الدكتور علي المؤمن وكتابه «الفقه والدستور»

د. محمد باقر البهادلي

    بالإشارة الى النشأة المشتركة التي تجمعني بأخي الدكتور علي المؤمن، والتوجه الفكري المتقارب في التخصّص والكتابة، وطبيعة المنهج العلمي في البحث لكلّ منا؛ فقد استوقفتني مسألتين في كتاب «الفقه والدستور» للدكتور علي المؤمن، سيما وانّي كتبت عدد من البحوث نُشرت في مجلات علمية محكمة لها صلة بموضوع الكتاب، منها:

  • «الأسس النظرية لمفهوم الدولة في الفكر السياسي الإسلامي الحديث والمعاصر».
  • «الولاية والسيادة بين جدليّة المنظور الفقهي ودلالات البُعد السياسي».
  • «السلطة التشريعية بين الشرعية الفقهية والمشروعية الدستورية».

    فوجدت من المناسب الإشارة لها هنا بغية التكامل في البحث العلمي الذي يستند الى منهج كلّ باحث وإن اشتركا بالفكرة ذاتها، دون أن يُفهم من ذلك وجود إشكالية في الطرح، وإنما وجدت من النافع جداً ذكر ماورد من طروحات متقاربة بيننا في البحث العلمي.

المسألة الأُولى: المشروطة والمستبدّة:

    يرى الدكتور علي المؤمن ((إنّ ثورة الدستور في إيران لم تكن ثورة إسلامية محضة تهدف الى بناء نظام ديني؛ برغم أنّ رعاتها وقادتها كانوا من كبار علماء الدين؛ بل كانت غايتها تنحصر في مواجهة الاستبداد الملكي والحكم المطلق عبر دستور يحدّ من صلاحيات الشاه، وبرلمان يمثل الشعب؛ أي أن غاية ما كانت تطمح إليه الثورة وقادتها من علماء دين ومفكرين هو التأسيس لملكية دستورية وراثية لا تتعارض قوانينها مع أحكام الشريعة الإسلامية)). ويضيف ويقول: ((وواقعية هذا اللون من الفكر السياسي الإسلامي المرحلي؛ له علاقة بمستوى وعي الأمة، ومستوى جرأة الفقهاء وانفتاحهم على موضوعات الفقه السياسي، ورؤيتهم لموضوعة الدولة الإسلامية، وهو نتاج لعملية تفاعلية بين العقل المتحكم بالشعب وفقهائه ومثقفيه، والواقع الحاكم منذ مئات السنين. ومثلما لم يكن علمانيو الثورة يفكرون تفكيراً حقيقياً بالتأسيس لنظام جمهوري؛ فإنّ إسلامييها أيضاً لم يكن وراداً لديهم التأصيل لنظام إسلامي) .(

    وهنا لابد من الإشارة الى أنّ الجذور التاريخية لهذه الحركات تعود الى منتصف القرن الثامن عشر في الدولة العثمانية كصراع بين القديم والجديد في شكل نظام الحكم، وفي إيران الى منتصف القرن التاسع عشر: وذلك من جراء دخول المخترعات والنظم الحديثة الى إيران في عهد الشاه ناصر الدين (عام ١٨٤٨ – ١٨٩٦ م)، فضلاً عن تردّي الأحوال الاجتماعية والسياسية في عهده.

    وبلحاظ أن المشروطة العثمانية تختلف عن القاجارية؛ في أن الثانية قامت بزعامة بعض المجتهدين الكبار، وتبعهم العامة والكثير من أعيان المدن والريف، بينما المشروطة العثمانية كانت ذات طابع اجتماعي مختلف؛ فهي في الغالب من صنع فئة صغيرة دون أن يساعدهم فيها رجال الدين والعامة إلاّ قليلاً. وهذا العمق التاريخي ربما يشير بشكل أو بآخر الى طبيعة الفكر الذي رافق التحرك الدستوري في كلتا الدولتين. ولكن لابد من ملاحظة الانقسام الذي جرى بين رجال الدين أنفسهم في هذا الجانب، حتى خارج إيران، وبروز اتجاهين:

    الاتجاه الأول: وهو ما يسمّى بحزب المشروطة، والذي يؤيد الحركة الدستورية وضد استبداد الشاه وكبار الإقطاعيّين ويطالب بوضع دستور ديمقراطي للبلاد، ويؤيد تأسيس مجلس نيابي. وتزعّم هذا الاتّجاه الذي انتشر بين أوساط المثقفين الشيخ محمد كاظم الخراساني.

    الاتجاه الثاني: وهو الذي يناوئ الاتجاه السابق، ويدعو الى المحافظة على شكل نظام الحكم الموجود، والدفاع عن مشروعيته، وهو الاتجاه الفردي في ممارسة السلطة السياسية والذي يدعى بــ (المستبدّة) وهم الذين يعتقدون أن السلطة مقدّسة، وان السلطان ظلّ الله في الأرض، ولا يجوز تقييده بدستور. وتزعّم هذا الاتجاه السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي.

    ولا يخفى على المؤرخين والباحثين تأثير ذلك على بعض رجال الدين في النجف الأشرف وبغداد والبصرة، وحتى التأثير الكبير في أوساط المثقفين. من هنا نقول إن المدارس الفكرية السياسية تختلف حتى بين علماء الدين وفقاً للمبنى الفقهي الذي يعتقد به كلّ منهم، بغض النظر عن أن هذا التوجّه إسلامياً كان، أو غيره من التوجهات السياسية، وهذا ما نراه في نقاش المسألة الثانية التي سنتطرق إليها لاحقاً. ويمكن القول إن التوجّه الفكري السياسي حينها؛ كان بعيداً عن مسألة شكل النظام السياسي، سواء أكان ملكياً أو جمهورياً. ولم تكن الصبغة الإسلامية الدينية غالبة على اتجاه دون الآخر؛ فكلا الاتجاهين كان فيهما المجتهد وعالم الدين والمثقف.

    وبذلك نستطيع أن نصفها بداية مرحلة النموّ في طبيعة التفكير السياسي للوصول الى نظام حكم لن يبتعد كثيراً عن ثوابت الشريعة الإسلامية. ولا يمكننا هنا أن نغفل ظهور تيار علماني ناشط، يدعو الى الحكم الدستوري أيضاً في ذات الوقت، لكنه يرفع شعارات معادية للدين، إلّا أنّ التيار الديني كان يهيمن على نفوس الكثيرين، برغم ما كان يحضى التيار العلماني من دعم كبير عبر وسائل التعبير التي تتمثل حينها بالصحف، والدعم الذي يصل لهم من الماركسيين والليبراليين.

المسألة الثانية: موقف الإسلاميين من الدستور:

    استعرض الدكتور علي المؤمن الآراء الخاصة لعدد من المفكرين والفقهاء الإسلاميين والجماعات الإسلامية من ظاهرة التقنين الدستوري للفقه، ابتداءً من السيد جمال الدين الأفغاني وانتهاءً بالسيد الخميني؛ فذكر بعد الأفغاني:

  • الشيخ عبد الرحمن الكواكبي
  • الشيخ فضل الله النوري
  • الشيخ محمد كاظم الخراساني
  • الشيخ محمد حسين النائيني
  • الشيخ حسن البنّا وجماعة الإخوان المسلمين
  • الشيخ تقي الدين النبهاني وحزب التحرير
  • الشيخ عبد الأعلى المودودي والجماعة الإسلامية في باكستان
  • مشيخة الأزهر
  • السيد محمد باقر الصدر وحزب الدعوة الإسلامية
  • الإمام الخميني والجمهورية الإسلامية الإيرانية

    ومع انه ذكر هؤلاء بفترة زمنية حددها (١٨٨٠ – ١٩٨٠ م)، إلّا أنّه لم يُشر بشكل واضح لنظريات بناء الدولة لهؤلاء المفكرين والتي تعدّ الأساس في كتابة الدساتير، باستثناء ولاية الفقيه ربما، والتي أشير إليها في موضوع دستور الجمهورية الإسلامية في إيران؛ فنظرية ولاية أهل الحل والعقد، ونظرية ولاية الأمة، ونظرية ولاية الفقيه العامة، ونظرية ولاية الفقيه الخاصة والجزئية؛ تُعدّ من أهم المباني الفقهية والفكرية التي ينطلق منها الفقهاء في تحديد هوية النظام السياسي والدستوري، والتي ترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بموضوع التقنين الدستوري الوضعي للفقه السياسي الإسلامي، فضلا عن اختلافهم في مفهوم الولاية، وطبيعة تفسيرات هذا المفهوم بما يرتبط بموضوع السلطة التي يحددها الدستور، أو التي تساهم في كتابة فقراته في مرحلة تكوين الدولة، أو النضوج في مراحل التكوين.

    وكما نعلم؛ فإن ولاية الفقيه العامة نظرية سياسية دينية، تعتمد على أسس واعتبارات قيمية دينية، وهي نظرية اجتهادية تعتمد على جملة من المفاهيم والمتغيّرات الاجتهادية، وتدعو الى مرجعيّة الولي الفقيه الشاملة لقضايا الدولة والحكم، وتجلّت مصاديقها في نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لكن فقهاء الإمامية اختلفوا في نيابة الفقيه عن الإمام في مسألة الصلاحيات التي يتولاّها بموجب هذه النيابة، وهذا بالتأكيد يؤثر على موضوع التقنين الفقهي، وصياغة الدستور في كلّ بلد؛ فحين ذكر السيد الخميني أنّ ما دلّ على ضرورة الإمامة هو نفسه دليل الولاية للفقيه، لهذا فهو يرى أن ولاية المعصوم ثابتة بكلّيتها للفقيه باستثناء ما دلّ الدليل على اختصاصه بالإمام. ومع أن السيد الخميني على المستوى العملي منح معظم الصلاحيات الى الهيئات الدستورية خلال تولّيه منصب القائد في الجمهورية الإسلامية في إيران، إلّا أنّه تمسّك بأنّ ولاية الفقيه المبسوط اليد (الحاكم) جارية في كلّ شأن، ومنها جزء من ولاية الرسول (ص) من الأحكام الأصلية المقدمة على الفرعيّات.

لكن السيد الخوئي يرى خلاف ذلك في صلاحيات الفقيه وولايته العامة؛ حيث يقول: ((لم يثبت للفقيه في عهد الغيبة بدليل، وانما هي مختصّة بالنبي والأئمة (عليهم السلام)، بل الثابت حسبما يستفاد من الروايات أمران: نفوذ قضائه وحجية فتواه. ويرى السيد الخوئي انه: ((يعدّ الفقيه القدر المتيقن من الذين يحقّ لهم التصرف في الأمور الحسبية؛ ويمكن للأمور الحسبية أن تشكل بعض الأمور السياسية والاجتماعية أيضاً)).

    وهنا لابد من الإشارة الى ظهور نظرية جديدة للسيد السيستاني بهذا الخصوص؛ إذ يرى ((أنّ الولاية فيما يعبّر عنها في كلمات الفقهاء بالأمور الحسبية تثبت لكلّ فقيه جامع لشروط التقليد، وأما الولاية فيما هو أوسع منها في الأمور العامة التي يتوقف عليها نظام المجتمع الإسلامي فلن تثبت له من الفقهاء، ولظروف إعمالها شروط إضافية ومنها أن يكون للفقيه مقبولية عامة لدى المؤمنين)). ويرى: ((أنّ حكم المجتهد الجامع للشرائط المقبول لدى عامة الناس نافذ مطلقاً فيما يتوقف عليه نظام المجتمع، إلّا إذا تبيّن خطؤه وكان مخالفاً لما ثبت قطعاً من الكتاب والسُنّة)). وكان ذلك واضحاً في الردّ على ما طُرح في تشكيل مجلس لصياغة الدستور، وتعيين أعضاء المجلس بالتشاور مع الجهات السياسية في العراق، ثم طرح الدستور لاستفتاء شعبي؛ إذ رفض ذلك بقوله: ((إنّ تلك السلطات لا تتمتع بأية صلاحية في تعيين أعضاء مجلس كتابة الدستور؛ فالمشروع المذكور غير مقبول من أساسه، ولابد أولاً من إجراء انتخابات عامة لكي يختار كل عراقي مؤهل للانتخاب من يمثله في مجلس تأسيسي لكتابة الدستور، ثم يجري التصويت العام على الدستور الذي يقرّه المجلس)). وجرى ذلك فعلاً، وتم انتخاب أعضاء الجمعية الوطنية في عام ٢٠٠٥ م، والتي انبثق منها دستور العراق الدائم.

    ويحدّد السيد السيستاني أهم المرتكزات والأسس للنظام السياسي؛ إذ يقول: ((إنها تقوم على مبدأ الشورى والتعددية والتداول السلمي للسلطة، في جنب مبدأ العدالة والمساواة بين أبناء البلد في الحقوق والواجبات)). ويرى أنّ مشروعية السلطة تستند الى الشعب أو ما يقرّره من رأي عبر صناديق الاقتراع، أي أنّ المشروعية حسب ما يرى شعبية، وأنه لا يفكّر بحكومة دينية، لأنها تتعارض ومبناه الفقهي في موضوع ولاية الفقيه المطلقة؛ إذ يقول: ((وأما تشكيل حكومة دينية على أساس فكرة ولاية الفقيه المطلقة فليس وارداً إطلاقاً((. ولكن لا يُبعد رجال الدين مطلقاً عن الشؤون السياسية؛ فبينما هو لا يرى ضرورة في قيام رجال الدين بممارسة السلطة، يؤكد على دورهم في التوجيه والإرشاد والتقويم بقوله: ((لا يصحّ أن يُزجّ برجال الدين في الجوانب الإدارية والتنفيذية، بل يقتصر دورهم على التوجيه والإرشاد والإشراف على اللجان التي تتشكّل لإدارة أمور المدينة وتوفير الأمن والخدمات)).

    من خلال ذلك نرى أنّ مدرسة النجف الفقهية المعاصرة لا تدعو الى دولة دينية، وإنّما الى حكومة شعبية تستمد شرعيتها من الانتخابات العامة المباشرة، وفق الأطر الديمقراطية المعروفة، وتتولّى مؤسسات الدولة مهمة التشريعات والقوانين التي تراها مناسبة، ويكون لرجال الدين مهمة الإشراف والتوجيه والتقويم لعملها.

    ولابدّ من القول الى أن ما ذكرناه آنفاً هو لاعتقادنا بصلة مدلولاته الوثيقة بموضوع كتاب «الفقه والدستور»، ولا أشكّ إطلاقاً في أنّ الدكتور علي المؤمن بعيد عن هذه الإشارات. وبناءً على ذلك؛ فإنّ كتاب «الفقه والدستور: التقنين الدستوري الوضعي للفقه السياسي الإسلامي»، هو إضافة مهمة لطبيعة الفكر السياسي الدستوري، والذي يُعدّ الأساس في التأصيل النظري لبناء الدولة، لكن الإشارة الى النظريات المختلفة تشكّل رؤية مقارنة لعديد من القناعات؛ فالفكر السياسي الإسلامي خصوصاً يختلف بحسب المباني الفقهية، والجذور التاريخية للمفكّرين الإسلاميّين، وفق ما يستنبطه العلماء من نصوص القرآن الكريم والسُنّة النبوية والروايات المتواترة، فضلاً عن إضافات التطور التاريخي للمفهوم، ومحاولات ملئ الفراغات التشريعية، بما يتوافق والمعنى العام السائد والمقترن بوجود الدولة، ولكنّه بتفسيرٍ إسلاميّ بحت، غير بعيد عن المدارس الفكرية الأُخر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر

  1. د. علي المؤمن، «الفقه والدستور: التقنين الدستوري الوضعي للفقه السياسي الإسلامي»، دار روافد للطباعة والنشر والتوزيع ومركز دراسات المشرق العربي، ط ١، بيروت، لبنان، ٢٠١٨ م.
  2. د. محمد باقر البهادلي، «الأسس النظرية لمفهوم الدولة في الفكر السياسي الإسلامي الحديث والمعاصر». بحث منشور في مجلة الأكاديمية العربية في الدنمارك المحكّمة، العدد ٢٠، كوبنهاغن، ٢٠١٧ م.
  3. د. محمد باقر البهادلي، «الولاية والسيادة بين جدلّية المنظور الفقهي ودلالات البعد السياسي»، بحث منشور في مجلة الأكاديمية العربية في الدنمارك المحكّمة، كوبنهاغن، العدد ٢٥، ٢٠٢٠ م.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • الدراسة مستلة من كتاب «علي المؤمن: قراءات في آثاره ومشروعه الفكري»، إعداد: د. رفاه معين دياب، دار روافد، بيروت، 2025.
  • محمد باقر أحمد البهادلي، أكاديمي وباحث عراقي، دكتوراه في العلوم السياسية من معهد التاريخ العربي في بغداد، عميد كلية العلوم الإنسانية في العراق سابقاً، أستاذ في الأكاديمية العربية في الدنمارك، لديه عدد من البحوث والمؤلفات المطبوعة. تاريخ كتابة المقال: 16/ 11/ 2023.

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة