تأليف: د. نورهان الشيخ
رغم زوال التناقض الأيديولوجى بين روسيا والولايات المتحدة بتفكك الاتحاد السوفيتى وتحول العلاقة بينهما من الصراع والتنافس إلى “الشراكة الاستراتيجية” على مدى العقدين التاليين حيث استطاعا إحتواء الخلافات والتعاون فى العديد من الملفات. وساد الاعتقاد بأن زمن الحرب الباردة قد ولى، ولم يعد هناك شرق أو غرب وإنما ثمانية كبار تتقدمهم الولايات المتحدة وبينهم روسيا، وإن هناك حدود للمواجهة الروسية مع واشنطن، وأنه لا يجب المراهنة على موقف روسى يمثل تحول جذرى عن التوجهات العامة للسياسة الدولية المتفق عليها من جانب الثمانية الكبار. فإن مسار العلاقات الروسية الأمريكية على مدى العقد الجارى، وخاصة منذ إندلاع الأزمة الأوكرانية أواخر عام 2013، جاءت مغايرة تماماً لهذه التحليلات والتوقعات.
فرغم الصعوبات التى كانت تكتنف العلاقات الأمريكية الروسية منذ إعلان واشنطن عام 2007 إقامة الدرع المضاد للصواريخ وإعتراض موسكو عليه واعتباره تهديد مباشر لأمنها القومى، فإن الخلافات بين البلدين ظلت كامنة وتحت السيطرة حتى جاءت الأزمة الأوكرانية لتشعل التوتر وتكشف حجم التناقضات الاستراتيجية والمصلحية بينهما، وتعيد أجواء الحرب الباردة التى كانت قد أُعتبرت جزءاً من ماضى لن يعود، وأوضحت التباعد بين السياسة الأمريكية والموقف الروسى المتوازن إزاء العديد من القضايا التى ترى الولايات المتحدة مساراً وحيداً لها يتفق ومصالحها هى فقط، وترى فى استبعاد روسيا وغيرها من القوى الدولية أمراً ضرورياً لتحقيق أهدافها بالكامل.
وقد أثار وصول دونالد ترامب للبيت الأبيض جدلاً واسعاً، وتساؤلات عدة حول سياساته وتوجهاته، خاصة فيما يتعلق بروسيا، ومدى قدرته على إحداث تحول حقيقى فى العلاقات الأمريكية الروسية باتجاه التفاهم والتهدئة، وهل يكفى مجرد إبداء الإعجاب ببوتين لتقريب الهوة فى مواقف البلدين من القضايا الدولية والإقليمية. فقد أبدى ترامب خلال حملته الانتخابية موقفاً مغايراً تجاه روسيا والرئيس بوتين، الذى يكن له “إعجاباً”، على حد تعبيره، وتحدث عنه باعتباره “القائد القوى” الذى يجب “التفاهم” معه. ومن جانبه هنئ الرئيس بوتين ترامب على فوزه، وأعرب فى برقيته عن ثقته بأن “بناء حوار بين موسكو وواشنطن سيخدم مصالح البلدين والعالم”. الأمر الذى أشاع التفاؤل حول إمكانية خروج العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة من حالة التأزم التى تمر بها منذ سنوات، وحدوث إنفراجه بها تلقى بظلال إيجابية على الملفات والقضايا الإقليمية التى تعقدت على خلفية التناقض وتراجع التفاهم بين واشنطن وموسكو.
إلا إن مسار العلاقات بين البلدين منذ تولى ترامب السلطة، والوثائق المختلفة الصادرة عن البيت الأبيض والبنتاجون تؤكد أن التوتر بين الجانبين ليس من قبيل الخلافات العابرة وإنما تناقضات جوهرية وهيكلية يصعب تجاوزها على الأقل فى المدى المنظور. فقد عادت روسيا كقوة كبرى فاعلة ومؤثرة على الساحتين الدولية والإقليمية، وإن كان ذلك برؤية وأولويات تكاد تختلف جذرياً عن تلك التى حكمت السياسة الخارجية السوفيتية على مدى ما يزيد عن سبعين عاماً، فموسكو لا تطمح إلى مزاحمة الولايات المتحدة كما كان علية الحال زمن الاتحاد السوفيتى، وإنما تسعى بجدية إلى حماية مصالحها وأمنها القومى بمفهومه الواسع. إلا إن الولايات المتحدة مازالت متمسكة بدورها القيادى المنفرد فى العالم، وترفض أن تشاركها أى دولة أخرى فيه، كما ترفض تماماً القبول بنظام متعدد القوى وتسعى جاهدة لبقاء الأحادية القطبية باعتبارها إنجاز أمريكى يخدم مصالحها، وتعتبر أن محاولات روسيا تغيير ذلك بالانتقال إلى صيغة تعددية للنظام الدولى تهديد مباشر لها.
وقد أشار ترامب صراحة لذلك فى أول خطاب له بشأن حالة الاتحاد أمام الكونجرس يوم 31 يناير 2018 حيث اعتبر روسيا والصين يمثلان تهديدا للمصالح والقيم الأمريكية، ليعيد التأكيد على ما جاء فى استراتيجية الأمن القومي الأمريكي التى أصدرها فى 18 ديسمبر 2017، والتى اعتبرت أن دور روسيا الدولى يمثل تهديداً للولايات المتحدة، مستخدمة مصطلح “الدول التحريفية” للإشارة إلى روسيا والصين اللتان تحاولان تغيير الوضع الراهن، أو “القوى المراجعة” التي ترغب في خلق عالم لا يتوافق بالضرورة مع المصالح والقيم الأمريكية.
ورغم التصريحات الإيجابية التى أعقبت قمة هلسنكي فى 16 يوليو 2018، والتى كانت أول قمة رسمية بين البلدين منذ أبريل 2010، واعتبر ترامب، أن العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا كانت في أسوأ حالاتها لكنها تحسنت بفضل هذه القمة، ووصف الرئيس بوتين القمة بـ”الناجحة والمثمرة”، وأنها مثلت الخطوة الأولى في “إزالة الأنقاض” عن العلاقات بين البلدين. فإن حصاد القمة لم يكن كبيراً، كما إن عاصفة الانتقادات التى اشعلتها تصريحات ترامب “الودية” تجاه نظيره بوتين خلال القمة في الأوساط الأمريكية والتي وصفت موقف ترامب بالضعف و”الخيانة” أفقدت القمة كثيراً من تأثيراتها الإيجابية المحتملة على مسار العلاقات بين البلدين.
أن المدقق فى العلاقات الروسية الأمريكية منذ مطلع القرن الماضى، يجد أنه كان هناك دوماً تناقضاً حضارياً ومصلحياً جوهرياً بينهما حتى فى أقوى فترات التقارب والدفئ فى العلاقة بين البلدين خلال التسعينات، وأن التناقض كان وسيظل هو السمة الغالبة على العلاقات الروسية الأمريكية، وإن اختلف مضمون ومعطيات هذا التناقض.
ونظراً لأهمية العلاقات الروسية الأمريكية وكونها متغير هام يحكم الاستقرار الدولي والإقليمى، يحاول هذا الكتاب الوقوف على واقع هذه العلاقات، والتحول الذى شهدته، والذى يرجع بجذوره إلى فترة ما قبل تفكك الاتحاد السوفيتى والسياسات التى دشنها الرئيس السوفيتى ميخائيل جورباتشوف أواخر الثمانينات من القرن العشرين. وكذلك بحث وتحليل مواطن التوتر التى مازالت قائمة وأدت إلى عودة الحرب الباردة بين البلدين. وكيف ولماذا انتهى “شهر العسل” سريعاً بينهما، وعاد التوتر ليخيم على هذه العلاقات، والحديث عن حرب باردة جديدة بين الجانبين، والتى تقوم على التناقض الاستراتيجى والمصلحى وليس الإيديولوجى، مع التركيز على أبرز القضايا محل الخلاف بين موسكو وواشنطن، وذلك فى إطار عشرة فصول.
تناول أولها نهاية الحرب الباردة الأولى والانفراج الذى شهدته العلاقات بين موسكو وواشنطن فى أواخر الحقبة السوفيتية. ويتناول ثانيها، التفاهمات بين البلدين فى فترة ما بعد تفكك الاتحاد السوفيتى وحتى عام 2007 وخطاب الرئيس بوتين فى مؤتمر ميونيخ للأمن، والذى كان إيذاناً بتحول جذرى فى العلاقة بين الجانبين مع عودة روسيا كفاعل دولى قوى ومؤثر لا يقبل المساس بمصالحه أو العبث بأمنه القومى.
أما الفصول التالية فقد ركزت على القضايا محل الخلاف والصراع بين البلدين، والتى أدت إلى عودة أجواء الحرب الباردة بينهما، وأبرزها قضية توسيع حلف شمال الأطلسى (الناتو) وتمدد بنيته العسكرية وإقترابها من الحدود الروسية، والدرع الأمريكى المضاد للصواريخ، والتنافس والمواجهة فى الفضاء السوفيتى، وخارجه فى سوريا، والخلاف حول الملف النووى الإيرانى، والتنافس فى سوق الطاقة.
وأتمنى أن يسهم الكتاب فى إثراء معارف القارئ العربى، والباحثين والمهتمين بالعلاقات الروسية والأمريكية، وتداعيات التفاعلات بين البلدين على النظام الدولى، والأوضاع الإقليمية، وأن يمثل إضافة متواضعة للمكتبة العربية فى هذا الخصوص.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المحتــويـــــــــــات
مقدمة 7
الفصل الأول جورباتشوف والوفاق السوفيتى الأمريكى 13
“التفكير الجديد” فى السياسة السوفيتية 16
أبعاد الوفاق السوفيتى الأمريكى 19
الفصل الثانى تفاهمات تكتيكية عقب الحقبة السوفيتية 23
الاندفاع الروسى نحو الغرب 23
تراجع استقلالية السياسة الروسية 27
الفصل الثــالث تجدد التناقضات الإستراتيجية 35
توسيع حلف شمال الأطلسى 38
الدرع الأمريكى المضاد للصواريخ 51
الفصل الرابع التنافس على آسيا الوسطى 61
التغلغل الأمريكى فى منطقة آسيا الوسطى 64
القواعد العسكرية الروسية فى دول آسيا الوسطى 70
منظمة معاهدة الأمن الجماعى 71
الفصل الخامس أزمة أوسيتيا الجنوبية وتداعياتها 81
دوافع جورجيا لتفجير الأزمة 82
العوامل التى حكمت رد الفعل الروسى 83
تداعيات ودلالات الأزمة 88
الفصل السادس المواجهة حول أوكرانيا 95
عوامل تعقد واستمرار الأزمة 97
تداعيات الأزمة الأوكرانية 108
مينسك2 وتحديات السلام 120
الفصل السابع حرب العقوبات 131
العقوبات فى إطار الحرب الباردة 132
العقوبات على خلفية الأزمة الأوكرانية 134
رد الفعل الروسى والعقوبات الجوابية 139
ترامب وتصاعد حرب العقوبات 145
تشديد العقوبات على خلفية قضية سكريبال 150
الفصل الثامن الصراع حول سوريا 157
الموقف الأمريكى من سوريا ودوافعه 158
الموقف الروسى ودوافعه 160
أبعاد المواجهة الروسية الأمريكية حول سوريا 164
الفصل التاسع الخلاف حول البرنامج النووى الإيرانى 179
الموقف الروسى من البرنامج النووى الإيرانى 180
روسيا والانسحاب الأمريكى من الاتفاق النووى 190
الفصل العاشر التنافس فى سوق الطاقة 195
استراتيجية الطاقة الروسية 196
التنافس الروسى الأمريكى فى سوق الطاقة 204
قائمة المراجع 211
المصدر/ مجموعة الرؤية الاستراتيجية ـ روسيا اليوم