6 أبريل، 2024 10:30 م
Search
Close this search box.

“العمل هو الهوية الدينية” .. حينما اخترع “وادي السيليكون” دينًا جديدًا حول العامل لآلة عمل !

Facebook
Twitter
LinkedIn

وكالات – كتابات :

هل ثمة علاقة بين الممارسات الدينية والعمل داخل شركات التكنولوجيا الكبرى ؟.. سؤال طرحته؛ “كارولين تشين”، أستاذة الدراسات العرقية بجامعة “كاليفورنيا”، وسعت للإجابة عليه من خلال كتابها المعنون: (كود صلاة العمل: عندما يتحول العمل إلى دين في وادي السيليكون).

وعمد الكتاب إلى بحث العلاقات بين الدين والعمل في “وادي السيليكون-Silicon Valley”‏، ‏بالاعتماد على المقابلات المتعمقة والملاحظة الإثنوغرافية للعاملين هناك، من أجل دراسة كيفية تحول الوافدين الجُدد من تكوين هويات دينية لصالح ‏هويات جديدة تتمحور حول إيمانهم بعملهم، وإدراج الممارسات الروحية في مكان العمل، بهدف خلق ‏درجة من الانتماء الراسخ الذي يُسهم في زيادة مستويات الإنتاجية، وهو ما يُعبر عن سياق أوسع يتعلق برأسمالية “التيكتوبيا”.

جدل العمل والدين..

في أواخر القرن العشرين، بدأ مديرو الشركات في “الولايات المتحدة” في إحداث تغيير على فكرة كون الموظفين في الشركة يُمثلون مجرد تروس في آلة فعَّالة، وذلك عبر العمل على خلق مجتمع ديني في إطار العمل، وهو ما انعكس على تنامي درجة انتماء الموظفين بالمؤسسة التي يعملون بها، فوفقًا لإحدى الدراسات، ذكر الغالبية العظمى من المهنيين والمديرين أنهم عادةً يعملون ساعات إضافية لأنهم يستمتعون بالعمل والبقاء مع زملائهم بدرجة أكبر بكثير من نشاطهم خارج بيئة العمل.

جاء ذلك لأن الحوافز المادية المقدمة للموظفين لم تُعد كافية من أجل ضمان زيادة الإنتاجية، خاصةً في ظل التنافسية الحادة داخل الاقتصاد العالمي الجديد، حيث شعر قادة الشركات أنهم بحاجة إلى القيام بأكثر من إعادة هيكلة الحوافز المالية والمهنية للعمل، مما دفعهم للتركيز على تحويل ثقافاتهم التنظيمية لاستخراج الجهد التقديري الكامل لعمالهم المهرة، لجعل الموظفين يستثمرون أنفسهم بالكامل، عاطفيًا واجتماعيًا وروحيًا، في عملهم.

بدا هذا التوجه الجديد مطروحًا في الواقع، برغم الجدل حول أنه إذا توسع العمل ليُصبح مؤسسة تُلبي كل احتياجات الإنسان، فإن هذا الأمر سيقوض كثيرًا من رصيد المؤسسات الاجتماعية الأخرى التي تُنظم حياة الإنسان، فإذا كان الأميركيون من ذوي المهارات العالية يُخصصون كل وقتهم للعمل، فمن المُرجح أن يؤثِّر ذلك على بقية النشاطات الإنسانية الأخرى، وهي الجدلية التي يطرحها علماء العمل والأسرة منذ سنوات، والذين يُصرون على أن العمل والأسرة هما إلتزامان متنافسان، أي أن توسع العمل يأتي على حساب الأسرة، وبقية المؤسسات الاجتماعية الحيوية الأخرى، خاصة الدين.

خلال القرن العشرين، كانت المنظمات الدينية هي: “المؤسسات الأم” الأصلية في “الولايات المتحدة الأميركية”، فحتى عندما تراجع الدين في دول “أوروبا الغربية”؛ نتيجة للتصنيع والتحضر والعلمانية، ظلت “الولايات المتحدة” متدينة بشكلٍ استثنائي؛ حتى أواخر القرن العشرين، إذ استمر أكثر من: 90% من الأميركيين في المطالبة بهويتهم الدينية، حيث لعب الدين وظيفة اجتماعية حيوية، وكان المصدر الرئيس للمجتمع والانتماء والهوية.

لكن؛ بينما يستثمر الأميركيون المزيد من وقتهم وطاقتهم في العمل، فإنهم في الوقت نفسه يبتعدون عن الأبعاد الاجتماعية للدين المُنظم لحياتهم، ونتيجة لذلك، فقد الدين تأثيره على الحياة الاجتماعية وهويات الأميركيين.

الأمومة المؤسسية..

تتراجع الهويات الدينية للمهاجرين التكنولوجيين عند الانتقال إلى “وادي السيليكون”؛ بسبب التغيرات في الجغرافيا الدينية، إذ يتم فصلهم عن مجتمعاتهم التي يلعب فيها الدين عاملاً مؤثرًا، كما أنهم ينتقلون إلى واحدة من أقل المناطق تدينًا في “الولايات المتحدة”، بالتالي‏ ففي ظل التكاليف الروحية التي تفرضها بيئة العمل في “وادي السيليكون”، يُقتلع الناس من المجتمعات التي تُغذي ‏‏هوياتهم الدينية، إلا أن الشركات التكنولوجيا في “وادي السيلكون” تعمل بنشاط على إدخال الروحانية في مكان العمل، فوفقًا لأحد رؤساء الموارد البشرية لشركة (Gateway Tech)، فالرفاه لم يتعلق فقط بالأمور الحسية، لكنه بات يُمثل حالة عامة متكاملة من الرفاهية الروحية التي بات يُشار إليها باسم: “الكمال”، وهو ما أضحى يُمثل شغف الكثيرين في الحياة.

تُجدر الإشارة إلى أن (Gateway Tech)؛ ليست وحدها التي تُقدم الرعاية الروحية إلى مكان العمل التكنولوجي، إذ تُعد الروحانية الآن واحدة من العديد من الإمتيازات في مكان العمل في “وادي السيليكون”، ولمعرفة سبب اهتمام الشركات بالرفاهية الجسدية والروحية لموظفيها، يجب أولاً – وفقًا للكاتبة – فهم واحدة من أكثر إشكاليات التكنولوجيا إلحاحًا؛ وهي: “الاحتراق-Burnout”، فعندما تعمل في مجال التكنولوجيا، فأنت تعمل نوعًا ما طوال الوقت.

في هذا السياق؛ طرحت بعض الأدبيات فكرة: “الأمومة المؤسسية”، إذ باتت الشركات تُدرك أنه عندما تُلبي الاحتياجات الشخصية لموظفيها، فمن غير المُرجح أن يقضي الموظفون وقتهم وطاقتهم في مكان آخر، بشكلٍ أكثر دقة، عندما يتلقى الموظفون رعاية الأمومة في الشركة، فإنهم ليسوا مرتبطين ماليًا بشركاتهم فحسب، بل يرتبطون أيضًا بالعمل جسديًا واجتماعيًا وروحانيًا، لذا، تعمل الشركات على توفير العديد من الخدمات لموظفيها، على غرار تقديم الطعام وخدمة التنظيف الجاف، وجلب مدربين للياقة البدنية والنظام الغذائي، فضلاً عن توفير أماكن خاصة لـ”اليوغا” والتأمل.

بيد أن الملحوظ من خلال الوضع القائم في “وادي السيليكون”؛ هو أن فلسفة الاهتمام بهذه الخدمات الروحية والجسدية لا يتعلق بكيفية: “معالجة” هذه الخدمات للموظفين أو جعلهم: “كاملين”؛ بقدر اهتمامهم بكيفية استفادة الشركة من هذه الإمتيازات، وجعلها قادرة على المنافسة للحصول على أفضل: “المواهب” في ظل التنافسية الحادة بين الشركات الأخرى التي تُقدم إمتيازات مماثلة أو أفضل.

لقد أصبحت “الأمومة المؤسسية” الآن معيارًا في “وادي السيليكون”، بسبب ما يُسميه علماء الاجتماع: “التماثل المؤسسي”، إذ بات الأمر ينتهي بالمنظمات في المجال التنافسي نفسه إلى الظهور مثل بعضها البعض، بيد أن شركة (Google) أضحت تُمثل المعيار الذهبي لهذه الصناعة، حيث يصعب على معظم الشركات مضاهاة وسائل الراحة الأسطورية، خاصة الشركات الناشئة الصغيرة.

تنمية الأصول البشرية..

على مدار الـ 40 عامًا الماضية، حصلت الصناعات التحويلية على عائد إضافي عن طريق خفض تكاليف العمالة من خلال الميكنة والاستعانة بمصادر خارجية للعمالة غير الماهرة إلى البلدان النامية؛ حيث العمالة أرخص، بيد أن هذا الأمر يختلف كثيرًا في صناعات المعرفة مثل: التكنولوجيا، لأن الأصول الأكثر قيمة هي المعرفة والحماس الموجودان لدى العمال المهرة، وبدلاً من الاستعانة بمصادر خارجية لأنواع معينة من العمل أو الاستعانة بمصادر خارجية للتكنولوجيا، تحولت التكنولوجيا وغيرها من الصناعات المتطورة المعرفية إلى زيادة قيمة: “أصولها البشرية”.

ولعل هذا هو السبب في أن العديد من الشركات أصبحت مهتمة في السنوات الأخيرة بروحانية القوى العاملة لديها، حيث بات هناك إعتقادٍ سائد بأن النمو الداخلي يُترجم إلى نمو رأس المال هو افتراض أساس لمجتمع التدريب، وفي هذا السياق، فالأصول البشرية هي الوحيدة التي تنمو وليست ثابتة.

ولا تُقدم شركات التكنولوجيا دروسًا ‏في “اليوغا” واليقظة فقط، لكنها باتت تُقدم العمل على أنه دين بحد ذاته، وفقًا للكاتبة، فالشركات لم تُعد ‏مجرد مؤسسات اقتصادية، لكنها أصبحت مؤسسات تُقدم إطارًا روحيًا في عالم ‏رأسمالي، وهو ما عكسته المقابلات التي أجرتها الكاتبة مع الموظفين في “وادي السيليكون”، حيث وصف بعضهم نفسه بأنه أصبح أكثر روحانية بعد الانتقال إلى هناك، ولم يتعرف معظمهم ‏على دين أو ينتمون إلى طائفة دينية أو ‏يحُّضرون ممارسات دينية داخل الأشكال التقليدية للمؤسسات الدينية، لكنهم بدلاً ‏من ذلك، كانوا يُقيمون في العمل.

لقد أصبحت الشركات التكنولوجية الموجودة في “وادي السيليكون” تستخدم الممارسات الروحية ذاتها التي كان العاملين يقومون بها خلال أداء شعائرهم الدينية، قبل وصولهم إلى الوادي، وذلك من أجل زيادة معدلات الإنتاجية، حيث تتبنى شركات التكنولوجيا بحماس الدور الرعوي للدين، وتقدم الرعاية الروحية كوسيلة لجعل عُمالها أكثر انخراطًا وإنتاجية.

مع ذلك؛ يُثير هذا الأمر إشكالية حول استعمار التكنولوجيا للحياة والروح في “وادي السيليكون”، وذلك عبر تغير معنى التقاليد الدينية عندما تُصبح جزءًا من العمل، حيث يُسارع العاملون في مجال التكنولوجيا اليوم إلى تعلم التأمل، ولكن ليس كممارسة روحية كجزء من شعائر دينية، لكنها في الواقع كممارسة إنتاجية.

بالتالي؛ ترى الكاتبة، أنه عندما يحل العمل محل الدين في هذه الشركات التكنولوجية، فإن الدين يتخذ المنطق الأداتي للعمل، وأن التغييرات الخاصة بطبيعة العمل والاقتصاد في الأربعين عامًا الماضية أسهمت في تشكيل الأبعاد الروحية لـ”وادي السيليكون”، وتعكس فلسفة: “دين العمل” في “وادي السيليكون”؛ كيف أن الاقتصاد الجديد والنيوليبرالية على نطاق أوسع يُغيران الطريقة التي يفهم بها عمال التكنولوجيا التقاليد الدينية ويُمارسونها.

إجمالاً؛ وبحسب الكاتبة، فعندما يحل العمل محل الدين، يتخذ الدين المنطق ‏النفعي للعمل، ويطور المستخدمون الإتزان والرحمة والعقل الصافي، ليس لأنهم يُريدون أن يكونوا فاضلين، ولكن لأنهم يُريدون تحسين أدائهم، وتحويلها إلى قيمة اقتصادية.‏

مغناطيس “تيكتوبيا”..

يُقدم “وادي السيليكون” نموذجًا بشأن ماذا يحدث للمجتمع عندما يقوم أعضاؤه بممارسة العبادة، فقد أفرزت صناعة التكنولوجيا ظاهرة جديدة تُسمى: (تيكتوبيا-Techtopia)، والتي تعكس: “نظام تشغيل” اجتماعي، وهو مجتمع مصمم هندسيًا، حيث يجد الناس فيه أعلى مستويات الإنجاز في مكان العمل المثالي، فهي تُعد ذوي المهارات العالية بنوع جديد من: “الكمال”، حيث توفر (التيكتوبيا)، المُّدارة بشكل احترافي والقائمة على البيانات والجدارة، للعاملين في مجال التكنولوجيا ما فشلت عائلاتهم ودياناتهم وأحياؤهم ونقاباتهم والمنظمات المدنية في تحقيقه في الأربعين عامًا الماضية، والمتمثل في الأساس في المعنى، والغرض، والاعتراف، والروحانية، والتواصل الاجتماعي.

قد يبدو وعد (Techtopia) بالوفاء بعيدًا، حتى أنه هزلي بالنسبة لمعظم الأميركيين، لكنها في الحقيقة تُعالج الغياب المتزايد في الروح الأميركية، وتراجع الانتماء للمؤسسات الاجتماعية، فخلال الأربعين عامًا الماضية؛ انسحب الأميركيون ليس فقط من الدين، ولكن أيضًا من الزواج والجمعيات المدنية التي كانت تُقدم: “الكمال” في وقت من الأوقات، وبالتالي لم يُعد هناك بديل أو أية مؤسسة اجتماعية أخرى تطمح بإخلاص إلى تلبية الاحتياجات المادية والاجتماعية والروحية لأعضائها كما يفعل العمل لعمالها ذوي المهارات العالية.

وفي رأسمالية الـ (تيكتوبيا) تلك، يُصبح العمل أعلى مصدر لتحقيق هوية الإنسان، أي بمنزلة مغناطيس كبير يجذب إليه وقت وطاقة عناصره بشكلٍ كامل، على حساب ارتباطه ببقية المؤسسات الاجتماعية الأخرى، حيث تسعى (التيكتوبيا) إلى حشد الطاقات كافة بعيدًا عن هذه المؤسسات وتوجيهها لخدمة العمل.

وهناك إشكالية تتعلق بهذا الأمر، تتمثل في النمط المتطرف الذي باتت تتسم به شركات التكنولوجيا من أجل العمل بشكلٍ متزايد، فهم يوجهون طاقة موظفيهم إلى الداخل ويعزلونهم عن الأشياء بالخارج، وذلك عن طريق تخزين الكثير من وقت موظفيها وطاقتهم وشغفهم؛ بحيث لم يتبق لهم وقت لأي شيء آخر، كما أنهم يوفرون الكثير من احتياجات موظفيهم بحيث يمكن للعاملين في مجال التكنولوجيا الاستغناء عن الجمهور، ونتيجة لذلك تعمل (Techtopia) على تآكل القدرة الجماعية على بناء واستدامة الصالح العام، كما أن هذا لا يضر فقط بالمجتمعات التي يعيشون فيها، بل يُضعف أيضًا أسس الديمقراطية التشاركية.

ختامًا، تقول “كارولين تشين”؛ إنه أصبح من الصعب إشراك شركات التكنولوجيا والعاملين في قضايا المجتمع، فالعاملون في مجال التكنولوجيا باتوا غير منخرطين بشكلٍ خاص في السياسات العامة، وهم أقل مشاركة بكثير من المهنيين في مجالات مثل: الصحة أو العقارات أو البنوك، فهم لا يُشاركون في التصويت ولا يعرفون ممثليهم المحليين، كما أن القواعد والقوانين ‏المصممة لحماية الجمهور العام لا تهم شركات التكنولوجيا التي تُريد تغيير العالم، وقد أصبح الصراع بين صناعة التكنولوجيا والمصلحة العامة الآن أمرًا مألوفًا، ما قد تنجم عنه صراعات سياسية مستقبلاً.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب