خاص : دراسة بقلم – عمرو إمام عمر :
مدخل
إن دراسة التاريخ الاقتصادي يُعتبر المدخل الرئيس للتعرف على كيفية نشوء وتطور العملية الاقتصادية المعاصرة وتُعّطينا القدرة على استّيعاب الجدل الدائر بين المفكرين الاقتصاديين والسياسيين، كذلك تجنب الأخطاء التي حدثت في سياسات اقتصادية سابقة، وذلك حتى لا نقع في مسّتنقع السّيزيفية ، وللتأكيد على الطبيعة الاجتماعية للاقتصاد وارتباطه بكافة العلوم الاجتماعية الأخرى، كالسياسة والأخلاق، والجماليات وعلم الاجتماع… الخ، كذلك أدراك نسّبية الأفكار الاقتصادية وعدم تمتعها بقيم مطلقة وارتباطها بالظروف الزمنية والمكانية، وبأهمية التمّيز بين علم الاقتصاد كمجموعة من القوانين وبين الاقتصاديين أنفسهم الذين يختلفون في تفسيراتهم لأسباب مختلفة منها ما هي شخصية ومصلحية في أحيان، وموضوعية في أحيان أخرى؛ فخلال العقود الثلاثة الأخيرة باتت الليبرالية الجديدة مُسيّطرة على الفكر الاقتصادي؛ خاصة بعد تبني “صندوق النقد” و”البنك الدولي” و”منظمة التجارة العالمية”؛ الدعوة إلى تحرير الاقتصاد وتحفّيز الحكومات؛ خصوصًا الدول الفقيرة، لفتح الأبواب أمام الاستثمارات الأجنبية، وتحرير سوق المال من القيود والتوجيه الحكومي، وللأسف الشديد فتلك التوجهات تحمل إيديولوجية واحدة ذات هدفٍ واحد هو خدمة مصالح رأس المال، ومن هنا شنّت الليبرالية الجديدة هجومًا شديدًا على كل من الماركسية بالتأكيد وكذلك النظرية الكّنزية التي سّيطرت على العالم تقريبًا؛ خاصة من بعد الحرب العالمية الثانية حتى أوائل ثمانينيات القرن الماضي، واليوم أصبح العالم يعزف على أنغام الاقتصاد الحر والأسواق المفتوحة – ما أطلق عليه “العولمة” – ليسّتمع الأغنياء وهم في مسّاكنهم الفارهة وقصورهم لآنين الفقراء ولتُطّرب خزائنهم وتُثريها…
عندما يقرأ البعض منا “البيان الشيوعي” الذي وضعه كل من “فريديك إنغلز” و”كارل ماركس” يقع في خطأ يمكن أن نُطلق عليه: “الفهم الإسّتاتيكي لحركة للتاريخ”، فالتاريخ عند “ماركس” في حالة حركة مسّتمرة، فهو دائمًا في عملية إعادة صياغة للحياة ومركباتها مما يُفرض علينا مجهودًا ليس بالهين لإعادة صياغة النظرية لتتلاءم مع حركة التاريخ، وهذا ما فعله “فلاديمير لينّين” عندما أشار إلى حركة الرأسمالية وتطورها إلى الإمبريالية، كذلك سنجد فى بداية البيان الشيوعي أعتمد كل من ماركس وإنغلز على المتناقضات الثنائية، حُّر وعبد، إرستقراطي وعامي، سّيد وخادم، مالك وعامل، تلك الثنائية المتعارضة لم تُعد تتلاءم اليوم مع حركة تطور علاقات الملكية – وأنا هنا لا أنكر صّحتها – بشكلها القديم، لذا فعلى المحلل السياسي والاقتصادي الذي يعتمد التحليل الماركسي أن يُطّور من رؤيته لحركة علاقات الإنتاج التي تُمثل تركيبة متكاملة للعلاقات الاجتماعية لتتلاقى مع مستوى معين من تطور القوة الإنتاجية وشكل الملكية، خاصة حول المُنّتج الاجتماعي وتراكم رأس المال وتشكيل فائض القيمة…
الحقبة الاستعمارية وتصدير رأس المال وتراكمه
خلال الحقبة الاستعمارية شهدت دول المسّتعمرات ما يُطلق عليه “تصّدير رأس المال”، وقد شاهدنا كيف تفوقت إنكلترا على دول العالم الغربي – الاستعماري – في عمليات تصدير رأس المال خلال القرن التاسع عشر، حتى نهاية الحرب العالمية الثانية عن طريق احتكار الشركات الإنكليزية للخامات الأولية في دول المسّتعمرات وشراءها بأبخّس الأسّعار يُتيح لها إعادة تصنيع تلك الخامات بتكلفة متدنية للغاية ثم إعادة تصدير المنتجات النهائية إلى دول المسّتعمرات والدول الأخرى مرة ثانية، وبالتالي فاستثمار رأس المال في العمليات الاحتكارية أتاح لها أسواقًا كبيرة لترويج منتجاتها والقدرة على مواجهة المنافسّين وتحقيق أكبر ربح ممكن من خلال احتكار الخامات الأولية وبالتالى تخفيض الكلفة الإنتاجية…
الاستعمار والإمبريالية
كثيرًا ما نسّمع مصطلح الاستعمار والإمبريالية، كذلك مصطلح كولونيالي ويقترن عادة المصطلح الأخير مع المصطلح الأول، فكلمة “كولونيالي-Colonial”؛ حسب قاموس أكسفورد هي المزرعة أو المسّتعمرة ، وفكرة الاستعمار قديمة بقدم التاريخ نفسه فحالات الهجرة والاستيطان والاستعمار معروفة ومتكررة تاريخيًا وأخذت أشكالٍ عدة متنوعة، وشاهدنا كيف تكونت الإمبراطوريات القديمة من خلال الاستعمار من أشهرها الامبراطورية الرومانية القديمة، اليونانية، البيّزنطية، العربية الإسلامية، العثّمانية، المغولية، حتى الإمبراطوريات الاستعمارية الحديثة من بدايات القرن السابع عشر حتى منتصف القرن العشرين تقريبًا، كذلك في العالم الجديد (القارة الأميركية) كان هناك إمبراطوريات؛ أهمها الإمبراطورية الأزتكية في أميركا الوسطى والتى تشّكلت ما بين القرن الرابع عشر والسادس عشر، وفي آسيا الإمبراطورية الصّينية التي استولت على أجزاء كبيرة من القارة الآسيوية، إلا أنه يعنيّنا في الأساس هو الاستعمار الحديث وقد ميّز الفكر الماركسي ما بين أنواع الاستعمار إلى قسمين، “الاستعمار المبكر (ما قبل الرأسمالية)”، وأخيرًا “الاستعمار الحديث الكولينيالي” وهو ما يعنيّنا، وقد تأسّس جنبًا إلى جنب مع بدايات تشّكيل الرأسمالية، فهو لم يكتفي بالاستيلاء على ثروات البلدان المسّتعمرة بل أنه أعاد بناء اقتصاديات تلك الدول وربطها به وأدخلها في مجموعة من العلاقات المُعّقدة معه، وإذا القينا نظرة على الخرائط السياسية للعالم من القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين سنجدها مصبوغة بألوان حمراء وزرقاء وخضراء، فتلك ممتلكات بريطانية، وتلك فرنسّية وأخرى بلجيكية وبرتغالية وهولندية وإيطالية، وكانت تشمل قارات بأكملها مثل القارة الإفريقية حتى مصر وبلداننا العربية لم تكن إلا جزءًا من الممتلكات البريطانية والفرنسية والإيطالية، فالعالم انقسم بين مالكون وممّلكون، تلك كانت أعظم الظواهر السياسية في العالم، وشّكلت المنظومة الاقتصادية والتي لا زالت آثرها ممتدة إلى يومنا هذا…
السؤال الذي يجب أن نسّأله “ما هي طبيعة العلاقة بين رأس المال والاستعمار ؟”، ولإجابة هذا السؤال يجب أن نضع في أعتبارنا ثلاثة وجوه للرأسمالية وأن نتعرف على الفوارق التي تُمّيز كل منهم عن الآخر:
1 – إن رأس المال في الأساس علاقة اجتماعية، فهو يُمثل العلاقة داخل مجتمعات متناحرة بين مُلاك وشغيلة.
2 – إن العنصر المادي في رأس المال من معدات وآلات وأرض ومال، تؤثر على العلاقات الاجتماعية.
3 – إن رأس المال أكتسى بصيغة نّدرة النقود فهي مملوكة دائمًا للأقلية، وهي الوسيط الأساس الذي يُحدد استخدام هذا النمط من الاقتصاد.
إذا تتبعنا تاريخ الرأسمالية وعلى الرغم من الفتوحات التكنولوجية التي نجحت فيها نظرًا لطبيعتها فهي بحاجة دائمًا إلى خلق منتجات جديدة وسوقًا بشكلٍ دائم لتصريفها ولتحقيق مزيدًا من الربح، إلا أنها في نفس الوقت صنعت موجات متلاحقة من الحروب والفقر وانعدام الأمن ليس فقط في صفوف العمال والمزارعين؛ بل نشرت ذلك ببلدان بأكملها في المناطق المسّتعمرة وشبه المسّتعمرة التي خضعت لها، تلك هي الطبيعة الحتمية للعلاقات الاجتماعية والسياسية التي تحكم بالعناصر المادية لرأس المال، إن هذا الوضع الذي نراه اليوم من فقر وجهل ومرض منتشر في البلدان المتخلفة والتي خضعت لسنوات طويلة من الاستعمار الكولينيالي الذي مارسّته حفنة من الدول الرأسمالية عملت على تدمير اقتصاديات تلك الدول التي كانت تعيش في كنف اقتصاديات “حقبة ما قبل الرأسمالية” بالتحكم في المصادر الطبيعية بتلك الدول وتدمير محاولات أي نهضة صناعية بها، وخلق أو إفساد الطبقة القديمة من النخب لصّالحها، إن السبب الرئيس لفقر بلداننا هو في هذا الاستعمار المسّتمرة آثاره حتى يومنا على الرغم من “التحرر السياسي الشكلي” الذي نعيش فيه؛ إلا أننا لازلنا تابعين للمركز الرأسمالي نتحرك على إيقاعاته وتوجهاته، في المقابل وفرت السياسة الاستعمارية للدول ذات النمط الرأسمالي دعم غير عادي لبناء قاعدتها الصناعية من خلال فتح أسواق جديدة في الدول المتّخلفة نتيجة للهيمنة الاسّتعمارية، وبالتالي خرجت الرأسمالية من أزمتها المتمثلة في ضيق أسواقها الداخلية والمنافسّة المسّتمرة مع الاقتصاديات الأخرى المماثلة لها مما سّاهم في تشكيل ما أطلق عليه “التراكم الأولي”؛ خلال السنوات الأخيرة سّرت موجة بين “شباب اليوم” إن الأزمات التي تُعاني منها بلداننا العربية هي نتيجة لفترة “التحرر الوطني” التي بدأت من أوائل خمسينيات القرن الماضي، ويرون في الرأسمالية والارتباط مع دول المركز الرأسمالي هي تذكرة الخلاص من معاناتهم؛ إلا إن الحقيقة على العكس تمامًا، فطالما بقيت بلداننا المتخلفة لا تعدوا سوى سوقًا للمنتجات المسّتوردة من دول المركز الرأسمالي سيظل غياب صمام الأمان مستمر، فالاعتماد على المستثمرين الأجانب ودعوات جذب الاستثمار ليسّت حلاً طالما إن هؤلاء يحتكرون التكنولوجيا الحديثة والمعرفة، بل أنهم أيضًا يحتكرون مفاتيح فرص التصدير وفتح الأسواق، ويعني هذا إن الإتكال على الاحتكارات الأجنبية من أجل التصنيع لا يُغيّر من قواعد اللعبة الأساسية وهي التبعية، حتى ما أعتاد عليه البعض من استخدام مصطلح “الرأسمالية الوطنية”، فالاعتماد على الرأسماليين المحليين لا يُغيّر من الأوضاع شيئًا بل على العكس تمامًا سيُّزيدها سوءًا، فهؤلاء اضعف بكثير من أن يقوموا بمحاولات فك التبعية، وذلك بسبب إن محاولات التصنيع لابد وأن تشمل تكديس رأس المال ولن يأتي هذا إلا على حساب الجماهير، ومن أمثلة ذلك البرازيل التي خطت خلال فترة السبعينيات والثمانينيات خطوات واسّعة في التنمية الصناعية من خلال مشاركة رؤوس الأموال المحلية مع الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات؛ إلا إن النتائج جاءت سلبية، فقد زادت مديونية الدولة بشكلٍ كبير، وتدهورت أجور الطبقة العاملة، وانخفضت نسّبة الاستثمار الزراعي، أما التكنولوجيا المسّتقدمة لم تُسّاهم في تطوير العملية الاقتصادية لأنها كانت من النوع الذي يُفضله رأس المال قليلة التكلفة عظيمة الربح – الصناعات التحويلية – هذا فضلاً عن إغراق الدولة في مشروعات خدمية لصالح الطبقة الرأسمالية بتكلفة باهظة من القروض قصيرة الأجل، وانتهت التجربة في منتصف التسعينيات بإعلان دولة البرازيل إفلاسها بعد أن تعاظمت الديون الخارجية على الدولة ولم تستطع عمليات جذب الاستثمار الخارجى أن تفعل شيئًا…
نحن بين الرأسمالية والاستعمار
شهد القرن العشرين سلسلة من الموت المتتالي لعدد من الإمبراطوريات الاستعمارية الكبرى؛ خاصة بعد الحرب العالمية الأولى، ومن أهم تلك الإمبراطوريات التي تم تفكيّكها، الإمبراطورية العثّمانية – وهي الأهم بالنسّبة لنا – والتي تم وضع أملاكها تحت ما أطلق عليه الحماية والانتداب، ونتيجة لذلك تقطعت الشبكات الاقتصادية القديمة وتشّكلت شبكات جديدة يلزم معها إعادة بناء البُنّية الاقتصادية؛ خاصة في المنطقة العربية وعلى الرغم إن الخريطة السياسية للمنطقة لم تشهد تعديلات جوهرية كبيرة؛ إلا إن شبكة العلاقات الاقتصادية القديمة التى كانت من قبل الحرب العالمية الأولى قد بدأت في التحلل؛ خاصة مع الثُلث الأخير من القرن التاسع عشر، بدأ من عام 1873 وهو العام الذي وصلت فيه المنافسة الاستعمارية بين القوى العظمى في تلك الفترة ذروتها، والتي تبلورت في معاهدة برلين عام 1878، كان القرن التاسع عشر في تلك الفترة قد شهد حالة من الكسّاد الاقتصادي أثر على مدخلات القوى العظمى فلم يكن من بد سوى محاولة التوسّع، خصوصًا مع ضعف القوى القديمة التقليدية؛ خاصة الدولة العثمانية والتي وصفت “برجل أوروبا المريض”، كما شهدت تلك الفترة خاصة بعد توقيع المعاهدة موجة استعمارية اجتاحت القارة الإفريقية والمنطقة العربية، فاحتُلت مصر عام 1882، وبدأت فرنسا في مّد أذرعها في منطقة الشّام حتى استطاعت عام 1920 من وضع سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي وفي نفس العام وضع العراق تحت الانتداب البريطاني…
الحالة المصرية الصراع بين التبعية والتحرر
يُعتبر القرن التاسع عشر بالنسّبة للدولة المصرية فترة فارقة على المسّتويين السياسي والاقتصادي، فحتى أواخر القرن الثامن عشر كان الذي يحكم مصر واليًا مُعيّنًا من قبل الباب العالي بالآستانة إلا أن السلطة الفعلية كانت في يد المماليك، ومن الناحية الاقتصادية فقد كانت الدولة المصرية تعتمد بشكلٍ كبير على المكوس التي تفرضها على التجارة العابرة من جنوب وشرق آسيا إلى أوروبا التي كانت تلك التجارة تأخذ أربعة طرق، الأول الطريق البري، وهو يخترق أواسط آسيا ثم إلى البحر الأسود فالدانوب ثم إلى وسط أوروبا، الطريق الثاني يمر بالخليج العربي إلى العراق ومنه إلى موانيء الشام وكان أهم تلك الموانيء هو ميناء الإسكندرونة، والطريق الثالث من البحر الأحمر إلى خليج السويس ومنه إلى ميناء السويس ثم تُنقل بالقوافل إلى القاهرة ثم بالسفن من خلال نهر النيل إلى ميناء رشيد ودمياط أو تستكمل القوافل طريقها إلى ميناء الإسكندرية، والطريق الأخير من خلال البحر الأحمر أيضًا؛ حيث تصل إلى “ميناء عيذاب” وهو يقع جنوب “مدينة القصير” ثم تنتقل البضائع بالقوافل إلى نهر النيل ثم إلى الموانيء على البحر المتوسط، تلك التجارة سّاهمت بشكلٍ كبير في زيادة قوة المماليك في مصر من خلال الضرائب الباهظة التي كانت تفرضها على التجارة العابرة؛ خاصة وإن دولة المماليك كانت تتحكم في موانيء الشام بجانب الموانيء المصرية، وذلك حتى عام 1498؛ عندما أكتشف البرتغاليون طريق رأس الرجاء الصالح، ليتخلصوا من الضرائب الباهظة التي كان يفرضها المماليك عليهم، فتحولت التجارة من طريق مصر والشام والبحر المتوسط إلى المحيط الأطلسي، وعلى الرغم من المحاولات العديدة التي قام بها المماليك لمواجهة البرتغاليون لإعادة التجارة مرة أخرى للطريق القديم إلا أنهم فشلوا في ذلك، لتفقد مصر والشام مركزها التجاري المؤثر في التجارة العالمية، وكان هذا تمهيد لإنهيار دولة المماليك في الوقت الذي كانت هناك دولة فتية جديدة ظهرت على الساحة السياسية والتي استطاعت أن تفرض سّيطرتها على جزء كبير من شرق أوروبا وبلاد فارس ودحر الدولة البيزنطية بعاصمتها التاريخية القسطنطينية، ثم بدأت في الزحف ناحية مصر والشام لتهزم دولة المماليك لتُصبح مصر والشام ولاية عثمانية وتفقد استقلاليتها…
خلال فترة حكم العثمانيون؛ قاسّت مصر الأمّرين من الصراع الذى دار بين المماليك من ناحية وولاة الدولة العثمانية، وساءت حالة البلاد الاقتصادية، خاصة وأن الدولة العثمانية لم تهتم بعوامل الإنتاج الزراعي والصناعي، فأهملت الترع والقناطر والجسور، وقد نقصت مساحة الأراضي الزراعية بسبب انخفاض منسّوب النيل لفترات طويلة في تلك الفترة، مما أدى إلى انتشار المجاعات ونقص عدد سكان مصر إلى أقل من 20 مليون نسمة، انتشار الفساد، بالإضافة إلى الفوضى النقدية، فقد تعّددت أنواع النقود المتداولة، فقد كانت هناك العُملة العثمانية، بالإضافة إلى العُملة القديمة التي كان المماليك يُصّدرونها، وأخيرًا العُملات الأجنبية مما أدى إلى اضطراب المعاملات المالية بين الناس، كل ذلك أدى إلى اختلال الأمن وباتت البلاد مترعًا للصوص وأدى الصراع بين المماليك والأتراك إلى إزدياد الحالة سوءًا حتى جاءت الحملة الفرنسية على مصر عام 1798…
على الجانب الآخر كانت أوروبا تعيش على إيقاعات سياسية وفكرية جديدة، المعروف بعصر النهضة الأوروبية – Renaissance – والتي شهدت خلاله ثورات فلسفية وعلمية وسياسية، في المقابل كانت منطقتنا تقبع تحت الحكم العثماني بكافة تخلفاته الفكرية والسياسية والاقتصادية، فتغّيرت ملامح الحياة الأوروبية، وظهرت الطبقة البرجوازية الجديدة تفرض شروطها على الأوضاع السياسية في أوروبا ومن خلال صرعاتها الداخلية طمعت في الوثوب خارج القارة رغبة في مزيد من السيطرة الاقتصادية والسياسية والتي بدأت حثيّثة قبل ذلك باكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح والصراع الذي حدث بين البرتغال والدولة المملوكية في مصر، ثم تطور الأمر بعد الثورة الفرنسية وتفجر الصراع داخل أوروبا لينتقل خارجها، من يُسّيطر على أهم طرق التجارة العالمية بين الشرق والغرب، فكانت الحملات الفرنسية بقيادة “نابليون بونابرت” والتي اجتاحت أوروبا كلها تقريبًا، ثم انتقلت إلى الشرق حيث مصر والشام…
بعد فشل الحملة الفرنسية على مصر نتيجة للصراعات الأوروبية من ناحية والمقاومة المصرية على جانبٍ آخر ليقفز إلى كرسي حكم مصر الألباني “محمد علي” الذي جاء ضمن الحملة العثمانية بعد خروج الفرنسيس منها، واستطاع إقناع النخبة المصرية أنه سيكون خير حاكم للبلاد، لتبدأ حقبة جديدة في تاريخ مصر تخلص فيها من حكم المماليك وبدأ في تشكيل إمبراطوريته الخاصة محاولاً الاستقلال عن الدولة العثمانية بعد أن شعر ببداية ضعفها وعدم قدرتها على فرض سّيطرتها على أراضيها الواسّعة؛ فضلاً عن صراعاتها الخارجية مع كل من روسيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، لتبدأ حقبة جديدة في مصر على المسّتوى السياسي والاقتصادي وتشهد لأول مرة منظومة اقتصادية جديدة على نقيض الحقبة القديمة ومحاولة تقرير الفارق بينها وبين التقدم الذي حدث في القارة الأوروبية…
………………………………………………………………………
هوامش
1 – يُعتبر “سيزيف” أحد أكثر الشخصيات مكرًا بحسب الميثولوجيا الإغريقية، حيث استطاع أن يخدع إله الموت “ثاناتوس”؛ ما أغضب كبير الآلهة “زيوس”، فعاقبه بأن يحمل صخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، فإذا وصل القمة تدحرجت إلى الوادي، فيعود إلى رفعها إلى القمة، ويظل هكذا إلى الأبد، فأصبح رمز للعذاب الأبدي، وقد رأى الكاتب الفرنسي “ألبير كامو” في كتابه الشهير (أسطورة سيزيف)، أن “سيزيف” يُجسد لا منطقية ولا عقلانية الحياة الإنسانية…
2 – في نهاية ثلاثينيات القرن الماضي حاول عدد من الاقتصاديين الغربيين تفنيد الفكر الاشتراكي وإدانته، وفي ندوة تم عقدها بباريس عام 1938 استخدام هذا المصطلح – الليبرالية الجديدة – لأول مرة من قبل عدد من الاقتصاديون الألمان هم: “فريدريك فون هايك، فلهلم روبكة، وفالتر أويكن”، حيث طرح “فون هايك” تصورهم للفكر الليبرالي الجديد في عالم الاقتصاد، وذكر إن هذا المنهج سيحتاج إلى جيلين أو ثلاثة حتى يهيمن على الساحة الفكرية ويُصبح سياسات تنتهجها الحكومات في أوروبا وأميركا، لذا فقد واصل جهوده بحماس شديد خلال الفترة ما بين الحربين العالميتين وبعد الحرب الثانية لتطوير الفكر الليبرالي الجديد في عالم الاقتصاد آملاً أن تغدوا نظرية متكاملة تهتدي بها الحكومات في المجتمعات الرأسمالية حتى حصل على جائزة (نوبل) في الاقتصاد عام 1974.
3 – راجع كتاب فلاديمير لينين (الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية).
4 – كلمة “مسّتعمرة” كما جاء وصفها في قاموس أكسفورد، هي مجموعة من الناس يسّتقرون في موقع جديد ليشكلوا جماعة خاضعة لدولتهم الأم مرتبطة بها، وتتألف من المسّتوطنين الأساسّيين وأحفادهم ووارثيهم طالما إن الرابطة مع الدولة الأم مستمرة، نُلاحظ أن هذا التعريف يتجاهل تمامًا أي إشارة إلى سّكان الأرض الأصلييّن ومن ثم فهو يُفرغ كلمة استعمار من أي صدام بين السّكان الوافدين والأصلييّن أصحاب الأرض الأصليّين، إلا أن هذا المصطلح أخذ شكلاً آخر في الأدبيات السياسية فهو جاء تعبيرًا للاستعمار العسكري بالخصوص للدول المسّتعمرة.
5 – اليوم تتكرر نفس الدائرة الجهنمية؛ فقد أعلن الرئيس البرازيلي “غايير بولسونارو”، السابق فى العام الماضي، عن إفلاس بلاده، عازيًا السبب إلى جائحة (كورونا) التي اجتاحت العالم وأثرت على كبريات الاقتصادات فيه، وتلك حجة واهنة تتمسك بها الأجنحة السياسية اليمينية الحاكمة في دول العالم الثالث خلال الفترة الأخيرة، إن الحرب الروسية الأوكرانية، أو جانحة الكورونا هي الأسباب الرئيسة للأزمات الاقتصادية التي تُعاني منها تلك البلدان إلا إن الحقيقة غير ذلك.
6 – كان اجتماع برلين (13 حزيران/يونيو – 13 تموز/يوليو 1878)؛ اجتماعًا لممثلي القوى العظمى الست في ذلك الوقت: (روسيا، بريطانيا العظمى، فرنسا، الإمبراطورية النمساوية المجرية، إيطاليا وألمانيا) والإمبراطورية العثمانية وأربع دول البلقان وهي: (اليونان، صربيا، رومانيا والجبل الأسود). هدف المؤتمر إلى رسم حدود أراضي الدول في شّبه جزيرة البلقان في أعقاب الحرب الروسية التركية بين عامي: 1877 و1878 وانتهت بتوقيع معاهدة برلين التي حلت محل معاهدة سان ستيفانو الأولية؛ والتي جرى توقيعها بين روسيا والإمبراطورية العثمانية، وجاءت قرارات المؤتمر كالتالي؛ الاتفاق على أن تُصبح بلغاريا إمارة مستقلة تقع تحت سيّادة السلطان العثماني مع ضرورة تشكيل حكومة مسّيحية خاصة بها بالإضافة إلى جيش وطني، وفصل الروملي الشرقي عن بلغاريا الكبرى وجعله تحت الحكم العثماني مباشرة، وضع البوسنة والهرسك تحت الحكم النمساوي، مع ضرورة بقاء سنجق نوتي بازار تحت حكم الإدارة العثمانية، استقلال كل من الجبل الأسود، والصرب، ورومانيا، وضم بسرابيا إلى روسيا. تنازل الدولة العثمانية عن أردهان، وقارص، وباطوم لدولة روسيا القيصرية. كما تنازل الباب العالي عن إقليم ختر لدولة فارس. وتعهد الباب العالي بتحقيق إصلاحات عديدة وسّريعة في دولة آرمينيا، والتعهد أيضًا بحماية الأرمن من الأكراد والشركس. كذلك تعهد الباب العالي بتطبيق حرية الاعتقاد الديني في الدولة العثمانيّة، مع ضرورة ألا تكون عقيدة الشخص عقبة أمامه للحصول على كافة حقوقه السياسية والدينية، حرية الملاحة في الدانوب. وحق القنصلية في توفير الحماية الكاملة لرعاياها…
____________________________________________________
المصادر
- فؤاد مرسي – تطور الرأسمالية وكفاح الطبقات في مصر، كتابات المصري الجديد – المكتبة الاشتراكية (1) الطبعة الأولى 1990.
- سمير أمين – التطوّر اللّامتكافيء (دراسات في التشكيلات الاجتماعية للرأسمالية المحيطة)، ترجمة برهان غليون، دار الطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الرابعة 1985.
- فاخرشوف – السياسة الاستعمارية بعد الحرب العالمية الثانية، غير مذكور السنة أو رقم الطبعة.
- جوزيف أ. شوميتر – تاريخ التحليل الاقتصادي (المجلد الأول)، ترجمة حسن عبدالله بدر، المجلس الأعلى للثقافة، الطبعة الأولى 2005.
- آنيا لومبا – في نظرية الاستعمار وما بعد الاستعمار الأدبية، ترجمة محمد عبدالغني غنوم، دار الحوار للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2007.
- د. محمد زكي أبوالنصر – العدالة الاجتماعية، دار الفيروز للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 2016.
- مجموعة مؤلفين – أطوار التطور الرأسمالي (الازدهارات والأزمات والعولمات)، ترجمة عدنان حسين.
- آ. آشتور – التاريخ الاقتصادي للشرق الأوسط في العصور الوسطى، ترجمة محمد عبدالهادي عبلة، دار قيبة للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1985.
- د. أحمد أحمد الحتة – تاريخ مصر الاقتصادي في القرن التاسع عشر، مطبعة المصري، الطبعة الأولى 1967.
- عبدالرحمن الرافعي – عصر محمد علي، دار المعارف، الطبعة الخامسة 1989.