خاص : عرض – سماح عادل :
اهتم المؤرخ الفلسطيني، “حنا بطاطو”، بالتأريخ للعراق من خلال منهج يعتمد على التحليل الماركسي لنمو الطبقات وصراعها، واعتمد بالأساس على “كارل ماركس” و”ماكس فايبر” وطرقهما في تحليل المجتمعات، وتفرغ لسنوات عدة لإعداد هذه الموسوعة المكونة من ثلاث كتب بعد ترجمتها إلى العربية.. وسوف نعرض لهذه الموسوعة؛ مساهمة في الاحتفال بذكرى تأسيس “الحزب الشيوعي العراقي”، والذي يعد من أهم وأقوى الأحزاب الشيوعية في منطقة الشرق الأوسط.
سنعرض لكتاب (العراق.. الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية)؛ للكاتب، “حنا بطاطو”،- الكتاب الأول – ترجمة “عفيف الرزاز”.
الطبقات..
طبقات العراق الملكي.. كانت طبقات قديمة؛ وهي نتاجاً لإرتباط البلاد التدريجي، عبر القرنين التاسع عشر والعشرين، بالسوق الإمبراطورية البريطانية المعتمدة على الصناعة الضخمة، قبل ذلك كانت “الملكية الخاصة”، بمعنى ملكية حصة من وسائل الإنتاج، غير موجودة خارج المدن العراقية، وحتى الملكية في المدن تقوم على أسس هشة، كانت الملكيات معرضة لمصادرات متكررة.. ففي “بغداد المملوكية” خلال العهد العثماني، في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، كانت مراكمة الملكية أو الثروات، باستثناء العائلات المنسوبة إلى مواقع دينية، أمر غير آمن؛ من حيث إمكانية التعرض لجشع الباشوات الحاكمين، ولهذا لم تكن الملكية في ذلك الوقت هي الأساس المسيطر في التراتب الاجتماعي، والطبقات كانت موجودة في المناطق الحضارية، ولكن بشكل بدائي وفي بنى متوازية مع المجتمعات الدينية المعترف بها، وبقيت هذه الطبقات ذات طابع اقتصادي بحت ولم تكتسب مظهراً سياسياً.
لأن عراق، القرن الـ 18، كان مؤلفاً من جملة من المدن المعزولة نسبياً التي غالباً ما كانت مستقلة ذاتياً من الناحية العملية، ومن أحلاف عشائرية؛ فقد إتجهت الروابط الطبقية الحضرية إلى أن تكون روابط محلية أكثر من كونها روابط على مستوى البلاد، كانت مبادئ عدة للتراتب الاجتماعي في “بغداد” إضافة إلى هرمية الثروة.. كانت هناك هرميات “الدين”؛ حيث كان المسلمون فوق المسيحيين واليهود والصابئة، وهرميات “الطائفة”؛ حيث السنة فوق الشيعة، وهرميات “المجموعات العرقية”؛ حيث المماليك والأتراك فوق العرب والأكراد والفارسيين، وهرميات “السلطة”؛ حيث المماليك المُعتقون فوق الجميع، وهرمية “المنزلة”؛ حيث كانت المجموعات المسيطرة اجتماعياً تشمل باشوات المماليك وكبار ضباطهم العسكريين ومساعديهم المدنيين، والسادة الذين يدعون التحدر من سلالة الرسول، ورؤساء المذاهب الصوفية، وكبار علماء السنة الذين غالباً ما كانوا سادة أيضاً، والجلبيين الذين كانوا تجاراً من مراكز اجتماعية مرموقة. ونتيجة للنزاعات الدائمة بين “بغداد” وواحد أو أكثر من الأحلاف العشائرية المحيطة بها؛ والعلاقات الهشة بين المماليك وسلاطين “آل عثمان”، فقد كانت السلطة السياسية مثل “الملكية الخاصة” غير مستقرة ومن أصل تسعة من البشوات المماليك أطيح بواحد وقتل ستة، ولهذا يبدو أن الوضع الاجتماعي الأقل قابلية للزوال بسرعة يتحدد بالمنزلة الدينية الخاصة.
وفي “الريف” نجد أن البنية العشائرية كانت تتحدد بالدور العسكري للعشيرة، حيث كان موقع أهل “الإبل الرحل” المحاربين في السهول العربية أعلى من موقع أهل “الغنم” أو “الأهوار” أو أهل “الزراعة”، وكانت “مجموعات المنزلة” المسيطرة تشمل شيوخ المشايخ رؤساء الأحلاف العشائرية، والمشايخ زعماء الشعائر المحاربة المؤلفة لهذه الأحلاف، أما الموازي لمنزلة هؤلاء في “كردستان الجبيلة”؛ فكان “البكوات العشائريون” الذين كانوا يؤخذون من الرحل الجبليين ويوكلون بالسيادة على الفلاحين غير العشائريين، وكان موقع هذه الشرائح القائدة يعتمد على القوة والبراعة العسكرية وعلى الأصل والنسب.
تمركز الملكية الخاصة..
كان التغير الأهم هو استقرار وتوسع الملكية الخاصة؛ وتمركزها الشديد في النهاية، وذلك من خلال مصادرة عدد صغير نسبياً من المشايخ والأغوات للأراضي العشائرية الجماعية، وظهور المضاربة بالعقارات، وتزامن وضع الملكية في إطار أسس قانونية أكثر ثباتاً من خلال قوانين الأراضي التي صدرت في العامين 1858 و1932، وأدت هذه الأمور إلى زيادة تماسك سلطة الدولة ومركزتها، كما أدت إلى انتشار الاتصالات ونمو المدن وسريان التقنيات الأوروبية وتقدم ما له علاقة بالأرض في الريف على علاقة القربى والنسب، وإنهيار اقتصاد الكفاف والإكتفاء الذاتي لدى العشائر، والتواصل الأكبر بين مختلف أجزاء المجتمع.. ومع هذا كله كان لابد للعلاقات بين العراقيين أن تكون محكومة أقل فأقل بالقربى والنسب أو الموقع الديني أو اعتبارات المولد، وأن تصبح محكومة أكثر فأكثر بالممتلكات المادية، وأصبح للملكية مغزى أكبر كقاعدة للتراتب الاجتماعي وفي سلم السلطة، برغم من أنها لم تستكمل لعبتها أبداً بسبب وضع العراق التابع، ونفوذ البريطانيين المفروض على الوضع البنيوي، وعناصر البنى الاجتماعية التقليدية لم تختف بل تابعت بقاءها، ولكن بصيغة مخففة، وهكذا فقد أصبح المشايخ ملاك الأراضي والسادة ملاك الأراضي مجموعة ذات منزلة اجتماعية قائمة على الأساس التقليدي أو مكرسة دينياً من ناحية ومن ناحية أخرى “طبقة”، وكان تحولهم من مجموعة ذات منزلة اجتماعية إلى طبقة بطيئاً وهادئاً، ولكن بحلول الخمسينيات من القرن العشرين أصبحت ملكياتهم عامل تحديد لموقعهم الاجتماعي أهم بكثير من منزلتهم التقليدية.
في العقود المبكرة من العهد الملكي في العشرينيات والثلاثينيات كانت العناصر المختلفة لطبقة ملاك الأراضي المسيطرة اجتماعياً “المشايخ والأغوات العشائريون، والسادة العشائريون، والحضريون والمسؤولون الارستقراطيون، والضباط الشريفيون السابقون”؛ تتنافس فيما بينها على السلطة والجاه والملكية، ولكن في العقدين الأخيرين من العهد الملكي، في الأربعينيات والخمسينيات، رصت هذه العناصر صفوفها مبينة مصالحها المشتركة في المواضيع المهمة، أي في أمور مثل “إعفاء طبقتهم من الضرائب، والإستبعاد الفعلي للطبقات عن المناصب المهمة في الدولة”، وقبل أي شيء آخر في “الدفاع عن النظام الاجتماعي” الذي كانوا يجنون الفائدة منه جميعاً، وتمثلت الآليات التي تنسق عملهم بـ”مجلس الوزراء والبرلمان”؛ اللذين كانت لهم عليهما السيطرة المطلقة، كما تمثلت لمرحلة من الزمن بـ”حزب الاتحاد الدستوري”؛ الذي شكل أوضح تعبير تنظيمي عن مصالحهم في تلك الأيام، وكان العامل الحافز لوحدتهم هو التهديد المتزايد لموقعهم الاجتماعي، من قبل المجموعات الأقل تميزاً؛ التي وعت التأثيرات المؤذية لها، والناجمة عن التوزيع السائد لموارد وقوى الحياة.
أن أكبر ملاك الأراضي في العشرينيات والثلاثينيات ما زالوا لا يشكلون أكثر من جنين “طبقة” أو طبقة بذاتها، أو مجرد قاعدة محتملة لعمل مشترك، أما في الأربعينيات والخمسينيات فقد تحول هؤلاء إلى “طبقة” لذاتها؛ أي إلى مجموعة مميزة وواعية لذاتها سياسياً.
تباين العراقيين..
في مطلع القرن العشرين لم يكن العراقيون شعباً واحداً أو جماعة سياسية واحدة، ليس فقط بسبب وجود الكثير من الأقليات العرقية والدينية في العراق؛ كـ”الأكراد والتركمان والفرس والآشوريين والأرمن والكلدانيين واليهود واليزيديين والصابئة” وآخرين، فالعرب أنفسهم الذين يؤلفون أكثرية سكان العراق يتشكلون من جملة من المجتمعات المتمايزة والمختلفة فيما بينها، والمنغلقة على ذاتها، بالرغم من تمتعهم بسمات مشتركة.. كانت هناك هوة تفصل المدن عن المناطق العشائرية وكان “العرب الحضريون” و”عرب العشائر” ينتمون إلى عالمين منفصلين، باستثناء سكان المدن الواقعة في عمق المناطق العشائرية أو رجال الشعائر الذين يقطنون قرب المدن، ولقد كانت الروابط بين الطرفين اقتصادية بالدرجة الأولى، وحتى وقت متأخر كالسبعينيات من القرن التاسع عشر، كان هناك شبه انفصال بين المدن الرئيسة والمناطق البعيدة عنها واستمرت قطاعات العالم العشائري التي لم تكن تصلها السفن التجارية في الاعتماد على الذات.
القومية والتحديث..
بدأ تحديث العراق من إدخال الإبحار البخاري النهري في 1859، وظهور البرق الكهربائي 1861، والتعمق المرافق للتسلل الاقتصادي الإنكليزي وربط العراق بالعالم الرأسمالي، وفتح المدارس الحكومية 1869، وتطور الصحافة؛ خصوصاً في الفترة بعد 1908، والمحاولات المتكررة للسلطة التركية الحاكمة بين عامي 1831 و1914 لجمع كل وسائل السلطة في قبضتها وكسر تماسك العشائر وعثمنة سكان المدن.
وكان الانتشار التالي للنقود ولفكرة الربح بين بعض العشائر ولإنتقال العشائر من “اقتصاد الكفاف” إلى التوجه نحو “اقتصاد السوق”، ولتحول مشايخهم من آباء إلى ملاك أراض ساعين إلى الكسب، وللسياسية التركية الهادفة لإستعداء رؤساء العشائر بعضهم ضد البعض الآخر، وللتنافس الأكبر بين هؤلاء الزعماء في ما بينهم على الفلاحين؛ وما تبع ذلك من إختلاط وتداخل بين العشائر، كان أن أدى كل ذلك إلى تغيير شروط الحياة في المناطق المتأثرة بهذه العوامل، بحيث خفت هذه الولاءات العشائرية القديمة وأصبحت غير فاعلة.
أما في المدن والبلدات فقد أثر دخول البضائع والسلع الإنكليزية سلباً على ما كان قد استمر في البقاء من حرف قديمة، وخصوصاً حياكة الثياب، ولابد من الربط بين الكثير من أسباب تراجع الصناعة في “بغداد” بالخراب الناجم عن “وباء وفيضان 1831″، وكانت إحدى النتائج الإيجابية لهذه التطورات الجديدة ولادة قوة اجتماعية جديدة؛ وإن كانت ما زالت جنينية ألا وهي “الإنتلجنسيا”، (فئة المثقفين الجديدة)، وهو ما يعني عملياً ولادة الولاء الجديد للقومية..
ولكن “القومية” لم تزح الولاءات القديمة عن مواقعها، وبالرغم من أنها نمت على حسابها، فهي تعايشت معها جنباً إلى جنب؛ وصحيح أنها أخذت من الولاءات القديمة بعض قوتها، ولكنها في الوقت نفسه تشربت بعض عناصرها النفسية، وعبرت عن نفسها من ضمن إطار النماذج العاطفية والمفاهيمية للدين الإسلامي، وساهم كثير من الوقائع والتأثيرات بشكل، مباشر أو غير مباشر، في نشر الشعور القومي الجديد، ومن بينه تزايد عدد الشباب العراقيين الملتحقين بمدارس التعليم العالي التركية، وخصوصاً بـ”الأكاديمية العسكرية” في اسطنبول، وزيادة التعرض لطرق التفكير الأوروبية ونمو التركية الجامعة، تسارع إيقاع التتريك وعدم التجاوب التركي نسبياً مع الاحتياجات المحلية، وانتشار الكتب والصحف وتكاثر الاتصالات العربية العربية، وظهور النوادي والجمعيات العروبية، والاهتمام الأكبر بالتاريخ العربي وبإنجازات الماضي والتحسس بفقر وكآبة الأوضاع القائمة، وتلا ذلك إستنهاض اللغة المشتركة والأصول العرقية المشتركة لمعظم العراقيين، ولكن ما ساهم أكثر من أي شيء آخر في تقدم الشعور الجديد بالقومية؛ كان الغزو الإنكليزي 1914 – 1918، أو بالأحرى المقاومة التي أثارها هذا الغزو، ووصلت نقطة الذروة في “انتفاضة 1920″، وللمرة الأولى منذ قرون عديدة إنضم “الشيعة” سياسياً إلى “السنة”، وضمت عشائر من “الفرات” جهودها إلى جهود سكان مدينة “بغداد”، وأقيمت احتفالات شيعية سنية مشتركة لا سابق لها.
ولا يمكن القول بأن الثورة المسلحة التي إنتهى إليها هذا الغليان كانت ثورة قومية فعلاً، سواء في هواها أم في آمالها، بل هي كانت أساساً شأناً عشائرياً حركته الكثير من الأهواء والمصالح المحلية، ولكنها أصبحت جزء من الميثولوجيا القومية، وبالتالي عاملاً هاماً في انتشار الوعي القومي، وفي الواقع أن أحداث 1919 – 1920، وبشكل أخص الترابط الذي نشأ بين السنة والشيعة، قد أطلق عملية جديدة ألا وهي النمو الصعب، الذي كان تدريجياً أحياناً ولاهثاً أحيان أخرى، لمجتمع وطني عراقي.
نزاع تاريخي..
في ظل الملكية، التي تأسست في العام 1921، اتضح تدريجياً أن هذه العملية لم تكن متوقفة فقط على إندماج “الشيعة” في الجسم السياسي، أو عبر إحكام الترابط بين “الشيعة” و”السنة” في الإتجاهين، والتوحيد الطوعي لإرادة الطرفين، وحتى التزاوج بينهما، بل أيضاً بحل ناجح لنزاع تاريخي آخر كان كامناً في أساس الكثير من الإنقسامات المثيرة للاضطرابات في المجتمع العراقي، ألا وهو النزاع المزدوج بين “العشائر” و”المدن النهرية” من جهة وما بين “الشعائر” نفسها من جهة ثانية، حول الأراضي السهلية المنتجة للغذاء على ضفتي دجلة والفرات.
من الممكن فهم الكثير من تاريخ ما قبل الملكية في العراق في إطار هذا النزاع.. ففي الفترة ما بين القرنين الثالث عشر والثامن عشر، وهي الفترة التي شهدت أفول الخلافة العباسية، وغزوات السلب التي قام بها الخانات المغول والتخريب الكلي لسدود الري القديمة، وغزوات تركمان الجيلار والمغول والصفويين والعثمانيين، ثم الحروب التركية الفارسية الطويلة المتقطعة، كانت هناك حقيقة واضحة، وهي الضعف الشديد للمدن وتقدم سلطة العشيرة.
ولكن الأفكار الجديدة والحياة الجديدة التي تغلغلت في العراق، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عبر إندفاع الروابط الجديدة مع العالم الرأسمالي وعوامل أخرى، قلبت هذا الإتجاه التاريخي وأدت إلى نهوض المدن مجدداً وبداية تحلل النظام العشائري، إن المساهمات التي قدمها الإنكليز؛ على شكل خبرات في مجال الإدارة والري والزراعة في مجالات أخرى للحياة، بالرغم من أنها وضعت لتحقيق المصالح الأساسية للإمبراطورية، إلا أنها ساهمت ولا شك في تقدم العراقيين بإتجاه إقامة دولة قابلة للحياة.
الملكية والقومية..
إن “الملكية الهاشمية” كانت من صنع الإنكليز والتوجه الأساس لهذه الملكية، في الفترة من 1921 – 1939، كان بإتجاه الذهاب إلى المدى الممكن في ظروف تبعتها للإنكليز في عملية بناء الأمة في العراق، وفي إطار تحقيق هذا الهدف، ولمواجهة احتياجاتها الإدارية أيضاً، أضافت الملكية الكثير إلى ما هو موجود من مرافق تعليمية، مضيفة بذلك أعداد جديدة إلى صفوف مثقفي الطبقة الوسطى الجديدة، الحاملة الطبيعية للمشاعر القومية، وبثبات ملحوظ بذلت الملكية خلال هذه السنوات ما في وسعها لتغذية حب الوطن والتعاطف الحي مع الأفكار العربية في المدارس، ففي أيام “الملك فيصل الأول”، (1921 – 1933)، كان التشديد الرئيس للملكية يتركز على إقامة روابط ثابتة من المشاعر المشتركة والأهداف المشتركة بين عناصر العراق المختلفة، وقد رأى “الملك فيصل”، في “الجيش”، العمود الفقري لتكوين الدولة، وقد قوى الجيش؛ حيث بذل جهوداً في إعادة تكوين العراق على أسس قومية، ولم يكن مدفوعاً في ذلك بتكريس ذاته من أجل مصالح الشعب، وإنما كان يرسي أسس السلطة لعائلته، ويرسي أيضاً أسس دولة متماسكة.
ومع أن البلاد سقطت في أيام “الملك غازي”، الشاب غير المجرب، (1933 – 1939)، فريسة لحالات العصيان العشائرية والانقلابات العسكرية، فإنه لم يكن هناك إنحراف عن الإتجاه السابق للملكية، وباستثناء فترة قصيرة بين العامين 1936 و1937، فقد أصبح الطابع العروبي للدولة أكثر بروزاً خلال الفترة من 1921 إلى 1939، كان للملك التمركز في “بغداد” مغزى اجتماعي متعارض عملياً مع أوضاع مشايخ الشعائر، الذين كانوا هم الحكام الفعليون لجزء من “الريف”، فكان الملك يمثل فكرة المجتمع الموحد.
وفي الأربعينيات؛ وتحديداً ما بعد 1941، أصبح الملك معزولاً عن فكرة القومية، يزيد من ربط مصائره بالإنكليز ومشايخ العشائر، وقد حدثت سلسلة من الانتفاضات الشعبية المدينية، الوثبة عام 1948، وانتفاضتا العامين 1952 و1956، وما تبع ذلك من إنجراف أجزاء كبيرة من الطبقات الوسطى والعمالية نحو اليسار، وكانت الحياة اليومية لهؤلاء الناس قد تأثرت نتيجة لارتفاع الأسعار وقلة توافر السلع بسبب الحرب العالمية الثانية، ولتيارات التضخم التي إنفلتت في أعقاب الإزدهار الإنفجاري في الخمسينيات، والإنتقال الواسع للفلاحين إلى العاصمة؛ نتيجة لجاذبيات الحياة فيها وضعف إرتباط الفلاحين بالعشائريين، ووجد التحالف مع الإنكليز تعبيره الأخير في “حلف بغداد” عام 1955، وسبقته إجراءات قاسية ضد كل حركة معارضة، مما أبعد الشعب عن الملكية.
فقدان الولاء..
نمو القوة المادية للدولة؛ لم يساعد الملكية ولم يعد باستطاعتها ضمان ولاء العناصر التي من خلالها فرضت إرادتها على البلاد، كالضباط والجيش حتى الشرطة، الملكية أعاقت جزئياً، في الفترة من 1921 – 1958، إلتحام العراقيين، ولكنها فعلت الكثير لتحضريهم لحمل الصفة القومية سواءً بالاختيار أو للضرورة، فقد ترعرع المجتمع العراقي في خضم الأزمات وفي لحظات خطر كبير ومعاناة مشتركة، وفي ظل إنفجارات الجماهير الغاضبة، وإذا كان لهذا المجتمع أن يبقى متماسكاً في المستقبل وأن يحافظ على هوية مستقلة فإنه سينظر إلى انتفاضة 1920، وحرب 1941، ووثبة 1948، وانتفاضة 1952، وثورة 1958 على أنها مراحل في تقدم العراق بإتجاه الإنسجام القومي؛ بالرغم من أن تلك المراحل لم تكن خالية من المظاهر الانقسامية.
المصدر:
كتاب (العراق.. الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية) – “حنا بطاطو” – الكتاب الأول – ترجمة “عفيف الرزاز”.