خاص: إعداد- سماح عادل
كان مجيء فيروس “كوفيد 19” بمثابة حدث غرائبي يعيشه الفرد، ويشعر معه كأن النهاية قد اقتربت، ومثل ذلك الرعب العالمي إظلاما مفاجئا، سبب كوابيسا للبعض، لكن كان التأثير الأسوأ هو الأزمة الاقتصادية التي ساهمت في تدهور أوضاع الكتاب الذين لا يملكون الأموال لطباعة أعمالهم. لكن السخرية الأكبر تمثلت في أن تأثير الفيروس اللعين وعزلته الخانقة لم تكن ذات بال في الأماكن التي دمرتها الحروب والصراعات من قبل، فكان رعب الفيروس أمرا هينا بعد أن مر الناس بأهوال الحرب والاقتتال والخراب.
لذا كان لنا هذا التحقيق الصحفي الذي يجمع آراء الكتاب والكاتبات حول تأثير العزلة العالمية بسبب الفيروس عليهم، وقد وجهنا لهم الأسئلة التالية:
– كيف كان تأثير ظهور فيروس “كوفيد ١٩”والعزلة التي صاحبته لمدة عام ونصف على الكتابة لديك؟
– هل أثرت العزلة على حركة الثقافة وعلى نشر وتوزيع الكتب خاصة مع قلة الفاعليات الثقافية من معارض كتب وندوات؟
– ما هي البدائل التي لجأ إليها الكتاب للتواصل والتفاعل في مجال الثقافة؟.
أمر غرائبي..
يقول الكاتب العراقي “علي لفتة سعيد”: “في مجتمعاتنا ثمة تحدٍ مخفي دائما كون العقلية التي تحيطنا أو التي نحملها دائما ما تعمل تحت الضغط الروحي والميتافيزيقي. بمعنى أن الجائحة في أيامها الأولى كانت تشبه أمرا غرائبيا وكأن لحظة اصطدام الأرض بالمجرات الأخرى قد حان وأن النهاية قربت، ومع ذلك كان ثمة حيز من اللامبالاة إن لم نقل الاستهزاء والاتهامات وما قيل أن ثمة مؤامرة عالمية ضد المجتمعات الإسلامية والعربية بالخصوص، فتحول الأمر إلى مقابلة في تحدٍ صعب بعدم مقبولية هذا الوباء.
وعن تأثير الفيروس يقول: “لهذا فإن تأثيره الثقافي على الواقع الاجتماعي في مجتمعاتنا كان أكبر من تأثيره الوبائي الذي كان الالتزام به هو مجرّد حجر منزلي غير مرتّب، لم يمنع الخروج أو اللقاءات، لكنه منع إقامة الفعاليات الثقافية، لأن هذه الفعاليات لا يقيمها الفرد لكي يتم التحدي أو الخرق، بل هي مؤسسات تلتزم بالتعليمات كاتحاد الأدباء والمنظمات والنقابات الأخرى، فولّد هذا الانقطاع تأثيرا نفسيا في البدء لأنه تحول إلى صيغة أخرى لترتيب الأوراق من جديد بشكل يسابق التأثير السلبي للجائحة لأن الأديب إنسان مثقف وواعي ولهذا فإن الاستسلام يعني تدمير البنى الثقافية، وإذا ما تم تدميرها فلا معنى للتواصل مع الحياة برمتها”.
ويضيف: “لهذا فإن الترتيب جاء ليس فقط لمواجهة الجائحة بل لاستغلالها في إنتاج الكثير من النتاج المؤجل الذي كان أحد أسباب تأخيره هو المشاركة شبه المستمرة بالفعاليات الأخرى، ولهذا فإن فسحة الزمن الطويلة التي لم يتعودها الأديب تحوّلت إلى مشغل فكري بزيادة ساعات القراءة، وبالتالي زيادة الإنتاج الأدبي التي تمخّض عنه الكثير من الإبداعات ساهمت الصحف التي تحولت بطبعتها الإجبارية إلى طبعة الكترونية، وهو فعل محفز أيضا لأن الإنتاج لابد أن يخرج إلى المتلقي.
وهذا الأمر يمكن تلمسه من قراءة متفحصة ونظرة واعية للنتاج الثقافي الذي ينشر في الصحف والمواقع الالكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت هي النافذة ربما الوحيدة للحوار والمناقشات وإبداء الملاحظات والنقد والتعقيب ومواصلة النشر والتحدي واستغلال الجائحة للكتابة عن موضوعات كثيرة تدخل فيها أيام الحجر والعلاقات الجديدة وكل شيء. لهذا فإن تأثير الجائحة والحجر ربما كان فاعلا إيجابيا للأديب وإن كان مصاحبا لانقطاع العلاقات الاجتماعية التي يحتاجها منتج الأدب لديمومة إنتاجه. لكنها بكل تأكيد أثرت على توزيع الكتب في تلك المرحلة الأولى وخاصة منتصف عام 2020 لأن العزلة لم تكن مكانية في الجغرافية الواحدة بل عزلة تقطيع البلاد وعدم التلاقي وغياب الفاعليات الثقافية، ولكن أيضا كان التوزيع إلكترونيا بين الأدباء وخاصة العرب.
فالوسيلة هي ذاتها للتفاعل الفيسبوك والبريد الإلكتروني والواتساب وغيرها وكانت هذه بدائل مهمة في تطوير الإنتاج ومواجهة الجائحة والتقليل من الضغط النفسي وما تفعله الشائعات في الفعل ورد الفعل عن أصل الفيروس والمؤامرة وانتهاء الحياة وتطورات الفيروس وغيرها، وهي كانت في بادئ الأمر نقاط تشتعل بالنار الغاضبة على كل شيء، لذا فالأديب لم يكن معنيا بالخمول الذي تسببه الجائحة وخطورتها وحرجها والتباعد الذي حصل لأن الإنسان/ الأديب يعيش حركة فكرية وتوعوية لذا فهو لن يسكن ولن يصاب بالخمول لأنه غير قابل لليأس وإن انكسر لحظة كما قال هيمنجواي”.
عالم مظلم وقاسي..
ويقول الكاتب السوداني “محمد نجيب محمد علي”: “في ظني أن المبدع يعيش بين عزلتين عزلة الكتابة وهي عزلة خاصة محببة، وعزلة الكورونا التي فرضها الواقع وهي عزلة غير محببة، ولكنها ملزمة لما يمكن أن يترتب من خطورة في حالة الخروج عليها. ورغم ذلك نجد أنها قد فتحت نوافذ وأبواب لممارسة عزلة الكاتب المحببة بحرية حولت العالم والحياة بكل معطياتها الخفية والعلنية وجمعها داخل مساحة صغيرة محددة الأضلاع والطول والعرض.
هذه الشهور بكل ما فيها لم تكن لينة بقدر ما كانت قاسية ولم تكن قاسية بقدر ما كانت لينة، لأن سقفها كان الخوف من الغائب وكانت أيضا الإيمان بما يمكن أن يكون. في هذه الظروف يتآلف الشك باليقين والغائب بالحاضر. وأنا ككاتب شكلت حياتي بكل ذلك، كنت أمارس القراءة جهرا ضد عادتي القديمة، أمارس صراخي بعفوية كاملة آمنة، وأكتب قبل أن يلمس القلم يدي أو قبل أن تلمس أصابعي الكيبورد”.
ويضيف: “أظنني اكتسبت مهارات جديدة، الكتابة خارج الكتابة وداخلها والقراءة أيضا، أكثر ما كان يؤلمني تلك الكوابيس التي وجدت مساحات أكبر للتجول معي ومناكفتني نائما أو صاحيا، كنت أعاندها وأراها أكثر عنادا مني وأغازلها وأرى قسوة صدودها. التماسيح أصبح لها خراطيم الفيلة والفيلة صار لها قرون، صدقيني ما أحدثته الكورونا في المخيلة شيء لا يصدق أما رأيت كيف جعلها “واسيني الأعرج” ليلات رمادة. لا أقول أن عزلة كورونا لم تكن ملهمة لا، ولكنها كانت جارحة جدا.
ودون شك لقد امتد تأثير تلك الشهور السنوات ومايزال على كل الحراك الثقافي جعله ناقصا جدا، غاب الجمهور كثيرا، وصار الحراك كله تحت رحمة النت والكلام المهرول، أظن أن الخوف جعلنا لا نركز كثيرا، نناطح الكلام في وقت يحدد، ترفض جيوبنا الخاوية أن يمتد، أصبحت باقات النت مرتفعة التكلفة وسريعة الذوبان. أحسبنا نعيش في زمن الهايكو، نحتاج للقصيدة القصيرة والقصة القصيرة جدا والرواية القصة والنقد الذي لابد أن يكون الأقصر عمرا وطولا، واللوحة اللون الواحد، دون شك سيوثق التاريخ كل ذلك”.
ويؤكد: “ونفس الشيء أصاب النشر حين لعب الدولار مثلا بالجنيه السوداني كما يريد، فصارت طباعة الكتاب متاحة فقط للخاصة الذين يكنزون الذهب وجباله أما المبدعين الفقراء فلا عزاء لهم سوى أن يحلموا. مساحة الأحلام اتسعت جدا في زمن الكورونا… لأن الواقع اختلف..
حتى معارض الكتاب صارت خجولة جدا، ومحروسة بالكمامات والتباعد وعدم اللمس، وتسألين عن البدائل. أنا لا أدري ولا أرى وما نزال نحاول أن نتأكد من صدق اللقاحات التي تمشي الهوينى، ويقولون حتى هي لا تمنع الإصابة إنما… وإنما…
يا سيدتي نسأل الله أن تزال هذه السحب الكورونية السوداء التي جعلت العالم مظلما… وأكثر قسوة.. وجعلتنا نحاول أن نمنح العالم بعض الأمل بصباح سيأتي غدا لنرى الماء ماء”..
عزلة مزمنة وحرب..
الكاتب اليمني “محمد الشميري”: “بالنسبة لنا في اليمن، لم يكن لجائحة كورونا تأثيرها الذي شهدناه عند معظم الدول بما فيها الدول العربية، ربما لأنه بالأساس لا توجد مؤسسات ثقافية فاعلة، ولم يكن المشهد الثقافي نشيطا، فالحرب اجتاحت الحياة وشلت الحركة، حتى من قبلها، كان المشهد موسميا متواضع الحضور، هذا من ناحية، من جهة أخرى نحن في عزلة مزمنة، لذلك لم نلحظ تأثير كوفيد 19.
المتابع للمشهد الثقافي اليمني، يجد أن أهم موضوعات الأدب تتمحور حور حياته المحاصرة بالموت، شكلا وموضوعا، لذلك، ورغم الحالات التي قضى عليها كوفيد 19، ومع كل التحذيرات، لم يمارس التباعد الاجتماعي إلا مجموعة قليلة جدا، صار الموت خلاصا وهروبا جميلا، مع ذلك لم تحضر الجائحة في الكتابات الأدبية، إلا قليلا جدا في بعض القصائد المباشرة، أما على مستوى السرد، لم نجد تفاعلا نصيا معه، ولا أتوقع حتى على المستوى البعيد”.
ويضيف: “غياب دور النشر من قبل الجائحة يفسر هذا التأثير شبه المعدوم على حركة الطبع والتوزيع، حيث اقتصر فقط على حصار وصول الكتب من خارج اليمن. ربما كان من المتوقع أن تكون فترات الحجر الصحي والعزلة سببا في تصاعد وتيرة القراءة لدي اليمنيين، لكن كما قلت سابقا، نحن معزولون قبل العزل ومحاصرون قبل الحصار!
تظل مواقع التواصل الاجتماعي هي الفضاءُ الوحيد لنا، كتابة وتفاعلا ومشاركة محدودة لبعض الفعاليات عبر تطبيق الزووم أو غيره”.
ويواصل: “نظريا، يتوقع المراقب أن يحدث تغير في سؤال الحياة والموت، فلسفة الوجود خصوصا أن كوفيد19 جعل الموت أقرب من مسافته الفجائية، لكنه لم يحصل لدي اليمنيين، فقد سيطرت الحرب على كل فلسفة، واجتاح الضياع أفق المتلقي والمنتج على السواء”.
مراجعة النفس..
ويقول الكاتب العراقي “حسين رحيم”: “من جانب الكتابة تحديدا عزلة كورونا القسرية منحتني حرية الكتابة زمانيا ومكانيا وأعطتني فرصة العزلة أن أكمل أكثر من نص روائي ومجموعة قصصية، بالإضافة لكتابات حرة أكتبها لنفسي، كذلك وفرت لي هذه العزلة وقتا فسيحا للقراءات المؤجلة في الفلسفة والفكر بالإضافة لمشاهدة الأفلام المهمة منزليا، ومراجعة النفس في التأمل. أما خرج هذا الأمر فالموضوع في طريقه للزوال لأن كوفيد 19 يعني عندي الخوف منه وهو ما يعيشه الناس ولكن بعده وأنا وزوجتي أصبنا به وشفينا منه، وكان طبيبنا ابني الذي استمر معنا عشرة أيام بالأدوية والعلاجات والفيتامينات وغيرها برأيي نزلات البرد الأنفلونزا وشقيقاتها أشد ألما منه”.