12 فبراير، 2025 4:28 ص

العزلة والكتابة (13): ما بين أحلام توأد بسبب الصراعات وبين عجرفة الوسط الثقافي

العزلة والكتابة (13): ما بين أحلام توأد بسبب الصراعات وبين عجرفة الوسط الثقافي

 

خاص: إعداد- سماح عادل

رغم غرابة الاجتياح الذي فاجئنا به كوفيد 19، إلا أن الوباء لم يستطع النيل من أرواح الكتاب الحساسة، منهم من اعتبر الكتابة فعل حرية، ومنهم من اعتبرها تحقيقا لإنسانيته ونجاة من موت روحي محقق، ومنهم من اعتبرها تمجيدا للإنسان وبقاؤه. يبقى التأثير الذي أحدثه ظهور الفيروس على أولئك الذين لم يحققوا رواجا أدبيا وثقافيا أو تواجدا كثيفا داخل الوسط الثقافي، ربما بسبب قوانينه وقواعده المجحفة.

لذا كان لنا هذا التحقيق الصحفي الذي يجمع آراء الكتاب والكاتبات حول تأثير العزلة العالمية بسبب الفيروس عليهم، وقد وجهنا لهم الأسئلة التالية:

– كيف كان تأثير ظهور فيروس “كوفيد ١٩”والعزلة التي صاحبته لمدة عام ونصف على الكتابة لديك؟

– هل أثرت العزلة على حركة الثقافة وعلى نشر وتوزيع الكتب خاصة مع قلة الفاعليات الثقافية من معارض كتب وندوات؟

عزلة الكتابة خضراء..

يقول الشاعر اليمني “محيي الدين جرمة “: “انتقلت مع اندلاع الحرب من المدينة المتريفة بكل قيمها السياسية والاجتماعية إلى الريف النقي والهواء الصحي والمدني المسالم، حيث الطبيعة تبدو أكثر الناس براءة في الصمت،

لقد بقيت الكتابة لدي فعل حرية، وإن ظلت حالة المماثلة والمشابهة بينها وبين كوفيد 19 كبيرة لجهة كون الكتابة غالبا ما تستدعي العزلة لا كاضطرار وقائي، ولكن لأن عزلة الكتابة خضراء، لكنها قد لا تكون بتلك المخاطر التي تستدعي تسييس الشعور بالخوف كما هو الحال في غول الترقب والهلع والفزع والحيطة من الوباء مابعد الحداثي، المعروف بكورونا”.

وعن تأثير العزلة على حركة الثقافة يقول: “بالطبع حدث ذلك بشكل كبير، وغير مرة تعطلت مواعيد وفاعليات وحراكات ثقافية وإبداعية، بفعل طارئ المرض، والتوجسات من تمدده، وألغيت معارض وشاخصات عربية ودولية لعرض الكتب، وبقي الكتاب رهن الترويج الذاتي للأفراد ودور النشر الافتراضية التي تكاثرت كلافتات وعناوين، لكن دون فعل أو واقع، حدث ذلك، بشكل مخيف، وجد الناس أنفسهم بإزاء خيارات قسرية اضطرارية في الوقاية بعضها، تستدعيها قوة الشرطة أحيانا، لضبط الشارع، بنصائح صحية واشهاريات لفائدة الالتزام وعدم الاحتكاك.

في الوقت الذي أدى فيه الوباء إلى فروضات طاعة على الناس، لكن بقيت السلوكيات لدى مجتمعاتنا غالبا تميل إلى الفوضى واللامبالاة، كطبع مألوف، سواء بمحض إراداتهم، أم بسطوة وقوة الحكومات الطبية وفائض المستشفيات المريضة والتي كثيرا ما تصاب المجاميع من الناس والطارئين على طوارئها، بعدواها، هي الأخرى”.

ويضيف: “في هذا السياق فقد تحولت حركة الثقافة إلى سكون بشرط العزل، والحجر، والحذر، وصار الكاتب أو الأديب في خضم مشهد الهلع العام والحراكات الثقافية أشبه بكائن رقمي، في غرف التطبيقات المتاحة عن بعد، كتطبيق” الزووم” الشهير الذي تحولنا في غرفته إلى كائنات كاريكاتورية تتحرك وتصغي معا، الوباء درس كبير أكثر فاعلية وتأثيرا من حروب عدة، فقد حول العالم الثقافي بأبعاده المختلفة وتخصصاته إلى مواطنية خوف وتوجس، وتنافر، في غرفة جهات مشرعة على نوافذ الافتراض التواصلي المتفاعل تحت عناوين وتيمات مختلفة”.

وعن البدائل التي لجأ إليها الكتاب للتواصل يقول: “منها ما يساير طبيعة المتاح لإيصال الفكرة أو الخطاب عبر السنيات شتى. ومنها بدائل كاللجوء إلى معارض الكتب الرقمية التي نشطت القراءة من خلالها كتقنية سيالة ومجانية التداول، مثل صيغ البي دي إف، مثلا، والصيغ الأبرز متمثلة في تنافس الكتابة واختصار الحكاية وبروز صور الأديب وحديثه أو الروائي والناقد الرقمي يحكي عن الرواية عبر فكرة اليوتوبير، وحيث تختزل المشاهد والفصول السردية لرواية ما بنفس ما يتم اختزال راوية مكتوبة لمشهدية فيلم سينمائي، أو توثيقي.

تأثيرات متحولة وكبيرة، وتراجيديات، وأفراح وأحزان، هي لعالم غدا كتابا مفتوحا، شاشة كبيرة، ولم يعد قرية من خلال الوسائط وصانعي المحتويات المتعددة الاستخدام، بات العالم بيت واحد متجاور الغرف، نوافذ متقاربة في غرفة، لكن هذه الغرفة الآلية، بقيت تنتج العزلة المزمنة، بصور شتى رغم اختزالية الزمان وكسر الحدود والسفر عبر الأمكنة والمسافات، ووهم تذويب جليد المعنى البعيد. الذي وإن قرب إلا أن هناك مازالت أحلام أجيال وأشكال وتجارب توأد في الحياة الثقافية والأدبية بفعل الحروب والصراعات التي أكلت البشر والأخضر واليابس.

موجة هلع طويلة..

ويقول الكاتب السوداني “منتصر منصور”: “إن المغزى الحقيقي للكتابة ليس إشباعا للذات الغارقة في الخيال من خلال التجارب الشخصية أو المشاهدة فقط، بل الالتفات لشتي الأزمات التي تجتاح البشرية وجائحة كورونا أولها، إن الكتابة ستبقي ليست إكمالا لشهوة القراءة بل خلق أولويات وتفضيلات أخلاقية بمنح التأثيرات الملائمة بخلق وعي ومعرفة، ومنح الخيال خريطة عمل تجعل صاحبه قادرا على إنتاج المغاير واللازم في أنساق كتابية تبصر وتلهم وتساعد البشر بصنع النماذج الملهمة، بوضع ثيمات أساسية تجعلنا لا نتجاوز هذا الأمر، لأنه سيكون نقطة تحوّل أخلاقية في نظرة العوالم لبعضها البعض..

على الكتابة أن تتجرد ليس من أزمنة غير موجودة ومصنوعة بفعل الخيال، بل أن تتجرد لتعيد نفسها وتقديمها لشتي شرائح المجتمع، دونما وجود نظرة استهلاك للمنتج، علينا أن نربح أنفسنا بالكتابة الرائدة التي تمجد الإنسان وبقاؤه، الأثر البشري المتكافل دون أن يتناوب الفعل أزمة تصنع التقارب القسري بين العوالم، علينا أن نخاطب الروح والعقل معاً حتى لا تتشظي الرؤيا العامة للبقاء، إن الإنسانية أرست بواسطة الأزمات التي مرّت بها أدبا واقعيا وسحريا تندغم فيه كل موجودات بقاءها، واستطاعت بهذا الفعل أن تمجد نفسها وتنطلق من أرضية واعية لتخلق أنماطها الكتابية المغايرة التي تعبر عن اتصالها بالعالم ووقوفها خطاً واحد في سبيل عبورها لحيز سلامتها.. ستتغير كثير من المفاهيم، وسترقأ الكتابة نفسها بعد موجة هلع طويلة.. لتكتشف نفسها كتابيا.

إنسانيتنا تقاس بما نكتب..

وتقول الشاعرة الجزائرية “شامة درويش”: “لم تشهد البشرية منذ عقود طويلة ما شهدته من آثار مرعبة وخوف عاصف جرّاء وباء كوفيد 19، الذي تفشّى بين النّاس ولا نعرف حدّ الساعة حقيقة تكوينه وظروف وملابسات وجوده وكيفية انتقاله بسبب العصف السياسي الذي رافق الوباء.

الصراعات السياسية بين الغرب والشرق، وإخفاء بعض المعلومات والتلاعب ببعضها الآخر، وتداخل الأمر مع كبرى شركات صناعة وإنتاج الأدوية، وتراجع أداء هيئة المنظمة العالمية للصحة في حينه، وكون العالم قرية صغيرة تخضع لتجاذبات سريعة في المعلومة وعملية الانتقال من وإلى مصادر المرض، وغيرها من الأسباب هو ما سرّع وتيرة الوباء وأخفى بعض وجوهها المستشرية في خبايا مجهرية.

فرهن البشر وعزلهم بلا حول ولا قوة في مساحات مغلقة، زادت ظلمة تحجيم حريتهم. هذا الأمر أثّر على كل النّاس، غير أنّ التأثير المضاعف على الفنّانين والكتّاب والشعراء باعتبارهم الأقرب إلى ملامسة الحوادث بأرواح متقدة ونفوس قلقة ووعي حيّ، فهم الذين يحيون الأنفس والذوات الميتة ويخصبون أرضها البوار، يملكون قلب الماء الذي يسقي كل كوة ظامئة للمحبة، وهذا ما زاد من حدّة الوباء في أعينهم وفاقم شعورهم بالوحدة والانكسار، وربما الانعزال أحيانا”.

وتواصل: “لقد تحوّل الوباء بمرور الوقت إلى سجن كبير، أسواره عالية، وإسمنته مبهم التكوين،  نحن حيال هذا لا نملك سوى أن ننظر من وراء سياجه إلى الموت وهو يحصد أرواح من نحبّهم ويعرّض بعضنا الآخر إلى الألم والخوف ما يجعل الكاتب يستعد لحرب الكتابة، (لأن إنسانيتنا تقاس بما نكتبه، فأنا أكتب إذن أنا موجود) الكتابة هي الأداة الوحيدة الباقية لدفع ما يمكن دفعه من أخطار تتربّص بنا، فنحن معرضون للموت الروحي إن لم نكتب، ومعرضون للنسيان إن لم نترك بصمة حروفنا تذكرنا في تاريخ تغيرت فيه الحروب من الأسلحة النارية إلى الأسلحة المجهرية…

كانت الكتابة مع القراءة هي الملاذ الوحيد الذي أدفع به غائلة الوباء من ناحية، وأبدّد به عزلة كبرت وتفاقمت بعد أن احتجبتُ وراء تقارير الخوف ونسب الإحصائيات وتراكم أخبار الموت والموتى في واقعنا وعلى شاشات التلفزيون.

كتبتُ بعض القصائد عن الموت والمرض والرحيل والخوف والوحدة والعزلة والفقد، اعتقدت للحظة أنني أحفر قبري بيدي، ثم  واصلت مشروعي للدكتوراه،  كما شرعت في ولوج فن آخر أعلن عنه في وقته”.

وعن تأثير العزلة تقول: “لقد أثّرت العزلة بسبب الوباء على حركة الثقافة ليس في الوطن العربي فقط بل في العالم كله، لقد توقفنا عن عقد الملتقيات الأدبية وإجراء الندوات، وعوضت باللقاءات الافتراضية،  كما أحجمت دور النشر عن الطباعة بسبب غياب معارض تسويق الكتاب، الأمر الذي قاد بعضهم إلى بدائل حيّة من خلال استغلال أمثل لتقنية الانترنت وعلى رأسها وسائط التواصل الاجتماعي، إذ صارت هي البديل الافتراضي في ظل غياب أنشطة واقعية متاحة بسبب هجمة وباء علمتنا الارتكان إلى ذواتنا بصبر الأنبياء، ومنحتنا غمرة بذراعي الصبر على عدو لا مرئي، كان يتفنن في خنق صوت المبدع، دون جدوى فالأرواح المتمردة لم تخنقها كل منعرجات التاريخ وتحولاته، فكيف لها أن تصمت الآن؟”.

جحيم غير مسبوق..

ويقول الكاتب المصري “ممدوح رزق”: “قبل جائحة كورونا بزمن طويل توقفت عن الخروج من البيت إلا نادرًا، كنت أظل خلال تلك المرات المتباعدة أدور في الشوارع القديمة التي مرت منها خطوات عائلتي الميتة. أحيانًا كنت أتوقف عند جانب الطريق متلفتًا حولي، وفي أحيان أخرى كنت أغمض عينيّ للحظات محاولًا تضليل النظرات الخفية التي تراقبني. كنت أعود بعد ذلك إلى البيت مترنحًا باليأس، راجيًا الخلاص من تلك المغادرات الاستثنائية، حتى ظهر الوباء ليحقق ذلك دون توقع. لكنه لم يكن خلاصًا بالتأكيد، كان استجابة لأمنيتي بأسوأ طريقة ممكنة.

تغيرت مخططات عملي للأفضل نتيجة هذا الامتناع التام عن الخروج حيث مشاريع الكتابة التي كنت أتناثر بينها ترتبط جوهريًا بذلك الأرق الممتد بين البقاء داخل المنزل لأطول وقت محتمل وبين الجولات الشبحية العابرة خارجه. هذا التغير للأسف كان راجعًا لجحيم غير مسبوق، ربما كان الأثر الأشد بغضًا لكورونا على مستوى العمل ذلك الذي لحق بورشتي القصصية الثالثة. حاولت تعويض عدم إمكانية تنظيمها في مكان ملائم كما تعوّدت بإقامتها على فيسبوك ولكن استمتاعي بها لم يكن مماثلًا للورشتين السابقتين. ما لم يتغيّر هو طبيعة النشر بالنسبة لي، قبل الجائحة وبعدها؛ مازلت أنشر نصوصي وكتبي إلكترونيًا عدا تلك التي تستجيب أحيانًا لدعوات المحررين وعروض الناشرين.

ويؤكد: “مازلت منفصلًا عن السياق “الثقافي” الوضيع الذي يسمح لتاجر كتب، يعمل خادمًا مثاليًا لأبناء المركز كي يربح مما ليس لهم فضل فيه، أن يضع رأسه برأسي حين يطلب مقابلًا لنشر أعمالي، لا أعتقد أن الوباء كان له تأثير سلبي على الكتّاب النشطين اجتماعيًا؛ ذلك لأنهم يستندون إلى تاريخ راسخ من “الفاعلية” يوفر لهم حصانة من أي تهديد، وبالعكس فبرامج اتصالات الفيديو التي ذاع استخدامها تحت سطوة التباعد والحجر الصحي كانت داعمًا سخيًا لذلك التاريخ.

ربما أصاب هذا التأثير الكتّاب الذين ما يزالون في سعي لتكوين دعائم مشابهة من الرواج الأدبي، تعتمد على الاستفادات المتراكمة والمتعددة من جلسات المقاهي وحضور الندوات وحفلات التوقيع والتنقل الدائم لاصطياد الفرص بين المؤسسات الصحفية والمراكز الثقافية ودور النشر. أتمنى لهم حظًا سعيدًا”.

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة