29 ديسمبر، 2024 9:43 م

الفواعلي.. قصة قصيرة

الفواعلي.. قصة قصيرة

 

يكتبها : محمد فيض خالد

أخيرا انقضت الامتحانات، وانتهت المُهلة التي اعطيتها نفسي لاستر عَافيتي، والتي كَلفت أمي زوجين من الأرانب، وأربعَ دجاجاتٍ انقطعن عن البيَضِ، عاجلتهن السِّكين قَبل أن يألفن التَّسكع فوقَ أسطحِ الجيران. ألقيتُ ملابسي ببطنِ حَقيبة يدٍ صغيرة، احتلت على توفيرِ جُنيهاتٍ قلائل استدنتهم من جدتي لأمي لزوم الطريق، لم يتبق إلا أن يُحدِّد صديقي “ربيع” موعد السفر، هذه المرة الأولى التي أُغادر فيها قريتي، لوجهٍة جديدة ولحياةٍ مختلفة أجهلها بالمرة.

فلطالما تصفَّحت أوراقا من دفترٍ أحوالِ الغُربة، رواها أبناء قريتنا، ولطالما انجذبتُ لما فيها من الحزنِ والفرح الضَّيق والفرج المرض والصحة، حتى معاركهم وبطولات البعض المُلفّقة التي مرحت بحقولِ الخَيالِ انشغلتُ بها. وجدتُ في تلك العوالم اللَّذة والانجذاب، وجدت فيها بَراحا مُمتدا، وتَحرُّرا من قيودٍ صَارمة، وفِكاكا من مَـألوف، تَحدَّد صباحَ يومٍ صَائف فاتر ملتهب، أحمرّت شمسه موعدا للرَّحَيلِ.

مَرَّ “ربيع ” في جِلبابهِ الأزرق وحذائه اللَّميع، انسللت خِلسةً قبل أن يراني أحدٌ، فهذه الرحلة على غيرِ مُرادِ الأهل، خاصةً الوالدة التي تَخشى على صغيرها قسوة الأيام، تقول متُألمة: “كسرة الخبز في بيتك أبرك من خروفٍ في بلاد الناس، الغربة تُربة”، ما أشقى الغريب وما أشقى لياليه،في حُجرةٍ متواضعةٍ رُصَّت الفُرش إلى جوارِ الجُدرانِ،  امتلأت بأواني الطَّبخ وقناني المياه، ووجوه لوَّحتها الشَّمس، واجهدها التَّعب فنفرت عظامها، وتشعَّثت لحِاها.

التهمتُ عشائي الأول في ابتهاجٍ وأنس، ومن بعدهِ دارت كؤوس الشاي معبقة وسط أجواءٍ السَّمرِ والتَّسليِة، انهمك الأصدقاء في لعبهم وكَأنَّ دنياهم خَلت من قسوتها، فلم تعرف غير المرحِ والضَّحكِ الصَّافي. تَخيَّرت مكانا للرّقادِ اتخذته إلى جوارِ “ربيع”، اطفئ المصباح الوحيد لتَغوص من بَعدهِ الغُرفة في ظَلامٍ دامس، اختلطت فيه تأوهات الأحلام بأنينِ الآلام، بتصريفِ البطون هكذا حتى انفلق بطن الصباح وصَرخَ جنينه، توسلت للنُّعاسِ فلم يستجب، لكَّنه عَاجلني بغتةً، استغرقت في هدأتهِ زمنا، لم أدر بنفسي إلا ويد “ربيع” تَهزَّني برفق، تناولنا فطورنا على عَجلٍ وانطلق ثلاثتنا أنا وربيع وابن خالته، قال ربيع مُتهلل الوجه: “أنت وجه السعد، لقد تقاولنا على شغل جديد للتشوين”، هَززت رأسي مُؤمِّنا على كلامهِ، وقفنا أمام بناءٍ حديث، صَفقَ صاحبنا فَرِحا وهو يشير ناحية جَبلٍ هائلٍ من الرمال، بادرني بالصِّياح: “البوسطا.. البوسطا “.

لم افهم معناها، لكننَّي انهمكت معهما في تعَبئِة الأكياس بالرمل وحملها، انتابت “ربيع” حالة من الهياج، جعل أثنائها يَصرخُ بصوتٍ عالٍ وهو يهرول فوق الدرج: “بوسطا..بوسطا “، ظللت على حالتي من الثَّباتِ،إلى أن فسَّر مقصوده، يتوجَّب على ثلاثتنا الانتظام سريعا فوق الدَّرجِ في تَسلسلٍ، يتناول أحدنا الحِِمل عن أخيه حتى يفرغه الأخير وهكذا، لم يكن يومي الأول كأجملِ ما يكون.

بلَغَ مني الإعياء مبَلغه وأنا الذي حمل الفأس صبيا، جعلت أنظر من أعلى ألعن جبل الرمل الراسي في استفزاز، انقضي يومي وعدت أجر جسدي المنهك، تناولت العشاء وارتميت على فراشي لا ألوى على شيء، وعند الصباح ايقظني “ربيع” مُبتسما وهو يقول: “لقد ازعجتنا طوال الليل، ظللت تطلق عقيرته بكلمة بوسطا حتى مطلع الفجر”، فرَكتُ عينيَّ، اقتربتُ منه هامسا في أذنه: “بوسطا”، وغِبنا في ضحكٍة طويلة.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة