كتب: عبد الرحيم التدلاوي
رواية “عائشة القديسة” لمصطفى لغتيري تتكون، في طبعتها الثالثة، من ستة فصول تمتد على مساحة نصية تقدر ب107 صفحة من القطع المتوسط.
الطرح:
ينهض سؤال مهم: هل يمكن أن يعيش العقلاني مستقلا وحرا وبعيدا عن الخرافة في مجتمع مختل يعج بكل أشكال الشعوذة واللاعقلانية؟ هل يستطيع أن يحافظ على توازنه دون أعطاب؟
تلك بعض الأسئلة التي تولدها الرواية بعد أن تفرغ من قراءتها.
تسير الرواية وفق الخطاطة التالية بغاية البرهنة:
المقدمة أو الطرح، تعقبها التجربة فالنتيجة.
ففي الطرح نجد موضوع “عيشة قنديشة” كما ترسخت في المخيال الجمعي للمغاربة بين مصدق لها وناف لوجودها كما رسمته مخيلة الناس، بين من يعتقد بوجودها ومن يسعى إلى قراءة حضورها قراءة عقلانية.
ظلت تلك الأسطورة تتردد عبر العصور في المجتمع المغربي، ليحاول من خلالها لغتيري إبراز عدة متناقضات وصراعات تهم جوانب عدة من المجتمع المغربي.
ويخوض الناكر لوجودها تجربة هي بمثابة محنة يخرج منها بأعطاب جسدية ونفسية وعقلية، تؤكد انفصام الشخصية المغربية التي تجمع في جوفها المتناقضات بشكل مريح.
الفصول:
يعتمد الفصل الأول على التقنية المسرحية من تحديد للزمان المكان والوصف والإطار الذي تجري فيه الأحداث، والشخصيات التي تنهض بالقول والفعل، والحوار الذي يعد أهم خصيصة لكل الأجناس الأدبية وبخاصة الروائية.
لقد تعمد المبدع لغتيري اختيار قرية نائية لتكون الإطار الذي يحتوي معنى النص ورهانه، كما تعمد اختيار مجموعة من الشخصيات المنتمية للبرجوازية الصغيرة لطرح هذا الرهان وقد أسس له منذ البداية ألا وهو مناقشة موضوعة “عيشة القديسة” ومن خلالها طرح العديد من القضايا الاجتماعية الثقافية والسياسية.
فكان أن وجدنا الممرض والجمركي والمعلم وموظف البلدية، شخصيات ذات مشارب مختلفة، واهتمامات متنوعة. ولم يكن اختيار المعلم عن عبث بل لجعله مثقف المجموعة والقادر على طرح تصوراته العقلانية في مجموعة من القضايا ومنها قضية العنوان: “عيشة القديسة”.
تباينت آراء المجموعة بين مصدق لها وناكر لها؛ إنكار لا يمس جودها الفعلي، بل ما تضمنته من تصورات خرافية صاحبتها بعد أن تعدد الحكايات حولها حتى صارت شبيهة ليليت التي تفتك بالأطفال، وعيشة تفتك بالرجال.
يقضون سحابة روتينهم اليومي في سرد حكاياتهم، التي يعيشونها في عملهم من مثل ما وقع للمرض الذي تعرض لموقف محرج حين قدمت إليه سيدة تطلب مساعدته بأن يكتب لها تميمة حتى تنجب كما ظنته فعل لصديقتها، ولما رفض أمطرته بسبابها الفاضح.
لقد كان الحوار حيلة لطرق موضوع العنوان من جهة ولتسليط الضوء على ممارسات موظفي الحكومة.
وما كان اجتماع الأصدقاء بتلك المقهى وبشكل يومي إلا رغبة في تجاوز رتابة الحياة، وروتينها الممل بغاية اكتساب توازن ما، يقول السارد:
“كانوا ينغمسون في أحاديث لا تنتهي، الحرص على الحفاظ على توازن ما، كان يحبب إليهم ممارستهم هذه” ص9.
من فضاء المقهى الذي شهد ما دار من حوار بين الأصدقاء وتفرقهم لينصرف كل إلى مأواه، ينتقل الفصل الثاني إلى فضاء أضيق وأكثر حميمية ألا وهو فضاء منزل المعلم سعد.
وما يلاحظ على بداية هذا الفصل كما في الفصل الأول حين يتعلق الأمر بالوصف، أنه لا يرتبط بالمشاهد الجامدة، بل يتعداها إلى المتحركة فيما ما يمكن تسميته بالوصف المسرود، أو تسريد الوصف، حيث نتابع حركات وسكنات المعلم وهو يتوجه إلى باب منزله فاتحا. ويبدو أن البيت لم يكن محببا بدليل رد كلمتين أثناء فتحه للباب، وهما: البرودة والصمت الكريه. فصلا عن زوجته عائشة التي تمددت صحبة ابنها لتنام بعد مغص ألم بها تاركة زوجها يتوجه إلى المطبخ لتناول طعامه.
وسنلمس هذا التوتر في علاقة سعد بزوجته حين يهم بالذهاب للصيد مفضلا إياه على البقاء إلى جانبها وهي التي تشعر بمغص يمكن أن يتفاقم.
يقود السارد العليم بتسريع الأحداث الجزئية كما في الصفة 35. حيث تتم المزاوجة بين المشاعر الداخلية والأفعال الخارجية.
كما أن السارد يعمل على رصد أجواء التوتر النفسي التي يشعر بها سعد وهو مقبل على البحر لإرواء عطش هوايته مع فتح الباب على الاستباق بحلم ما يمكن أن يقوم به في تعامله مع صيده وهو ما زال في طريقه إلى الشاطئ، مصحوبا ببعض تأنيب الضمير على ترك أسرته وحيدة، مع ما انبثق في نفسه من هواجس حول “عيشة قنديشة” ما ولدته فيه من مخاوف سعى إلى قهرها وتبديدها بالسخرية منها. غير أن الكلاب نجحت في برنامجها السردي، حيث عملت على خلق اضطراب في نفسه قاده إلى الاصطدام بحاجز حجري، نجم عنه سقوطه وفقدانه لوعيه.
في الفصل الثالث تنتقل دفة السرد من يد السارد العليم إلى السارد المشارك، أي السارد الشاهد، فيتحول الضمير من الغائب إلى المتكلم، ويسعى إلى إقناعنا بصدقية ما شاهده المعلم بعد حادثته، التي أفقدته الوعي وما وقع له في هذا العالم العجيب؛ إن الهدف هو جر المتلقي ليعيش بدوره تجربة عوالم الفانتاستيك، حيث كل شيء غير واقعي، باستثناء أربعة عناصر جلبها معه، وتتمثل في طفله وزوجته التي تحمل، ويا للمصادفة، اسم الشخصية الأسطورية والكائن المرعب، وصديقه الممرض الذي سعى إلى إقناع سعد بوجود عالم الجن، ثم الحادثة التي تسببت في إعاقة القديسة، والتي تطلب تعويضا يتمثل في زواجها من سعد الذي كان سببا، وتتأسس بعد رصد تلك العوالم الغريبة التي أحاطت بالمعلم وعائشة قنديشة، محكمة أشد غرابة تؤكد فحوى الدعوى، والتعويض.
صحيح أن سعد يمثل الجانب العقلاني في التعامل مع الظواهر وبالغريبة بالأخص، فيما يمثل الممرض الجانب غير العقلاني، المؤمن بوجود تلك الكائنات اللامرئية، معتمدا في ذلك على إيمانه.
وينتهي الفصل بوصف قبح هذا الكائن المرعب على خلاف الوصف المقدم له سالفا.
هناك تعالق بين الفصلين الثالث والرابع من حيث الطول ومن حيث الشخصية الجامعة وهي المعلم. بيد أنه في الثالث كان فاعلا في حين في الرابع كان مفعولا به، إذ بقي فاقدا للوعي قريبا من الموت، الأمر الذي ختم نقله إلي مستشفى التعاضدية بالبيضاء بواسطة سيارة إسعاف عمومية وبمقابل. في هذا الفصل تظهر شخصيات جديدة إضافة إلي بعض الشخصيات السابقة، يتم تعريفها أكثر، مثل الثري صاحب الضيعة التي يسكن في بيت من بيوتها المعلم؛ وصاحب مقهى القرية. يدخل المعطي المشهد وهو القادم من مكان آخر نتيجة الجفاف ليشتغل عند العياشي مقابل قوت يومه. دوره العثور علي سعد فاقد الوعي. ومما يلفت الانتباه أن الكلاب التي تسببت في حادثته هي السبب في العثور عليه. وطبعا ستظهر شخصيتا الدركيين ورجال الإسعاف لأن الحدث يستدعيها إضافة إلى طبيب وممرضة المستشفي.
وكان الفصل لتداول بعض القضايا الاجتماعية والسياسية التي تعرف فسادا.
وإذا كان الفصل الثالث قد وظف الاستباق كتمن. فإن الفصل الرابع قد وظف الاسترجاع. في الاستباق كان الفاعل هو سعد. وفي الاسترجاع ففاعله هو زوجته. والتقنيتان معا تعبران عن الفرح بغاية كسر سطوة الخوف والألم وتجاوزهما؛ فبالفرح نكتسب الحياة في جانبها المشرق؛ هو السعلة التي تبدد ظلمة النفس.
ويأتي الفصل الخامس لخلق ترابط بين الفصلين السابقين من حيث كونه امتدادا لهما معا. فالسارد سعد ما زال يواصل مغامرة مواجهة مطارديه وبالأخص عيشة قنديشة التي سيتمكن من النجاة منها في آخر المطاف برغبته وتشبثه بابنه؛ وفي الوقت نفسه يستعيد بعض وعيه فيتوقف عن سرد كابوسه إلى حين راصدا وجوده بالمستشفى راغبا في أن يعرف من حمله إليه. ليغوص من جديد في كابوسه مصارعا الموت من أجل الحياة وبتمكن من تحقيق مشروعه السردي، حيث سيخرج من المطاردة ناجيا مستعيدا وعيه ومنغرسا في واقعه محاطا بزوجته وصديقيه ومن يحبه. وهكذا يخترق الواقع الحلم إذ نجد بعض مفرداته تؤثث هذا الحلم من ذلك السور البرتغالي.
فيما الفصل السادس والأخير جاء لتكملة الحدث بالعودة إلي المقهى لإتمام الحديث بدأه الأصدقاء في الفصل الأول، في ما يشبه الدائرة، وكأن تجربة سعد كانت الدليل القاطع علي وجود هذه المرأة السحرية، التي سكنت وجدان المعلم فبدأ يراها في واقعه. وينتهي المشهد بانصرافه صحبة رجله الثالثة/ عكازته بعد محنة كادت تودي بحياته.
لقد آمن العقلاني بوجود الكائن اللا عقلاني وتقاسمه الوجود مع الكائن البشري.
وكأن الرواية ذات بعد حجاجي تعتمد مقدمة وجسدا الذي هو التجربة والنتيجة. والطرح هو وجود عيشة ولا يمكن تجاهلها. وأي ناكر سيجد نفسه في وقت ما في مواجهتها. وهو ما يؤكد وجود عالمين متساكنين في عقلية الإنسان المغربي ووجدانه دون تضارب أو وجع. تناقض يشير إلى انفصام هذه الشخصية التي تعيش تناقضاتها بشكل عادي رغم أنه غير عاد.
“عائشة القديسة” رواية سريعة الهضم بلغة سهلة وفي متناول القارئ وغير متعالية عليه، عميقة في طرحها، وذات حمولة تعتمد أسلوب الأطروحة في عرض موضوعها. تعتمد التلاعب بالزمن في ترتيب الفصول، والتداخل بين الواقعي وغير الواقعي. إضافة إلى اعتماد تقنيتي الاستباق والاسترجاع كلما دعت الضرورة. مع توظيف الوصف لإيقاف سيل الأحداث وتدفقها، أو للتوطئة للحوار الذي جاء متعددا إذ مرة يكون ديالوجيا ومرة مونولوجيا ومرة تداعيا حرا.
مجمل القول: إنها رواية ممتعة تقرأ دفعة واحدة وبسهولة وتملك جاذبية تحريك أسئلة القارئ وهو يسعي إلى القبض على أسئلتها المنفلتة.