خاص : عرض – سماح عادل :
“الكتاب الثاني” في موسوعة المؤرخ الفلسطيني، “حنا بطاطو”، بعنوان (الحزب الشيوعي)؛ ترجمة “عفيف الرزاز”.. يرصد فيه أحوال “الحزب الشيوعي العراقي” خلال حقبتي الأربعينيات والخمسينيات..
البدايات في المشرق العربي..
وجدت الأفكار عن المساواة في المشرق العربي والعثماني، قبل اندلاع “الثورة البلشفية” في روسيا، وهناك حالم من أصل يوناني، في 1894، سعى إلى كسب عمال القاهرة إلى جانب الاشتراكية والفوضوية، وقال في نداء لهم: “تذكروا أن اليوم هو الذكرى السنوية لقيام كوميونة في باريس، دعونا نرص الصفوف ونرفع أصواتنا معلنين الموت للمستغلين الجشعين.. عاشت الثورة الاشتراكية”، ومغزى ذلك أن “الاشتراكية” وجدت وطناً ملائماً في “مصر”، وهي إحدى المستوطنات الأوروبية شبه المستعربة، ولأنه لم تكن في “بغداد” كما في “القاهرة” مستوطنات أوروبية شبه مستعربة، حيث كانت الأفكار الأحدث تجد من ينتمي إليها دوماً، وأيضاً كانت صناعات بغداد من أنواع الحرف اليدوية، ولهذا لم يكن فيها “عمال” بالمعنى الاشتراكي الدقيق يمكن توجيه الخطاب الاشتراكي.
في سنة 1908 وما بعدها، ظهرت بعض الدعوات من أدباء عرب إلى المساواة؛ مثل “عبدالرحمن الكواكبي” و”أمين الريحاني” و”شبلي شميل”، ثم أسس “يوسف إبراهيم يزبك”، 1925، أول لجنة مركزية للحزب الشيوعي في سوريا ولبنان، وفي 1929 شكلت “جمعية الأحرار” في البصرة، وعرفت بـ”الحزب الحر اللاديني”، وكانت أول منظمة لجبهة شيوعية في العراق.
كان لليهود، وخصوصاً الروس، يد في ظهور الشيوعية في المشرق العربي، فقد أدخل “جوزيف روزنتال”، اليهودي الروسي، الشيوعية إلى مصر 1919، ونظم 1920 إضرابات قام بها موظفوا الخياطين والحلاقين وتحركاً احتجاجياً قام به أصحاب المحال التجارية ضد ارتفاع إيجارات المحال، وفي نفس السنة شكل، “روزنتال”، في الإسكندرية “النادي الشيوعي” و”جماعة الدراسات الاجتماعية”، وفي 1921 “الحزب الاشتراكي المصري”، وفي 1922 شكل “محمود حسنى العرابي”، “حزب مصر الشيوعي”، وكان الشيوعيون اليهود أساسيون أيضاً في تنظيم الشيوعية اللبنانية. أما في العراق شكل “حسين الرحال”، الذي تتلمذ على يد اليهودي، “آرسين كيدور”، في 1924 أول حلقة دراسية ماركسية في العراق، وأصدر جريدة (الصحافة)، كما ظهرت “جماعة الناصرية الشيوعية”، 1928، بتأثير من “بطرس فاسيلي”، شيوعي آشوري.
الحزب الشيوعي العراقي..
نتيجة للكساد في 1930؛ إكتسبت الأفكار الشيوعية بعض الهيمنة بين شباب العراق، وفي بغداد في الفترة 1929 – 1934 مال الشيوعيون إلى الإرتباط بواحدة أو أخرى من 3 مجموعات، وفي 1935 اجتمعت هذه المجموعات تحت راية “جمعية ضد الاستعمار”، التي شكلت نواة “الحزب الشيوعي العراقي”، بالإضافة إلى “جماعة الناصرية” و”جماعة البصرة”.
أنشئت اللجنة المركزية الأولى للحزب الشيوعي العراقي في 1935، وصدر عنها أول صحيفة عراقية سرية بعنوان (كفاح الشعب)، وقد طاردت الشرطة الشيوعيين نتيجة لهجومهم على رئيس الوزراء، “ياسين الهاشمي”، كما كان موقف الشيوعيين من حركة 1941 محكوماً بموقفهم من الحرب العالمية، فقد وقف الشيوعيون العراقيون من الحرب موقف الحياد كونها حرباً إمبريالية.
لقد حملت هزيمة القوميين في يونيو 1941 رعب خيم على العاصمة، وفي ضوء الأحداث التي تزاحمت، كالاحتلال البريطاني للبلاد مجدداً، وعودة الوصي “عبدالإله”، والغزو الألماني للاتحاد السوفياتي، وتغير علاقات القوة، كان الشيوعيون يقومون بنوع من إعادة التقييم لسياسيتهم، التي كانت تناصر القوميين، كان “الحزب الشيوعي” يتعرض لنيران حامية من قبل أعضائه اليهود الذين ثاروا نتيجة مقتل عدة مئات من اليهود خلال الإندفاعات الجماهيرية يومي 1 و2 حزيران/يونيو 1941، واتهم هؤلاء الحزب بأنه خلط نفسه مع رجال يرتبطون بالنازية، وكان للشيوعيين أن يغيروا رأيهم خلال سنتين، إذ اعترفوا أن دعمهم لحركة “رشيد عالي”؛ كان خطأ سياسياً بالرغم من أنه لم يكن دعماً مطلقاً، ولم يكن باستطاعة الشيوعيون في حزيران/يونيو 1941 أن يغيروا جذرياً تقييمهم للحركة الوطنية من دون توجيه الإهانة إلى المشاعر الشعبية أو المخاطرة بأن يصبحوا منبوذين.
أسباب انتشار الشيوعية..
أصبحت الشيوعية في الأربعينيات عاملاً من عوامل الحياة في العراق، وإندفعت الشيوعية إلى الصف الأول بين الحركات السياسية، وفي 1949 كتب “بهجت عطية”، رئيس الشرطة السياسية: “انتشرت الشيوعية انتشاراً واسعاً في المدن الكبيرة إلى درجة أن الحزب إجتذب إليه ما يقرب من خمسين بالمئة من شباب الطبقات كافة”، وأصبحت الشيوعية في الخمسينيات أكثر قوة.
في الأربعينيات والخمسينيات كان العدد الأكبر من السكان في العراق يعيش حياة البؤس، في حين أن السلم الاجتماعي إرتفع فيه شريحة رقيقة تضم ملاك الأراضي والتجار والمضاربين والسياسين وآخرين، وكانت ثرواتهم تزداد في ضوء إفتقار الطبقة العمالية والطبقة الوسطى ذات الرواتب، وأصبح الفارق كبير بين الطبقة العليا والطبقات الدنيا، والذي أصبح أهم عامل في انتشار الشيوعية، وكانت هناك عوامل أخرى مثل عجز الطبقات المصابة عن تحسين أحوالها بطريقة قانونية، وإستبعاد العمال ومأجورو الطبقة الوسطي من السلطة السياسية، ولم يسمح بوجود أحزاب سياسية منذ منع “حركة الإصلاحيين الشعبيين” 1937، وحتى 1946، وبتاثير من الضغط الشعبي منحت حرية النشاط السياسي بتردد، ولكنها قيدت بالممارسة باستثناء فترات قصيرة ومتقطعة إلى درجة أنها لم تكن أكثر من وهم، حتى منعت أخيراً في 1954، ومنذ حلت النقابات في 1933؛ فقد تم تجاهل حقوق العمال الاقتصادية حتى أصبح الضغط من أجل أجور أعلى أو ساعات عمل أقل أو من أجل حرية الإضراب كان يعني الخيانة السياسية، وأيضاً فقدان مصدر الرزق، وقد أدت كل تلك الظروف إلى تجذير الإرادة الشعبية، وإلى تقوية قبضة الشيوعيين، كما أن الفراغ السياسي ساعد على ذلك، فقد كان الشيوعيين وحدهم أصحاب الحزب السياسي المنظم، حيث إنهارت حركة القوميين العروبيين بعد إنهيار الحركة العسكرية في 1941، كما أن بروز الاتحاد السوفياتي في العالم ونجاحات جيوشه في الحرب، وإنتصار الشيوعية في الصين، والإنجازات الروسية في الفضاء كلها أمور رسخت هيبة الشيوعيين العراقيين في أذهان الناس.
الحزب..
منذ تأسيس “الحزب الشيوعي العراقي”، في عام 1935 وحتى 1941، سقطت جهود الشيوعيين في فخ الفردية والخلافات والإفتقار إلى المركزية، وقد حول “فهد سلمان يوسف” الحزب، بين العامين 1941 و1947، إلى قوة سياسية متماسكة وفعالة ولها قاعدة جماهيرية، ونظراً لأن الطبقة العاملة العراقية واجهت أعداء أقوياء ومنظمين وإنتهازيين، وعاشت في مجتمع تتحكم به قوانين إستبدادية فإن “الحزب الشيوعي” إتخذ لنفسه، مجبراً لا مختاراً، صفة حزب سري مقاتل وملتحم معاً بنظام حديدي، ملتزم بممارسة النقد الذاتي، وتقيد الحزب كذلك بالمركزية الديمقراطية، ولكنه طبق هذا المبدأ بطريقة تتفق مع عمله السري، وبحلول عام 1946 كان الحزب على مسافة شاسعة مما كانه التنظيم الهش وغير الفاعل الذي ورثه “فهد” في 1941، وصار الحزب يسيطر على أعداد أكبر بما لا يقارن من المؤيدين والمتعاطفين، وأصبح أكثر تصميماً وإعتدالاً وتماسكاً، حتى قبض على “فهد” في 1947، وحكم عليه بالإعدام.
بدأ “الحزب الشيوعي”، في أواخر 1948، وكأنه يتحول إلى رماد، فقد تمزق مركز الحزب واعتقل أفضل منظميه ومحرضيه في السجون، وأكتشف المئات من نوى الطلاب والعمال الشيوعين، ودمرت وحطمت الخلايا المعاد تشكيلها سريعاً قبل أن تثبت، وإكتسحت المطبعة السرية وصورت المراسلات وكشفت كل الأسرار، وساد شعور بالتفكك بين من تبقى من الشيوعيين، وغادر بعضهم البلاد، وهجر بعض آخر الحزب، وبدأت مصائب الشيوعيين عندما تحول العضو المرشح السابق للجنة المركزية، “عبدالوهاب عبدالرازق” إلى مخبر، وأفشى للسلطات عنوان مقر الحزب.
ويقال أن “فهد” هتف بجرأة قبل لحظات من نهاية حياته، وأثناء إقتياده إلى المشنقة: “لن يموت شعب يقدم الضحايا.. الشيوعية أقوى من الموت”، وأثار تدمير القيادات الشيوعية غضب “أركادي سوفوروف”، سكرتير المفوضية السوفياتية، وقال لبعض زواره: “هل ظن نوري السعيد أو الطبقة الحاكمة أن شنق هؤلاء الرجال أو غيرهم سيضع نهاية للحركة الشيوعية في العراق ؟.. ليسوا أكثر من حمقى، قد ينجحون اليوم بتشتيت الحزب وسجن الآلاف من أعضائه، ولكن هذا لن يفيدهم طويلاً والأوضاع المتعفنة ستدفع الشعب بالضرورة، وليس الشيوعيين فقط، إلى الاحتجاج ثم إلى الثورة في النهاية”، وجاءت أحداث الخمسينيات لتؤكد قوله.
الشيوعيين الأطفال..
في أواخر 1948 وحتى النصف الأول من 1949؛ يمكن تسمية تلك الفترة بفترة “الشيوعيين الأطفال”، حيث كانت كثير من منظمات الحزب الأولية، إن لم يكن معظمها، قد صار بقيادة صبية تتراوح أعمارهم بين 13 و15 سنة، وسادت أوضاع مشابهة في بغداد وحتى المسؤولين الأوائل كانوا من الشباب، كما يمكن اعتبار تلك الفترة بأنها فترة الانشقاقات والأجنحة القصوى في الحزب، وانشق الحزب في هذه الفترة إلى خمس مجموعات متناحرة فيما بينها، (الحقيقة – النجمة – الصواب – الاتحاد – القاعدة)، ولم تعد للحزب، في منتصف 1949، أية أهمية، ولكن الشروط الأساسية التي أدت إلى وجود الشيوعية منذ سنوات الأربعينيات الأولى استمرت قائمة.
الشيوعيون والمسألة الفلسطينية..
كان موقف “الحزب الشيوعي” من القضية الفلسطينية؛ حسب الخطوط العريضة هو:
– أن الحركة الصيهوينة حركة عنصرية دينية رجعية ومزيفة بالنسبة للجماهير اليهودية.
– أن الهجرة اليهودية لا تحل مشكلات اليهود المقتلعين من أوروبا؛ بل هي غزو منظم تديره الوكالة اليهودية، واستمرارها بالشكل الحالي يهدد السكان الأصليين في حياتهم وحريتهم.
– أن تقسيم فلسطين عبارة عن مشروع إمبريالي قديم، يستند إلى إستحالة مفترضة للتفاهم بين اليهود والعرب.
– إن شكل حكومة فلسطين لا يمكنه أن يتحدد إلا من قبل الشعب الفلسطيني الذي يعيش في فلسطين فعلاً، وليس من قبل الأمم المتحدة أو أية منظمة أو دولة أو مجموعة دول أخرى.
– إن التقسيم وخلق دولة يهودية سيزيد من الخصومات العرقية والدينية، وسيؤثر جدياً على آمال السلام في الشرق الأوسط.
وكان “الحزب الشيوعي” يرفض بشكل قاطع فكرة التقسيم، على الرغم من أن الاتحاد السوفياتي كان قد إتخذ موفقاً متخاذلاً من القضية الفلسطينية.
نشاط الحزب..
لم يكن نشاط الحزب بطريقة من الطرق وحدة متكاملة، أفعال الحزب لم تكن ترتبط كلها وبوضوح أحدها بالآخر أو بهدف واعي، وكانت بعض أفعاله عبارة عن إندفاعات غريزية وليست نتيجة حسابات، وكانت أخرى مجرد ردود أفعال على أفعال خصومه، أو إنعكاساً لضغوط اللحظة السائدة، وإنهمك الحزب أحياناً من أجل فوائد مباشرة بذاتها ومن دون التفكير بالأهداف البعيدة، ونظراً لغياب البصيرة كان يقضي على هذه الأهداف البعيدة بدلاً من دفعها إلى الأمام عبر العمل.
في الأربعينيات كان الحزب يأمل في تحقيق مكاسب محدودة نسبياً، مثل إقامة جسور في أماكن حساسة كالمدارس والجامعات والمؤسسات الكبيرة والجيش وجهاز الدولة الرسمي، وعند تحقيقه لمكاسب كانت هذه تخضع لأهداف أخرى قصيرة الأمد، وعمل الحزب على أسس إيديولوجية وعملية، وكان الحزب يأمل من خلال جهوده الإيديولوجية على ضخ الشيوعية إلى “الإنتلجنسيا” والطبقات العاملة، وربط احتياجات هؤلاء ومشاعرهم وتجربتهم الحياتية بالاستنتاجات الشيوعية.
وكرس الشيوعيون الكثير من طاقتهم لهذه الجهود بين 1941 و1943، وبدأ نضال الحزب العملي بعد العام 1943 يتخذ شكلاً اقتصادياً إلى حد ما، فجمع الحزب العمال في نقابات وقادهم إلى الإضرابات وجاهد لتحسين أوضاعهم المعيشية، وكسبهم من خلال هذه العملية إلى جانب قضيته، ومن أصل 16 نقابة عمالية مرخصة في 1944 – 1945 كانت هناك 12 نقابة تحت السيطرة المباشرة للحزب، ولكن الشكل الأكثر أساسية من نضال الحزب العملي كان نضاله السياسي، ففي الفترة 1946 – 1948، عندما أنزل الحزب راية الإصلاح ورفع مكانها راية الثورة قام بتنظيم الاحتجاجات الجماعية، والاجتماعات العامة والمظاهرات الجماهيرية وإنتفاضة فلاحية واحدة ومسيرة كبرى واحدة، وإضرابات عمال وفلاحين، وأسهم بوضوح في إتمام الوثبة، وفعل ذلك إما بوحداته الأولية أو عبر منظماته المساعدة مثل: “عصبة مكافحة الصهيونية” و”حزب التحرير الوطني” و”جمعيات أصدقاء الفلاحين” و”الاتحادات الطلابية” و”المكتب الدائم لنقابات العمال”.
والطريقة الأكثر تمايزاً وشيوعاً والأضمن لتقدم الحزب لم تكن طريقة الفعل بل التسلل والتغلغل، وحصل التغلغل تدريجياً وبسرية، فبقي الحزب غير مرئي ولا ملموس، ولم يكن بالإمكان ضربه أو مواجهته بسهولة ومن ناحية أخرى فإن الفعل عرض الحزب أحياناً لأخطار كبيرة، وإرتبط الحزب كذلك بشكل آخر من أشكال النشاط، وهو شكل ذو طبيعة وقائية أساساً واستخدم بشكل محدد ضد الشرطة السياسية، وكان هذا نوعاً خاصاً من الصراع الذي مارسه الطرفان ببراعة أحياناً.
تنظيمه وبنيته الاجتماعية..
في الفترة 1941 -1942 عندما كان الحزب في مرحلة المطواعية الأكبر كانت هنالك لجنة مركزية متعددة وجهات النظر، تقف على قمة الحزب وتعمل إلى درجة غير قليلة على أساس المساواة الجمعية، أما من 1943 وما بعد ومع التخلص من الأجنحة وتزايد ترابط العلاقات طريقة وتماسكا، فقد أصبحت السلطة الحقيقية توجد فيما يمكن تسميته “مركز الحزب الثابت”، الذي يتألف من السكرتير العام “فهد” ورفيقه الأقرب عضو المكتب السياسي “زكي بسيم” وهو تغير كان كامنا منذ البداية في طبيعة الحزب الشيوعي العراقي كحزب سري، وبعد اعتقال فهد وبسيم في 1947 أصبحت المسؤولية تقع على عاتق مسئول أول كان يوجه الحزب حتى اكتوبر 1948 في ضوء تعليمات يرسلها فهد بين الحين والآخر من داخل سجن الكوت، وفي وقت لاحق انتقلت دفة القيادة إلى أيد غير مفوضة وهو ما حصل في فترة التشوش بين أكتوبر1948 ويونيو1949.
أتباع الحزب يمكن تمييزهم إلى 5 فئات ( الأعضاء الفعليون- الأعضاء المرشحون- المؤيدون المنظمون- والمؤيدون غير المنظمين- الأصدقاء) ويرجع هذا التنويع إلى 1943 ولم يكن قائما قبل ذلك، وبالنسبة للبنية الاجتماعية يمكن القول أن أدوات العداء الرئيسية للنظام الاجتماعي القائم في الأربعينات كانت مؤلفة من المعلمين والطلبة، ولم يكن مركز ثقل الحركة الشيوعية موجودا في المصانع أو في المؤسسات العمالية الأخرى في الجامعات والمدارس، وكان لمركزية الكليات الجامعية والمدارس في حياة الحزب نتائج عدة، فمن ناحية اكتسب الحزب القوة التي تولدها حماسة الطلاب ومثاليتهم ولكن ضعفا أكيدا رافق هذه القوة فأولا ونتيجة لاعتماد الحزب على الطلبة أصبح الحزب يتمتع بسمة شبه موسمية، وأصبح إيقاع نشاط الحزب تابعا إلى حد ما لإيقاع الحياة المدرسية، ورغم ذلك كان الطلاب يشكلون عاملا من عوامل عدم الاستقرار المزمن للحزب.
على المستوى العرقي يلاحظ القوة النسبية للعرب السنة في المستويات الأعلى للحزب في لجان فهد المركزية، وضعفهم النسبي في المستويات المتوسطة الدنيا من الحزب، وكان الموقع الذي شغله العرب السنة داخل الحزب متوازيا بعض الشيء مع الموقع الذي شغلوه في المجتمع العراقي ككل، فقد كانوا يشكلون نسبة 60 % من أعضاء اللجنة المركزية في 1935 و40 % في 1941- 1942 و31 % 1945 – 1947
مما يعني أن الحزب تحول من تنظيم عربي في أكثريته الساحقة إلى تنظيم أكثر تمثيلا للتنوع العرقي والديني للعراق.
الخمسينيات..
في الخمسينات كما في الأربعينات كان الميل إلى الشيوعية والاندفاع الثوري متلازما مع الوضع الاجتماعي القائم، ولهذا فإنه لم يكن حتى لأقسى الإجراءات القمعية أن تخلف وراءها أثارا دائمة، ففي النصف الثاني من 1949 كان الشيوعيون القلائل والمعزولون الذين نجوا من الاعتقال يجذبون أعضاء جدد وتمت إعادة تشكيل اللجنة المركزية فعلا وبدأت البيانات السرية بالتجوال ثانية، وتسلم الحزب آلة نسخ “ستنسل” هربت إليه، وصدرت صحيفة داخلية اسمها “الانجاز” وعادت صحيفة الحزب القديمة “القاعدة” إلى الظهور، وأعلنت سياسة التراجع المنظم وبدأت حملة إعادة بناء الحزب تحت شعار “أحياء مبادئ الرفيق فهد” وللتخلص من نفوذ العدو الطبقي وتطهير الصفوف من ضعفاء الإرادة والانتهازيين والعناصر التافهة الأخرى، كان على كل الأعضاء وحتى الرفاق القدامى أن يكرروا طلب الانتماء إلى الحزب والمرور بفترة اختبار جديدة، وتحقيقا لشروط سلامة أكبر فقد ألغي نظام الخلايا مؤقتا وحلت محله الاتصالات الفردية بحيث أصبح الحزب عمليا اتحاد أفراد وليس اتحاد تنظيمات.
انتفاضة تشرين ثان..
كانت انتفاضة تشرين الثاني نوفمبر 1952 استمرارا لوثبة 1948 وكانت للانتفاضتين حقائق مادية فاعلة واحدة ومسببات أولى واحدة، وباستثناء الاستياء الشعبي قد حفر أخدودا نتيجة لضياع فلسطين، فإن القليل تغير في العراق خلال الفترة الفاصلة بين الحركتين، وكانت بغداد الطبقة الأدنى، بغداد الشرقاوية أبناء الكوخ الطين مازالت تعيش أوضاعا سيئة وتأكل الطعام الملوث وتكدح ساعات طويلة بأجور غير معقولة، وكانت الأقلية المتمتعة بالسلطة قد بدأت تحس بالأرض تهتز تحت أقدامها لكنها لم تقدم تنازلات.
وكان الشيوعيون قد توجهوا يسارا عمليا منذ عودتهم الفعلية إلى الحياة العراقية في 1951، ولكن هذا التوجه اكتسب مزيدا من الزخم ووجد لنفسه تعبيرا رسميا من خلال دستور وطني جديد للحزب وغابت عن هذا الدستور بوضوح مرونة برنامج 1944 القديم، مما خلف انشقاقات في صفوفه وكانت الروح المحركة للجناح الجديد تتجسد في “جمال الحيدري” الكردي وبالإضافة إلى مجموعة الحيدري كانت هناك منظمة أخرى تدعى “لجنة نشر الوعي الماركسي” وعملت منذ 1952 تحت اسم” حزب الوحدة الشيوعية في العراق”.
وقد شكل الأكراد في الفترة 1949 – 1955 المحور الفعلي للحزب مع أن الثقل العددي كان العرب الشيعة، وفي فترة 1949 – 1950 كان الحزب يقاد من كردستان وليس من بغداد، وفي الفترة 1954 – 1955 لم يكونوا الشيوعيين قادرين على بذل جهد كبير وحدهم في النضال بسبب ضربات الشرطة المتلاحقة والانشقاقات المتكررة بحيث أصبحوا ثمن القوة التي كانوا عليها في 1948.
المصدر:
كتاب “الحزب الشيوعي” ل”حنا بطاطو” ترجمة عفيف الرزاز، الكتاب الثاني