خاص : بقلم – عمرو إمام عمر :
مدخل
من أكثر المشكلات التي تواجه بلداننا المتخلفة عن الركب العالمي – الغربي بالتحديد – هو في تعدد الأنماط الإنتاجية وعدم إندماجها في تشكيلة اجتماعية واقتصادية واحدة، كذلك عدم الاستغلال الجيد لمصادر الثروة الطبيعية من معادن وتربة ومياه سواء كانت عذبة أو مالحة، وبالتالي أثرها فى العملية الإنتاجية، والأنشطة الاقتصادية الخدمية المكملة لها من أعمال بنكية وتمويل كعنصر متحكم فى عمليات الإنتاج والاستهلاك، من هنا جاء علم الجغرافيا الاقتصادية، فمهمة هذا العلم هو دراسة العلاقات بين الاقتصاد والمكان الجغرافي من أشكال ومميزات للسعي للوصول إلى أفضل صيغ استغلال الطبيعة المكانية وتنظيم الأشكال الوظيفية للتركيبة الاقتصادية، لذا فالجغرافيا الاقتصادية تسعى إلى دراسة وتحليل النقاط التالية: –
- كيفية استغلال الإنسان لمصادر الثروة الطبيعية من تربة ومياه ومعادن.
- إنتاج السلع في كافة أشكالها الزراعية والحيوانية والمعدنية، كذلك السلع المصنعة.
- دراسة عمليات نقل المواد الخام أو السلع المصنعة وسهولتها.
- الجوانب الخدمية من أعمال بنكية وتمويل كعناصر متحكمة في عمليات الإنتاج وأنماط الاستهلاك.
لقد مر علم الجغرافيا الاقتصادية بمرحلتين أساسيتين؛ ففي البداية أهتم بعمليات توزيع الإنتاج وأطلق عليه الجغرافيا التجارية وارتبط هذا بالفترة المركنتيلية وأهتم بتقسيم العالم وتوزيع إنتاجه توزيعًا محصوليًا، ومع بداية عصر الانقلاب الصناعي بدأ يهتم بمبدأ السببية وعلى ضوئه بدأ تفسير ازدهار الصناعة فى بلد ما ارتباطًا بوجود مصادر للثروة المعدنية والطاقة المحركة وإنتاجه من المحاصيل الزراعية، ولكن مع زيادة وتيرة التطور العملي والتكنولوجي خاصة مع بدايات القرن العشرين أنتقل علم الجغرافيا الاقتصادية إلى مبدأ أكبر وأشمل هو التفاعل المتبادل بين المكان وطبيعته والإنسان ودراسة مدى تأثير هذا التفاعل، وقد ظهر في تلك الفترة مصطلح “الأقاليم الاقتصادية” على أساس تقسيم المناطق الجغرافية بحسب تقدمها الاقتصادي، كما تم تقسيم مراحل التطور الاقتصادي تاريخيًا إلى الشكل التالي: مرحلة الصيد والجمع، مرحلة استخراج المعادن، مرحلة الرعي البدائي والمتقدم، مرحلة الزراعة، مرحلة الصناعة، وأخيرًا مرحلة التجارة والخدمات، وقد أهتمت المدرسة الحديثة في الجغرافيا الاقتصادية بدراسة العلاقة بين العمليات الاقتصادية والمكان، من خلال تقسيم سطح الأرض إلى أقاليم اقتصادية لدراسة أشكال ومميزات تلك الأقاليم…
الإنتاج وتحولات الأنماط الحياتية
كما ذكرت في الحلقة الأولى فالاقتصاد السياسي يهتم بالأساس بدراسة القوانين الاجتماعية التي تؤثر على العملية الإنتاجية، فالإنسان في حاجة دائمة لإشباع احتياجاته حتى يستطيع العيش، وهنا قد تكون حاجات الإنسان فردية أو جماعية، وتنقسم أيضًا بين حاجات مادية ومعنوية، فالأشياء المادية مثل المنتجات الزراعية والمنتجات المُصنّعة ضرورية لإشباع حاجات الإنسان الحياتية وأطلق عليها مصطلح “السلع”، ولإنتاج تلك السلع وجب على الإنسان أن يتعامل مع الطبيعة وأن يُحاول ترويضها حتى يستطيع إنتاج ما يحتاج من المنتجات، ليظهر مصطلح آخر وهو “العمل”، فأصبح على الإنسان لكي يحصل على احتياجاته من السلع أن يعمل، وعن طريق هذا العمل يتفاعل الإنسان مع الطبيعة التي يعيش فيها، ومن هنا أصبح على الإنسان أن يُشكل أدواته التي يعمل بها حتى يستطيع ترويض الطبيعة التي يعيش فيها ليُنتج من خلالها أحتياجاته، وعملية الإنتاج هي عملية اجتماعية، على الرغم إن الإنسان الأول بدأ حياته منفردًا تقريبًا إلا أنه سرعان ما بدأ ينتظم في مجموعات وبدأ حينها تنظيم عملية الإنتاج الجماعي وابتكار الأدوات التي تُعيّنه على الصيد ثم الزراعة، كذلك عملية تنظيم توزيع “المُنتّج-Distribution” -، و من قبل هذا عملية “تقسيم العمل-Division of Labour” -.
ملكية وسائل الإنتاج والعلاقات الناشئة عنها
لن نستطيع فهم العلاقات الاجتماعية التي تنشأ عن العملية الإنتاجية وتأتي ملكية وسائل الإنتاج كأحد العلاقات المهيمنة التي يقوم على أساسها مجموع العلاقات الإنسانية الناشئة عن العملية الإنتاجية برمتها، فالملكية هي التي تُحدد شكل تقسيم العمل، وطرق استخدام وسائل الإنتاج، وبالتأكيد ملكية المُنّتج والأهم هو كيفية توزيعه، لذا فهي المبدأ المنظم لكافة العلاقات الناشئة عن العملية الإنتاجية، فإذا كانت الملكية “ملكية مجتمعية” أي تشاركية لجميع أعضاء المجتمع تتشكل هنا بيئة اجتماعية لها خصوصيتها وتُصبح المسؤولية تشاركية تُعزز مفهوم التعاون ويُصبح نصيب كل مشارك يوازي مساهمته في العملية الإنتاجية بما يتوافق عليه المجتمع، أما أن تكون “الملكية فردية” أو أن تكون مملوكة لمجموعة من الأفراد كعائلة مثلاً، أو تتخذ شكلاً وسطيًا من أشكال الملكية مثل “الملكية التعاونية-Cooperative”؛ التي تضم جزء من أعضاء المجتمع …
الأنماط الإنتاجية وأشكال ملكية
إن دراسة تطور المجتمع البشري ميزت بين خمسة أنماط للعملية الإنتاجية مرت بها مراحل تطور التاريخ الإنساني وهي كالتالي:
(1) مرحلة “المجتمع البدائي-Primitive Community”؛ في تلك المرحلة سيطر مفهوم الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج والأرض.
(2) مرحلة “المجتمع العبودي-Slave Society”؛ حيث بدأت تتشكل الملكية الخاصة وهي كانت إما فردية، هي حيث يمتلك فرد ما الأرض بما فيها من بشر، أو ملكية الدولة أو الملك.
(3) “المجتمع الإقطاعي-Feudal Society”؛ وفي هذا النمط يكون العاملون من المزارعين مرتبطين بالأرض كـ”أقنان-Serfs” لا يستطيعون مغادرتها، ويُخصص المالك قطعًا من الأرض لاستعمالهم الشخصي تكفي لاحتياجاتهم على أن يلتزموا بزراعة باقي الأرض لصالح المالك.
(4) “المجتمع الرأسمالى-Capitalist Mode of Production”؛ وتعود الملكية هنا للرأسماليين ولا يملك باقي المجتمع وهم الأكثرية وسائل الإنتاج الخاصة بهم، لذا فهم يعملون لصالح الرأسمالي نظير أجر يُحدده صاحب العمل، وملكية وسائل الإنتاج هنا إما تكون فردية أو تضامنية أي على شكل شركات، ويتميز هذا النوع بالإنتاج الكبير “Mass Productions”؛ حيث المصانع والمزارع الكبيرة، يستحوذ الرأسمالي على عائدات الإنتاج لتلبية حاجاته ورفاهيته الخاصة ولا يبقى للعاملين سوى الأجر الذي يتم الاتفاق عليه وفي الأغلب يكفي تلبية متطلباتهم الأساسية.
(5) أخيرًا “المجتمع الاشتراكي-Socialist Society”؛ في تلك الحالة تعود ملكية وسائل الإنتاج إلى المجتمع ككل من خلال المنظمات التعاونية أو المجتمعات الريفية بالنسبة للزراعة ويقوم المجتمع في تلك الحالة بتخطيط وتوجيه عملية الإنتاج وتوزيع الناتج بما يخدم إشباع حاجات ومتطلبات المجتمع ورفاهيته.
إن كل مرحلة من تلك المراحل نمت في حقبة تاريخية معينة من تاريخ التطور الحضاري للإنسان، تحمل سماتها الخاصة، ولم يكن الفكر الاقتصادي قد حظي باهتمام إلا مع نهايات الحقبة الإقطاعية وبدايات المرحلة الرأسمالية ليصل إلى ذروته مع بدايات القرن السابع عشر مع انتشار التجارة بشكلٍ كبير وخاصة التجارة الدولية، فقبل ذلك لم يكن الفكر الاقتصادي يحظى بنصيب حتى لدى المفكرين الإغريق؛ على الرغم من الصحوة الفكرية في تلك الفترة في علوم مثل الفلسفة والمنطق والرياضيات والسياسة، وذلك بسبب ظروف الإنتاج السائدة والتي كانت تكفي لمتطلبات الإنسان البسيطة، كذلك لم تكن للتجارة ثّقل كبير في حياة الناس إلا في حدود ضيقة، فهي اعتمدت على المقايضة البسيطة بين السلع أو الخدمات، ولم نرصد إشارات للمنظومات الاقتصادية إلا ما كتبه أفلاطون فى كتابه المعروف “الجمهورية-The Republic”، والذي تناول فيه كيفية نشأة الدولة وحاجة الأفراد بعضهم إلى بعض، وكيف دعا إلى تقسيم العمل بين أفراد المجتمع، وإشاراته إلى عدم سلامة الجمع بين أكثر من مهنة، وقد قسم أفلاطون النظام الطبقي إلى ثلاث طبقات، المزارعين والعمال، المحاربين، وأخيرًا طبقة الحكام، ونلاحظ أن أفلاطون قد تجاهل طبقة العبيد الذي كانوا جزءً كبير من المنظومة الإغريقية، ثم أتى أرسطو وقد تناول بعض المسائل الاقتصادية في كتابه “السياسة-Politics”، واختلف أرسطو عن ما سبقه أفلاطون، فهو لم يُرجع نشأة الدولة إلى أسباب اقتصادية بل ذهب إلى أن الإنسان مدني بطبعه وذو غريزة سياسية، كذلك عارض أفكار أفلاطون التي طرحها في كتابه المدينة الفاضلة والتي نادى فيها بشيوعية الملكية، فقد دافع أرسطو عن الملكية الفردية واعتبارها الحافز الأساسي للإنسان في العمل، ونلاحظ إن أرسطو حاول أن يضع بعض التفسيرات، فقد أعطى تعريفًا للثروة أنها مجموعة السلع والأدوات التي يستخدمها الفرد أو الدولة لتحقيق أسباب الحياة الطيبة، كما فرق بين القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية، كما أعطى لكل سلعة قيمة على أساس المنفعة، كما تناول أرسطو قضية النقود وشرح كيف نشأت لتلبية مطالب التجارة والتبادل، ثم أتى بعد ذلك المفكر “كسينوفون-Xenphon”، ويُعتبر أول من كتب عن الاقتصاد بشكلٍ أساسي في كتابه “المحاورات الاقتصادية-Oeconomicus Socrates”؛ وقد ميز كسينوفون بين الثروة والنقود، فالثروة تقوم على إشباع حاجات الفرد وبغير تلك الصفة لا تكون ثروة، كما شدد على الاهتمام بالزراعة واعتبرها مصدر غنّى المجتمعات ويعتبره الكثير من المؤرخين الاقتصاديين رائدًا للمدرسة الطبيعية “فيزيوقراط”؛ التي ظهرت بفرنسا في القرن الثامن عشر، كما كتب بحثًا عن زيادة إيرادات آثينا واستعرض فيه السياسات التي يجب أتباعها لانتعاش المدينة وزيادة إيراداتها…
أما في الحضارة الرومانية على الرغم من التراث القانوني الكبير ونظم الحكم؛ إلا إن ذلك لا يمكن قياسه بالحضارة الإغريقية وينعكس هذا على فكرهم الاقتصادي الذي لم يكن تحليلاً للواقع ولكنه كان انعكاس للقيم المجتمعية السائدة في المجتمع الروماني، وهذا ما نراه في كتابات شيشرون وسنكا، وبليني، فقد أعطوا للزراعة مكانة الصدارة في العملية الاقتصادية وإن انتعاشها يُعتبر الدعامة الأساسية التي تقوم عليها السلطة السياسية، أما الصناعة والتجارة فكانت بالنسبة لهم من الحرف غير النبيلة والنقود مصدرًا للبلاء؛ خاصة في معاملات الإقراض والربا، وقد أعتبر “سنكا” أن أي نظام طبيعي صالح ومنسجم مع حياة البشر، بينما كلما هو مصطنع عكس ذلك ومصدرًا للبلاء…
المصادر
- روبرت سي آلان – التاريخ الاقتصادي العالمي (مقدمة قصيرة جدًا)، ترجمة محمد سعد طنطاوي، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة – الطبعة الأولى 2014.
- جون كينيث جالبرت – تاريخ الفكر الاقتصادي (الماضي صورة الحاضر)، ترجمة أحمد فؤاد بلبع، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون العـدد 261، سبتمبر 2000.
- جوزيف أ. شوميتر – تاريخ التحليل الاقتصادي (المجلد الأول)، ترجمة حسن عبدالله بدر، المجلس الأعلى للثقافة – الطبعة الأولى 2005.
- أرسطاطليس – السياسة، ترجمة أحمد لطفي السيد، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2009.
- أفلاطون – جمهورية أفلاطون، ترجمة حنا خباز، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة – الطبعة الأولى 2017.
- فرناند بروديل – تاريخ وقواعد الحضارات، ترجمة دكتور حسين شريف، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الأولى 1966.
- ف. دياكوف، س. كوفاليف – الحضارات القديمة (الجزء الأول)، ترجمة نسيم واكيم اليازجي – دار علاء الدين دمشق، الطبعة الأولى 2000.