عرض/ مفيد الزيدي
لم تكن ثورة 14تموز-يوليو1958 حدثا طارئا في تاريخ العراق المعاصر بل كانت مرحلة جديدة في إنهاء الحكم الملكي في (1921-1958) والنفوذ البريطاني في البلاد .فقد تركت الثورة آثارا عميقة في واقع العراق السياسي والاقتصادي والعسكري في العراق.
وجاء هذا الكتاب لمؤلفه عبد الفتاح علي البوتاني المتخصص بتاريخ مدينة الموصل وتاريخ العراق المعاصر عموما،وهو بالأصل أطروحة دكتوراه تمت مناقشتها في كلية الآداب بجامعة الموصل في عام 1995 ،وقد تشرفت بحضور وقائع هذه المناقشة التي كانت علمية وممتعة نظرا لما حملته الأطروحة من أفكار وتحليلات مهمة وجديدة.وقد أكد المؤلف في هذه الأطروحة التي تحولت الآن إلى كتاب،على أهمية دراسة التطورات السياسية الداخلية للعراق بصورة علمية وموثقة في فترة تعد مهمة في تكوين العراق المعاصر خلال حكم رئيس الوزراء العراق السابق عبد الكريم قاسم (1958-1963 )بكل ماحفلت من أحداث وصراعات وانجازات داخلية أو خارجية.
يتألف الكتاب من تمهيد وخمسة فصول وعدة ملاحق فضلاعن اعتماد المؤلف على عدد كبير من المخطوطات والوثائق الخاصة بالبلاط الملكي العراقي ووزارة الداخلية آنذاك،ووثائق محافظة نينوى ومذكرات كبار السياسيين والعسكريين أمثال عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وعبد الجبار الجومرد وبهاء نوري الدين وجاسم كاظم العزاوي وخليل إبراهيم حسين وعبد الغني الملاح ومحمد حديد وخالد علي الصالح.وقد أضاف المؤلف تنقيحات وإضافات على أصل الأطروحة من اجل تطويرها بالمعلومات والاستنتاجات الجديدة، والمراجع الحديثة خاصة بعد
عام2003والتي نشرت بعد فترة المناقشة ومنها مذكرات بعض السياسيين أمثال هاني الفكيكي وطالب حسين شبيب وفيصل الخيزران وغيرهم.
في التمهيد تناول المؤلف الأوضاع من ثورة مايس-مايو1941 ومعاهدة بورتسموث1948 والعلاقات العراقية -البريطانية مرورا بقيام حلف بغداد 1955 ثم تشكيل جبهة الاتحاد الوطني 1957 وإعلان وحدة مصر وسوريا 1958 وأثرها على العراق،ثم قيام حركة الضباط الأحرار واثر الثورة المصرية عليها وتطور الأحداث حتى العاشر من تموز-يوليو1958 حيث بروز تحرك الجيش العراقي من خلال عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف للقيام بالمهمة وصياغة خطة الثورة ويقول المؤلف بأنه قد فوجيء الغرب من بريطانيا والولايات المتحدة بقيام الثورة مع الثقة التي كانت بين نوري السعيد والثوار خاصة عبد الكريم قاسم ويقول المؤلف بأنه عندما استفسر السفير الأمريكي في العراق والدمارغلمن من نوري السعيد عن ولاء الجيش له أجابه بأنه يمكن الاعتماد على الجيش في دعم العرش والحكومة.
في الفصل الأول،تحدث المؤلف عن الأسس السياسية والدستورية لنظام الحكم الجمهوري في العراق،تناول البيان والمراسيم الأولى لثورة 14تموز-يوليو1958 ثم أجهزة الحكم مجلس السيادة وتشكيل مجلس قيادة الثورة والدستور المؤقت ومجلس الوزراء والحاكم العسكري العام والمجالس العرفية والمحكمة العسكرية الخاصة.ثم بروز ظاهرة الزعيم الأوحد التي عرف بها عبد الكريم قاسم،حيث يشير المؤلف إلى انفراده في الحكم لكنه كان يصدر قراراته عن طريق اجتماعات مجلس الوزراء التي يحضرها أعضاء مجلس السيادة لكنه سعى إلى تمرير قوانين أحيانا كانت جاهزة من قبله مررها عبر مجلس الوزراء.
في الفصل الثاني،تناول المؤلف اتساع النفوذ الشيوعي ونشاط واجهاته في العراق وتابع مواقف الشيوعيين من قيام ثورة 14تموز-يوليو1958 ثم الشيوعيين والخلافات بين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف،وتقويض جبهة الاتحاد الوطني وازدياد النفوذ الشيوعي ونشاطاته وواجهاته وتنظيماته المساندة مثل المقاومة الشعبية ولجنة صياغة الجمهورية وحركة أنصار السلام ورابطة الدفاع عن حقوق المرأة والاتحاد الوطني لطلبة العراق واتحاد الشبيبة الديمقراطي والمنظمات المهنية والنقابية والاتحاد العام لنقابات العمال والاتحاد العام للجمعيات
-2-
الفلاحية ثم نقابات المعلمين والصحفيين. ثم تناول المؤلف تسلم السلطة من قبل الحزب الشيوعي وكيف أن قواعد الحزب الشيوعي ظلت تشير وبمرارة إلى موقف الحزب من مسالة تسلم السلطة وكيف لحقت بالشيوعيين فرصة حقيقية لتولي السلطة مع عبد الكريم قاسم،لكن أضاعوها ولحقت بهم خسائر بعد ذلك في نهاية الستينات من القرن العشرين من سجن واعتقال ومطاردة بعد وصول حزب البعث إلى الحكم في العراق
أما الفصل الثالث، فتحدث المؤلف عن ردود أفعال القوى القومية واليمينية المحافظة على ازدياد النفوذ الشيوعي واتساعه ومواقف القوى السياسية من تزايد النفوذ الشيوعي وموقف حزب البعث وحزب الاستقلال والحزب الوطني الديمقراطي والحزب الوطني الديمقراطي الموحد لكوردستان وموقف جماعة الأخوان المسلمين وحزب التحرير وحزب الدعوة الإسلامية وحركة القوميين العرب والرابطة القومية ثم ردود الأفعال على ازدياد النفوذ الشيوعي في البلاد،ومحاولة رشيد عالي الكيلاني بعد عام 1958 مع التيار القومي ضد الشيوعيين لكن أحبطت وقدموا إلى المحكمة العسكرية العليا. ثم أزمة عام 1959 مع الضباط الوزراء القوميين مثل عبد الجبار الجومرد وناجي طالب وبابا علي الشيخ ومحمد صالح محمود ومحمد حديد ومحمد صديق شنشل وفؤاد الركابي ثم قيام ثورة عبد الوهاب الشواف في الموصل في آذار-مارس1959 وفشلها وما قام به الشيوعيين من أحداث ومذابح في الموصل وكركوك وإعدام قادة الثورة والمواجهة بين التيار القومي-الإسلامي من جهة والتيار الشيوعي من جهة أخرى.
ثم تطرق المؤلف إلى محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم بتدبير من القوى القومية في مساء الأربعاء 7تشرين الأول-اكتوبر1959 في الساعة السادسة عصرا عند منطقة رأس القرية في بغداد وأصابوا قاسم وقتل سائقه وأصيب مرافقه وتم إلقاء القبض على بعض المشاركين وحكموا بالإعدام ومنهم أياد سعيد ثابت وخالد علي الصالح واحمد العزور وسليم عيسى الزئبق وحميد مرعي مع احد عشرة آخرين صدرت بحقهم أحكام غيابية،ويتوصل المؤلف إلى أن الحزب الشيوعي كان من المفترض انه يستلم السلطة في العراق نتيجة علاقاته مع قاسم ومواقفه ضد
-3-
القوى القومية والإسلامية وتحول هدف الشيوعيين إلى حماية نظام عبد الكريم قاسم والدفاع عنه.
في الفصل الرابع، تناول المؤلف صدور قانون الجمعيات في العراق وأثره على العملية السياسية بعد الضغوط التي تعرض لها عبد الكريم قاسم من الرأي العام والقوى السياسية فاصدر في 2 كانون الثاني-يناير1960 قانون الجمعيات لتنظيم الحياة السياسية بين 1960-1963.ولكنه رغم صدور القانون إلا إن الأحزاب السياسية القومية فضلت الاستمرار في العمل السري في إجراء تغييرات في رأس السلطة والاستيلاء على الحكم عن طريق الانقلاب،أما الأحزاب العلنية البرلمانية فإنها واصلت الدعوة إلى إنهاء المرحلة الانتقالية وبعث الحياة الحزبية الحقيقية وإقامة نظام برلماني وفق النموذج الغربي.وواجه القانون الجديد تعثر في الحياة الحزبية وفشلها مع سلسلة انقسامات في عدد من الأحزاب حيث ظهرت أحزاب علنية تم الترخيص لها مثل الحزب الوطني الديمقراطي والحزب الديمقراطي الموحد لكوردستان العراق والحزب الشيوعي الذي انقسم إلى حزبين بقيادة خيري سعيد وداؤد الصايغ والحزب الإسلامي العراق بقيادة إبراهيم عبد الله شهاب وهو واجهة لجماعة الأخوان المسلمين وحزب التحرير والحزب الجمهوري برئاسة عبد الفتاح إبراهيم. ألا أن القوى القومية لم تقدم طلب أجازة أحزابها لرؤيتها بان حكم عبد الكريم قاسم عسكري ديكتاتوري لايؤمن بالحياة الديمقراطية.
ويرى المؤلف بان قانون الجمعيات هو صفحة مؤلمة من تاريخ العراق المعاصر لان الحياة الحزبية كانت شبه مسرحية على حد قوله درامية تقترب من المهزلة وكان من المفترض أن تقوم السلطة بتنظيم الحياة السياسية وانتقال الحكم الدستوري وانبثاق البرلمان وتحولت مطالب القوى السياسية في الحريات العامة وأجازة العمل العلني والتعبير عن وجهات النظر السياسية وإقامة مجلس وطني وأجراء انتخابات، إلى طريق مسدود لان عبد الكريم قاسم كما يرى المؤلف اعتقد بان حكمه سوف يزول مع أجراء التحول الدستوري لذلك حصل فراغ في النشاط الحزبي العلني وأصبح الجو مملوءا بنشاطات الأحزاب السرية وأصبح الوضع يشبه ماحل قبيل قيام ثورة 14تموز-يوليو1958.
-4-
في الفصل الخامس، سقوط عبد الكريم قاسم ومحاولات القوى الوطنية والقومية
في إسقاط حكمه وهي حزب البعث وحزب الاستقلال والحزب العربي الاشتراكي
جماعة عبد الرزاق الشبيب وحركة القوميين العرب والرابطة القومية مع تدهور
الأوضاع وتفاقم الأزمات الداخلية وتخطيط حزب البعث للقيام بالثورة أو الانقلاب العسكري والتي أدت بالفعل إلى حركة أو ثورة 8شبط-فبراير1963 وسقطت الإذاعة وتم تشكيل المجلس الوطني لقيادة الثورة ،وصدر البيان الأول في الساعة
التاسعة وخمس وأربعين دقيقة صباحا وأذاعه حازم جواد-بعثي- وتم إلغاء مجلس السيادة وتعيين عبد السلام عارف رئيسا للجمهورية ومحاصرة عبد الكريم قاسم في وزارة الدفاع ثم استسلامه ظهر يوم 9 شباط-فبراير وإعدامه مع فاضل عباس المهداوي والعميد الركن طه الشيخ احمد والملازم خليل حداد رميا بالرصاص،وتكليف احمد حسن البكر رئيسا للوزراء و12 وزيرا بعثيا من أصل 20 وزيرا قوميين ومستقلين.ويشير المؤلف إلى أن السفارة البريطانية في بغداد في 22 شباط-فبراير 1963 كتبت إلى حكومتها تبين توجهات قادة الثورة الجدد بان لديهم اتجاه ملحوظ نحو الغرب بشكل قوي وأنهم ضد الشيوعية بشدة أيضا .
وهكذا فان الكتاب محاولة علمية موثقة رغم بعض الرؤى والانطباعات الخاصة للمؤلف التي ليس من الضرورة الاتفاق معها ألا انه يبقى كتابا موثقا يصل فيه المؤلف في الختام إلى أن عبد الكريم قاسم في سياسته الداخلية أدى إلى أحداث انقسام سياسي وعدم إصدار دستور للبلاد أو نظام انتخابي وتحول تدريجيا إلى حكم فردي عسكري أساسه وهدفه الاحتفاظ بالحكم ويصف السياسي الليبرالي العراقي كامل الجادرجي عبد الكريم قاسم وموقفه من الجماعات السياسية بقوله:”كان قاسم يتأرجح بين العقائد المختلفة بالاحتفاظ بالسلطة مع انه لاينزع نحو أية عقيدة منها ،مثله في ذلك مثل البهلوان الذي يمشي على الحبل لاينفك يتأرجح على حبله حتى لايهوي” نقلا عن مجيد خدوري،العراق الجمهوري ،ص247.
-5-
وظل قاسم يعتمد على نفسه لم يثق بأي شخص ولم يبق له إلا قلة يرغبون بالعمل معه وهو حاد الطبع مضطرب الشخصية يقول انه القائد الأوحد نصب العداء إلى مصر الناصرية والجمهورية العربية المتحدة لاسيما بعد مطالبته بضم الكويت وكانت علاقات الخارجية مضطربة، وانسحب من حلف بغداد وأقام علاقات تسليح للجيش العراقي مع السوفيت ولم يدعم علاقاته مع تركيا وإيران فانعزل العراق خارجيا.
إلا إن المؤلف يستطرد من جهة أخرى إلى إن عهد عبد الكريم قاسم حقق انجازات داخلية لايمكن إغفالها فهو نظام وطني رغم كل شيء كان له أنصاره من أبناء الشعب والطبقات الفقيرة والتي بنى لهم مدن جديدة مثل مدينة الثورة ومدينة الشعلة في بغداد وعامة الناس الآخرين أيضا في عموم العراق،قاد عملية التحول من الملكية إلى الجمهورية وهو رمز وطني أحبه شعبه لكنه سياسيا اصطدم مع القوى الأخرى.
فالكتاب أخيرا دراسة تستحق الإشادة وتحظى بالمتابعة لفترة مهمة تحتاج بحق
إلى عمل أكاديمي ليضع الأمور في نصابها، وأضافه جديدة إلى الدراسات العراقية نعتقد مهم في قراءة أو كتابة تاريخ العراق المعاصر،في أحداث ولدت تراكمات بعد ذلك في العهد الجمهوري الثاني(1963-1968) ثم حكم حزب البعث (1968-2003) لازالت أثارها تتبلور وتتفاعل في المشهد السياسي العراقي حتى الوقت الحاضر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معلومات عن الكتاب
*نشر الكتاب في:(دمشق:دار الزمان للطباعة والنشر والتوزيع،2008)544ص.
المصدر/ مركز النور للدرسات