15 نوفمبر، 2024 7:55 ص
Search
Close this search box.

العراق والولايات المتحدة الامريكية دراسة في السياسة الخارجية العراقية المستقبلية

العراق والولايات المتحدة الامريكية دراسة في السياسة الخارجية العراقية المستقبلية

إعداد/ م.م. خالد عليوي العرداوي
ملخص البحث بالعربية:
السياسة الدولية تعد ميداناً من أشد الميادين التي تنطوي على التنافس والصراع، نجد أن القواعد التي حددت تحرك اللاعبين فيها خلال المدة من نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى مطلع عقد التسعينات من القرن الماضي، قد تغيرت بشكل جذري بعد الإنهيار السريع للاتحاد السوفيتي السابق. ونحن إذ نحاول رسم الاطر المحتملة للسياسة الخارجية العراقية اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية، ندعو الساسة الجدد في العراق الى ان يحسنوا الفهم والتصرف وإدراك القواعد التي تحكم العلاقات الدولية الحالية، فنحن في عالمٍ لا يقبل المغفلين ولايغفر للجهلة، وإن الخطأ في اتخاذ القرار السياسي الصحيح، تترتب عليه عواقب وخيمة تلحق الضرر والأذى بالأنظمة والشعوب.

مقدمة:

إن كل ميدان يشهد التنافس والصراع بين اللاعبين فيه، تكون هناك قواعد محددة تحكم العلاقات القائمة بين الحلفاء والخصوم، وحسب المكان والزمان، وأن تجاهل هذه القواعد وعدم احترامها او الجهل وعدم المعرفة بها سوف يقود الى الفشل. وإذا أخذنا السياسة الدولية بعدها ميداناً من أشد الميادين التي تنطوي على التنافس والصراع، نجد أن القواعد التي حددت تحرك اللاعبين فيها خلال المدة من نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى مطلع عقد التسعينات من القرن الماضي، قد تغيرت بشكل جذري بعد الإنهيار السريع للاتحاد السوفيتي السابق. وقد تطلب هذا الأمر من الدول ان تتفهم طبيعة القواعد الجديدة التي برزت في الساحة الدولية وتحسن السير وفقها، ولكن الملاحظ ان هناك بعض الأنظمة السياسية حاولت تجاهل هذه القواعد وعدم احترامها، فما كان مصيرها إلا الإنهيار والفشل، ولعل أبرز هذه الأنظمة نظام صدام حسين في العراق، نظام سلوبودان ميلوزوفيتش في يوغسلافيا، ونظام طالبان ومنظمة القاعدة في أفغانستان، وقد تكون هناك أنظمة اخرى لم تعِ الدرس تنتظر المصير نفسه.

ونحن إذ نحاول في هذه الدراسة، رسم الاطر المحتملة للسياسة الخارجية العراقية اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية، ندعو الساسة الجدد في العراق الى ان يحسنوا الفهم والتصرف وإدراك القواعد التي تحكم العلاقات الدولية الحالية، فنحن في عالمٍ لا يقبل المغفلين ولايغفر للجهلة، وإن الخطأ في اتخاذ القرار السياسي الصحيح، تترتب عليه عواقب وخيمة تلحق الضرر والأذى بالأنظمة والشعوب.

وقبل الحديث عن طبيعة السياسة الخارجية المستقبلية اتجاه الولايات المتحدة، لا بد من معرفة التحديات التي تفرض نفسها على الساحة الإقليمية والدولية ـ هذا إذا اعتبرنا التحديات الداخلية العراقية معروفة لصانع القرار العراقي من حيث الحاجة الى الأمن والاستقرار، وتحسين الوضع المعيشي … الخ ـ والتي يجب معرفتها ابتداءً.

وعليه تم تقسيم هذه الدراسة الى ثلاثة محاور، اذ تناول المحور الأول التحديات الدولية، فيما تناول المحور الثاني التحديات الاقليمية، وانفــرد المحور الثالث والأخيـر في بيان سيناريوهات (مشاهد) السياسة الخارجية العراقية اتجاه الولايات المتحدة.
المحور الأول: التحديات الدولية

لعل أبرز التحديات الدولية في الوقت الحاضر هي الآتي:-
اولاً: تحدي العولمة:

منذ ان استخدم عالم السوسيولوجيا الكندي (مارشال ماك لوهان) استاذ الاعلاميات السوسيولوجية في جامعة تورنتو مصطلح العولمة لأول مرة في كتابه (الحرب والسلام في القرية الكونية)(1)، والمصطلح يمر بسلسلة غير منتهية من التعريفات المختلفة، بعضها يتناول من خلال مظهر واحد من مظاهر العولمة، والبعض الآخر يحاول اعطاء تعريف شامل لهذه المظاهر، ومن التعريفات التي أطلقها أنصار الاتجاه الأول، نجد من يتناول العولمة ببعدها الاقتصادي فيقول: ((هي ظاهرة التكامل في الجوانب الهيكلية والاستراتيجية للشركات التي أصبحت أنشطتها التحويلية والتقنية والمعلوماتية تخترق الحدود الوطنية بهدف تحقيق تنافسيتها الدولية))(2)، أو ((أنها القوى التي لا يمكن السيطرة عليها للأسواق الدولية والشركات المتعددة الجنسية، التي ليس لها ولاء لأي دولة قومية))(3). وهناك من يعرف العولمة ببعدها الثقافي، فهي عنده ((..عملية مزدوجة تجمع بين التوحيد والتآلف، وفي الوقت نفسه المقاومة والاختراق.. دان بأنها عملية مقابلة ثقافية بين الحضارات يعتبرها الكثير من التناقض وعدم الاستقرار))(4).

اما أنصار الاتجاه الآخر، الذين حاولوا إعطاء تعريف شامل للعولمة، فقد قالوا: إنها ((.. تعبر عن تداخل وإندماج الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة، والسلوك والأموال والقوى العاملة والتقنية ضمن إطار عالمي لا يعترف بسيادة الدولة وحدودها وخصوصيات المجتمعات الإنسانية وهوياتها الثقافية، كما هي نظـــام أو نسق ذو أبعاد يتجاوز دائـــرة الاقتصـــاد، وأنها نظام عالمي يشمل المال والتسويق والمبــادلات والاتصال كما يشمل السيــاسة والفكر والايدلوجية))(5).

ونحن إذ نؤكد على التعريف الأخير، ننظر الى العولمة على أنها اصبحت واقع عالمي يفرض نفسه على الجميع، وهي تعكس طبيعة التطورات الحاصلة في الاقتصاد العالمي وقدرته على الامتداد المؤثر عبر الحدود الدولية، وكسره لمختلف القيود، كما تعكس تطور تكنولوجيا الاتصالات والمواصلات وما توفره من إمكانية اختراق ثقافي وسياسي للمجتمعات، والدول التي تمتلك القدرات التكنولوجية والاقتصادية ولها اهداف استراتيجية تقوم على الهيمنة والسيادة على الآخرين، فأنها لن تجد خيراً من موجة العولمة تركبها لتحقيق اهدافها تلك. وهذه الحقيقة جعلت البعض يقول عن العولمة: ((بأنها القوة بمفهومها الشامل الاقتصادي والسياسي والعسكري والتقني والإعلامي والثقافي، وهي الاساس التي سوف تصنع أو تكون شكل النظام العالمي في القرن الحادي والعشرين))(6).

وإذا كان البعض يجعل العولمة رديف للأمركة (7)، لان الولايات المتحدة في ظل الوضع الدولي الحالي، هي الأقوى في إمتلاكها لعناصر القوة المختلفة، وتريد توظيف العولمة لصالحها، كي ((تخرج بحصة الأسد، وأن تعيد تجديد شباب سيطرتها العالمية وتفوقها الساحق على جميع البشرية..))(8)، فهذا لا يمنع في حالة تغير موازين القوى لغير صالح الولايات المتحدة من أن يخرج من يقول بأن العولمة هي رديف للأوربة او الأسلمة… الخ، وهذا الأمر ان دل على شيء، فهو يدل على ان العولمة واقع طبيعي في عالم اليوم، وأن من أبرز مظاهرها الآتي:

1- بروز دور الشركات المتعددة الجنسيات في المجال الاقتصادي، واختراقها لأقتصاديات الدول المختلفة، وتعرض الاقتصاديات الضعيفة والتي لا تملك القدرة على المنافسـة الى خطر الانسحاق او الالحاق (التبعية الاقتصادية)، وهيمنة فلسفة الربح وما تفرض من براغماتية تقود الى اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء على مستوى الأفراد والشعوب.

2- تعرض الثقافات الوطنية الى الغزو الثقافي، بسبب التطور في وسائل الاتصالات الحديثة، وهذا الغزو يشمل حتى الدول الكبرى، فهذا وزير الثقافة الفرنسية (جاك لانغ) يقول: إن العولمة ((لا تحتل الأراضي بالقوة العسكرية، ولكنها تصادر الضمائر ومناهج التفكير وطرق البحث..))(9). لذا على الدول لكي تتجنب المخاطر الثقافية للعولمة، أن تعمل على تعزيز دور ثقافاتها الوطنية من خلال جعلها منفتحة على الثقافات الأخرى، في الوقت الذي تتمتع فيه بالجاذبية والقبول من قبل شعبها والشعوب الأخرى.

3- بروز دور التكنولوجيا الحديثة وما تتطلبه من عقول مهيئة للتعامل المفيد معها، فلا جدوى من وجود تكنولوجيا وعقول لم تعد تواكب عصرها.

4- عولمة الجانب الأمني والعسكري، إذ دخل هذا الشكل من العولمة بقوة بعد هجمات الحادي عشر من أيلول 2001 في الولايات المتحدة، فقد حرصت الأخيرة على إعطاء الإرهاب الدولي بعداً يجعل من الضرورة على دول العالم المختلفة ان تشترك معها في رؤيتها الأمنية والعسكرية ومن لا يشترك معها في هذه الرؤية يكون في صف اعدائها الذين تجب معاقبتهم.

5- تهميش دور الدولة الوطنية واضعاف سيطرتها على حدودها وشعوبها ومحاولة القوى الكبرى فرض نموذجها السياسي في الحكم عليها.

6- ان عجز الاقتصاد الوطني ودولته الوطنية عن مواجهة تيار العولمة الجارف، سيوجد ميلاً متصاعداً الى نشدان الحماية في ظل التكتلات الإقليمية، التي تكون داعمة للتغيرات العولمية أو متعارضة معها.

وهذه الحقائق عن العولمة وأخطارها، ينبغي التعامل معها بقهر جيد، لأنها تعد واحدة من القواعد التي تحدد سير العلاقات الدولية الحالية والمستقبلية.
ثانياً: تحدي التكتلات الاقتصادية الاقليمية:

على الرغم من الترابط الكبير بين العولمة الاقتصادية وظهور التكتلات الاقتصادية الاقليمية، فان دور الأخيرة ليس بالضرورة ان يكون دوراً مكملاً للأولى، بل قد يكون رد فعل عليها للحد من مخاطرها الاقتصادية، فقد أدركت الكثير من الدول ـ لاسيما الكبرى منها ـ ان العولمة الاقتصادية هي واقع ينبغي الاعتراف به، وأن الوقوف المنفرد للاقتصاد الوطني يجعله عرضة للانسحاق أو الالحاق بمراكز اقتصادية خارجية تعمل من اجل مصلحتها الذاتية فحسب، ولمنع حدوث هذا الأمر، نجد ان الدول ـ على مستوى العالم ـ بدأت تتكتل اقتصادياً لمواجهة هذه التحديات الاقتصادية، وزيادة ميزتها التنافسية في الاقتصاد العالمي، ولعل من ابرز هذه التكتلات: التكتل الاقتصادي لدول جنوب شرق آسيا، التكتل السياسي والاقتصادي والأمني لدول الاتحاد الأوربي، وتكتل النافتا الذي يضم: الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا والمكسيك، وهو قيد الانقاح نحو تشيلي.

((ففي ظل عالم يجري فيه الترابط الوثيق بين السياسة والاقتصاد لم يعد ممكناً ان تنعزل الدول بعضها عن بعض، بل من غير الممكن حصول مثل هذه العزلة، ففي الوقت الذي تحل فيه المنافسات الاقتصادية وسباقات التكنولوجيا، والاشكال المختلفة للحرب التجارية محل المنافسات العسكرية وسباقات التسلح، ورغم ان الأخيرة لا زالت محتفظة بتأثيرها الساند، فأن الحرب العالمية الأكثر حدة تتحول الى المجالات الاقتصادية.. في الوقت الذي يصعب فيه استخدام الوسائل التقليدية كالجيوش والقواعد البحرية في مواجهة التحديات الاقتصادية، وهذا الترابط في اقتصاديات العالم يجعل الدولة تتعرض الى أذى بالغ اذا ما تعرضت احدى صناعاتها للمنافسة من دول اخرى تمتلك شروطاً افضل لمنافستها في الاسواق الخارجية، بل وحتى في أسواقها الداخلية، فحتى الدول ذات الاقتصاديات الأقوى في عالم اليوم لم تستطع حماية اقتصادها في مثل هذه المنافسة..))(10).

والدول التي تدخل في سياق الاقلمة الاقتصادية تنقل الترابط الاقتصادي من المستوى الذي تبشر به العولمة (على مستوى العالم)، الى مستوى التكتل الإقليمي حيث يحصل ترابط وثيق بين اقتصادها الوطني واقتصاديات الدول الأخـرى الداخلة في التكتل، وما يتطلبــه ذلك من انفتاح اقتصادي يسمح بإقامة المناطق الحرة، والاتحادات الكمركية، وحرية انتقال السلع ورؤوس الأموال، وزيادة دور القطاع الخاص، وتقليل القيود الحكومية… الخ، وهذا الأمر يعني، أن الدولة العضو في التكتل يجب عليها أن تقبل التنازل عن شيء من سيادتها على اقتصادها واقليمها، ورفضها لهذا الأمر، يجعلها غير مؤهلة للانضمام الى التكتل، وبالتالي وقوفها وحيدة أمام تحديات الاقتصاد العالمي الجديدة.

وهذا الواقع الاقتصادي، الذي يبرز في الوقت الراهن، يتطلب الإلمام به، والعمل على ان لا يكون الاقتصاد العراقي يتحرك بشكل فردي، بل يجب السعي الى انضمامه الى تكتل يسمح بحماية الاقتصاد الوطني، في الوقت الذي يعطيه ميزة تنافسية في الإطار الاقليمي والدولي.
ثالثاً: تحدي الهيمنة الأمريكية:

إن أي محللٍ سياسي لا يسعه انكار الهيمنة التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية على الشؤون الدولية ـ لاسيما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، وبروز الأحادية القطبية الأمريكية ـ وهذه السيادة الأمريكية لا تنبع من فراغ وانما تنبع من امتلاك واشنطن لعناصر القوة الأساسية في العلاقات الدولية ((فهي تمتلك القوة العسكرية الأولى في العالم، والقوة الاقتصادية الأولى، وتقدمها العلمي والتكنولوجي هو الأسرع،كما ان ثقلها الثقافي والاعلامي قد زاد من قوتها ونفوذهاعلى جميع الصُعد))(11). والقوى المرشحة لمنافستها في العالم ((لا تمتلك مقومات الزعامة الدولية، فالاتحاد الأوربي يعد قوة أو موازناً محتملاً لكن تنقصه الإرادة واجتماع الرأي، ويعاني من الضعف الداخلي. واليابان تعد ثاني اكبر قوة اقتصادية في العالم، ألا انها ما زالت مقيدة بتراث الحرب العالمية الثانية، وتعوزها القدرات العسكرية والسياسية والإرادة الكافية لتفعيلها. والصين تعد قطباً محتملاً لكنها تعاني من نقص مقومات الزعامة الدولية، وروسيا وحلفائها الجدد تمر بمرحلة انتقالية ربما استمرت سنوات عدة، وهي ليست مؤهلة للعب دور جديد فعال لسنوات طويلة طالما ان قدرتها الاقتصــــادية ضعيفة، ورؤيتها السياسية غير واضحة))(12).

وواقع القوة الامريكية الحالية، دفع (هوبرت فدرين) وزير خارجية فرنسا السابق الى القول: إن كلمة دولة عظمى لم تعد تتناسب مع قوة الولايات المتحدة، لان الاخيرة ((أصبحت.. من الآن فصاعداً دولة فوق عظمى))(13).

ويترافق مع بروز السيادة الامريكية، تأكيد من كتّاب وسياسيين أمريكان على ان سيادة بلادهم هي أفضل للأمن والسلام العالميين، وأن على الآخرين تقبلها، بل واستعادة نموذجها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، فهذا (ديربجنسكي) في كتابه (رقعة الشطرنج الكبرى) يقول: ((عالماً بدون سيادة الولايات المتحدة سيكون عالماً أكثر عنفاً وفوضى وأقل ديمقراطية وأدنى في النمو الاقتصادي من العالم الذي يستمر تأثير الولايات المتحدة فيه أقوى من تأثير أية دولة اخرى على صياغة الشؤون الدولية. ان السيادة الدولية المستدامة للولايات المتحدة ضرورية لرفاهية وأمن الامريكيين، ولمستقبل الحرية والديمقراطية والاقتصاد المنفتح والنظام الدولي في العالم))(14).

في الوقت الذي تعمل فيه وسائل الاعلام الغربية، على تعزيز الادراك بأن ((من مصلحة الولايات المتحدة والدول الغربية، رفع شعار الديمقراطية والتلويح بالمرجعية الديمقراطية والحقوق الانسانية، باعتبار ان هذا العمل يظهر تفوقها الاخلاقي والسياسي، ويعلن انتصار قيمها وعقائدها على النظم الاخرى، ويوفر لها فرص الاشراف على المصير العالمي))(15).

وبدون الدخول في تفاصيل الديمقراطية التي تبشر بها الولايات المتحدة، فأن ما تقدم يؤكد على ان الولايات المتحدة لم تعد ملزمة بالدفاع عن الأنظمة الاستعبادية والرجعية بحجة إبقائها خارج مظلة قوة دولية منافسة ـ كما كان الحال في ظل الحرب الباردة ـ بل اصبحت هذه الأنظمة مكشوفة وفاقدة للغطاء السياسي والعسكري الذي يوفر لها الحماية، وهي معرضـــة للضغط الدولي الامريكي ـ الغربي لاحداث تبدلات جوهرية في سياساتها ونمط حياتها وثقافتها، وجعل النموذج الغربي ـ الأمريكي في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية هو الذي يحظى بالقبول، فهذا (كولن باول) وزير الخارجية الامريكي الاسبق، يقول في محاضرة ألقاها في مركز التراث بواشنطن في ديسمبر 2002: ((إن دول الشرق الاوسط قدمت على مدى التاريخ مساهمات لا تقدر بثمن للعلوم والفنون، لكن اليوم توجد شعوب كثيرة هناك تفتقر الى الحرية السياسية، والاقتصادية وفاعلية المرأة، والعلم الحديث، التي تحتاج اليها لكي تزدهر في القرن الحادي والعشرين. إن سكان المنطقة يواجهون خياراً أساسياً بين كسل وجمود ونهضة عربية تبني مستقبلاً زاهراً لجميع العرب))(16). في الوقت الذي يروج فيه دعاة اليمين الأمريكي ـ داخل بلادهم ـ ألى فكر سياسي يصور العالم العربي والإسلامي عالماً لا تسوده أيدلوجية دينية قائمة على الإرهاب والكراهية والتعصب، تغذيها وتحميها انظمة طغيانية تسعى لحيازة اسلحة الدمار الشامل، وتوظف طغيانها لاضطهاد وتهديد السلام وقتل الحريات، وممالاة الارهاب الجماعي، الذي يشجع العمليات الانتحارية بأسم الجهاد والاستشهاد في سبيل الدين والعقيدة (17).

وهذا الخطاب الامريكي جديد على البلدان العربية والاسلامية، لم تكن تسمع مثله في ظل الحرب الباردة، وإدراك هذا الامر من صانع القرار العراقي، يجب ان يترافق مع ادراكه للتبدل الذي حصل في استراتيجية واشنطن في تعاملها مع خصومها بعد احداث الحادي عشر من ايلول 2001، اذ هجرت الولايات المتحدة استراتيجية الردع والاحتواء لخصومها، واعتمدت استراتيجية جديدة تقوم على العمل الوقائي، حيث ان الولايات المتحدة لا يمكن ان تقف ساكنة في مواجهة الاخطار الماثلة، وانما تحتفظ لنفسها بخيار الضربات الوقائية لمواجهة أي تهديد جسيم لأمنها القومي، وكلما ازداد التهديد، كلما زاد الخطر من التقاعس وتجاهل العمل الوقائي (18).

وهذه الستراتيجية الجـــديدة، تجعل أي نظام سيـــاسي يتبنى سياسة المواجهة مع الولايات المتحدة، يتعرض الى اخطار كبيرة، تصل الى حد العمل العسكري المباشر، دون ان يعول على قانون دولي او امم متحدة لحمايته من مثل هذا الاجراء، لان واشنطن ستتجاوز أي رادع قانوني دولي، كما حصل في الحرب الاخيرة ضد نظام صدام حسين في العراق.

وبعد التعرف على حقيقة السيادة الامريكية الحالية، والاستراتيجية الجديدة لواشنطن بعد احداث ايلول 2001، فانه يجب معرفة اولويات الاستراتيجية الامريكية في منطقة الشرق الاوسط؟.

إن تحليل سياسة البيت الابيض في هذه المنطقة، يبين ان لها هدفين استراتيجيين هما: النفط أولاً. وأمن اسرائيل ثانياً. والضرورة التحليلية تقتضي القاء ضوء مختصر على هذين الهدفين.
1- النفط

لقد ظهر اهتمام الولايات المتحدة بنفط الخليج العربي بعد الحرب العالمية الاولى، عندما مارست ضغطها السياسي على الحلفاء للحصول على حصتها الاستعمارية (19). وتعاظم اهتمامها بعد ذلك، فاذا كانت شركات السكك الحديد، والضمانات الغذائية والمعلبات، وصناعة السيارات تحتل المراتب الاولى في تسلسل الشركات العملاقة في الولايات المتحدة عام 1929، فانه ومنذ عام 1979 تغيرت هذه الحالة لتصبح شركات النفط مثل: اكسون، وموبيل، وتكساسو… الخ هي الشركات المتقدمة في هذا التسلسل، وذلك لانها ((.. تحصل على أعلى الأرباح، وكانت وما زالت الى حد كبير تسيطر على الفرع الذي.. يغذي تطور الاقتصاد الرأسمالي ككل))(20).

وبعد ازمة الطاقة في السبيعنات، هدد (هنري كيسنجر) وزير خارجية امريكا ـ آنذاك ـ بإستخدام القوة العسكرية ضد العرب من اجل النفط، وفي عام 1974 جرت لأول مرة تدريبات عسكرية في الولايات المتحدة الأمريكية الصحراوية لغزو منطقة الخليــج العربي من البحر والجو، وفي 23 كانون الثاني عام 1980 اكتسبت هذه الفكرة بعدها المؤســاتي بإعلان مبدأ كارتر الذي اعتبر الخليج العربي منطقة ذات اهمية حيوية بالنسبة للولايات المتحدة والعالم الغربي بأسره، واتخذوا قراراً بإرسال قوات بحرية الى شواطئه بهدف تأمين تواصل إمدادات النفط منه، ولقد ساند (رونالد ريغان) مبدأ كـــارتر، وتم انشاء عدة قواعد عسكرية في المنطق لتوضع تحت تصرف ((قوة الانتشار الـسريع)) التي اصبــحت تعرف منذ عام 1983 بـ ((القيادة المركزية))(21).

وفي عام 1988 جاء في دراسة بعنوان ((استخدام القوة المسلحة في تأمين نفط الخليج)) وضعها (كوليز) احد مسؤولي وزارة الدفاع الامريكية القول: ((اننا سنتحرك عسكرياً للاستيلاء المباشر على حقول النفط في هذه المنطقة، واننا قد نتعرض الى انتقادات وهجوم عنيف من قبل العديد من الدول سواء الاوربية او الاتحاد السوفيتي (السابق)، ولكن يجب ان نعلن ان مبررنا الوحيد هو تأمين حقول النفط في هذه المنطقة، وضمان وصول الامدادات النفطية))(22).

واثناء ازمة الخليج عام 1990، كتبت صحيفة (الهيرالد تربيون) الامريكية في 27/8/1990مقالاً جاء فيه: ((ان أي أمريكي يعرف الف باء السياسة يعلم تماماً، ان الولايات المتحدة لا تحارب من أجل الديمقراطية ضد العراق، لانه ليست هناك ديمقراطية في العالم العربي، ولا تحارب من أجل الكويت، لقد تحركت الولايات المتحدة نحــو العراق لمنع العراق من السيطرة على ثروة هي الوقود الاســاسي للصناعة، وقــد تعني الفرق بين الحياة الاقتصادية وبين الإندثار))(23).
الواقع الاقتصادي العالمي للنفط

يعد النفط سلعة لم يجد العالم لها بديلاً، وأهميته في تزايد مستمر، ففي الوقت الذي كان النفط بشكل 3،9% من استهلاك الطاقة العالمي عام 1900، ارتفع الى 31% عــام 1950، والى 45% عام 1980(24). في حين يقدر الطلب الحذالي على النفط نحو 76.8 م.ب.ى، ويتوقع ان يصل الى 120م.ب.ى بحلول عام 2020، مقارنة بنحو 75 م.ب.ى عام 2000، يترافق ذلك مع حقيقة انخفاض الإنتاج في الحقول الحالية التي تنتج منذ ما يقرب 30 الى 40 عام(25). وفي الولايات المتحدة نجد ان الامريكيين الذين يشكلون 5% من سكان العالم، يستهلكون 25% من انتاج النفط العالمي الحالي(26). وتشير احدث تقارير وزارة الطاقة الأمريكية الى ان ((الولايات المتحدة تستهلك نحو 19،16 م.ب.ى من النفط الخام، سترتفع الى نحو 26 م.ب.ى بحلول عام 2020، واذا كانت الولايات المتحدة تستورد حالياً 11،600 م.ب.ى (54% من مجمل استهلاكها الحالي)، فان هذه النسبة سترتفع الى اكثر من 16 م.ب.ى عام 2020 والى اكثر من 30 م.ب.ى عام 2030ويعود ذلك لاتجاه الانتاج الأمريكي للانخفاض بمقدار خمسة م.ب.ى عام 2030 بسبب نضوب الحقول الحالية، وعدم اكتشاف حقول جديدة، ولذا يستوجب على الولايات المتحدة ان تهتم بتأمين مصادر مستقرة لوارداتها من النفط الخام من الخارج…))(27).

وأفضل منطقة يمكن ان تقوم بهذه المهمة هي منطقة الخليج العربي، اذ يوجد في هذه المنطقة ما يزيد على 675 مليار برميل، أي انها تحتوي على ثلثي الاحتياطي العالمي من النفط، وهي صاحبة أطول عمر في الاستمرار بالإنتاج ولمائة عام قادمة(28). ويكفي ان نشير الى ان العراق وحده يمتلك أربعة أضعاف الاحتياطي الامريكي من النفط بما فيه الاسكا(29).

ويبلغ اجمالي انتاج النفط الخليجي حوالي 20% من الانتاج العالمي كما ان انتاج البرميل الواحد من النفط الخليجي يكلف ما بين دولار الى دولار ونصف، في حين تصل هذه الكلفة الى 12 دولار في امريكا الشمالية و 18 دولار في امريكا الجنوبية، اضافة الى الجودة العــالية لهذا النفط(30).

وهذا الواقع النفطي العالمي، يجعل النفط ليس مجرد سلعة للعرض والطلب فحسب، بل يجعله عاملاًً اساسياً في نمو الاقتصاد العالمي، ومن يسيطر عليه يسيطر على الاقتصاد العالمي.
أهداف الولايات المتحدة من السيطرة على النفط

يقول الرئيس الامريكي الاسبق (جورج بوش الأب): ((إن الولايات المتحدة تقف على أبواب القرن الحادي والعشرين، ولابد من ان يكون هذا القرن الجديد أمريكياً، وهذا ليس ممكناً الا بالسيطرة الكاملة على النفط واحتياطه وفوائض البترول والدولار…))(31). اذن تربط سيادة امريكا على العالم بالسيطرة الكاملة على النفط، تحقيقاً للأهداف التالية:-

1- السيطرة على الدول المنتجة للنفط ولا سيما دول منظمة اوبك، وجعلها غير حرة في تحديد سعر وكمية النفط في السوق العالمي.

2- انعاش الاقتصاد الامريكي، الذي يعاني من الركود الاقتصادي منذ احداث الحادي عشر من ايلول 2001، ويكفي ان نشير الى ان انخفاض سعر النفط بمقدار دولار واحد للبرميل عالمياً، يوفر للولايات المتحدة اربعة مليارات سنوياً من الدولارات(32).

3- تحقيق الارباح الطائلة لشركات النفط الامريكية، التي تعتبر الأكبر في سوق النفط العالمية، مثل: شركات اكسون موبيل، وشيفرون تكساسو… الخ.

4- تستطيع الولايات المتحدة من خلال سيطرتها الكاملة على امدادات النفط تحقيق سيطرة اقتصادية على القوى الدولية التي يمكن ان تنافسها على السيادة العالمية، اذ من ((يسيطر على النفط يسيطر على الاقتصاد العالمي، ورفع اسعار النفط بصورة طفيفة يمكن ان يلقي بملايين العمال في الشارع في اوربا وشرقي آسيا))(33). كما يستطيع التحكم بقوى اخرى مثل الصين واليايان وروسيا.

وهذه الأهمية الفائقة للنفط،جعلت البعض يتنبأ بطبيعة الحروب التي يمكن ان تزج الولايات المتحدة نفسها فيها، ومناطق هذه الحروب، التي يتبين انها ستكون في: الخليج العربي، بحر قزوين، افريقيا الغربية، امريكا اللاتينية، وهي المناطق الرئيسية لتزويد العالم بالنفط(34).
2- أمن إسرائيل

منذ ان كتب (ارتشيبولد) كبير الملحقين العسكريين الامريكيين في فلسطين عام 1948، تقريره الى رؤساه الذي جاء فيه ((.. اسرائيل هي الحصان الذي يجب ان نراهن عليه في هذه المنطقة))(35). ومكانة الكيان الصهيوني تتصاعد بشكل مطرد في الاستراتيجية الأمريكية، فقد اعترفت الولايات المتحدة بهذا الكيان بمجرد اعلان دولته، وساندته بشكل مباشر أو غير مباشر في كل المعارك التي خاضها مع العرب منذ عام 1948 ولحد الآن، وفي عام 1981 وقعت واشنطن معه ((الاتفاق الاستراتيجي))، الذي بموجبه اصبح هذا الكيان القوة الصالحة لحماية مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، وفي عام 1983 تم تجديد هذا الاتفاق وتطويره ((بشكل أوضح ان منطقة الخليج العربي هي من بين الاهداف المرشحة لهجوم اسرائيلي لخلق وضع معين في منطقة الخليج العربي يؤدي الى خدمة المصالح الأمريكية في المنطقة وتعزيز تلك المصالح..))(36).

واشتركت اسرائيل في مبادرة الدفاع الاستراتيجي (حرب النجوم) عام 1986 في عهد ريفان، وفي عهد بوش الأب ((حافظت الادارة الامريكية على التزاماتها.. بالحفاظ على الأمن الاسرائيلي..))(37). حتى عكس قــول (برنت سكوكروفت) مستشــار الأمن القــومي الأمريكي ـ آنذاك ـ في اجتماع عقده المجلس في الثالث من تموز عام 1990، رغبة امريكـية مطلقة في حماية امن اسرائيل من هجوم عراقي محتمل، لأن الولايات المتحدة في حالة حصول هكذا هجوم ستقف الى جانب الصهاينة، وهذا يضر بمصالحها مع الدول العربية والإسلامية ((لذلك (والقول هنا لكوكروفت) كان الهدف المحدد منذ انتهاء الحــرب العراقية الايرانية هو كيف نمنع العراقيين من ان يخوضوا حرباً ضد اسرائيل))(38).

وقد عمل اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة على تعزيز الترابط الاستراتيجي بين الطرفين (أمريكا واسرائيل)، وجعل المصالح الاسرائيلية هي المصالح الامريكية، وبالتالي فأن دفاع اسرائيل عن مصالحها هو دفاع عن المصالح الامريكية، وتصوير العرب والمسلمين على انهم العدو الجديد الذي حل محل العدو الشيوعي المنهار واستغلال هجمات الحادي عشر من ايلول لخدمة الأهداف اعلاه.

في ضوء ما تقدم، فأن الحفاظ عل أمن الكيان الاسرائيلي التزاماً أمريكياً قل ان نجد له نظيراً مع حلفاء امريكا الآخرين، حتى لو ادى ذلك الى زيادة الكراهية والعداء في ا لعالم العربي والإسلامي للولايات المتحدة، وأن وقوف الأخيرة ضد أي قرار أو بيان إدانة يصدر من الأمم المتحدة ضد الكيان الصهيوني، يعد خير دليل على ذلك،كما يعكس المعايير المزدوجة التي تمارسها واشنطن في تعاملها مع القضايا الدولية، وتشجيعها للارهاب الصهيوني بحجة حفظ أمن الاخير، وهذا السلوك الامريكي الثابت، دفع (ستيفن خرين) الكاتب الامريكي الى القول:((وكانت العلاقات غير العادية بالولايات المتحدة سبباً لا يستهان به من الأسباب التي حركت اسرائيل في اتجاه السياسة العسكرية والعدوانية))(39).
المحور الثاني: التحديات الاقليمية

بعد ان بين المحور الأول طبيعة التحديات الدولية في الوقت الراهن، فان المحور الحالي سوف يسلط الضوء على ابرز التحديات الاقليمية التي تواجه أي صانع قرارات في المنطقة، وهي تتركز في أهم مجالات الحياة التي يمكن لها ان تؤهل العرب والمسلمين ليكونوا قوة فاعلة في الحياة الدولية المعاصرة، وبالشكل الآتي:
اولاً: التحديات السياسية

تزخر الحياة العربية والإسلامية في المجال السياسي بـ:

أ ـ ان اغلب دول المنطقة ـ ان لم يكن جميعها ـ محكومة بأنظمة استبدادية تفرض نفسها على المجتمع، دون ان تتقبل النقد، وهي فاقدة لشرعيتها السياسية بفعل الديمقراطية وحولها الى السلطة، وطول بقائها فيها، فحتى الأنظمة الجمهورية اصبحت ذات طابع وراثي عصي على التغيير والتبدل.

ب ـ توجد في المنطقة أنظمة سياسية مختلفة: جمهورية، ملكية، إمارة، سلطنة.. الخ، بعضها ذات طبيعة تيوقراطية والبعض الآخر علمانية، وهذا الواقع يعقد عملية الانسجام السياسي، ويقود الى تباين الاهداف السياسية للأنظمة في المنطقة.

جـ ـ دفع استبداد الأنظمة وجمودها السياسي والفكري الى حصول رد فعل اجتماعي تمثل بظهور تيارات سياسية ذات تسميات مختلفة، وأهداف متضاربة، لكنها متطرفة في أفكارها ووسائلها، ولا تعترف بالعمل الديمقراطي الذي تفتقده في حياتها السياسية. وإذا كانت هناك بعض مظاهر الديمقراطية في بعض دول المنطقة، ألا أنها لا زالت ضعيفة وعاجزة في أساليبها، ومحكومة بقيود السلطة وحدود ما تسمح به.

د ـ تعاني دول المنطقة من كثرة الخلافات السياسية التي تشتت شملها وتفرق وحدتها، وتكون في غالبيتها نتيجة للأهواء الشخصية للحكام وحماقتهم السياسية.

هـ ـ فشل المنظمات السياسية الاقليمية كمنظمة الدول الاسلامية، وجامعة الدول العربية وغيرها في لعب دور سياسي مؤثر يعطيها قدرة سياسية موحدة، تمكنها من حل مشاكل المنطقة السياسية، ومنع القوى الكبرى من أن تكون اللاعب الرئيسي في شؤوننا السياسية، بل ان الواقع يبين ان هذه المنظمات عجزت عن تخفيض حدة التوترات السياسية في المنطقة ومنعها من الوصول الى مديات لا تحمد عقباها، والأمثلة كثيرة ولا نرغب في الدخل الى تفاصيلها.

و ـ ان الولاءات السياسية للأنظمة في المنطقة متضاربة بشكل كبير يقود الىتشتتها وهامشيتها الدولية.
ثانياً: التحديات الاقتصادية

ان اقتصاد بلدان المنطقة يعاني من نقاط الضعف الآتية:

أ ـ أغلب بلدان المنطقة ذات اقتصاد ربعي، يعتمد على مصدر واحد للدخل ـ وهو غالباً النفط ـ ولم تصل الى مرحلة الاقتصاد الصناعي، وهذا يجعل تعامل السلطات الحاكمة مع الشعوب يقوم على عقلية المنح والاعطيات، او باختصار، يقوم على عقلية الغنيمة وما تفرضه من اخلاق تتنافى والعصر الذي نحن فيه.

ب ـ فشل بلدان المنطقة في إقامة تكتل اقتصادي مؤثر شبيه بالاتحاد الأوربي أو غيره، مما يجعلها ذات اقتصاديات ضعيفة غير قادرة على المنافسة في ظل اقتصاد العولمة وما يفرضه من تحديات.

جـ ـ على الرغم من وجود محاولات لإقامة نوع من التعاون الاقتصادي بين دول المنطقة من خلال اقامة المناطق الحرة، وتسهيل الاستثمار المالي المتبادل، وإنشاء مشاريع اقتصادية مشتركة، الا ان الواقع يؤكد على ان هذا التعاون هو دون الطموح، ولم يقم على أسس متينة، وتتحكم به أهواء الحكام ورغباتهم، اكثر مما تفرضه مصالح الشعوب ومتطلبات نهوضها.

د ـ تشهد بلدان المنطقة عقد اتفاقات اقتصادية بينها وبين القوى الاقتصادية الكبرى في العالم، كما هو الحال في مشروع الشراكة الاورو ـ متوسطية وغيره، الا ان الملاحظ على هذه الاتفاقات انها ذات صفة ثنائية تعقد بين طرف ضعيف اقتصادياً ـ هو كل بلد من بلدان المنطقة على حدة ـ وبين طرف قوي اقتصادياً ـ تلك الدول او التكتلات الاقتصادية الكبرى في العالم ـ ومن شأن هذا ان يفاقم مشكلة التشتت والهشاشة والتبعية التي يعانيهـا اقتصاد بلدان المنطقة.

هـ ـ تعاني بلدان المنطقة انخفاضاً كبيراً في معدل نمو ومستوى الدخل الفردي فيها، فإذا اخذنا البلدان العربية ـ مثلاً ـ نجد ان تقرير التنمية الإنسانية العربية الأول لعام 2002، والذي صدر بالتعاون بين الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، يشير الى أن معدل نمو دخل الفرد العربي خلال العقدين الماضيين هو الأقل في العالم، باستثناء أفريقيا جنوب الصحراء، وإنه لا يتجاوز 0،2% سنوياً، وإذا استمر الحال على ما هو عليه الآن، فسيحتاج المواطن العربي الى 140 سنة ليضاعف دخله، في الوقت الذي يستطيع فيه المواطن في مناطق اخرى من العالم مضاعفة دخله كل عشر سنين(40).

و ـ تعاني بلدان المنطقة ارتفاعاً في نسبة البطالة، إذ جاء في التقرير اعلاه، ان البلدان العربية تبلغ فيها نسبة البطالة 15% من القوة العاملة، وهي من أعلى النسب في العالم، وإذا استمرت حالة البطالة بهذا الشكل، فان ذلك ينذر بمشاكل اقتصادية وسياسية واجتماعية لا تحمد عقباها.
ثالثاً: التحديات الثقافية

من أبرز التحديات الثقافية هي:

أ ـ الثقافة في أغلب البلدان العربية والإسلامية في المنطقة، هي ثقافة حكام، تحكمها عقلية الأمير والرعية، وليست ثقافة حضارية موحدة، تبرز عظمة الحضارة الإسلامية وسموها، وتعطيها جاذبية وقبول لدى شعوبها وشعوب العالم الأخرى.

ب _ ويترافق مع الفقرة اعلاه، وجود اعلام عربي واسلامي ضعيف في مادته الاعلامية وإمكاناته المادية، وخاضع للرقابة والقيود، لذا فهو غير قادر على التخلص من شعارات السلطة ورموزها، والتعامل بجدية مع مشاكل الشعوب الحقيقية. وإذا كان هذا الإعلام مؤخراً، يحاول تطوير وسائله ومادته الإعلامية، فإنه لازال دون المستوى المطلوب.

جـ ـ لا زالت الشعوب في المنطقة، ولأسباب كثيرة، يأتي في مقدمتها الجهل وتواطؤ الأنظمة الاستبدادية، شعوباً ذات بعد ثقافي يتداخل فيه الماضي بالحاضر، وتحاول معالجة مشاكل الحاضر وتحدياته بوسائل الماضي وقراءاته. وهذا الواقع يخلق العجز والضياع، وعدم التعامل بفاعلية مع تحديات العصر، فزمن الثورة الصناعية الثالثة والعولمة والقرية الكونية، يحتاج الى انسان يحمل ثقافة حضارية تتفاعل مع العصر، وتدخله من ابوابه الصحيحة، ولا تتوقف عند مستوى تمجيد الماضي وفرضه على الحاضر.

د ـ تعاني شعوب المنطقة من عدم الانسجام الثقافي، ولا زال دور المرأة فيها مشوهاً بشكل كبير.

هـ ـ تواجه شعوب المنطقة ـ أيضاً ـ غزواً ثقافياً غربياً، قاد ولا زال الى نوع من الانسلاخ الثقافي لقطاعات مهمة من المجتمع، وجعل قطاعات اخرى تعيش حالة الاغتراب والحيرة الثقافية، بينما تحاول قطاعات ثالثة مجابهته برد فعل متطرف يرفضه بشكل مطلق، ويتعامل معه بأسلوب عدائي. وهذا الأمر لا يقتصر على عامة الشعب، بل تعاني منه حتى الانتلجنسيا العربية والإسلامية، ومعالجة هذا الوضع الخطير ينبغي ان يكون من أولويات رجال الفكر والثقافة والسياسة في منطقتنا.
رابعاً: التحديات العسكرية

تعاني المنطقة من التحديات العسكرية الآتية: –

أ ـ أصبحت بلدان المنطقة منذ عام 1991، وبفعل الهجوم الأرعن لصدام حسين على الكويت وما تلاه من أحداث، خاضعة للهيمنة العسكرية الغربية ـ الأمريكية، وبما يخدم المصالح الأمريكية ـ الصهيونية.

ب ـ على الرغم من أن منطقة الخليج العربي تعتبر من اكثر مناطق العالم شراءاً للأسلحة في سوق السلاح العالمية، الا ان ذلك لم يحقق لها قوة ردع عسكرية كافية لحمايتها من الاحتلال.

جـ ـ لم تستطيع بلدان المنطقة إقامة تحالف دفاعي بينها، يلزمها بالدفاع عن بعضها ضد عدوان خارجي تتعرض له، او عدوان داخلي تقوم به احدى دول المنطقة على دولة اخرى

د ـ ان كل الشعارات التي طرحتها العديد من بلدان المنطقة، ومنذ عقد الخمسينات من القرن الماضي، وعبرت بها عن عدائها للكيان الصهيوني، ورغبتها بتحرير فلسطين، لم تمنع هذا الكيان من أن يكون هو الأقوى عسكرياً فيها، واستمراره في سياساته العدوانية بدون أي رادع له. وقد تكون هناك تحديات اقليمية أخرى، الا إنها أقل أهمية قياساً بالتحديات آنفة الذكر.
المحور الثالث: مستقبل السياسة الخارجية العراقية اتجاه الولايات المتحدة

بعد ان اتضحت لدينا التحديات الدولية والاقليمية التي ينبغي الإلمام بها جيداً من قبل صانع القرار العراقي، فان الدراسة سوف تمضي قدماً لبيان مستقبل السياسة الخارجية العراقية اتجاه الولايات المتحدة، وقد تم الاعتماد في ذلك على نظرية الاحتمالات التي تضع أكثر من خيار امام صانع القرار، وهي مفيدة له لأنها تضعه امام اكثر من خيار، ليختار منها ما هو افضل.

وانطلاقاً من هذه النظرية، ترى هذه الدراسة أن مستقبل السياسة الخارجية العراقية اتجاه الولايات المتحدة، يمكن ان تأخذ واحداً من ثلاثة سيناريوهات (مشاهد)، وكل سيناريو (مشهد) له محفزات تدفع الى تبنيه، كما ان له عوائق تمنع ذلك، وهذه السيناريوهات (المشاهد) هي:
السيناريو الأول: سيناريو المواجهة

نفترض في هذه السيناريو، ان السياسة الخارجية العراقية مع الولايات المتحدة، سوف تتبنى خيار المواجهة والتصعيد السياسي والاعلامي دون ان تصل الى المستوى العسكري الذي لم يعد له دور بعد حل الجيش والقضاء على الترسانة العسكرية العراقية، وان ما يسمى بالمقاومة المسلحة لقوات الاحتلال، لاتمثل المواجهة المطلوبة في هذا السيناريو (المشهد) الذي يعد من أكثر المشاهد خطورة وبعداً عن الواقع.

محفزات تبني هذا السيناريو

ان من ابرز محفزات السيناريو هي:
1- المحفزات الداخلية

أ ـ المحفز الديني. ويقوم هذا المحفز على عد الولايات المتحدة دولةًً محتلة لأرض العراق الاسلامية، وان الواجب الوطني الشرعي يتطلب مواجهتها بالقوة لارغامها على الخروج من البلاد، كخيار وحيد لطارحيه.

ب ـ تشهد الساحة العراقية ـ حالياً حالة من اللا استقرار السياسي والأمني وقد تدفع هذه الحالة الى بروز قوى متطرفة في الساحة السياسية، تستغل الاخطاء السياسية للقوى الاخرى، وأخطاء السياسة الامريكية في العراق من اجل كسب الشعبية في الداخل وفرض وجودها على السلطة، وعند سيطرتها عليها، فانها ستتبنى قطعاً سياسة المواجهة مع واشنطن.
2- المحفزات الإقليمية

أ ـ توجد في المنطقة عدة دول مجاورة للعراق، تعلن الولايات المتحدة عدائها لها، لذا قد ترى ان من مصلحتها إغراق السياسة الأمريكية في الأرض العراقية، كي تنشغل عنها وتخرج خاسرة في رهانها على الوضع العراقي، وبالتالي لن تفكر في تكرار ما حصل في العراق في تلك البلدان، وهذا المحفز تشير اغلب الدلائل على توفره في سياسات بعض البلدان المجاورة للعراق.

ب ـ المحفز الفلسطيني. اذ لا زالت الولايات المتحدة متمسكة بخيار مساندة الكيان الصهيوني، رغم كل عدوانه وهمجيته تجاه العرب ونعت أفعاله غير الشرعية بأنها دفاع عن النفس، في حين توصف المقاومة الفلسطينية بأنها ارهاب يهدد امن المواطنين الاسرائليين، كما يهدد السلام والأمن العالميين، واستمرار هذا النهج الأمريكي من شأنه في حالة قيام حكومة عراقية قوية تدافع عن الثوابت العربية والإسلامية بأن يقودها الى انتهاج سياسة غير ودية اتجاه الولايات المتحدة.

3- المحفز الدولي. هناك قوىسدولية كبرى ترى أن سياسة واشنطن في المنطقة العربية، تهدف الى إخراجها من نطاق مصالحها، وجعلها ورقة ضغط عليها، لذلك قد تسعى الى الحد من اندفاع واشنطن في هذه السياسة من خلال تأكيدها على إنشاء حكومة عراقية قوية ومستقلة سياسياً، وتشجيعها على تبني خيار المواجهة السياسية مع البيت الأبيض، كي تخرج الولايات المتحدة بخفٍ حنين من ناحية ضمان مصالحها في العراق.
عوائق تبني هذا السيناريو
1ـ العوائق الداخلية.

أ ـ العائق التأريخي. ان العراق تبنى ـ لا سيما منذ عام 1990 ـ سياسة المواجهة مع واشنطن، فما جنى غير الانهيار والاحتلال العسكري، ولا يوجد سياسي عاقل، يرى مثل هذه النتائج التي وصلت اليها سياسة سابقة، فيعود الى اعتماد نفس السياسة.

ب ـ العائق الاجتماعي. ان الشعب العراقي شعب انهكته سياسات المواجهة والحروب طوال اكثر من خمسة وعشرين عاماً، وقد وصل المواطن العراقي من جراءها الى حد المعاناة في عيشه وصحته وتعليمه، لهذا فأن أي سياسة خارجية عراقية تحاول تحشيد المجتمع وتعبئته وراء سياسة المواجهة غير المبررة سوف يكون مصيرها الفشل، لانها لن تجد شعبنا مستعداً لمساندتها، نعم قد يكون هناك بعض الناس سوف يؤازرون هذه السياسة، ولكن الى حين اذ لن يلبثوا حتى ينفضوا عنها لصالح القوى المعتدلة التى تدعوا الى السلام والأمن وخدمة مصالح الناس.

جـ ـ العائق الاقتصادي. يعد الاقتصاد العراقي اقتصاداً منهاراً بسبب الحروب التي خاضها البلد في العهد السابق، وما أفرزته من نتائج كارثية تتمثل بعظم المديونية، وثقل التعويضات، وانهيار البنى التحتية، وقد ارتبط العراق في انقاذه من حالته هذه بما يسمى بهبات الدول المناحة، واعادة جدولة الديون، ومحاولة الغاء التعويضات، وتشجيع الاستثمار الأجنبي، وهذا الواقع، يقتضي من الساسة العراقيين الجدد اتباع سياسة مهادنة وتصالح مع دول العالم عامة والولايات المتحدة بشكل خاص.

د ـ العائق العسكري. لقد انهارت القوة العسكرية العراقية بعد الحرب الأخيرة، واصبحت الولايات المتحدة هي القوة الوحيدة التي تسيطر على البلد، وتريد إعادة تأهيل الجيش العراقي بما يخدم مصالحها العسكرية والصناعية والأمنية، وهذه الحالة سوف تستمر لمدة ليست بالقصيرة. وعليه، فإن العائق العسكري سيكون فاعلاً في منع تبني خيــار المواجهة واشنطن، فالدولة التي تخسر قوة الاقتصاد والجيش لن يكون لها ما يدعم تحقيق أهدافها السياسية.

هـ ـ عائق الارهاب الدولي. اذ كما هو معروف، فإن العراق بعد حربه الاخيرة أصبح ساحة مفتوحة للقوى الدولية التي ترغب في تصفية حساباتها مع البيت الأبيض، لكي تدخل الى ارضه وتحقق اهدافها تلك، الى جانب قيامها بقتل وترويع السكان المدنيين في العراق، وان تخوف الساسة العراقيين الجدد من تنامي قوة هذه القوة، سيدفع بهم الى طلب المساعدة من واشنطن.
2ـ العوائق الدولية.

أ ـ ان العالم يدخل مرحلة جديدة من تأريخه يكون فيها الحوار المتبادل، والتعاون المشترك، والمناورات السياسية هي التي تحكم العلاقات الدولية من اجل ضمان المصالح المتبادلة، فالكل يرغب في ان يفيد ويستفيد، ولا يحبذ اللجوء الى القوة المسلحة في علاقاته الدولية ـ مع استثناءات خاصة ـ وهذه البيئة الدولية من شأنها ان تدفع صانع القرار العراقي الى عدم تبني هذا المشهد.

ب ـ لقد قلنا في صفحات سابقة، ان الولايات المتحدة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 قد اعتمدت استراتيجية العمل الوقائي ضد خصومها، والتي من مظاهرها شن الولايات المتحدة عمليات عسكرية مباشرة عليهم لمنعهم من تهديد الأمن القومي الأمريكي ـ وحسب ما تقدره سياسة واشنطن ـ واعتماد هذه الاستراتيجية من شأنه ان يجعل أي صانع قرار يحسب الف حساب قبل اعتماده لسياسة مواجهة مع واشنطن غير مضمونة النتائج.

وإذا حاولنا ان نوازن بين محفزات وعوائق تحقق هذا السيناريو، نرى ان الكلفة تميل لصاحل العوائق، لذا يعد هذا المشهد أبعد ما يكون عن التحقق في المدى المنظور على الأقل.
السيناريو الثاني: سيناريو التوافق.

يرى هذا السيناريو (المشهد) ان السياسة الخارجية العراقية مع الولايات المتحدة ستقوم على التبني الكامل لوجهة نظر الأخيرة، بالشكل الذي يجعلها مجرد تابع لسياسة البيت الأبيض وما تتطلبه من ضرورة ضمان المصلحة الامريكية في السيطرة على نفط العراق، وفتح ارض لإقامة القواعد العسكرية الأمريكية، ودخول الشركات الأمريكية، والسير قدماً نحوتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني… الخ.
محفزات تبني هذا السيناريو
1ـ المحفزات الداخلية

أ ـ المحفز الاقتصادي. ان انهيار الاقتصاد العراقي بعد الحرب الاخيرة، ووضع الولايات المتحدة لخطة شبيهة بخطة مارشال لانقاذه وضمان سير الامور في العراق لصالحها في كافة المجالات، قد يدفع صانع القرار في العراق الى تبني خيار التوافق مع البيت الأبيض من اجل ضمان أكبر قدر من تحقيق المصلحة الاقتصادية للبلاد واعتماد منهج براغماتي كامل في العلاقة بين الطرفين.

ب ـ المحفز العسكري والأمني. ان حقيقة سيطرة الجيش الامريكي على العراق، وانهيار قوة الأخيرة العسكرية، قد تترك أثرها في صانع القرار العراقي، الذي يرغب في التخلص من حالة الاحتلال وإعادة بناء الجيش، وتحقيق سيادة البلاد، والاستقرار الأمني فيها من خلال تطمين واشنطن بأن العراق سوف يتبنى وجهة نظرها في العراق مع الاحداث الدولية.
2ـ المحفزات الإقليمية.

أ ـ يوجد في المنطقة عدة بلدان تقوم سياستها الخارجية على التوافق شبه الكامل مع سياسة واشنطن، وهذا الواقع، قد يغري صانع القرار في العراق الى انتهاج سياسة مماثلة.

ب ـ المحفز الفلسطيني. ان القضية الفلسطينية لم تصل الى حل نهائي عن طريق القوة العسكرية وأصبح الأمن العربي والفلسطيني مجرد أمن حدود بعد ان كان أمن وجود في زمن سابق، وهذا الأمر دفع العديد من البلدان العربية الى التطبيع مع الكيان المحتل، مما قد يشجع صانع القرار العراقي على تبني خيار التوافق مع واشنطن لأنه لا جدوى من تبني خيار آخر حسب تصوره.

3ـ المحفز الدولي. يتمثل المحفز الدولي في سعي الولايات المتحدة الى الوصول الى المستوى الذي يقدمه هذا المشهد في علاقتها مع بلدان العالم لذا هي تشجع تبنيه لانه يخدم مصالحها.

عوائق تبني هذا السيناريو.
1ـ العوائق الداخلية.

أ ـ العائق السياسي. تزخر الساحة السياسية العراقية بوجود الكثير من القوى السياسية التي تصر على تحقيق المصلحة الوطنية، ورفض التبعية لأمريكا، وتعمل من اجل إعادة العراق الى الساحة الدولية بشكل يكون فيه مستقلاً ومتمتعاً بالسيادة الكاملة، وان تبني سيناريو التوافق سوف يدفع هذه القوى الى التحرك واستغلال ثقلها الشعبي لمنع حدوث ذلك.

ب ـ العائق الاجتماعي. ان الشعب العراقي شعب ترى غالبيته ان الكثير من سياسات الولايات المتحدة الدولية غير شرعية، وتبني خيار التوافق قد يستفز مشاعره الدينية والوطنية، باعتباره شيء غير مبرر. وهذا سوف يفاقم حالة اللا إستقرار السياسي والأمني.
2ـ العوائق الاقليمية.

أ ـ لقد قلنا في السيناريو الاول. ان هناك دول اقليمية لها مصلحة مباشرة في تبني خيار المواجهة بين السياسة العراقية والسياسة الامريكية، وفشل هذه الدول في دفع الأمور داخل العراق الى مستوى المواجهة، سوف يجعلها تسلط كل ثقلها السياسي والمخابراتي من اجل اظهار السلطة العراقية الجديدة بمظهر المتهم امام شعبها بعدها حكومة عميلة لواشنطن ولكي لا يحدث هذا الأمر، فان صانع القرار العراقي سوف يتجنب تبني سيناريو التوافق.

ب ـ العائق الفلسطيني. على الرغم من ان القضية الفلسطينية لم تحل، الا ان المقاومة للاحتلال في فلسطين مستمرة وهي تحظى بدعم شعبي اسلامي كبير، يفرض نفسه على صانعي القرار في المنطقة، وهذا الامر قد يمنع صانع القرار العراقي من تبني هذا السيناريو الى حين الوصول الى حل يرضي الشعب الفلسطيني، وزوال العامل او السبب الذي يثير حساسية كبيرة في توطيد العلاقات مع البيت الأبيض.

وعند مقارنة المحفزات بالعوائق في هذا السيناريو، يتبين ان هناك نوع من التـــوازن بين الجانبين، لذا فإن تبنيه سوف يعتمد على طبيعة الرجال الذين يحكمون العراق في المرحلة القادمة، لكن تبني هذا المشهد سوف يقود في المدى المتوسط الى اخطار تستدعي الضرورة تجنبها.
السيناريو الثالث: سيناريو الحل الوسط

يعد هذا السيناريو أفضل السيناريوهات المطروحة أمام صانع القرار العراقي في المرحلة القادمة، وهو يقوم على اعتبار ان السياسة الخارجية العراقية مع الولايات المتحدة لن تتبنى خيار المواجهة ولا خيار التوافق التام مع سياسة واشنطن، وانما سوف تأخذ بسيناريو الحل الوسط الذي تراعى فيه مصالح الوطن والمواطن، كما تحترم فيه الثوابت المبدئية العربية والإسلامية، وبأخذ بعين الاعتبار والفهم للحقائق التي تطرحها البيئة الدولية والاقليمية.
محفزات تبني هذا السيناريو.
1ـ المحفزات الداخلية.

أ ـ المحفز السياسي. اذ على الرغم من وجود القوى السياسية التي ترفض التبعية لواشنطن في الساحة السياسية العراقية ـ والتي ورد ذكرها في السيناريو الثاني ـ إلا ان هذه القوى لا تريد ان تصل العلاقة مع الولايات المتحدة الى حد المواجهة، وانما تريد ضمان امن واستقرار البلد، وحماية مصالح مواطنيه، وهي سوف تشجع تبني هذا السيناريو.

ب ـ المحفز الاجتماعي. ان الشعب العراقي، سوف يشجع أية سياسة عراقية لاتستفز مشاعره الوطنية والدينية، وتحفظ كرامته وأخلاقه، وفي نفس الوقت لا ترهق كاهل المواطن ـ المرهق أصلاً ـ بالشعارات الرنانة والخطب الحماسية ذات الميل الى المواجهة، ومثل هذه الرغبة الشعبية سوف تشجع خيار الحل الوسط.

جـ ـ محفز الأمن والاستقرار. يعاني العراق بعد سقوط النظام السابق من انعدام الأمن والاستقرار فيه، وان إقامة حكومة عراقية تحظى بدعم القوى السياسية ومؤازرة الشعب وتأييده سوف يعطيها قوة فاعلة في تحقيق اهدافها في مجال الامن والاستقرار.

د ـ محفز بناء الاقتصاد والجيش العراقي. تعد حالة الاقتصاد والجيش العراقي الحالية سلاح ذو حدين، اذ قد تدفع الرغبة في إعادة بناء الاقتصاد والجيش العراقي صانع القرار الى الاستعجال في تحقيق هذا الهدف عن طريق الارتماء في احضان واشنطن بتبنيه للسيناريو الثاني، اما اذا كان صانع القرار العراقي يتحلى بالحكمة المطلوبة، فانه سوف يتجنب ذلك، ويعتمد سيناريو الحل الوسط الذي سوف تستخدم فيه كل المناورات السياسية والدبلوماسية من اجل ضمان الدعم والتأييد الأمريكي والدولي في إعادة بناء الجيش والاقتصاد العراقي، في الوقت الذي يضمن فيه تحقيق المزايا الاخرى التي يعرضها هذا السيناريو.
عوائق تبني هذا السيناريو

1ـ العائق الداخلي. سوف يوجد ـ بلاشك ـ في داخل العراق قوى سياسية تستخدم كافة السبل من اجل إقامة واقع غير مستقر بين العراق وأمريكا أولاً، وبين ابناء الشعب العراقي ثانياًً، وهي سوف تكون عائق فعلي يمنع نجاح هذا السيناريو، ومن هذه القوى تلك التي ترى انها غير مستفيدة من الأوضاع الجديدة في العراق وفشل صانع القرار العراقي بالقيام بما هو مطلوب منه سوف يزيدها قوة وشعبية، لكن نجاحه سوف يجعلها تضمحل وتختفي شيئاً فشيئاً، وستقبل قواعدها الشعبية ان تكون شريكة في بناء الوطن بدلاً من هدمه.

2ـ العائق الاقليمي. يوجد في المنطقة عدة جهات ترى ان مصالحها تكمن في إقامة عراق غير مستقر وغير آمن، لذا فهي تشجع القلاقل والاضطرابات السياسية فيه، ومن هذه الجهات: الكيان الصهيوني، دول الجوار الاقليمي، وقوى التطرف غير الواعية كالقاعدة والمنظمات الشبيهة.

3ـ العائق الدولي. قد تدفع الحقائق الاقتصادية والعسكرية في العراق الادارة في واشنطن الى محاولة فرض إرادتها على صانع القرار العراقي لإجباره على تبني السيناريو الثاني. ولكن ذلك سوف يكون في غير صالح هذه الإدارة ورغبتها في ضمان الأمن والاستقرار في العراق، اذ ان مصلحة الولايات المتحدة تتحقق من خلال انتهاجها لسياسة تحظى بالقبول الرسمي والشعبي في العراق.

ومن خلال تحليل محفزات وعوائق تحقق هذا السيناريو، يتبين ان كل المحفزات تنبع من الداخل العراقي الشعبي والرسمي، في حين ان العوائق اغلبها خارجي، يزيده نجاح الحكم في العراق هشاشة وضعفاً، وهذا الأمر يرفع من أفضلية هذا السيناريو على غيره، كما أن نجاح تحققه يتطلب صانع قرار عراقي يتحلى بنمط من التفكير يقوم على الحكمة وسعة الإدراك والتفهم للواقع، وبعد نظر للمستقبل.

وهكذا تنتهي هذه الدراسة الى التأكيد على أهمية العمل وفق القواعد التي تحكم العلاقات الدولية الحالية، لأن الخروج على هذه القواعد يقود صاحبه الى الفشل، وعدم الإنجراف وراء سياسات تبدو مغرية في بداياتها، لكنها تؤدي الى أخطر العواقب مستقبلاً، بل يجب اختيار ما يضمن مصالح اليوم والغد من السياسات التي تؤمن مساندة الشعوب لحكوماتها، وليس العكس، وليتذكر صانع القرار العراقي، انه يتحرك في ظل عالم قاس لا يقبل المغفلين، ولا يغفر للجهلة.
الهوامش:

1- باسم علي خريسان. العولمة والتحدي الثقافي. اطروحة ماجستير (غير منشورة) مقدمة الى كلية العلوم السياسية / جامعة صدام (النهرين حالياً) /1999. ص4.

2- المصدر نفسه ص7.

3- المصدر نفسه. نفس الصفحة.

4- المصدر نفسه من ص 8-9

5- ماجد مالك احمد الرازمي. اثر المتغيرات الدولية على النظام الاقليمي العربي. اطروحة ماجستير (غير منشورة) مقدمة الى كلية العلوم السياسية / جامعة بغداد، 2003 ص 88.

6- باسم علي خريسان، المصدر السابق، ص 10

7- حكمة عبد الله البزاز. العولمة والتربية. ط1. بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، 2001. ص18.

8- باسم علي خريسان. المصدر السابق ص15.

9- المصدر نفسه من ص37-38.

10- خالد عليوي جياد. الديمقراطية في الفكر القومي العربي المعاصر. اطروحة ماجستير (غير منشورة) مقدمة الى كلية العلوم السياسية / جامعة بغداد، 2000. ص 121.

11- ماجد مالك احمد الرازمي. المصدر السابق. ص 134.

12- المصدر نفسه ص 136.

13- احمد فاروق عبد العظيم. النموذج الامريكي للديمقراطية: قراءة في فلسفة الخطاب. مجلة السياسة الدولية، العدد 153. القاهرة، مؤسسة الاهرام، يوليو 2003. ص 153.

14- نقلاً عن خالد عليوي جياد.الجهاد الاسلامي في مواجهة المشروع الحضاري الامريكي ـ الصهيوني.مجلة جامعة كربلاء، العدد 2.آذار

15- خالد عليوي جياد. الديمقراطية في الفكر القومي العربي المعاصر. المصدر السابق. ص 113.

16- احمد فاروق عبد العظيم. المصدر السابق.ص 150.

17- المصدر نفسه. ص 158.

18- احمد ابراهيم محمود. حرب العراق وتحولات الفكر الاستراتيجي الامريكي. مجلة السياسة الدولية، العدد 153. القاهرة، مؤسسة الاهرام، يوليو 2003.ص 113.

19- الكسندر بريماكوف. نفط الشرق الاوسط والاحتكارات الدولية،ط.بيروت، دار الف باء للطباعة والنشر والتوزيع، 1984.ص 19

20 – المصدر نفسه. ص من 146 – 147.

21- ساجدة سعيد كريم البرزنجي.الدعاية في السياسة الخارجية الامريكية تجاه منطقة الخليج العربي. اطروحة ماجستير (غير منشورة) مقدمة الى كلية العلوم السياسية /جامعة بغداد. 1993. من ص 85 – 86.

22- المصدر نفسه ص من 87 – 88.

23- نقلاً عن: خالد عليوي جياد. الديمقراطية في الفكر القومي العربي المعاصر.المصدر السابق. ص 119.

24- الكسندر بريماكوف. المصدر السابق. ص 24.

25- خليل العناني. دور النفط في الأزمة العراقية ـ الامريكية. مجلة السياسة الدولية، العدد 151.القاهــرة، مؤسسة الاهرام، اكتوبر /2002. ص 32.

26- المصدر نفسه. ص 35.

27- المصدر نفسه ص 37.

28- سرمد امين. الطاقة وحروب امريكا المقبلة في العالم. ج2. سلسلة اوراق استراتيجية، العدد 3449. بغداد،مركز الدراسات الدولية، 2002 ص ص 1 – 2.

29- خليل العناني. المصدر السابق. ص 37.

30- المصدر نفسه. ص 39.

31- سوسن اسماعيل العساف. امريكا تقيس وزنها في السياسة الدولية بثقل براميل النفط.مجلة الشروق العدد، 572 الامارات العربية المتحدة، دار الخليج للطباعة، 2003، ص 39.

32- خليل العناني. المصدر السابق ص 39.

33- احمد سليم البرحان. اللوبي الصهيوني والاستراتيجية الامريكية في الشرق الأوسط. مجلة السياسة الدولية، العدد 153.القاهرة، مؤسسة الاهرام، اكتوبر / 2002. ص 65.

34- سرمد امين. المصدر السابق. ص ص 1-4.

35- ستيفن غرين. الانحياز: علاقات امريكا السرية بإسرائيل.ط1. بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1985. ص 9.

36- ساجدة سعيد كريم البرزنجي. المصدر السابق. ص ص 91-92.

37- المصدر نفسه. ص 92.

38- المصدر نفسه. ص 93.

39- ستيفن غرين. المصدر السابق. ص 6.

40- جريدة النور العراقية. عددها الصادر في 7/7/2002. ص 4.

المصدر/ مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة