• تأليف: نخبة من الباحثين.
• دار النشر: مركز دراسات الوحدة العربية.
• عدد الصفحات: 415 صفحة.
شأن كلِّ الحروب؛ فإنَّ الخاسر الأكبر طرَفان يتقاسَمان حدود لحظةِ الصِّدام ونتائجَها، وربَّما يصعب حساب معدَّلات الخسائر المتوالية حين تستمرُّ الحرب حتى يغدو عمَلُ البدء بالحرب – لذاته – عملاً يتَّسم بالعدميَّة وانعدام الرُّؤيا، وهكذا تتحوَّل حتميَّة الحرب إلى عملٍ كارثي، لا تقف تداعياتُه عند حدود الخسائر البشريَّة والمادِّية، بل يتعدَّى ذلك إلى خسائر قِيميَّة تقود في النهاية إلى استحقاقات وأثمان تاريخيَّة لا حدود لمادِّياتِها.
أمَّة ممزَّقة، ودولة مفكَّكة:
إن النتائج الميدانيَّة لقرار الحرب الأمريكيَّة على العراق، وبكلِّ ما يحمله من دوافِعَ وحساباتٍ صِهيونيَّة، وأطماع توسُّعية لتدمير ذلك البلد العربي، قد تجاوزَتِ الحسابات المتوقَّعة لدى القائمين عليها، وأضحَتْ ساحةُ العراق ميدانًا لِمُنازلة أطرافٍ دوليَّة وإقليمية، تتصارَع مِن أَجْل تأكيد وجودها وفَرْض سيطرتها، دون حسابٍ للأثمان الواجبة الدَّفع، أو للآثار المستقبليَّة على ذلك البلد، الذي أضحى اليومَ ليس على حافة الهاوية بل في قرارها، وأصبح العراقُ دولة فاشلة وكيانًا ممزَّقًا، وفسادًا يعطِّل الحياة، وينشر في ثناياها البُؤس والتردِّي، وتلاشي الأمل.
وثَمة رأي يقول: إن كلَّ ما شهده العراق خلال السنوات الماضية – منذ عام 2003 – كان محدَّدًا بمخطَّطاتِ محكمة الأبعاد للوصول بذلك البلد إلى ما يعيشه اليومَ من تدمير وانهيار وتفكُّك، وإن كلَّ شيء تَمَّ تنفيذه ميدانيًّا على وجه الدِّقة، ولكل ما هو متوقَّع من خسارة ورِبح.
ورأي آخَر يَجزم بتوالي الأخطاء، وعمَى البصيرة، والعجز عن فَهْم الواقع الذي حكم القرار الأمريكيَّ في إدارة شؤون العراق، وتقرير صيغة الحُكم فيه حتَّى أضحَت الفوضى – الَّتِي قد يعدُّها البعض جزءًا من متطلَّبات صياغةِ واقعٍ آخر – دوَّامة من التخبُّط والارتباك، وفقدان السيطرة على مُجريَات الأمور.
إنَّ الوضع المأساوي الذي يعيشه العراق لا يتحمَّل تَبِعاتِه البلدُ العربي وحده، بل دُوَل الجوار العربي، والإمبراطورية الأمريكيَّة ذاتها التي فقدَتْ بَريقَها، وأصابَها الوهن والضَّعف والتَّراجُع، لجملة الخسائر البشريَّة التي لحقت بها منذ قدومِها إلى العراق، وأيضًا مليارات الدُّولارات الَّتي تحمَّلتْها الخزانة الأمريكيَّة لتمويل الحرب.
إن الدُّروس المستنبَطة من الحالة العراقيَّة هي حُزمة الحقائق التي لا يُمكن إغفالُها، وفي المقدِّمة من ذلك أنَّ المشروع الاستعماريَّ – أيَّ مشروع، وفي كلِّ زمان ومكان – مَحكومٌ بنهاية واحدة، فلم يشهد التاريخ أنْ حقَّق الاستعمارُ – مهما كانت صِيَغُه وأشكاله – نجاحًا دائمًا، بل إنَّ نهايتَه – وإن تباينَتْ أشكالُها وتفاوتت مواقيتها – محكومٌ عليها بالزَّوال، ولا يبقى إلاَّ حقيقة واحدةٌ ثابتة، هي قدرة الشُّعوب على تجديد تاريخِها بفواصل زمنيَّة محكومةٍ بالتَّضحيات الكبيرة، وموسومةٍ بالانتصار والظَّفر الحاسم.
إنَّ وضْعَ قضيَّة العراق لا تكتسب أهمِّيتها من كونها بلدًا عربيًّا تعرَّض للاحتلال والتدمير فحَسْب؛ بل لأنَّها ترتبط بالنِّضال القومي التحرُّري ضد الهيمنة والعدوان، كما هو الحال في قضيَّة فِلَسطين، وكل قضايا النِّضال القومي التحرُّري من المحيط إلى الخليج، لا سيَّما أنَّها أيضًا تُبَرهِن على قُدرة الأمَّة العربية على المقاومة والمُجابَهة، وتؤكِّد حتميَّة انتصار شعب العراق إزاءَ كلِّ محاولات الاحتواء والمصادرة والهيمنة.
جرائم الإبادة الجماعيَّة:
اقترفت الولايات المتَّحدة في العراق ودعمَتْ جريمة الإبادة الجماعية، ويعدُّ الاحتلال الأمريكيُّ – غير المشروع للعراق في العام 2003 – تكثيفًا وتتويجًا للسِّياسة الأمريكيَّة الثابتة في العراق التي امتدَّت طوال 17 عامًا من تدميرٍ لكيان العراق؛ شعبًا ودولةً.
وتشكِّل الكارثة الإنسانيَّة عنصرًا مهمًّا في هذه السياسة التي تسعى مع سَبْق الإصرار وراءَ الإبادة الجماعيَّة للشعب العراقي، وتكمن الكذبة الكبرى في وصف الاحتلال الأمريكيِّ للعراق بكونه مجرَّدَ خطأ.
ففي الواقع لم يَحد الاحتلال عن أهدافه في تلك الحرب الرَّامية إلى تدمير العراق كشعبٍ ودولة، وإذا كان الشعب العراقيُّ قد قاوم ذلك التدمير بكلِّ ما أوتي من وسائل متاحة؛ فإنَّ هذا يتماشى مع حقِّه الشرعي في المقاومة الذي يتضمَّن لُجوءه إلى المقاومة المسلَّحة.
إن إعلان الولايات المتِّحدة حربَها العالميَّة المستمرة قد فتح الباب لعصرٍ يتَّجِه نحو الهيمنة الشَّاملة أو التدمير الكُلِّي، وعلى الرغم من أن العراقيِّين هم من يتحمَّل عبء ذلك، إلا أنَّه في واقع الأمر هجومٌ على البشريَّة بِأَسْرها.
وباتِّباعها سياسةَ الإبادة الجماعيَّة، فقد حكمت الولايات المتَّحِدة على نفسها بالانتحار الأخلاقيِّ، وقد أصبح جلِيًّا أنَّ صمت الدُّول يترك المهمَّة لشعوب العالَم، فدفاعًا عن القانون الدوليِّ؛ يتوجب على القانونيِّين والمنظَّمات القانونية أن تعمل من أجل إدانة الولايات المتَّحدة وقادتها وحلفائها بجريمة الإبادة الجماعيَّة، ودفاعًا عن الحضارة الإنسانيَّة؛ يجب على شعوب العالَم أن تنهض دعمًا لنضال التحرُّر الوطني للشعب العراقي.
كان الغزو الأمريكيُّ للعراق – وما زال – كارثةً إنسانيَّة، البعض يُحاول تفسير تلك المأساة على اعتبار أنَّها مجرد نتيجةٍ ثانَويَّة، وهم يبرِّرون موقفهم بغياب القصد، لكن بِمُراجعة مبادئ القانون الدوليِّ ذات الصِّلة والسياسة الأمريكيَّة تجاه العراق، يتَّضح أن المأساة الحاصلة في العراق، هي عنصر أساسي في سياسة واشنطن، والقصد الذي يرى البعضُ غيابه هو في واقع الأمر واضحٌ وجلي.
ومِن وجهة نظر القانون الدولي، تُعتبَر منع جريمة الإبادة الجماعيَّة، والوقاية منها قاعدة حاسمة، ولا يُسمح هنا بالاستثناء على الدُّول منفرِدة أو مُجتمِعة، أن تَمنع حدوث جرائم الإبادة الجماعيَّة، وأن تُلاحق منفِّذيها والمتآمرين عليها والمتواطئين معها والمُحرِّضين عليها، وحين تكون الجريمة مستمرَّة، فإنَّ واجب السُّلطات في تنفيذ القانون لإيقاف تلك الجريمة يصبح أمرًا ملحًّا جدًّا، حيث إنَّ تنفيذ القانون يعني حماية الضَّحايا المحتمَلين وإيقاف المتَّهمين بارتكاب الجريمة.
إنَّ عَجْز المُجتمع الدَّولي عن منع غَزْو العراق والاحتلال الأمريكيِّ التَّالي له، وكذلك دعمه عمليَّة الإبادة الجماعيَّة في العراق بقيادة الولايات المتَّحدة التي بدأت في عام 1990، يمثِّلان خيانةً مروِّعة للشعب العراقيِّ، وإضرارًا بالدُّول العربيَّة جميعًا.
إن ذلك يرجع إلى عددٍ من الأسباب، أبرزُها:
1- انعِدام المُساواة في هيكل موازين القُوى في مجال السِّياسة العالميَّة، والمتمثِّل في كون مَجلس الأمن التابع للأمم المتَّحدة يَضمن سيطرة القلَّة وخضوعَ الأغلبيَّة، وأيضًا انعدام المساواة في مَجال الاقتصاد العالميِّ، والذي يُميِّز الرَّأسمالية على المستوى العالمي، ويؤدِّي إلى ترويع الدُّول التابعة، ويَحُول دون تعبيرها عن الاعتراض على الجرائم الإمبرياليَّة.
2- الانصياع العامُّ في حقوق الإنسان لمفاهيم “السَّلام والأمن” (أيْ: فرض الاستسلام وحضانة الخروقات)، والمتمثِّل في الحفاظ على منظومة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة حبيسة انعدام الصلاحيات والتَّواطُؤ والتبرير.
3- نجاح الإيديولوجيَّة الصِّهيونية في أن تجعل مفهوم الإبادة الجماعيَّة مُرادفًا للهولوكوست، ومن ثَمَّ أصبحت هي وحدها صاحبةَ الحقِّ في استخدام المصطلحَيْن، وأصبح الهولوكوست هو النَّمُوذج الذي يجب أن تُقارَن به كلُّ جريمةِ إبادة جماعيَّة كبرى.
ويختتم الكتاب بالقول:
إن ستار الصَّمت الذي يحيط بهذه الجريمة الدَّولية المريعة يُسْهِم في موت مئات العراقيِّين كلَّ يوم، وإذا لَم يكن هناك من سبيل لِمَنع تلك الجرائم، فإنَّ منظمة الأمم المتحدة ومبادئها العليا تصبح بلا فائدةٍ ولا دور، ففي الوقت الحالي، لا يوجد ما يَمنع جرائمَ بِهذه البشاعة – أو أبشع منها – من الحدوث في المستقبل!
المصدر/ شبكة الالوكة