تأليف/ د.عمار عباس محمود
يبحث المؤلف في كتابه “القضيَّة الكرديَّة.. إشكالية بناء الدولة” المسألة الكردية، التي كانت وما زالت كرة تتقاذفها المصالح الإقليمية والدولية، إلا أن تحقيق حلم الدولة الكردية اليوم يبدو أقرب إلى الواقع من أي يوم مضى بسبب التغيّرات الديموغرافية بين العراق وسوريا وتركيا.
لم ينقطع التطلع إلى تأسيس دولة كردية كبرى عن الوعي الجمعي للأكراد في الشرق الأوسط، باعتباره أحد تجليات الهوية المشتركة. ساعدت على هذا الطرح التحولات الإقليمية الراهنة، وتحديدًا في سوريا والعراق، حيث يلعب الأكراد دورًا بارزًا في الحرب ضد إرهاب تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.
وفي وقت يحظى فيه حزب الاتحاد الديمقراطي وقواته في سوريا بالرعاية الأميركية، تتبنى روسيا مسودة دستور فيدرالي يؤسس لقيام دولة كردية، الأمر الذي يؤشر إلى توافق روسي أميركي في شأن الورقة الكردية، ما جعل سيناريو الدولة الكردية العابرة للحدود مطروحًا، خصوصًا في ظل سيطرة قوات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي على مناطق شاسعة في شمال سوريا، وتمتع أكراد العراق بحكم ذاتي فدرالي في شمال العراق.
مشروع قومي كردي
ما يبعث على إمكانية التحرك والسير في خطى طرح مشروع هذه الدولة هو طلب رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني بعقد مؤتمر قومي يضم أكراد العراق وتركيا وإيران وسوريا وأرمينيا للمناقشة والتحضير لمستقبل حق تحقيق المصير، وبحث ما يواجهه الأكراد من تحديات في دولهم.
يمكن أن يكون هذا التحرك بداية لتبلور مشروع قومي يتجاوز حالة الانقسام القائم بين الفصائل الكردية، وما يمكن أن يكون في المستقبل طرح رؤية لتكوين الدولة القومية الكردية، في ظل ما تعانيه المنطقة من حروب وانقسامات وأزمات اقتصادية، إلى جانب الحراك الدولي في المنطقة ومحاولة التغيير باستخدام حقوق الإنسان وحق تقرير المصير.
أثار محمود العديد من الأسئلة المهمة حول واقع وتطور مشكلة الأقليات، التي يعانيها العديد من الدول العربية، وحالة الإقصاء السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وغياب الرؤية العلمية والبرامج السياسية التي يمكن أن تعالج هذه المشكلات، التي تدفع هذه الأقليات إلى الابتعاد عن السلطة المركزية، والسعي إلى تأسيس كيانات قومية تسعى إلى تأكيد خصوصيتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
من التساؤلات التي حاول الإجابة عنها في كتابه: هل يمكن أن يتوصل الأكراد في تركيا والعراق وإيران وسوريا إلى مرحلة طرح مشروع دولة قومية كخيار سياسي وحيد؟، ما هو إدراك القيادات الكردية في الدول الأربع لطبيعة التحديات الداخلية التي ستواجه هذه الدولة في ضوء حالة التباين الواضح بين أوضاع الأكراد في الدول الأربع ومستوى تطورهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والتباين الواضح في مستوى الموارد والطاقات المادية والبشرية؟، ما هو دور التأثيرات الخارجية إلى جانب الظروف التي تولدها التطورات الداخلية عن احتمال قيام الدولة القومية الكردية؟.
الإمارات الكردية
قال إن الجدل لا يزال قائمًا بين الباحثين حول تحديد تعداد الأكراد، ويمكن القول إن هذه المسألة تعد من المسائل الأكثر تعقيدًا وتضاربًا وصعوبة، ويمكن إرجاع هذه الصعوبة إلى التضارب بين الإحصائيات التي تقدمها الدول التي يتواجد فيها الأكراد، وتلك التي تقدمها المصادر الكردية.
كردستان بلاد ذات حدود طبيعية، وهي وطن الشعب الكردي على الرغم من عدم وجود حدود سياسية دولية، وعلى الرغم من تقسيمها بين العراق وتركيا وإيران وسوريا، وتشمل جغرافية كردستان عنصرًا أساسيًا من الهوية القومية الكردية، والحركة القومية الكردية، مصرة على تحويل الحدود الطبيعية لكردستان إلى حدود سياسية لكيان سياسي مستقل أو شبه مستقل، وهي تصر على أن كردستان بلاد الأكراد، وتحدد حدودها بحسب تواجد الشعب الكردي، إضافة إلى الرجوع إلى أقوال بعض المستشرقين، خصوصًا الذين تكون أقوالهم في مصلحة الأكراد، وبذلك تساهم إشكالية تحديد حدود كردستان الجغرافية والطبيعية في تعميق إشكالية الهوية القومية الكردية.
وأضاف محمود: “نشأت إمارات إقطاعية في القرون الماضية، برزت بينها إمارة بابان وسوران وبهدينان وبوتان وهكاري، وكانت هذه الإمارات في تقاتل دائم، فكانت كل إمارة تزيح الإمارة الأخرى وتنهيها، وهذا الأمر أضعف الأكراد وأبعدهم عن الوحدة في تشكيل إمارة أو دولة قوية.
بعد الحرب العالمية الأولى، حصل الشيخ محمود الحفيد وبمساعدة بريطانيا على بعض الحقوق في السليمانية، فنصب نفسه ملكًا عليها، وتمت إزاحته من قبل بريطانيا، ومع ذلك كانت كردستان تستجيب للتطور الذي شجّع القوى التقدمية السياسية لدى الأكراد.
تطور المشروع الكردي في جمهورية مهاباد في إيران 1946 التي لم تستمر طويلًا، وأخذ التطور السياسي الكردي بالتزايد بعد حصول الأكراد على حقوقهم في الدستور العراقي في عام 1958، ثم قانون الحكم الذاتي في العراق في عام 1974، ثم حلم الفيدرالية في عام 2003 في العراق”.
ورقة ضغط
رأى الباحث أن المعوقات الإقليمية لقيام دولة كردية تتمثل في تحفظ دول الإقليم، خصوصًا إيران وتركيا، حيث ترفض تركيا فكرة الدولة المستقلة، باعتبار أن قضية الأكراد ليست عراقية فحسب، وأن نسبة كبيرة من الأكراد تقيم في تركيا.
شكل أكراد العراق إغراء للقوى الإقليمية لاستخدامهم للتدخل في شؤون العراق، وشكلت القضية الكردية قلقًا مزدوجًا لكل من تركيا وإيران وسوريا، بسبب وجود الأكراد داخل حدود هذه الدول. ولقد استخدمت هذه الدول جميع الوسائل الأمنية والعسكرية والسياسية من أجل القضاء على فكرة الانفصال لدى الأكراد.
أما المعوقات الدولية لقيام الدولة الكردية، فبدأت مع اتفاقية سايكس – بيكو في عام 1916 بتقسيم منطقة الشرق الأوسط (تركة الدولة العثمانية)، ثم هدنة مدروس (1918) وبعدها مؤتمر الصلح في فرساي (1919) ثم مؤتمر سان ريمو (1920) وبعدها اتفاق سيفر (1920) ثم معاهدة الصلح في لوزان (1923) التي ألغت معاهدة سيفر، وحسمت موضوع الكيان الكردي بالفشل.
كما استغلت الولايات المتحدة الأكراد ضد الحكومة العراقية، وكان ذلك جزءًا من عالم سياسة الأمر الواقع النفعية، فالتطورات السياسية التي حدثت في مطلع السبعينيات من القرن العشرين ساهمت في صياغة موقف الولايات المتحدة من المشكلة الكردية وتمثلت في تأميم العراق للنفط، وانسحاب المملكة المتحدة البريطانية من الخليج العربي، واستخدام العرب النفط في حرب 1973 ضد إسرائيل، ومعاهدة الصداقة والتعاون العراقية السوفياتية.
واستفادت الولايات المتحدة من الأكراد كثيرًا في حرب 1991 ضد العراق، وأحسنت استخدامهم ورقة ضغط ضد الحكومة. أما الجانب الروسي فاستفاد من الأكراد، واستخدمهم كورقة ضغط في المنطقة، فقد استخدمهم في إيران (عن طريق دعم جمهورية مهاباد 1946)، واستغل أكراد العراق من أجل الضغط على الحكومة العراقية، واستخدم أكراد تركيا ضد حكومة أنقرة.
منذ سنة 1991 أصبح إقليم كردستان العراق يتمتع بحكم ذاتي فعلي عندما فرضت الولايات المتحدة منطقة جوية محظورة. شجعت هذه الحماية الأميركية كردستان على إعلان استقلالها عن العراق، لتربك النظام الحدودي القائم، لكن الأكراد اختاروا خدمة مصالحهم الاقتصادية داخل تلك الحدود.
فيدرالية ما بعد الغزو
بعد الغزو الأميركي للعراق، أقرّ الدستور العراقي الجديد نظامًا فيدراليًا، وأعطى إقليم كردستان درجة كبيرة من الحكم الذاتي على محافظات دهوك وأربيل والسليمانية.
خطط الأكراد بعد الاحتلال الأميركي لتحقيق طموحاتهم من خلال إحياء الأمل في بناء الدولة الكردية في نطاق الفيدرالية العراقية، لتكون اللبنة الأولى في بناء الدولة الكردية المستقلة مستقبلًا. توافرت الظروف للأكراد لتأسيس دولة عابرة للحدود، انطلاقًا من العراق وسوريا، وتمثلت بالاستقلالية الاقتصادية للأكراد في هذه الأجزاء، عن طريق الاتفاق مع شركات عالمية لاستخراج النفط والغاز وبيعهما.
كما سيطرت قوات البيشمركة الكردية على مدينة كركوك النفطية، وأعلن رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني ضم المناطق المتنازع عليها، وإجراء الاستفتاء لحق تقرير المصير للشعب الكردي، ودعا إلى عقد مؤتمر دولي جامع لجميع الأكراد في العراق وتركيا وإيران وسوريا.
سمحت الظروف الحالية في المنطقة بالاتصال الجغرافي بين الأكراد، فقد سهلت الاتصالات بعد فتح الحدود بسبب سيطرة داعش على أجزاء من العراق وسوريا، فأصبحت الأراضي الكردية متصلة، وهي ليست بعيدة عن جنوب شرق تركيا وشمال غرب إيران.
أما على المستوى العسكري، فأصبح الأكراد يمتلكون قوات شبه نظامية، متمثلة في قوات البيشمركة، وبتسليح يشبه الجيوش النظامية بعد مساعدة الولايات المتحدة لهم. تعاملت دول حلف شمال الأطلسي عامة، والولايات المتحدة خصوصًا، مع قضية تسليح الأكراد سواء في سوريا أو في العراق، على أنهم بديل موقت لنشر قوات برية في إطار الحرب الدولية على داعش.
إشكالية الوعي القومي الكردي
قال محمود إن تجربة إقليم كردستان العراق في بناء إقليم كردي تطرح شكل تطور الوعي الكردي بالأيديولوجية القومية والخروج إلى حيز الممارسة العلمية ضمن الإطار الجغرافي للمكون الكردي، الأمر الذي يثير إشكالية كبيرة في الوعي القومي الكردي السوري بالوطنية السورية التي تبدو وكأنها أمام امتحان تاريخي ومعرّضة للتدمير والتقسيم، إذا لم تنتج المعارضة السورية صيغة واقعية تقر بحقوق الشعب الكردي والأقليات القومية والدينية والمذهبية، التي تخشى من التداعيات ووصول جماعات متشددة إلى السلطة، حيث المخاوف من سيطرة الإسلاميين على المشهد السياسي في المرحلة المقبلة.
خلص محمود إلى أن سيناريو تحقيق الحلم الكردي بالدولة الكردية يقوم على انهيار الأنظمة الحاكمة وتبدل النظام الدولي في الشرق الأوسط، وهذا ما توقعناه بعد دخول العراق وسوريا ضمن الدول الفاشلة التي تفتقد تحقيق الأمن وإدارة الدولة، لعدم سيطرتها على حدود البلاد وانتشار الفوضى والفساد فيها.
كذلك ستنهار المنظومة الحاكمة في إيران بعد نفاد المصلحة الدولية منها كلاعب إقليمي، واقترابها من نهاية الجيل الثالث من عمر الدولة. ويأتي بعدها الانهيار التركي وتقسيم تركيا بعد انتهاء التزعم الإقليمي وقيادة الشرق الأوسط وفق النظام الإسلامي، ورفع راية الخلافة وتشجيع التطرف في البلاد العربية خصوصًا والبلاد الإسلامية عمومًا. من أنقاض هذا الوضع سوف تولد الدولة الكردية. وستعيش المنطقة حالة من النظم الفيدرالية وفق الثقافة المفروضة من قبل الولايات المتحدة.
ـــــــــــــــــــــ
كتاب القضيَّة الكرديَّة.. إشكالية بناء الدولة
تاأليف : د. عمار عباس محمود … ط ١ 2016