في داخلي. وكتابي الآخر، صمت الحياة، In The Silence of Life، قد وُلد بعد اكتشاف متأخر. والمواجهة كانت مؤلمة مع هذا الصوت، والبحث عن لغة الأنثى. فثمة فصل شاسع بين الصور، وواقعية ظروف النساء. فقصة ” أنثانا” تتشكل من فراغ هذه الهاوية  إنه جهد أنثوي بذاته في محاولة لإيجاد مرآة أو صوت لهذه الإساءة. ورغم ذلك، وحتى في كتاباتي الأدبية القليلة، فضلا عن مقالاتي، بقيتُ واضحة في الايدولوجيا، أو المقتربات الأيديولوجية بإعطاء دروس، ووعظ. والكتابة لديّ إما أنْ تكون تكوينا أو صرخة. بل أؤكد، أنها الصرخة التي تدين العنف للأبد.

توكمان: وعلى حدِّ علمي، أنكِ شرعت بكتابة الرواية قبل دخولك السجن، وجزء مِنْ هذه الرواية تصف سجنا، لكنك لم تكتبِ ذلك القسم من الرواية. والآن وأنتِ في الخارج، ما هو مضمون هذه الرواية، ومتى ستنتهي؟ هل أنتِ قلقة من الرقابة الذاتية؟

اردوغان: كنت اشتغل على رواية اسطنبول لسنوات عديدة، ويقع قسم من أحداثها في السجن، أنها  تزامن غريب، وربما لم يكن غريبا جدا، ذلك مشهد التعذيب الذي هو شبيه بالمشهد الذي تخيلته حقا قد حدث لي في الزنزانة، وحتى هذا اليوم، كتبتُ فصلا واحدا حسب، تحت مراقبتي الذاتية. ولا أتذكرأني طبعت قصة قد كتبتها كان صوتها الشخص الأول مُغتَصَبا، وهو في الوقت ذاته ضحية التعذيب. وخشية إساءة ضحايا الإغتصاب، وباختصار، أنني ضحيتُ بقصتي لتصحيحات سياسية .بيد أنني حتى الآن، تعلمت ذلك من الكتابة أنًّ ثمة ثيمات أكيدة لا يمكنكَ إدخالها، وإن فعلتَ ذلك، فهنا، ليس ثمة مساومة. ويأتي ذات يوم ستَعبْر فيه منعطفا لا عودة منه، وستواجه في نهايته العنف حتما، وهذه هي النقطة التي يجب أنْ تتجاوزها، فليس ثمة متسع أمامك للتردد، فإمّا النفاق على الذات أو الإشفاق عليها. وعليك أنْ تدفع بنفسك والقاريء معك، وبالطبع تصاحبك اللغة عبر جميع الحدود والنهايات.

توكمان: في رواية “فيصمت الحياة، In The Silence of Life “،أنك تتحدثين عن معركة مع الكلمات، ووصلت الكتابة التي تتحدثين عنها إلى لا شيء، حين كنتِ تهدفين أنْ تكتبي كل شيء، الدماء التي تنبجس مِن جسدكِ، وتفيض عبر لغتك. يبدو مِن هذا كله أنَّ هدفكِ، هو البحث عن السلام عن أشياء تثقل كاهل حياتكِ، وتبعث في داخلك الحزنإلى أين يمتد نزف جراحك أو استلاب حريتكِ؟ هل من الممكن إعادة رسم الحدود بين الحياة والكتابة اللتان يتداخلان بعضهما في بعض؟

اردوغان: العذابات المبرحة تبحث عن صوت، صوت يبحث عن صورة… نزف، دم يشخب مِن الجلد، يبحث عن لغة، كما أعراض، ونزف آخر، مخفيا في الأعماق… الجمل تتفتت، في وقت تبحث عن بناء نسيج عارٍ للحياة، ورسالة تصل الى لا شيء، في وقت تهدف أن تتحول الى كل شيء. وبعد ذلك تحاول وبنفاد صبر،أنْ ترمم الأجزاء، مرة، ومرة أخرى، “وإلى الأبد”. وبنفاد صبر أيضا، تحاول أنْ تجمع معا الليل مع الظلام، ثم تملأهما وبصبر تنتظر الظلال، والبرودة، والرطوبة، وضوء القمر الذهبي. في هذا الكتاب، وصفتُ الكتابة بهذه الطريقة. انتظار مهجور، وحدة تامة، بانتظار قرع أجراس الحياة، تكون فيه الحياة، كما جرس، تكون فيه كما رجع صدى. لكن عنوان الكتاب يشير حاليا إلى عبثية، إلى حياة  لا يمكن الإمساك بها بالكلمات، وصمت لا يستجيب لمناديه أبدا. وكما جاء في “المدينة ذات العباءة القرمزية” الكتابة والحياة شبيهتان كما شيء يتكلم من بطنه، يواجه أحدهما الآخر، ويتحدثان من بطنيهما، ولم أكن متأكدة طويلا، كلاما من هذا الذي أسمعه؟!

الكتابة عمل لا متناهٍ، مناجاة فردية متواصلة ، أو صوت حوار منفرد، بين الذات والعالم؟ إنها شاهد؟ أو حصن نحتمي به للمراقبة، أو مبارزة مع الواقع، أو ببساطة هوامش مخطوطة، أو خربشات نملأ فيها نصف صفحات حياتنا  أكاذيب تلعق جراحاتنا. “المدينة ذات العباءة القرمزية” .  هي جوهرفعل الحياة، محاولة عبثية “لخلود” القرون بعد فأس الموت الجماعي الذي هشم ضمائرنا؟ إنه تحرير لتطهير العواطف من سجننا الطبقي. الإنسانية هي ليست سجنا أبديا، أو إبداعاتها، أو قصصها، أو أساطيرها؟! وهذه إشارة إلى الرواية نفسها مرة أخرى. فالكاتبة قبضت على دمارها بجملة كما يلقى القبض على طائر حيّ كهرماني اللون، وتحويله إلى قطع فنية استعدادا لعرضه والإعجاب به. أو أنَّ الكتابة هي ولادة جديدة، أو إعادة بعث طريقه متقاطع بثبات، وتحويله إلى ميتات عدة. وأنا اعتقد أنَّ هذا كله، ولكن في الوقت ذاته لم يكن أي شيء من هذا كله. والأدب يحتاج دائما إلى قناع حين يكون مع الموت وجها لوجه، ولكن إن حافظ على تنفسه بعد تكسر أقنعته واحدا بعد الآخر – وهذا ما نطلق عليه الأدب.

توكمان: أعرف تماما أنك تحبين الرقص. ونسمع كلماتك أيضا تمر من أذن إلى أخرى. وسمعتُ أنكِ راقصة باليه في فترة السجن. أي نوع من الروابط بين الآلآم، والتأليف، والرقص؟

يستمتع معظم القراء بحقيقة، أنني كنت متخصصة بما يُطلق عليها “جُسَيْمات فيزيائية “، ثم أكملت اطروحة ماجستير عما تسمى جسيمات هيغز- بوسن، Higgs-Boson، لكنهم، أي القراء  متحيرون جميعا، حين اكتشفوا أنني كنت أرقص في الغالب طيلة حياتي، إلى أن أجريتُ جراحة في العمود الفقري، صاحبَتها عذابات لا تتزعزع، نتيجة رقص الباليه الكلاسيكي. واللغة في نصوصي التي أعرفها جيدا، هي لغة ديونيسية Dionysian، وقد عرّفها آخرون بأنها لغة كوربورالية جسدية، حسية، انفجارية؛ أو موسيقية بالأحرى، أنا مدينة كثيرا للرقص. ومن خلال هذا الرقص الذي يتطلب العناصر الأساسية للغتي: مثل الإيقاعات. والموسيقى الكلاسيكية، التي علمتني قواعد الطِباق أو فن مزج الألحان counterpoint، هذه الإيقاعات، طبّقتها في وقت كنت أكتب فيه “بناية الحجر” The Stone Building.

وجسدي هذا، يشعرني حين أصل إلى أقصى حدٍ من الرقص. كما سبرتُ أقصى ما يمكنني من مفردات. وفي هذه الثيمة بالذات، تركت قلمي وشرعت بالرقص والبكاء! وكنت في كل مرة أنجز فيها كتابا، يفرز جسدي تفاعلات كيميائية عنيفة. مما اضطرني إلى إجراء عمليتين بعد انجاز آخر كتابين، وهنا، بدأت أتشافى تماما، من مرض خطير دام سنتين تامتين، بعد أنْ أكملت المدينة ذات العباءة القرمزية. وكان من المستحيل عليّ أن أعبِّر بالكلمات عن الحكمة المختفية في أعماقي لطقوس candomble، وبذا، تعلمت من ذلك أنَّ هنالك،” شيء ما !” في الأفق البعيد، شيء ما فائقا أمامي وخلفي، ومن خلال الطقوس حسب، ربما يُظهر نفسه لي. أنا أشعر أنني قوقعة جوفاء من الكلمات المتدفقة، هذه هي. نعم، في لحظات الطقوس حسب، بينما الكتابة؛ فأنا أتأمل الحياة فيها، تتدفق من خلال تلك القوقعة الجوفاء.

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة