خاص : ترجمة – محمد بناية :
ما يقوله القصص القرآني حقائق تاريخية مسلمة.. ولكن لا يمكن القول مطلقًا إن القصص القرآني يوازي نقل الوقائع التاريخية بشكل مطلق ومحض. إن ما يميز القصص عن كتابة التاريخ في “القرآن الكريم” هو الخصائص الفنية للقصص القرآني.
وهذه الخصائص هي البيان المعجز؛ وكذلك النظم الخاص للوقائع المختارة من التاريخ، بالشكل الذي يثير في المتلقي إحساس أن الأحداث والشخصيات تمر أمامه وتتحدث إليه. وإلا لن تتحقق الفائدة الأساسية للقصص القرآني؛ وهي العبرة والموعظة.
لذا في تعاطيهم مع مثل هذا الاعجاز الفني اعتبره الكفار سحرًا وأساطير الأولين وشِعر وأقوال الكهنة. وما كان لهذا أن يحدث لولا وقوعهم تحت سيطرة النفوذ القرآني، حيث عثروا على كل مؤثرات الفن البشري، (الكثير منها)، في القرآن. لكن حقيقة القصص القرآني لا يتناغم مع البيان الفني والبلاغي للقصة. وبينما يحكي القصص القرآني وقائع تاريخية هو يترك في المتلقي، قبل ذلك قصيدة أو رواية أو مسرحية، ويثير شعوره وتجعله يحلق مع أحداث وشخصيات القصة. بحسب موقع (روزنامه روشنگر).
الآثر الفني للقصص القرآني..
للآثر الفني ثلاث خصائص: وهي أن يحظى بـ”الحداثة، وجمال البناء، وقدرة التعبير”. وللقصص القرآني آثرًا فنيًا يشمل الخصال التي تلبي المميزات الثلاث.
بعبارة أخرى، يختلف القصص القرآني تمامًا عن الحكاية وعموم التصوير الفني للشخصيات والأحداث والحوارات، هو تصوير للصراع الدائم بين “الخير” و”الشر” داخل الإنسان من جهة؛ وبينه وبين القوى الشيطانية من جهة أخرى.
دور الزمان والمكان في قصص القرآن الكريم..
يلعب “الزمن” في القصة دورًا عميقًا. وإخراج القصة عن حدود الزمن يحيلها شجرة قد انفصلت عن جذورها لا تنمو لها أغصان. والقصة الناجحة تستفيد بدقة من عنصر الزمن، وهو يجعلها قوية أو ضعيفة. ولا يمكن تحديد قاعدة للإستفادة من الزمان. ولكن إحساس وروح الفنان هو الذي يضفي على أي قصة لونًا زمنيًا.
دور الزمن..
“الزمن” في القصص القرآني؛ بمثابة اليد التي تحمل الأحداث وتحركها. ويموت الحدث ولا يتطور حال إنعدام هذه اليد.. وعليه يتسم “الزمن”، في القصص القرآني، بالحضور المباشر والواعي والمفيد.
على سبيل المثال انظر إلى قصة سيدنا “يوسف”: حين ألقاه اخواته في البئر، كانوا يعلمون أن علامات الحقارة والخسة والكذب سوف تظهر على وجوههم. لكن اختيار الوقت المناسب لإخبار الوالد، لعب دورًا أساسيًا في تطوير القصة. فاختاروا الليل حتى لا تلتقي وجوههم وجه أبيهم في الضوء؛ والقرآن يركز على عنصر الزمن.. قال تعالى: [وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ].
هذا العنصر لعب كذلك دورًا في شعور الأب؛ وأوحى إليه بفكرة أن لو كان أبناءه صادقون لما اختاروا هذا التوقيت لنقل الخبر. كذلك لم تحدد القصة ذاتها؛ المدة التي قضاها سيدنا “يوسف” في السجن، لأن المهم في القصة هو أن سيدنا “يوسف” لم يتلوث أو يضل أو يقصر في الدعوة إلى الله مطلقًا رغم سنوات السجن. لذا فإن غموض “الزمن” هنا هو عين الوضوح والتوضيح.. قال تعالى: [فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ].
دور المكان..
“المكان” كما الإطار الذي فيه تقع الأحداث، وهو أيضًا كاليد التي تحمل الأحداث. لكن دور “المكان” ليس بأهمية وتأثير دور الزمان. لأنه ربما لا يكون لمكان الأحداث أثر خاص في إعلان رسالة القصة.
لذا فالقرآن لا يذكر أساسًا مكان القصة؛ ما لم يكن ذا دور خاص في تطوير الأحداث ونقل العبرة، كما في حالات “مصر” و”مدين” و”الطور” و”الأحقاف”.
ومن النماذج الواضحة للتأثير المكاني، يمكن الإشارة إلى قصة “الإسراء”.. فالمساحة المكانية بين “المسجد الحرام” و”المسجد الأقصى”، بالإضافة إلى الفجوة الزمنية، “ليلة”، يوضح حدود القصة، وبدون ذلك لأحاط الغموض بقصة “المعراج”.
ويثير سماع القصة في المؤمنين مشاعر الفخر والعظمة، وهو نتاج عنصري “الزمان” و”المكان”. فلو لم يرد ذكر للمسجدين؛ وكذلك الليل، لما كان للقصة أن تترك هذا الآثر العاطفي والإحساس العميق.
قال تعالى: [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ].
ما هو القصص القرآني ؟
“القصة” في اللغة تعني إقتفاء الآثر.. قال تعالى: [وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ].. وقال أيضاً: [قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا].
و”القصص القرآني” يرتبط بهذا المعنى اللغوي، لأنه يقتفي الوقائع التي حدثت بالماضي. ومؤكد أن هذه الأحداث قد وقعت في الماضي البعيد، تُعرف في القرآن بـ”أنباء”، مثل قوله تعالى: [نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ].
أما الأحداث القريبة؛ أو التي يجب اعتبارها قريبة، فإنما تُعرف بـ”الأخبار”، كقوله تعالى: [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ].. وكذلك: [يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا].
على كل حال فإن تتبع آثر هذه الأنباء وتلكم الأخبار هو المعنى الدقيق لـ”القصص القرآني”.
المراد من القصص القرآني..
“القرآن” تحدث عن أحداث راهنة وأخرى مستقبلية؛ مثل “حادثة الإفك” و”موقعة بدر” و”أُحد” و”حُنين” و”بيعة الرضوان” و”صلح الحديبية”، وكذلك الحرب بين “الفرس” و”الروم” و”فتح مكة” وتوقع هزيمة المشكرين في “موقعة بدر”.
لكن القرآن لم يسمي هذا النوع من الأخبار قصصًا. لأن القصة في الاصطلاح القرآني تعني إقتفاء أخبار السابقين. وهذا النوع من الأخبار قد يحمل عبر ومواعظ، لكن الأحداث الجارية والمستقبلية تُطرح لكشف الوقائع والأحداث.
وقد أشار “القرآن الكريم” إلى مسألة تتبع المواعظ والعبر، فقال تعالى: [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ]..
أما “الحكاية”؛ فهي قالب لإعادة صياغة حدث دون الاستفادة من عناصر القصة. وعليه يبدو أن اسم الحكاية ملائم أكثر للقصص القرآني. لكن لماذا اختار القرآن اسم القصة بدلاً من الحكاية ؟.. لأن “الحكاية” هي محاكاة وإعادة الوقائع وتجسد الأشخاص والأحداث محل الاهتمام. أما “القصة” فهي تمنح روحًا للأحداث وتقتفي الآثار الناجمة عنها.
والقرآن في قصصه يمنح لأزمنة وأماكن الحدث هوية خاصة، ويضعنا في نفس المنطقة بالشكل الذي يساعدنا على إقتفاء آثر المضامين وألا نلتفت بشكل أساس لإنعكاسات الأحداث.