9 أبريل، 2024 12:37 ص
Search
Close this search box.

الصراع والانقسام داخل تنظيم الدولة الإسلامية

Facebook
Twitter
LinkedIn

إعداد/ عبد الغني مزوز 
مقدمة
لم يكن الانحسار الميداني لتنظيم الدولة الإسلامية، وسقوط معاقله في العراق وسوريا ومقتل معظم قادته؛ التجلي الوحيد للأزمة التي باتت تعصف بصفوفه وتهدد وجوده، بل مَثَّل تصدع بنيته الأيديولوجية على وقع الانقسام الحاد بين قادته وشرعييه وجنوده أبرز مظاهر وتجليات هذه الأزمة، لاسيما وأن هذا الانقسام لم يكن بسبب تباين في المواقف والرؤى الفقهية أو الاستراتيجية أو التنظيمية وإنما نشب على خلفية تضارب في القناعات العقدية والمنهجية بما لا يسمح بأي مساحة للالتقاء والتعاون أو على الأقل تأجيل الخلافات إلى حين. سنحاول في سياق هذه الورقة فهم الانقسام العقدي الحاد الذي مسَّ صميم البنية الأيديولوجية لتنظيم الدولة الإسلامية على نحو موثق وشامل، مستفيدين مما نشره وسرَّبَه المنشقون من عناصر وقادة التنظيم من وثائق وشهادات، وما أصدرته مؤسساته المعتمدة من بيانات ونشرات وتعميمات، وهي المواد التي صار ممكنا من خلالها بناء تصور واضح عن أسباب وأبعاد الخلافات المنهجية داخله ومدى عمقها واتساعها، وسنعمل على مقاربة هذا الموضوع الشائك في ضوء الأسئلة الآتية:

متى ظهرت الخلافات داخل تنظيم الدولة وماهي طبيعتها؟

ماهي هوية التيارات المتنافسة داخله وماهي أفكارها وقناعاتها؟

ماهي أسباب وخلفيات الانقسام داخل التنظيم؟ وماهي أبعاده وتجلياته؟

ما موقع وموقف “الخليفة” من هذا الخلاف والانقسام؟

تهدف هذه الورقة إلى تسليط الضوء على زاوية في تنظيم الدولة الإسلامية طالما أراد لها التنظيم أن تبقى في الظل، حفاظا على تماسك بنيته وتوحد أنصاره واتباعه، وهي الزاوية التي تناسل فيها الخلاف والصراع بين قادته وشرعييه، واحتد فيها الشقاق بينهم إلى الدرجة التي تحول فيها التنظيم إلى تيارات كلامية متنافسة تراشقت تهم التبديع والتكفير فيما بينها.

وتكمن أهمية بحث ودراسة هذا الموضوع في اعتبار تنظيم الدولة الإسلامية فاعلا استراتيجيا فرض نفسه بقوة على الساحة الدولية، وكان لظهوره تأثير بارز على الخريطة السياسية للعالم، ولا شك أن أي تغيير أو تحول يطرأ على هذا الفاعل الاستراتيجي المهم هو تغيير جدير بالدراسة والملاحظة والتقييم، خصوصا إذا ضرب هذا التغيير عميقا في بنيته هذا الفاعل، وانعكس بالتالي على دوره وحضوره، وآفاق تأثيره ومستقبل وجوده، كما أن كل ما كتب حول موضوع الخلافات داخل تنظيم الدولة من تقارير وقصاصات إخبارية اختزلت المسألة في التنافس بين ما يسمى بالتيار الحازمي والتيار البنعلي بينما صارت الخلافات أشد تعقيدا وتشعبا من مجرد حصرها في تيارين متنافسين كما سنرى.

المحور الأول: جذور الخلافات وسياقات تشكلها
أولا: تنظيم الدولة ومبدأ التكفير
يعتبر تنظيم الدولة الإسلامية مؤسسة قائمة على مبدأ التكفير، فالتكفير هو بمثابة المحدد الرئيسي لوجود وهوية التنظيم، وكان هذا الأخير واضحا مع أنصاره وجنوده في تأكيده الملزم أنه لا يقبل “أن يظهر من بين جنودنا من يتوقف في تكفير أعيان هؤلاء الذين نقاتلهم ويقاتلوننا.. وإن ظهر فيرفع أمره إلى أمير مفصله ليُسْتَدْعَى ويُتَثَّبَت مما نُسِب له، ويُبَيَّن له حال هذه الفصائل إن كان يجهلها، فإن توقف بعد البيان فيحال إلى القضاء لاستتابته”[1] فالتكفير يحتل مكانة مركزية في بنية التنظيم الأيديولوجية، وقد تأسس وتمايز عن المكونات الجهادية الأخرى على أساس أنها مكونات “مرتدة” خارجة عن الملة[2]، وأنه الطائفة الناجية الوحيدة، فإذا استبعد التنظيم مفهوم التكفير، أو قلل من أهميته في نسقه الأيديولوجي ستصبح حينها الحدود بينه وبين المكونات الإسلامية الأخرى حدودًا باهتة، ولن يكون لخطاب التفوق و”الصفاء العقدي” الذي يدعي التفرد به أي معنى، فحسب أدبيات تنظيم الدولة يمثل “تكفير المشركين من الأصول العظام التي جاء بها الأنبياء والمرسلون”[3] والتكفير شرط من شروط الايمان لأنه من الكفر بالطاغوت الذي دعت إليه الآية الكريمة {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى}[4] وعلى أساس كفر المكونات الإسلامية الأخرى شيَّدَ تنظيم الدولة شرعيته، وبرر لعناصره وجوب قتال الطوائف الأخرى والقضاء عليها، وسنتعرض لمواقف يتم تخيير بعض قادة وعناصر التنظيم فيها بين تكفير بعض الشخصيات والكيانات أو القتل ردة[5]، ولذلك فقد صدرت الأوامر لمكتبة الهمة التابعة لتنظيم الدولة -وفق وثيقة مسربة- بإعطاء الأولوية لكتب العقيدة التي عليها مدار الكفر والإيمان أكثر من كتب الفقه واللغة أو غيرها من المباحث الشرعية[6].

إذا كان مفهوم التكفير بهذه الأهمية لدى تنظيم الدولة فإن أي اضطراب يمسه سينعكس بالضرورة على تماسك التنظيم ومردودية أدائه، ولأنه بهذه الأهمية فقد عمد التنظيم إلى استحداث عدة مؤسسات وهيئات هدفها الأساسي “صيانة” هذا المفهوم المركزي من تأثير نزعات “الإرجاء والتجهم”، وضبط الخطاب الشرعي وتدبيره بما يصب في مصلحة التنظيم وعقيدته القتالية، ومن بين هذه المؤسسات: “المكتب المركزي لمتابعة الدواوين الشرعية” و “اللجنة المفوضة” و”مكتب البحوث والدراسات” و”ديوان القضاء” و “لجنة الرقابة المنهجية” و”ديوان الدعوة والمساجد” و”المكتب الشرعي لديوان الجند” و”المكتب الشرعي لإدارة المعسكرات” و”مكتبة الهمة” و”ديوان التعليم”. ورغم كل هذه الهيئات والمؤسسات -التي سنتعرف على أدوار بعضها لاحقا- إلا أن التنظيم أخفق في تدبير الملف الشرعي خصوصا ما يتعلق منه بمسائل الكفر والايمان، وفشل في إلزام أتباعه بمواقف موحدة فعاش في السنوات الأخيرة على إيقاع فتاوى متضاربة أعقبتها مفاصلة حادة بين كبار أمراءه وقادته وشرعييه.

ثانيا: بداية الخلاف والانقسام
لا شك أن الخلافات بدأت في الظهور بعد تمدد تنظيم الدولة الإسلامية إلى سوريا في 9/04/2015، لكن هذا لا يعني أنها لم تكن موجودة قبل ذلك، إذ أن بعض المباحث العقدية شكلت دوما نقاطا للجدل والاختلاف بين منظري الجماعات الجهادية، وتحتوي مكتبة التيار الجهادي على العشرات من الردود والتعقيبات والاستدراكات المتبادلة بين شيوخ التيار، ونذكر هنا على سبيل المثال الكتاب الأشهر لأبي قتادة الفلسطيني “جؤنة المطيبين” الذي ألفه ردا على كتاب ظهر في نهاية التسعينيات حمل عنوان “كشف شبهات المقاتلين تحت راية من أخل بأصل الدين” وهو الكتاب الذي يرى مؤلفه كفر حركة طالبان وحرمة القتال في صفوفها. وكتاب أبي محمد المقدسي “النكت اللوامع في ملحوظات الجامع” الذي استدرك فيه على تأصيلات الدكتور سيد إمام في كتابه “الجامع في طلب العلم الشريف” كما أن جماعة الجهاد المصرية عدلت كثيرا في كتاب سيد إمام وأعادت نشره بعنوان “الهادي إلى سبيل الرشاد في معالم الجهاد والاعتقاد”، والجدير بالملاحظة هنا أن المباحث العقدية التي اختلف حولها هؤلاء المنظرون هي تقريبا نفسها التي استأنف شرعيو تنظيم الدولة الجدل حولها مجددا.

بعد الاحتلال الأمريكي للعراق وظهور الفصائل الجهادية المختلفة، لم يحدث أن كانت المسائل العقدية مثارا للنقاش وسببا للصراع بينها، ليس لأن هذه الفصائل تصدر حينها عن رؤية عقدية ومنهجية واحدة، بل لأن وجود الاحتلال الأمريكي وتمدد النفوذ الشيعي وَحَّدَ جميع التنظيمات والفصائل الجهادية تحت غاية واحدة “إخراج الاحتلال الأمريكي وحماية أهل السنة”، كما أن الهامش المتاح للنقاش على الفضاء الافتراضي للجهاديين عبر المنتديات الحوارية تمت مراقبته بصرامة من طرف مركز الفجر للإعلام الذراع الإعلامي لتنظيم القاعدة، الذي كان يملك حق منح وحرمان المنتديات الجهادية من التزكية، وعندما تظهر منتديات منافسة كمنتدى شبكة حنين ومنتدى البراق والتجديد ومداد السيوف فإنه سرعان ما يتم هجرها لأنها غير معتمدة من مركز الفجر، وإذا ما تجرأ أحد وطرح موضوعا مثيرا للخلاف في منتديات المركز فإن عضويته تتعرض للحظر والإيقاف[7].

عقب تمدد تنظيم الدولة الإسلامية إلى سوريا انفتح أمام التنظيم واقع جديد غير الذي ألفه في العراق، وكان لمعطيات وملابسات هذا الواقع دور كبير في إثارة الخلاف وتكريس الانقسام، ونحن هنا لا نقصد الخلاف الحاصل حينها بين تنظيم الدولة وجبهة النصرة ولا بينه وبين الفصائل الأخرى بل نقصد الخلاف المنهجي الذي استشرى داخل التنظيم نفسه، فبعد انتقال الثورة السورية إلى طور العسكرة وظهور الفصائل الجهادية، تقاطر إلى البلد آلاف المتطوعين الأجانب من مختلف الطبقات والشرائح والخلفيات المذهبية والثقافية واللغوية، ما خلق بيئة من الأفكار والقناعات والمواقف الشرعية المتنوعة وإن استوعبها تنظيم الدولة في البداية تحت شعاراته الكبرى وخطوطه العريضة، هذا التنوع لم يلبت أن خلق حالة من الاستقطاب والتمايز ومحاولة كل طرف فرض مواقفه على الطرف الآخر، لذلك سنجد أن أول منطقة في سوريا ظهر فيها الخلاف والانقسام في صفوف تنظيم الدولة هي منطقة حلب، لأن المدينة كانت محاذية للحدود مع تركيا وهي أول منطقة يتم استقبال المهاجرين فيها فور دخولهم إلى سوريا[8]، سنشير أيضا هنا إلى أن الكوادر الشرعية التي التحقت بتنظيم الدولة بعد تمدده إلى سوريا لم يكن بعضها محسوبا على التيار الجهادي من قبل، بل لم يسمع بعضهم بكبار منظري التيار إلا بعد التحاقه بالتنظيم[9]، وبعضهم الآخر لم يتبنَّ الأفكار الجهادية إلا بعد ثورات الربيع العربي[10].

لقد كان بعض خصوم تنظيم الدولة الإسلامية أيضا من ذوي القناعات الجهادية ويتبنون مواقف شرعية متقاربة –قبل المفاصلة الحادة- فكان الحكم عليهم من الناحية الشرعية أمرا معقدا وباعثا على الخلاف والتناقض بين قادة وأمراء تنظيم الدولة، وبالتالي امتد الخلاف والسجال إلى أدق وأصغر المسائل العقدية كالعذر بالجهل، والناقض الثالث لحسم الخلافات لأن المسائل الكبرى “كتحكيم الشريعة” و”جهاد الطوائف الممتنعة” و”الولاء والبراء” كانت محل اتفاق بين الجميع[11].

سابقا كان أي خلاف ينشب داخل التيار الجهادي يتم فورا تطويقه ضمن حدود ضيقة، وكان الفضاء الإلكتروني الذي يتداول فيه الجهاديون مواقفهم وآرائهم والمتمثل في المنتديات الجهادية مراقبا بعناية من قبل مجموعة من المشرفين اليقظين، الذين لا يترددون في تعديل أو حذف أي مشاركة لا تنسجم مع توجهات التيار الجهادي وتنظيم القاعدة بشكل خاص، هذا الأمر لم يعد قائما مع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي التي أتاحت للجميع مساحة غير محدودة للتعبير عن الرأي بحرية، والوصول إلى جمهور المستخدمين بكل سهولة، هكذا وجد شرعيو وعناصر تنظيم الدولة نافذة لنشر مواقفهم ومخاطبة أنصارهم دون وصاية من أحد، فخرجت من ثَمَّ خلافاتهم عن نطاق السيطرة، وسنجد مثلا أن تغريدة واحدة على موقع تويتر من تركي البنعلي أحد شرعيي التنظيم كفيلة بإطلاق شرارة الانقسام الداخلي، وبداية مسار دموي دخل فيه التنظيم ولم يخرج منه بعد[12].

لقد صار إذن المجال التداولي الجهادي المغلق والمنيع مفتوحا ونهبا للمواقف والقناعات الشرعية المتضاربة في اللحظة السورية، ووجد تنظيم الدولة الإسلامية نفسه في مهب عاصفة عاتية من السجالات والمعارك الكلامية العصية على الحسم والتطويق، ولأن هذه السجالات ذات طابع عقدي فإن تجاهلها أو إرجائها يبقى إجراء غير وارد، لأن ذلك في عرف فرقاء التنظيم يعتبر تفريطا في العقيدة “الصافية”، وإعطاء للدنية في الدين.

ثالثا: مؤسسات الرقابة على الخطاب الشرعي
أمام فوضى الفتوى، والتسيب الأيديولوجي الذي وجد فيه تنظيم الدولة الإسلامية نفسه نتيجة وفرة الكوادر المهاجرة الذي حملت معها زخما من القناعات الشرعية المتضاربة، فقد عمد قادة التنظيم إلى استحداث مؤسسات كثيرة لضبط وتقنين الخطاب الشرعي ضمن جهاز بيروقراطي معقد ومتعدد الوظائف والتخصصات شيده التنظيم في سياق ترتيبه لشؤون “خلافة” امتدت على مساحات شاسعة وتضع يدها على موارد هائلة. يهمنا هنا ذكر المؤسسات التي ارتبط عملها بالجانب الشرعي، وعلى نحو خاص تلك التي دخلت معترك السجال والتنافس المنهجي داخل التنظيم.

لجنة الرقابة المنهجية: وهي لجنة أسسها وأشرف عليها أبو محمد فرقان مؤسس الجهاز الدعائي لتنظيم الدولة، ويعتبر شعبة المصري وأبو ميسرة الشامي أبرز أعضائها[13]، وتسمى أيضا بلجنة التقييم أو اللجنة المنهجية، وتتمثل مهمة اللجنة في استدعاء الشرعيين والدعاة أو مقابلتهم في مقار عملهم والقيام بتقييم شامل لهم يبدأ من مرحلة طلبهم للعلم إلى التحاقهم بالتنظيم، وسؤالهم عن موقفهم من بعض المسائل الشرعية الحساسة فيما يشبه “محكمة تفتيش”، ينتهي عملها برفع تقرير مفصل عن الشخصية قيد التقييم إلى “ديوان الخليفة” مذيل بتوصيات إما بتزكيتها أو سجنها أو استتابتها وقتلها[14]، وتعتبر لجنة الرقابة المنهجية من أخطر الهيئات التي سيطر عليها “تيار أبو محمد فرقان” كما سيأتي توضيح ذلك في فقرة لاحقة.

مكتب البحوث والدراسات: يعتبر مكتب البحوث والدراسات الجهة الرسمية الوحيدة المخولة بإصدار الفتاوى الشرعية المعتمدة من التنظيم، وكان سابقا يسمى بـ “ديوان البحوث والإفتاء” لكن وفي سياق الصراع والتنافس المنهجي تم تقليص صلاحيات المؤسسة وتحولت من “الديوان” إلى “المكتب”[15]، وتعتبر المعقل الرئيسي لتيار “البنعلي والقحطاني”. والمكتب “جهة مستقلة تعنى ببحث المسائل الشرعية، والإفتاء في النوازل والحوادث، وهو يتبع مباشرة أمير المؤمنين أو من ينوب عنه، وقد تم إنشاؤه بأمر مباشر منه”[16]

المكتب المركزي لمتابعة الدواوين الشرعية: وهي مؤسسة رقابية استحدثها تنظيم الدولة الإسلامية لإخضاع المفاصل الشرعية للمراقبة، وإصدار بيانات وتعميمات ملزمة، والمكتب هو من أصدر أول بيان أثار الجدل والخلاف داخل التنظيم[17].

اللجنة المفوضة: وهي من أهم مؤسسات تنظيم الدولة الإسلامية وأكثرها نفوذا بعد ديوان الخليفة، ومهمتها الإشراف على الدواوين والهيئات والمكاتب والولايات في كافة ربوع “الدولة”،[18] تموقعت اللجنة المفوضة في قلب الصراع المحتدم بين التيارات المنهجية داخل التنظيم، حيث تعاقب على إدارتها محسوبون على “تيار الفرقان” ثم “تيار البنعلي والقحطاني”، أصدرت اللجنة تعميمات متناقضة على فترات مختلفة، ما يعكس حدة التنافس وسعي كل طرف إلى إدارة اللجنة وجعلها منبرا لنشر مواقفه وتوجهاته[19].

مكتبة الهمة: وهي بمثابة دار نشر تابعة لتنظيم الدولة، والمسؤولة عن طباعة الكتب والنشرات والمطويات المعتمدة، وقد حاول كل تيار جعل المكتبة تعمل لصالحه عبر طبع ونشر كتاباته وأدبياته، إذ لا يمكن اعتماد أي مقرر دراسي سواء في المعسكرات أو في المدارس والمعاهد التعليمية ما لم يصدر عن مكتبة الهمة، وسنرى بعد قليل أن سيطرة “تيار الفرقان” على المكتبة ألجأ “تيار البنعلي والقحطاني” إلى وسائل بديلة لطباعة ونشر مؤلفاتهم بين الأنصار.

إضافة إلى المؤسسات والهيئات السابقة فقد اضطلعت مؤسسات أخرى بمهمة الرقابة على الخطاب الشرعي و”صيانة” مبدأ التكفير الذي قام عليه بنيان تنظيم الدولة الإسلامية مثل “ديوان الدعوة والمساجد”، و”ديوان التعليم” و”المكتب الشرعي لديوان الجند” و” المكتب الشرعي لإدارة المعسكرات” و” ديوان القضاء”.. كما أن “ديوان الإعلام المركزي” كان له دور “شرعي” فاق دور كثير من هذه المؤسسات كما سيأتي. لكن ورغم وفرة وتنوع الهيئات والمؤسسات التي عُهد إليها بمهمة ضبط وتدبير الخطاب الشرعي داخل تنظيم الدولة الإسلامية إلا أنها فشلت فشلا ذريعا في ذلك، بل كانت عاملا من عوامل تأجيج الصراع بين فرقاء التنظيم، وتحولت إلى معاقل يتمترس خلفها كل تيار من أجل النيل من التيار المنافس.

لم تكن مواقف الأطراف المختلفة في بداية الخلاف داخل تنظيم الدولة الإسلامية متبلورة وواضحة، ولم يصل التمايز والمفاصلة داخله إلى الدرجة التي هي عليه اليوم، فكان الجميع حينها يتحدث عن الصراع بين “تيار الحازمي” و”تيار البنعلي”، أما اليوم فإن الحديث عن الصراع بتلك الصيغة يعد اختزالا مخلا للأزمة داخل التنظيم، لاسيما وقد أخذت الأزمة أبعادا ومستويات أخرى مع مضي البنية الأيديولوجية للتنظيم إلى مزيد من التفكك والتشظي مع مرور الوقت، ويمكن تقسيم مستويات وأبعاد هذا الانقسام إلى بُعْدَيْن:

البعد الأيديولوجي (الشرعي)
البعد التنظيمي المؤسساتي
المحور الثاني: الانقسام الأيديولوجي (الشرعي) داخل تنظيم الدولة
نقصد بالبعد الأيديولوجي (الشرعي)، ذلك السجال الذي أخذ طابعا عقديا صرفا، والذي يحاول فيه كل طرف فرض مواقفه “الكلامية” والمنهجية، وجعلها عقيدة رسمية “للدولة”، وقد انقسمت هذه الأطراف إلى ثلاثة تيارات متنافسة، وليس إلى تيارين كما كان شائعا ومتداولا، تبعا لموقع كل منها من المسائل العقدية المثيرة للجدل، كـ “العذر بالجهل” و”الناقض الثالث” و”الشفاعة” و”أحكام ساكني دار الكفر الطارئ “وغيرها.

أولا: التيار الحازمي
ويسمى التيار الحازمي نسبة إلى الشيخ أحمد بن عمر الحازمي، وهو عالم سعودي ينحدر من مكة المكرمة، وخريج جامعتها (أم القرى) لازم الشيخ آدم الإثيوبي لعشرين سنة، وأخذ العلوم الشرعية من علماء المملكة العربية السعودية ومن بعض الوافدين إليها، تخصص الحازمي في علوم العقيدة واللغة العربية وله معرفة جيدا بعلم المنطق[20]، والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: كيف أثر هذا الشيخ المغمور وغير المحسوب على منظري الجماعات الإسلامية في التيار الجهادي وكيف أحدثت مواقفه الشرعية تصدعا في البنية الأيديولوجية لتنظيم الدولة الإسلامية؟ هذا ما سنوضحه في الفقرة التالية.

بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي في تونس، تولد انطباع لدى قطاع عريض من الدعاة في العالم الإسلامي أن تونس بحاجة إلى جرعات مستفيضة من الدعوة وهي المنعتقة لتوها من قبضة نظام علماني صارم، اتخذ خيار الاستئصال وتجفيف المنابع سبيلا لحماية الهوية العلمانية للبلد، كان الشيخ أحمد بن عمر الحازمي من بين الشيوخ الذين وصلوا إلى تونس لإقامة أنشطة دعوية وتعليمية بها، كان غيره من الدعاة الوافدين من مصر والسعودية والكويت قد أقاموا مهرجانات دعوية شارك فيها عشرات الآلاف من المواطنين التونسيين الذي تفاعلوا بحماس واضح مع هؤلاء الدعاة الذين كانوا قبل ذلك نجوما في الفضائيات الإسلامية[21]. وإذا كان هؤلاء الدعاة قد تطرقوا في محاضراتهم ومواعظهم إلى مواضيع عامة من النوع الذي يلهب مشاعر الجمهور، فإن الشيخ الحازمي حمل معه إلى تونس أجندة دعوية مختلفة، فقد أقام الشيخ دورات علمية في مجال “العقيدة” تناول فيها أخطر مباحثها وأشدها حساسية كـ “شرح نواقض الإسلام” و”نَظْم الورقات” و”الأجرومية والأصول الثلاثة” و”كتاب التوحيد”، فترة الدورة أسبوعين، ساعتين كل يوم[22]، ولأنه اختار أحد مساجد حي الخضراء الشعبي بالعاصمة تونس الذي يرتاده السلفيون، فإن دوراته سيكون لها أبلغ الأثر بعد ذلك في صياغة قناعات من سيسمى لاحقا بالتيار الحازمي داخل تنظيم الدولة، فقد حضر دورات الحازمي بعض عناصر وكوادر جماعة أنصار الشريعة بتونس، وآخرون مستقلون لم ينضووا تحت لواء أي تنظيم.

أثناء دخول الثورة السورية مرحلة العسكرة وتأسيس الفصائل الجهادية توجه هؤلاء الذين حضروا دورات الشيخ الحازمي إلى سوريا حاملين معهم تأصيلات الشيخ واتخذوها عقيدة لهم، هل يعني هذا أن المجال التداولي الجهادي كان خاليا من الأدبيات العقدية التي تصلح للتبني؟ أو أن منظري التيار الجهادي لم يتطرقوا إلى مباحث العقيدة في مؤلفاتهم وإصداراتهم، حتى يأتي شيخ مغمور طالما نسب إلى المدرسة الجامية، ليعطي دورات علمية في العقيدة لأفراد وكوادر التيار الجهادي؟ كلا، فنظرة سريعة على قسم “عقيدة أهل الجنة” في موقع منبر التوحيد والجهاد مثلا كفيلة بتأكيد اهتمام شيوخ التيار الجهادي بمباحث العقيدة بل إن عامة كتاباتهم تدور في فلكها، لكن الذي ميَّزَ تأصيلات الحازمي وجعلها مقبولة لدى قطاع من الجهاديين هي طابعها الراديكالي ونَفَسُها المغالي، وهي التأصيلات القادرة على تلبية وإشباع نزعة الانطلاق والاندفاع الجامح لشباب وجدوا أنفسهم فجأة متحررين من أصفاد العلمانية، وحاملين لمشاعر الثأر منها ومن “أعداء الشريعة”، ولم يعد بالتالي الخطاب الجهادي المكبل “بثلاثينية” المقدسي، و”جؤنة” الفلسطيني[23] قادرا على استيعابهم واحتوائهم.

يمكن اختصار المسائل التي أثارت السجال والانقسام داخل تنظيم الدولة الإسلامية إلى المسائل التالية:

العذر بالجهل في مسائل التوحيد والشرك وتكفير العاذر
حكم المتوقف في المشركين (الناقض الثالث)
التكفير بالتسلسل
هل التكفير أصل من أصول الدين أم من لوازمه؟
حكم المتواجدين في دار الكفر الطارئ
الاستشفاع بالأموات هل هو من الشرك أم بدعة مفضية إليه؟
التحاكم اضطرارا إلى القوانين الوضعية[24]
لكن مدار الخلاف تركز حول “الناقض الثالث” من نواقض الإسلام العشرة التي قررها محمد بن عبد الوهاب، والمتمثل في كفر “من لم يُكَفِّر المشركين أو شَكَّ في كفرهم أو صَحَّحَ مذهبهم”[25].

يعتقد أحمد بن عمر الحازمي أن مدار الكفر والإيمان على عدة مسائل قسمها إلى ثلاثة أنواع[26]:

أ. النوع الأول: ما يتعلق بمسائل التوحيد والشرك وهذه لا يعذر فيها أحد بجهل أو تأويل سواء بلغته الحجة الرسالية (أقيمت عليه الحجة) أو لم تبلغه، واستدل بمجموعة من الآيات والأحاديث منها قوله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} فوصفه الله تعالى بالشرك حتى قبل أن يسمع كلامه، والآية الكريمة الأخرى {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة} فوصفهم الله بالكفر والشرك حتى قبل أن تصلهم البينة أي قبل أن تقام عليهم الحجة، إلى جانب الآيات والأحاديث فقد استند الحازمي إلى علوم اللغة من أجل تأصيل مواقفه، ووظف إحدى القواعد اللغوية ليؤكد أن كل من تلبس بنوع من الشرك أو الكفر فإنه يسمى كافرا ومشركا فقال: “يُمنع لغةً بإجماع أهل اللغة أن من قام به الوصف لا يشتق له منه اسم” بمعنى إذا اتصف أحد بوصف ما وَجَبَ اشتقاق اسم له منه، فمثلا من صام يسمى صائما ومن مشى يسمى ماشيا ومن صلى يسمى مصليا، وبالتالي من تلبس بشيء من الشرك أو الكفر يسمى مشركا وكافرا، ويرى الحازمي أن “لا عذر بالجهل في مسائل التوحيد والشرك”.

ب. النوع الثاني: يسمى بالمسائل الظاهرة وهي ما دون التوحيد والشرك من المعلومات من الدين بالضرورة، كتحريم الربا والزنا ووجوب الصلاة وغيرها، فكل من أنكر هذه المسائل وجب الحكم عليه بالكفر، لكن بعد إقامة الحجة عليه إذا كان حديث عهد بكفر أو نشأ في بادية بعيدة، وينكر الحازمي التصنيف المعروف عند العلماء (كفر النوع وكفر العين)، واعتبر أن موانع التكفير لا تمنع الحكم بالكفر بل ترفعه، أي أن المرء يكون كافرا فيُرفع عنه الكفر بوجود مانع من موانع التكفير.

جـ. النوع الثالث: سمَّاه الحازمي المسائل الخفية؛ وهي التي يدركها العالم وتخفى على الجاهل، وفيها ما هو مكفر كفرا أكبر مخرج من الملة، وهذا النوع فقط هو الذي تُراعى فيه القاعدة المعروفة “تحقق الشروط وانتفاء الموانع”.

ثمة مسألة أخرى مرتبطة بتأصيلات الحازمي، وكان لها دور بارز في تفشي الانقسام داخل تنظيم الدولة الإسلامية، وهي مسألة “التكفير بالتسلسل” وتعني “تكفير الكافر الذي قضت النصوص الشرعية بكفره وشركه، وتكفير من لم يكفره، وسميت بالسلسلة لأنها مرتبطة ببعضها كحلقات السلسلة المتصلة فكل حلقة مرتبطة بأختها لزوما من غير انفصال”[27]، والحازمي يرى التكفير بالتسلسل، ويعتقد أن من لم يكفر من تلبس بالشرك الأكبر لَحِقَه في الكفر، ومن لم يكفر هذا الذي لم يكفره كَفَرَ أيضا وهكذا، وهذه النقطة بالتحديد هي التي انفرد بتبنيها التيار الحازمي في “الدولة”، فبحسب الحازمي “لن يثبت لك إسلام ولا توحيد إلا إذا اعتقدت كفر المشركين وكفر من لم يكفر المشركين، لا بد من ذلك، وهذا التكفير عيني وليس بنوعي، بمعنى أننا لا نحتاج إلى إقامة حجة على من توقف في كفر المشركين، لأن هذه المسائل واضحة ظاهرة بَيِّنَة كالشمس، فلا نحتاج إلى إقامة حجة”[28].

يعتبر أبو جعفر الحطاب رائد هذه القناعات الجذرية داخل تنظيم الدولة الإسلامية، الذي شغل فيه منصب مسؤول التعليم وعضو اللجنة الشرعية قبل تأسيس الدواوين، ينحدر الحطاب من تونس لكنه أمضى سنوات عديدة في المملكة العربية السعودية، قبل أن يعود إلى بلده ويشارك في المشاريع الدعوية التي أشرفت عليها “جماعة أنصار الشريعة” بعد الثورة، في بداية 2013 غادر الحطاب إلى سوريا والتحق بكتيبة المهاجرين والأنصار التي كان يقودها عمر شيشاني، انضم إلى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام بعد إعلانه، كما دعا غيره من المهاجرين إلى الانضمام إليه ومبايعة البغدادي وألف في ذلك كتابا سماه “بيعة الأمصار للإمام المختار”، إضافة إلى كتب ومحاضرات أخرى ألفها دفاعا عن مواقفه الشرعية مثل “الكواشف الجلية على أن العذر بالجهل عقيدة الأشاعرة والجهمية” و”مذهب ابن تيمية في التكفير” و”الثمر الداني في الرد على الحدوشي والكتاني”، ولم يلبت أن جاهر أبو جعفر الحطاب بمواقفه اتجاه ما يراه مخالفات شرعية وصلت حد الكفر وقع فيها تنظيمه، مما أدى إلى اعتقاله وقتله تعزيرا في نهاية عام 2015[29].

لم يضع قتل الحطاب حدًّا للجدل الذي أثارته مواقفه وإنما كان بداية لظهور تيار يرى كفر البغدادي وكافة عناصر “الدولة الإسلامية” ووجوب “التبرئ منها ومفارقتها وعدم الانضمام إليها”[30]، تعامل “ديوان الأمن العام” بصرامة مع تيار أبو جعفر الحطاب وشن حملة اعتقالات وتصفيات شاملة وواسعة ضد كل من حمل أفكار الحطاب أو الحازمي أو خالد المرضي كما سنرى لاحقا، ويجادل أصحاب هذا التيار بأن: “الهالك العدناني والطاغوت البغدادي أخزاه الله يعلنان مرارا وتكرارا كفر الجيوش العربية وكفر الطواغيت بمختلف مسمياتهم كعبد الفتاح السيسي أو محمد مرسي لكنهم يتورعون عن تكفير من يواليهم من العوام الجهال”[31] ويصرون على أن “الحقد على الشيخ الحازمي” سببه نصرته للتوحيد وعدم إعذاره للمشركين بالجهل[32]، ومن أهم قادة ورموز هذا التيار: أبو جعفر الحطاب، أبو مصعب التونسي، أبو أسيد المغربي، أبو الحوراء الجزائري، أبو خالد الشرقي، أبو عبدالله المغربي[33].

ثانيا: تيار الفرقان
اخترنا اسم الفرقان لهذا التوجه العقدي داخل تنظيم الدولة الإسلامية، نسبة إلى القيادي في التنظيم “أبو محمد الفرقان”، الذي يرجع إليه فضل تكريس مجموعة من القناعات والمواقف الشرعية، وفرضها على عناصر وشرعيي التنظيم، مستغلا نفوذه وسيطرته على أهم أذرع التنظيم “ديوان الإعلام المركزي”، وأيضا قدرته على ممارسة الضغط على المؤسسات الأخرى للتنظيم بما فيها “ديوان الخليفة” و”اللجنة المفوضة” و”مكتبة الهمة”، وإشرافه على هيئات ومؤسسات أخرى مثل “لجنة الرقابة المنهجية”، هذا النفوذ الذي تمتع به الفرقان، مكنه من صياغة سردية جهادية، كان لها دور كبير في الصراع الذي قوض البنية الأيديولوجية لتنظيم الدولة.

يعتبر أبو محمد الفرقان واسمه الحقيقي وائل عادل حسين الفياض، مهندس الامتداد الرمزي لتنظيم الدولة في الفضاء الإلكتروني، وصانع منظومته الدعاية المعقدة. ورغم اهتمامه بالجانب الإعلامي للتنظيم إلا أنه دفع بقوة باتجاه تبني التنظيم لقناعات شرعية معينة. وكانت له ولرجاله داخل التنظيم مواقفهم الشرعية المتعلقة بالمسائل المنهجية والعقدية المثيرة للجدل. ومن أجل فرض هذه المواقف أشرف الفرقان على كتابه عقيدة تنظيم الدولة الإسلامية واعتمادها في كل مفاصل التنظيم الشرعية والعسكرية وطبعها في سلسلة كتب بعنوان “التوحيد الخالص” تحصينا للدولة من الأقوال الإرجائية الشاذة التي بدأت في الانتشار والتفشي[34].

يتبنى تيار الفرقان جزءً من تأصيلات الحازمي لكنه يختلف معها في جزئية أساسية وهي اطراد التسلسل في التكفير، غير أن رموز وشرعيي التيار ما فتئوا يحذرون من الحازمي ويعتبرونه “مبتدعا وجاميا قاعدا عن الجهاد”[35].

أحكم هذا التيار قبضته على تنظيم الدولة لفترة من الوقت، وقاد حملة تطهير واسعة ضد كل المعارضين لمواقفه، سواء كان هؤلاء المعارضون من “التيار الحازمي” حين أعدم رؤوسهم واعتقل العشرات منهم أو من “تيار البنعلي والقحطاني” الذين تبادل معهم السيطرة على مفاصل “الدولة” كما سنوضح[36].

نستطيع إجمال مواقف “تيار الفرقان” من المسائل المثيرة للخلاف في أنه يرى أن “تكفير المشركين مسألة ظاهرة في الدين، وقيام الحجة فيها هو بلوغ القرآن حقيقة أو حكما ومن لم يُكَفِّر المشركين بعدما بلغه القرآن فهو كافر مرتد”[37] ويعتقد –أي تيار الفرقان-أن “من توقف في تكفير الرافضة كلهم؛ علمائهم وعوامهم كَفَرَ ولا يرون التسلسل في ذلك”[38] بمعنى أن من لم يكفر الشيعة بعوامهم وعلمائهم كَفَرَ، إلا أن الذي لا يُكَفِّر من لا يكفر الشيعة لا يكفر، وعلى هذا الأساس كَفَّرَ هذا التيار باقي مكونات التيار الجهادي ومنظريهم مثل أبي محمد المقدسي الذي لا يرى كفر عوام الشيعة، و”يحكمون على الشخص في دار الكفر الطارئ بما يظهر منه، وذلك لالتباس الحال فيها”[39] وتعني هذه العبارة الخطيرة أن هذا التيار لا يحكم بإسلام ساكني دار الكفر الطارئ، ويقصدون بدار الكفر الطارئ، كل البلدان الإسلامية التي “لا تحكمها الشريعة فطرأ عليها الكفر”، ويعتبرون أهل هذه البلدان من “مجهولي الحال” أي ينبغي تَبَيُّن حال كل واحد منهم على حدة قبل أن يحكم عليهم بالإسلام أو الكفر، ووردت هذه العبارة بصيغة أخرى في مجلة النبأ التي تعتبر لسان حال هذا التيار “إننا لا نقول بأن الأصل في الناس في دار الكفر الطارئ هو الكفر وكذلك لا نقول إن الأصل فيهم هو الإسلام”[40]. ويمكن اختصار القناعات العقدية والمنهجية لتيار الفرقان كالتالي:

أن الحكم على المقيمين في دار الكفر الطارئ بالإسلام هو من بدع المرجئة، لأنهم –أي المقيمين-مجهولو الحال، فلا يحكم لهم بكفر ولا بإسلام، حتى يتبين حالهم.
أن التكفير أصل من أصول الدين.
لا يعذرون بالجهل في الشرك الأكبر والمسائل الظاهرة ويقصدون بالمسائل الظاهرة ما هو معلوم من الدين بالضرورة.
يكفرون من توقف في تكفير الطواغيت، بدون تسلسل في التكفير.
يكفرون المرشحين والمنتخبين دون إعذارهم لا بجهل ولا بتأويل.
طلب الشفاعة من الأموات من الشرك الأكبر وليست بدعة مفضية إلى الشرك[41].
يمكن القول إن معظم هذه التأصيلات تقترب كثيرا من تأصيلات أحمد بن عمر الحازمي، إلا أن “تيار الفرقان” يرفض بشكل قاطع أن تُنسب أفكاره للشيخ الحازمي، بل هاجمه أكثر من مرة، ودعا إلى حظر توزيع كتبه في المناطق التي يسيطر عليها تنظيم الدولة[42]، ولعل سبب التحفظ على الشيخ الحازمي راجع أولا إلى مسيرته العلمية والعملية “المشبوهة” فهو غير محسوب على “علماء الجهاد” ولم “يهاجر إلى دار الإسلام” ولديه مواقف مسجلة يؤيد فيها الحكومة السعودية، وبالتالي اتخاذه مرجعية علمية لتنظيم جهادي يجعل من السهل على من يريد ازدراء عقيدة هذا التنظيم أن يفعل بذلك، خصوصا خصوم تنظيم الدولة من الجماعات الجهادية الأخرى التي أفنى منظروها أعمارهم في المعتقلات وساحات المعارك. لذلك سنجد ان هذا التيار وعبر لجنة الرقابة المنهجية يتسامح مع من يتبنى كل تأصيلات الحازمي بشرط ألا يباشر عملا يشق به صف التنظيم[43].

من بين رموز وقادة هذا التيار النافذ داخل تنظيم الدولة الإسلامية إلى جانب رائده أبو محمد الفرقان نجد كل من:

أبو زيد العراقي: واسمه الحقيقي إسماعيل العيثاوي، يبلغ من العمر 55 سنة حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم الشرعية من جامعة صدام حسين، انضم العيثاوي إلى مجاميع المقاومة العراقية عقب الاجتياح الأمريكي للعراق في 2003، وعمل في صفوف تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين ثم دولة العراق الإسلامية، اعتقلته القوات الأمريكية وبقي في السجن خمس سنوات حيث أفرج عنه في 2013، خرج من السجن فوجد تنظيم الدولة في أوج قوته وتمدد، فتواصل مع قيادات التنظيم وتنقل بين “ولايات الشام” إلى أن التقى بأبي بكر البغدادي الذي عيَّنَه شرعيا في اللجنة المفوضة ومسؤولا عن كتابة التعميمات الشرعية والمناهج الدراسية للتنظيم، قوة شخصية العيثاوي وتاريخه “الجهادي” وخلفيته العلمية كلها اعتبارات وضعته لاحقا في منصب نائب “الخليفة” وهو أعلى منصب يمكن أن تتقلده شخصية في التنظيم، وبعد انحسار سيطرة التنظيم وخسارته لمعظم معاقله في سوريا والعراق، والاحتراب العقدي الذي عصف بصفه الداخلي وجد أبو زيد نفسه مطاردا من “ديوان الأمن العام”[44] التابع للتنظيم، فتمكن من الفرار والتسلل إلى داخل الأراضي التركية، ليتم اعتقاله هناك وتسليمه للسلطات العراقية التي أصدرت بحقه حكما بالإعدام.

أبو ميسرة الشامي: واسمه الحقيقي أحمد أبو سمرة، ينشط بعدة أسماء مستعارة، منها “أبو سليمان الحلبي” الذي يستخدمه في عمله بـ “ديوان الإعلام المركزي”، و”عبوة لاصقة” الذي أخرج به عدة مقاطع مرئية للرد على بعض الشيوخ و”إسقاط رمزيتهم” كما يقول، أما “أبو ميسرة الشامي” و”أبو سليمان الشامي” فيستعملهما لتوقيع مقالاته ومواقفه الشرعية، أبو ميسرة الشامي من مدينة حلب السورية، درس في الولايات المتحدة وتخرج من معهد ماساتشوستس، تخصص هندسة الكمبيوتر، اعتنق أفكار التيار الجهادي مبكرا وحاول الالتحاق بإحدى بؤر الصراع دون أن ينجح في ذلك، فقرر التخطيط لعملية في الولايات المتحدة، غير أن مخططه تم احباطه قبل أن يصل مرحلة التنفيذ فغادر التراب الأمريكي وعاد إلى مدينة حلب، ليصدر FBI بحقه مذكرة اعتقال في 2009، ظل أبو ميسرة في حلب إلى أن انطلقت فعاليات الثورة السورية وظهور الفصائل المسلحة، حيث انضم إلى جبهة النصرة ثم إلى تنظيم الدولة الإسلامية عقب تمدده إلى سوريا. بقي مغمورا في صفوف التنظيم وطالب مرارا بإرساله في عملية انتحارية، ولما قُبِلَ طلبه واستعد للقيام بها، التقى به عن طريق الصدفة أمير “ديوان الإعلام” أبو محمد فرقان، فأعجب بمهاراته الإعلامية والشرعية، فقَرَّبَه إليه وعمل معه على تطوير الجهاز الإعلامي للتنظيم، أسس أبو ميسرة مجلة “دابق” المشهورة وتولى إدارة تحريرها، وأشرف على إخراج مجلات أخرى كـ “قسطنطينية” و”دار الإسلام” و”رومية” التي تصدر بتسع لغات، وعلى إصدارات “مركز الحياة”. إضافة إلى وظيفته كمسؤول اللغات الأجنبية في “ديوان الإعلام” نشط أبو ميسرة في كتابة الردود والتعليقات الشرعية واستطاع بفضل قربه من أبي محمد فرقان فرض آراءه على كثير من الشرعيين، وإخضاع آخرين لجلسات استنطاق واستجواب للوقوف على مواقفهم من المسائل المنهجية العالقة عبر لجنة الرقابة المنهجية. عرف عن أبي ميسرة الشامي خصومته الشديدة للشيوخ الذين يخالفون توجه تنظيم الدولة الإسلامية، ولذلك أصدر مقاطع “عبوة لاصقة” وأشرف أيضا على محاولة اغتيال الداعية الإسلامية حمزة يوسف في تركيا. قُتِلَ أبو ميسرة في قصف نفذته طائرات التحالف الدولي على مدينة الرقة[45].

أبو صالح الودعاني: سعودي وصل إلى سوريا في بدايات الثورة، انضم إلى تنظيم الدولة الإسلامية، وتنقل في أرفع مناصبها، حيث كان واليا على حلب ثم دير الزور (ولاية الخير)، ثم الرقة، ثم مسؤولا عن ديوان الزكاة، وبعدها استلم الملف الشرعي في التنظيم وغدا عضوًا باللجنة المفوضة، بعد اشتداد الخلافات المنهجية داخل التنظيم، اختفى الودعاني لكنه ظل مدافعا عن مواقف “تيار الفرقان” وأرسل رسالة شديدة اللهجة وبنبرة تصعيدية إلى أبي بكر البغدادي، لم يلبث بعدها أن وقع في قبضة الأمنيين، الذين أعدموه تعزيرا حسب وثيقة صادرة عن التنظيم[46].

شعبة المصري: ويعرف أيضا بأبي خباب المصري، والمعلومات بشأنه شحيحة للغاية إلا أن اسمه دائم التردد في وثائق التنظيم، كان جهاديا ناشطا في سيناء ثم غادرها متوجها إلى سوريا بعد اندلاع الثورة، يعتبر من المقربين من أبي محمد فرقان وأحد المشرفين على لجنة الرقابة المنهجية، قتل في ريف الرقة حسب ما نشره مقربين منه[47].

أبو مرام الجزائري: شرعي من الجزائر التحق بتنظيم الدولة الإسلامية بعد الإعلان عنه، وشغل فيه مناصب عدة مثل عضو مكتب البحوث والدراسات، وعضو لجنة الرقابة المنهجية، شارك في كتابة كثير من الردود على الشخصيات المخالفة لتوجهات تياره، واختاره الفرقان ليكون ضمن لجنة أوكلت إليها مهمة وضع عقيدة الدولة الإسلامية. كتب أبو مرام بحوثا حول القضايا المثيرة للجدل منها كتابه “التبصير بحال المعتزلة الجدد في التسلسل في التكفير” و”إتحاف الساسة بحكم القتال سياسة” وغيرها. في خضم الصراع داخل التنظيم غادر سوريا متواريا عن الأنظار وسط تكهنات ترجح فراره إلى تركيا[48].

ثالثا: تيار البنعلي والقحطاني
يعتبر هذا التيار من أكثر تيارات تنظيم الدولة غزارة في التأليف ونشاطا في كتابة الردود والتأصيلات الشرعية، لذلك يوصف أيضا بتيار “طلبة العلم”، ورموزه من كبار شرعيي التنظيم المتفرغين للفتوى والخطابة والمحاضرات. وإذا كان “ديوان الإعلام المركزي” يعتبر بمثابة المعقل الأهم لتيار الفرقان فإن “مكتب البحوث والدراسات” (ديوان البحوث والإفتاء سابقا) هو المؤسسة التي أحكم “تيار البنعلي والقحطاني” السيطرة على مفاصلها. نسبنا هذا التيار إلى القحطاني والبنعلي لأنهما الشخصيتان اللتان تصدرتا مشهد الصراع مع التيارات المنافسة، مع وجود شخصيات أخرى لا تقل عنهما أهمية سواء من حيث وزنها داخل التنظيم أو من حيث نشاطها في كتابة الردود والتعليقات على ما يصدر عن التيارات الأخرى.

وتركي بن مبارك البنعلي شاب من أصل بحريني من مواليد عام 1984، يتحرك بعدة كنى وأسماء مستعارة منها “أبو همام الأثري” و”أبو سفيان السلمي” وبها وَقَّعَ كثيرا من مؤلفاته، درس في البحرين ولبنان والإمارات العربية المتحدة، اعتقل أكثر من مرة في بلده كما أمضى عاما واحدا في سجون الإمارات، زار البنعلي معظم الدول العربية طلبا للعلم على شيوخها البارزين الموالين للتيار الجهادي، وكان مقربا من أبي محمد المقدسي، وعمر الحدوشي المغربي قبل أن يناصبهما العداء على خلفية موقفها الرافض لسياسات تنظيم الدولة الإسلامية. نشط البنعلي بحماس في الرد على الأطروحات التي تشكك في شرعية تنظيم الدولة حتى قبل تمدده إلى سوريا، وشارك في مناظرات علمية كثيرة في أكثر من بلد، منها مناظرة مطولة مع المعارض السعودي البارز محمد المسعري في لندن حول مفاهيم العبادة والشرك والتوحيد، التحق بتنظيم الدولة الإسلامية في سوريا وعمل شرعيا ومفتيا له، ثم ظهر في مدينة سرت الليبية عندما كانت تحت سيطرة التنظيم، ليعود لاحقا إلى سوريا كمسؤول في ديوان البحوث والإفتاء ثم مكتب البحوث والدراسات، ليتصدى بقوة لما يعتبره غلوا وانحرافا لدى التنظيم إلى أن قُتل في غارة جوية للتحالف الدولي على مدينة الميادين السورية في 31/05/2017، مخلفا وراءه عشرات الكتب منها “مدُّ الأيادي لبيعة البغدادي” و”السلسبيل في قلة سالكي السبيل” و”العتاب لمن تكلم بغير لغة الكتاب” و”الأقوال المهدية إلى العمليات الاستشهادية” وغيرها[49].

أما أبو بكر القحطاني فلم يُنشر الكثير عن سيرته الذاتية إلا أن ما أخرجه إلى دائرة الضوء هو جرأته في الرد على البيانات التي أصدرها التنظيم، والمناظرات الكثيرة التي دافع من خلالها على قناعاته الشرعية والعقدية. القحطاني شاب سعودي لم يتجاوز العشرينيات من عمره إلا أنه يجيد فن الجدال والحوار وعلى دراية بالمباحث العقدية التي أثارت نزاعا في أوساط تنظيم الدولة، ظهر ذلك في مناظرة له مسربة استمرت لساعات مع شرعيين موالين لـ “تيار الفرقان”، شغل القحطاني مناصب عدة في التنظيم منها عضو لجنة الرقابة المنهجية وقاضي مدينة الموصل، قتل القحطاني في قصف للتحالف الدولي على مدينة دير الزور في 8/8/2017[50].

يرى هذا التيار أن التكفير لا يدخل في تعريف الكفر بالطاغوت “حيث إن بعض من لم يُوَفَّق في تنقيح وتحقيق المناط في هذا الناقض (أي الناقض الثالث من نواقض الإسلام كما كتبها محمد بن عبد الوهاب)، جعل التكفير في هذه المسألة مندرجا تحت أصل الكفر بالطاغوت مطلقا، وهذا خطأ يتبعه الكثر من الانحراف” ومعنى العبارة السابقة أن عدم تكفيرك لشخص كافر لا يعني بالضرورة عدم كفرك بالطاغوت، الذي هو شرط الإيمان طبقا للآية الكريمة {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى}، كما يعتقد هذا التيار أن العذر بالجهل والتأويل ثابت حتى مسائل التوحيد والشرك عكس “تيار الفرقان” يقول البنعلي: “أما من اقترف كفرا بواحا؛ اقترف شركا صراحا فهذا إن توفرت الشروط وانتفت الموانع يُكفر”[51] ويجادل شرعيو هذا التيار في كثير من ردودهم أن “التكفير ليس أصلا من أصول الدين” وبأن التحاكم إلى القوانين الوضعية جائز لاسترداد الحقوق عند الضرورة[52] وأن التصويت في الانتخابات لمرشح إسلامي يزعم أنه يستطيع تطبيق الشريعة يدرأ الكفر عن المصوتين له لوجود تأويل[53]، وأن التوسل بغير الله “حكمه التحريم لأنه لم يرد فيه دليل تقوم به حجة ولأنه ذريعة إلى الشرك”[54]، أي أن التوسل بدعة مفضية إلى الشرك وليست شركا بذاتها، كما يرى تيار البنعلي والقحطاني أن الأصل في ساكني “ديار الكفر الطارئ هو الإسلام” ويرون أن التوقف فيهم “بدعة من بدع خوارج العصر”[55]، ويؤكد البنعلي أن كلامه في هذه المسائل “هو عقيدة الدولة الإسلامية وهو عقيدة أمير المؤمنين، وقد وكل العبد الفقير.. بأن يتكلم بهذه العقيدة وبهذا المنهج”[56].

يمكن القول إن معظم الشرعيين الذين التحقوا بتنظيم الدولة هم من “تيار البنعلي والقحطاني”، اشتغلوا إما في مكتب البحوث والدراسات أو كشرعيين ومدرسين في المعاهد والمعسكرات أو قضاة في المحاكم الشرعية ولعل من أهمهم:

أبو يعقوب المقدسي: أردني اعتنق الفكر الجهادي منذ 2003 وعكف على القراءة لشيوخ التيار الجهادي لاسيما أبي محمد المقدسي وأبي قتادة الفلسطيني، كتب عددا من الكتب والرسائل مثل: “مسائل في التوحيد” و”الدرر السلفية في الرد على المرجئة الألبانية” و”الباعث على إتمام الناقض الثالث” و”العمدة في حكم سبي المرتدة”، كان مقربا من المقدسي إلى أن هاجم هذا الأخيرُ تنظيمَ الدولة بعد حادثة حرق التيار الأردني معاذ الكساسبة، كان أبو يعقوب المقدسي من أشد الرافضين لتوجهات تيار الفرقان ورد على كثير من بياناتهم. اتهمه تنظيم الدولة بعدة تهم منها التواصل مع المقدسي و”التخذيل عن الجهاد” و”شق الصف”، تضاربت الأخبار حول سبب مقتله بين من يقول إنه أُعدم من قبل ديوان الأمن ومن يقول إنه قتل في قصف قوات التحالف لسجن كان معتقلا فيه[57].

أبو المنذر الحربي: سعودي الجنسية تأثر بفكر تنظيم القاعدة فهاجر إلى أفغانستان واشتغل شرعيا في التنظيم بكراتشي، حاول الالتحاق بتنظيم دولة العراق الإسلامية لكنه لم ينجح في ذلك فبقي في كراتشي إلى أن تمدد التنظيم إلى سوريا، فانضم إليه وعمل في مكتب البحوث والدراسات، ألف الحربي عدة رسائل أهمها: “السؤالات البغدادية” التي أثارت جدلا داخل التنظيم كما سيأتي. لم يُعرف مصير الحربي بعد خسارة التنظيم لآخر جيوبه في سوريا[58].

أبو عبد الرحمن الزرقاوي: لا توجد معطيات عن سيرته الذاتية إلا أن اسمه تردد كثيرا في السجالات داخل تنظيم الدولة كمناظرته الصاخبة مع لجنة الرقابة المنهجية، كتب عدة رسائل وبحوث أهمها: “إجابة الإخوان في أهم أحكام الهجران” و”تعرية الثياب عن الصواب” كما كتب ردودا على البيانات الرسمية التي أصدرها التنظيم مثل رده المعنون بـ “نقد ونصيحة”[59].

أبو محمد المصري: لا تتوفر معطيات كافية عن سيرته إلا أنه تبوأ مناصب رفيعة في تنظيم الدولة منها عضوية اللجنة المفوضة. أشرف المصري على إخراج “السلسلة العلمية في بيان مسائل منهجية” وتم بث حلقات منها بصوته على إذاعة البيان كما سيأتي تفاصيل ذلك لاحقا، تم الإعلان عن مقتل المصري في ديسمبر 2018[60].

أبو محمد الهاشمي: لا تتوفر معلومات عن هويته وسيرته الذاتية، لكن وَوِفْقَ كتاباته المنشورة يتبن أنه شرعي في مكتب البحوث والدراسات، مقرب من أبي بكر القحطاني وتركي البنعلي، اشتهر بالرسالة التي وجهها للبغدادي بعنوان: “النصيحة الهاشمية لأمير الدولة الإسلامية”، اختفى عقبها الهاشمي عن الأنظار وظل مطلوبا لأمنيي تنظيم الدولة دون أن يتمكنوا من اعتقاله أو تحديد مكان اختفائه، ولم يلبت أن أخرج كتابا كاملا من 230 صفحة عنونه بـ “كفوا الأيادي عن بيعة البغدادي”، وحمل نقدا لاذعا وصادما لأبي بكر البغدادي والرجال المحيطين به، وتنظيم الدولة بشكل عام، حيث دعا إلى نقض بيعة البغدادي والخروج عنه، واعترف الهاشمي في الكتاب أنه حاول اقناع قيادات من “الدولة” بالعدول عن البيعة وخلع البغدادي عن الإمارة مستطردا في عرض الأدلة الشرعية التي توجب ذلك[61].

إضافة إلى الأسماء المذكورة ثمة أسماء أخرى ساهمت بمقالاتها وخطبها وردودها في بلورة أفكار وقناعات “تيار البنعلي والقحطاني” مثل بلال الشواشي المعروف بأبي همام التونسي، وأبي عبد البر الكويتي، وأوس النجدي، وأبي حفص الهمداني، وأبي مسلم المصري وغيرهم.

رابعا: قصة الصراع بين التيارات الثلاثة داخل تنظيم الدولة
في سياق متابعة فصول التنافس والصراع بين التيارات العقدية والمنهجية داخل تنظيم الدولة الإسلامية سنكتشف أن تيار أبو جعفر الحطاب، تمت تصفيته مبكرا وانتهجت قيادة التنظيم بحقه سياسة دموية صارمة وقاسية. فقبل أن يتبلور الخلاف بين “تيار البنعلي والقحطاني” وبين “تيار الفرقان” وجد أبو جعفر الحطاب وأتباعه أنفسهم في مواجهة إجماع من معظم قادة التنظيم بضرورة وضع حد لهم ولأفكارهم التي بدأت بالانتشار، ففي تقرير رفعه أبو ميسرة الشامي إلى أميره حول تنامي ظاهرة الغلو داخل التنظيم كتب بكل وضوح “أن مشكلة الغلو أشد خطرا على وحدة الصف من مشكلة الإرجاء”[62] وأوصى أن تتم “معالجة المشكلة أمنيا بالقتل والاعتقال إن تطلب الأمر ذلك لا بالمناظرة” و”أن لا يُطلق سراح أي رأس من هؤلاء الرؤوس ولو تاب أو أظهر التوبة” والقيام بحملة أمنية يُعتقل فيها جميع الشرعيين المشبوهين “في حملة واحدة وفي يوم واحد وفي كافة الولايات” كما اقترح أبو ميسرة إخراج إصدار مرئي ضمن سلسلة إصدارات “عبوة لاصقة” التي يشرف عليها للرد على شيوخ هذا التيار “وإسقاط رمزيتهم”، يكتسب هذا التقرير أهمية كبيرة جدا في سياق فهم الانقسام الحاصل داخل تنظيم الدولة الإسلامية، ففي ثنايا كلام محرره عن “مشكلة الغلاة” وتوصياته بتصفيتهم أمنيا ورمزيا، يطلق إشارات عدة إلى بداية تشكل “مشكلة الإرجاء” أي بداية تبلور “تيار البنعلي والقحطاني”، فرغم إشادته الخجولة “بأخينا أبي سفيان السلمي” و”أخينا أبي بكر القحطاني” إلا أنه عبر عن تحفظه على بعض تأصيلاتهم ومواقفهم الشرعية مثل عدم تكفير القحطاني لعبد العزيز الطريفي عندما دعا إلى التصويت بنعم على الدستور المصري عقب الثورة، واعتبر ذلك “من الأمور الشاذة المنقولة عنه في أبواب الإيمان والكفر”[63]، ومن هنا ظهرت وتناسلت الخلافات داخل التنظيم.

حسم تنظيم الدولة موقفه من تيار أبو جعفر الحطاب، وشنَّ حملة اعتقالات وتصفيات بحق قادته وأفراده، وقد نشر التنظيم إصدارا مرئيا أظهر اعتقال وإعدام عناصر تتبع هذا التيار، ومن ضمن من قام بإعدامهم أبا جعفر الحطاب زعيم التيار ورائده.

في وثيقة أخرى صادرة هذه المرة عن “ديوان الأمن العام” المؤسسة العتيدة داخل تنظيم الدولة والمعنية بمكافحة الظواهر المهددة لأمنه واستقراره، يتبين من خلالها أن ديوان الأمن رصد ظاهرة “الغلو” بعد صدام “الدولة الإسلامية في العراق والشام” مع الفصائل السورية، حيث ظهر شرعيون يُكَفِّرون قادة الدولة لأن الدولة حينها لم تكن تُكَفِّر بعض الفصائل كجبهة النصرة مثلا ولم تكن تُكَفِّر أيمن الظواهري بل تحاكمت إليه في قضية الخلاف بينها وبين جبهة النصرة، ومناط تكفير الظواهري أنه كان “يعذر بالجهل”، وقد تناولت الوثيقة “ظاهرة الغلو” وجهود الجهاز الأمني للقضاء عليها وأكدت أن الجهاز أعدم حوالي 70 عنصرا من الغلاة، الذين يرون “تكفير العاذر بالجهل وتكفير من لا يكفره.. وتكفير جاهل التوحيد والقول بأن الأصل في الناس الكفر”، وورد في الوثيقة أسماء الشرعيين الذين يتزعمون هذا التيار ومناصبهم وكان من بينهم “أبو جعفر الحطاب، وأبو خالد الشرقي، وأبو الحوراء الجزائري، وأبو عمر الكويتي، وأبو صهيب التونسي وغيرهم، ونبهت الوثيقة أن “الغلو” منتشر أكثر في صفوف “العجم” أي الأجانب الذين لا يتحدثون العربية، وفي مناطق أكثر من غيرها كولاية الجزيرة (تلعفر) ومدينة الباب بحلب والرقة والراعي والطبقة، كما نوهت إلى أن الظاهرة تم تطويقها ولم يتبقى منها سوى بعض الخلايا التي تمارس الدعوة السرية وأن العمل جار لكشفها والتعامل معها[64].

لعل المقاربة الأمنية الاستئصالية التي انتهجها تنظيم الدولة الإسلامية بحق “تيار الحطاب” يمكن إرجاعها إلى عامل رئيسي وهو النَّفَس الانقلابي لأفكار الحطاب وجماعته؛ فهم يرون انحراف وكفر قيادة التنظيم ما يعني ضمنيا المس بشرعية “مشروع الخلافة” برمته، وبالتالي الدعوة إلى خلافة بديلة على أنقاض “الخلافة المرتدة”، لذلك جاء أمر قتل الحطاب من البغدادي شخصيا[65]، وهذا الطرح تزكيه وثيقة كتبها خباب الجزراوي الشرعي في تنظيم الدولة ورد فيها أن “حرب الدولة على الحطاب حينها لم يكن الباعث الرئيسي لها هو الغلو بل السبب الرئيسي أن الحطاب ومن معه هددوا السلطة بتكفيرهم لأمير الدولة، وما يلحق بذلك من خروج على الدولة.. وإلا فإن الحطاب قبل أن يبايع الدولة كان معروفا بالغلو”[66]، ويُزَكِّي هذا الطرح أيضا تقرير صارد عن لجنة الرقابة المنهجية بعد جلستها مع أبو سعد العتيبي، فرغم خلفيته الحازمية واستنكاره إعدام الحطاب إلا أن تقيم اللجنة له لم يكن سلبيا لأنه لم يتجاوز الخطوط الحمراء أي الفتنة وشق الصف حسب تعبير اللجنة[67]، وأكدت اللجنة هذا التوجه بشكل واضح في جلستها مع أبي الفداء التونسي، وأيضا ظهور مدونة على الانترنت تحمل عنوان مصباح الظلام تحتوي على عشرات المقالات التي تكفر أبي بكر البغدادي وأبي محمد العدناني وغيرهما من قادة التنظيم، وتدعو جنود التنظيم إلى البراءة من البغدادي والخروج عنه، باعتباره جهميا مرتدا[68]، ومحررو هذه المدونة لا يُخفون ولائهم للحطاب ونوهوا كثيرا بأفكاره.

تخلص التنظيم إذن مما سماها فتنة الحطاب، وبينما كان الاعتقاد السائد في صفوف التنظيم وقيادته أن ذلك سيعيد اللحمة والانسجام إلى “الدولة” وسيضع حدا للجدل الذي أثاره الرجل وجماعته، كان الواقع شيئًا آخر، إذ لم يكن قتله سوى بداية لمسلسل من “الاستتابات” و”التعازير” والمعارك الكلامية وصراع على النفوذ، لم يسلم منه أرفع قيادات التنظيم وأبرز وجوهه الشرعية.

في محاولة من التنظيم لترتيب بيته الداخلي وحسم السجال الذي خلفه تيار الحطاب، والفصل في النقاشات الجانبية التي تثار في المجالس والمضافات والمعسكرات حول عقيدة “الدولة”، فقد قرَّر قادته صياغة وثيقة تجمل عقيدة “الدولة” يكون فحواها ملزما لكل الجنود والرعايا في كافة الولايات، وكان أحمد بن عمر الحازمي قد ساهم بدوره في تأجيج النقاشات داخل التنظيم عندما رد على تركي البنعلي الذي كتب تغريدة على تويتر مخاطبا الحازمي بالقول “من سبقك بتكفير العاذر؟” فخصص الحازمي عدة محاضرات رد فيها على البنعلي، فامتد بذلك الجدل إلى الفضاء الإلكتروني وبدأ بالخروج عن نطاق السيطرة، ولم يعد حبيس الجلسات الخاصة والمناظرات الداخلية، ومن أجل حسم هذه السجالات الكلامية المتصاعدة صدر بيان في 29/05/2016 من المكتب المركزي لمتابعة الدواوين الشرعية حول “حكم المتوقف في تكفير المشركين”[69]، وتحدثت وثائق سربها عناصر من تنظيم الدولة، أن البيان صدر بعد تعديله أكثر من 18 مرة، وتمرير مسودته على كافة المؤسسات الشرعية التابعة للتنظيم، بما فيها مكتب البحوث والدراسات والمكتب الشرعي لإدارة المعسكرات، والمكتب الشرعي لديوان الجند، وديوان الإعلام وغيرها إلى أن حظي بالإجماع على مضض، فور صدور البيان الذي يتضح من بنوده أنه يميل إلى “تيار الفرقان” خرجت أصوات رافضة له، معتبرة إياه انتصارا للغلاة داخل التنظيم، فعندما جاء أبو بكر القحطاني إلى سوريا من إجازة مؤقتة وكان حينها قاضيا في الموصل عبر بشدة عن رفضه للبيان، مستنكرا خروجه دون أن يطلع عليه أمراء الولايات الشرقية (أمراء العراق) بمن فيهم البغدادي نفسه[70].

توالت الردود على بيان المكتب المركزي لمتابعة الدواوين الشرعية، وكان معظم المعترضين أمراء وكوادر في “مكتب البحوث والدراسات” وشرعيين كبار في التنظيم، وكانت ردودهم بمثابة نصوصٍ بَلْوَرَتْ سريعا خطابا أيديولوجيا مضادا للخطاب الذي أراد بيان المكتب المركزي تكريسه في مفاصل “الدولة”، وهكذا أخذ تياران متنافسان بالظهور “تيار الفرقان” وأتباعه من مؤيدي البيان و”تيار البنعلي والقحطاني” وأتباعهما، ويمكن اختصار فحوى البيان في عدم عذره للمشركين بالجهل والتحذير من التوقف في تكفيرهم مشيرا أن “الواجب على الدعاة وطلبة العلم في الدولة الإسلامية أن يحذروا الناس من الشك والوقوع فيه أو التوقف في تكفير المشركين، وأن يكشفوا شبهات المجادلين عنهم قياماً بواجب النذارة والتبليغ، وهذا هو دينُ الأنبياء عليهم السلام، وبهذا يكون ظهور الدين”[71].

كتب أبو يعقوب المقدسي وهو مسؤول شرعي في التنظيم ردا على البيان بعنوان: “نصيحة حول موضوع البيان”[72] في 40 صفحة، وكتب أبو عبد الرحمن الزرقاوي ردا آخر بعنوان: “نقد ونصيحة”[73] في 45 صفحة، وأبو بكر القحطاني كتب ردا بعنوان: “إرشاد الحيران إلى أهم معاني البيان” كما كتب كل من أبي عبد البر الكويتي وأبي محمد الأزدي رافضين أيضا لمضمونه، وذهب مجموعة من الشرعيين إلى العراق والتقوا بالبغدادي وعبروا له عن رفضهم للبيان وشرحوا له موقفهم من المسائل التي أثارها[74]، سنفهم الآن أن تيار “البنعلي والقحطاني” رافض تماما لمحتوى بيان المكتب المركزي لمتابعة الدواوين الشرعية ويبذل جهده من أجل التأثير على أبي بكر البغدادي وعلى “اللجنة المفوضة” لإلغاء البيان أو على الأقل تعديله وإعادة نشره.

خروج البيان موقعا من المكتب المركزي لمتابعة الدواوين الشرعية كان مؤشرا على أن التنظيم لن يستطيع أن يظل متماسكا بكل ذلك التناقض الذي يدبّ في مفاصله، وأن استمرار هذا الاستقطاب الحاد بين الشرعيين سيعصف بأركان التنظيم لا محالة، وهذا ما بدا واضحا في رسالة مسربة كتبها أبو الفداء التونسي إلى والي ولاية الخير (دير الزور) في 25/04/2016 أي قبل شهر تقريبا من صدور البيان مستنكرا فيها عزله من منصبه على خلفية وشاية وصلت إلى الوالي مفادها أن أبا الفداء ومجموعة آخرين من الشرعيين والعسكريين تداولوا في اجتماع خاص خيار اللجوء إلى السلاح إذا لم تضع الدولة حدًّا لمن يروج للمواقف والتأصيلات الشرعية الشاذة باسمها، نفى الرجل في رسالته خيار “الدم” لكنه أصر على أن تُبَيِّن “الدولة” موقفَها من أقوال تركي البنعلي والقحطاني وأبي مسلم المصري لأنها “ستؤدي إلى فساد عريض وفتنة كبيرة”[75].

في المقابل نشط “تيار الفرقان” في إرسال الرسائل ورفع التقارير إلى أبي بكر البغدادي واللجنة المفوضة دفاعًا عن الأفكار والاختيارات العقدية التي حملها البيان، وانطوت غالب هذه الرسائل والتقارير إما تلميحا أو تصريحا على ازدراء للشخصيات التي تعارض البيان مستشهدة بتاريخها ومنهجها “المشبوه” المخالف لمنهج “الدولة”. ففي رسالة كتبها شعبة المصري الشرعي البارز في تيار الفرقان إلى “اللجنة المفوضة” حول ما سماه بـ “فتنة الرد على البيان”، وقد خصصها للرد على أبي عبد الرحمن الزرقاوي، ونقده للبيان الذي عنونه بـ “نقد ونصيحة”، وبعد التعليق على معظم فقراته، أوصى شعبة المصري بعدم الأخذ “بالملاحظات والتوضيحات” التي أبداها الزرقاوي لأن “الأخذ بها في هذا الوقت مفسدة عظيمة”[76]، أما أبو ميسرة الشامي فكتب رسالة مطولة إلى قيادة التنظيم ردا على مقالات الرافضين للبيان، وبالتحديد على أبي بكر القحطاني حيث اعترض أبو ميسرة على كتابة “أي تعديل أو ملحق أو شرح للبيان” معتبرا ذلك “تكلفا.. يترتب عليه ورع بارد وإرجاء ظاهر”، محذرا قيادة التنظيم من أن أي تعديل على البيان “سيظهر (الأردني أبو محمد) المقدسي وأصحابه في الخارج وأتباعهم في الداخل ليزعموا للعالم أن تيار الغلو قد قُمِع… وانتصر تيار الاعتدال”[77]، يبدو من خلال هذه العبارة أن أبا ميسرة الشامي يعي جيدا أنه بصدد تنافس شديد ومغالبة حامية مع تيار موسوم بالاعتدال يريد أن يثبت للعالم وجوده وتأثيره وقدرته على صياغة الخطاب الشرعي للتنظيم، وبالتالي يرى أبو ميسرة أن أي مس بالبيان تغييرا أو تعديلا أو حتى شرحا سيكون بمثابة الانتصار للتيار المنافس، وضمن سياق الرسائل التي بعث بها “تيار الفرقان” إلى قيادة التنظيم دفاعا عن وجاهة وصحة البيان ورفضا لاعتراضات “تيار البنعلي والقحطاني” عليه كتب أيضا أبو زيد العراقي رسالة رفض فيها تعديله وإن كان تعديلا شكليا، مشددا على أن مضمون البيان هو من “مسائل الاعتقاد غير القابلة للاجتهاد والتي لا ينبغي أن تتبدل فيها الأقوال كل يوم”، واستطرد أبو زيد في رد مطول على أبي بكر القحطاني مفصلا في “أحكام المتوقف في تكفير المشركين” ومسائل “العذر بالجهل” و”الناقض الثالث” معززا أقواله بنقولات من كتب أئمة الدعوة النجدية[78].

لا شك أن نفوذ “تيار الفرقان” كان أقوى في هذه المرحلة وكان صوتهم يصل إلى البغدادي والنخبة المحيطة به أكثر مما يصل صوت الشرعيين و”طلبة العلم” الذين لم تصنع مئات الصفحات التي كتبوها حول البيان أي فارق يذكر؛ بل كان تفاعل البغدادي مع ردود ومطالب “تيار البنعلي والقحطاني” سلبيا للغاية، كما ظهر ذلك في رسالة مسربة مختومة بختم “اللجنة المفوضة” ومكتوبة بخط اليد حررها شخص[79] جلس مع البغدادي وعرض عليه مقال أبو عبد الرحمن الزرقاوي المعنون بـ “نقد ونصيحة” فكان تعليق البغدادي عليه صارما وصادما أيضا فكان مما قال: “ليس في البيان ما يخالف عقيدة ومنهج الدولة بغض النظر عن أخطاء لغوية مع الأخذ بالمعنى المراد وليس المحتمل، ولا نسمح لأحد بالتشغيب عليه أو تفسيره بالمحتملات”، وفي المقابل طلب البغدادي من الزرقاوي تزويده بسيرة مفصلة عن نفسه تشمل “سيرتك قبل البيعة وبعدها وتتضمن جميع الأعمال التي كلفت بها والمناصب التي تقلدتها منذ بيعتك وحتى سجنك، ومن هم أمراؤك المباشرين وبمن التقيت من الأمراء البارزين والمعروفين، وهل يوجد الآن في الدولة أحد ممن عاصرك وعرفك قبل السجن؟ وكيف اعتقلت؟ وأين؟ ولماذا؟ وسيرتك داخل السجن، وكيفية خروجك؟ إضافة إلى المعسكرات والدورات والمعارك التي خضتها”، وحذره البغدادي بلهجة واضحة “من التطاول ثانية على الشيخ أبي محمد فرقان أو غيره من الإخوة الكبار أو ازدرائك للجهات الرسمية والتهكم بها” ثم أمر بعزله عن منصبه وتحويله إلى أعمال أخرى، وفي خطوة يريد منها البغدادي تجريد الزرقاوي من أي رأسمال رمزي قد يحيل عليه لقبه (الزرقاوي) فقد “ألزمه بتغيير هذا اللقب وعدم التسمي به”[80]، كانت إذن رسالة مشحونة بالغضب من البغدادي والرجال المحيطين به إلى تيار طلبة العلم، تظهر أنه لم يكن راضيا بالمرة عنهم أو على الأقل غير راضٍ عن الصورة التي رسمتها التقارير التي ترفع إليهم عنهم، خصوصا إذا علمنا أن عدة رسائل وتقارير وصلت البغدادي وقيادة التنظيم تطعن في “عقيدة” هؤلاء الشرعيين وبل وتشير إلى تلبسهم بشيء من “الردة” التي توجب الاستتابة، كما كشفت عنه رسالة أخرى مسربة بعث بها والي ولاية الخير (دير الزور) إلى قيادته يحيطها علما بأن كل من تركي البنعلي وأبي بكر القحطاني وأبي مسلم المصري يقولون: “إذا جاء رجل إلى قبر واستغاث به فإن ذلك بدعة”[81]، ويطلب تفصيلا للمسألة لأن المعروف من عقيدة الدولة الإسلامية أن الاستغاثة بصاحب القبر يعتبر كفرا وليس بدعة.

الاتهام بالكفر والردة لم يبدأ مع ردود “تيار البنعلي والقحطاني” على بيان المكتب المركز لمتابعة الدواوين الشرعية حول “حكم المتوقف في تكفير المشركين” وإنما كانت بدايته قبل عدة أشهر عندما وصل إلى “مكتب البحوث والدراسات” مجموعة من الأسئلة من معتقلين تابعين للتنظيم في أحد سجون بغداد، فانتدب المكتب أبا المنذر الحربي للإجابة عنها، فقام الحربي وهو أحد أبرز وجوه تيار البنعلي بالإجابة عنها وجمع الأجوبة في وقت لاحق في كتاب سماه “السؤالات البغدادية” وقام مكتب البحوث والدراسات بطبعه وتوزيعه، وعندما اطلع أبو محمد الفرقان على نسخة من الكتاب اعترض على ما فيه من “الكفريات” واستنكر طبعه من مؤسسة تابعة للتنظيم، ومن المسائل التي اعتبرها الفرقان كفرا “تجويز الكتاب التحاكم للمحاكم الوضعية عند الضرورة” ورأى أن ذلك “إباحة للشرك وتحاكم إلى الطاغوت” يستدعي استتابة الجهة التي أصدرت الكتاب ووافقت على طبعه ونشره[82].

أما أبو بكر القحطاني الشرعي الأبرز في “تيار طلبة العلم” فلم يسلم أيضا من تهم “الكفر والردة والتجهم والإرجاء” ففي محاضرة ألقاها بأحد المعاهد الشرعية التابعة للتنظيم تحدث عن أن “من توقف في تكفير عابد الصنم لا يكفر إلا بعد أن تقام عليه الحجة وينقطع التأويل ويرتفع اللبس” وأن “التكفير لا يدخل ضمن تعريف الكفر بالطاغوت”. فأثارت فتواه ضجَّةً في أوساط التنظيم حتى سمي القحطاني بـ “صاحب الفتوى الصنمية”. وقد رفع أحد شرعيي “تيار الفرقان” تقريرا مطولا إلى أبي بكر البغدادي وقيادة التنظيم يتضمن “الأقوال الشاذة للقحطاني” وتلبسه بتقريرات المرجئة والجهمية، مقترحا في نهاية تقريره منع القحطاني من “الخوض في مسألة تكفير العاذر وعزله من مهمة تجعل عوام الجنود والناس يظنونه شرعي اللجنة المفوضة المباركة”[83]، وبعد فترة من التقرير تم عزل القحطاني من منصبه كشرعي في اللجنة المفوضة، وأرسل إلى العراق ليعمل قاضيا في مدينة الموصل، لكنه ظل متشبثا بمواقفه وانتشرت مناظرة له مع خصومه وهو يدافع فيها عن موقفه من أن “التكفير لا يدخل في معنى الكفر بالطاغوت.. وأن اجتناب الطاغوت فسرته آية محكمة وهي قوله تعالى {والذين اجتنوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله}”[84]، أي أن تجنب عبادة “الطاغوت” هو المفسر لقوله تعالى {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى}.

النقاش حول “استتابة المشايخ” ووقوعهم في مناطات مكفرة، وصل إلى مسامع البغدادي، وقد كشفت وثيقة مسربة سعي كل تيار إلى التأثير عليه وإقناع “ديوان الخليفة” بروايته، والوثيقة عبارة عن رسالة كتبها تركي البنعلي إلى أبي بكر البغدادي و”اللجنة المفوضة” من منطلق حرصه على “أن يسمع الخليفة منه كما سمع من أبي محمد الفرقان” حول مسألة استتابة مشايخ مكتب البحوث والدراسات على خلفية طبع كتاب “السؤالات البغدادية”، البنعلي استنكر في سياق رسالته اتهام الفرقان له باعتناق “مذهب غلاة المرجئة والجهمية… وإباحة الشرك”، وطالب البنعلي برد الاعتبار للشرعيين وأن “يرفع رأسا بحَمَلَة التوحيد من أهل العلم وطلابه” وأخبر البغدادي أن الفرقان قال بأن “هذه الدولة ليست دولة علماء ولا طلاب علم” ثم استطرد في عرض موقفه الشرعي وروايته لملابسات طبع كتاب “السؤالات البغدادية” المثير للجدل[85]، اللافت أن هذه الوثيقة احتوت أيضا على ملاحظات وتعقيبات بخط اليد من شخص رافض لمحتواها، يبدو أنه أحد المقربين لأبي محمد فرقان ويتعذر التأكد من كون البغدادي اطلع على الوثيقة مع الملاحظات الجانبية أم جرى تدوين تلك الملاحظات بعد اطلاعه عليها.

خامسا: امتحان العقائد
هذا الاضطراب الشرعي والتوتر المنهجي في صفوف تنظيم الدولة والنفوذ الواضح لـ “تيار الفرقان” على حساب “تيار البنعلي والقحطاني” يحيلنا على آلية إجرائية تم توظيفها في خضم الصراع بين فرقاء التنظيم، وهي امتحان العقائد واختبار وفحص القناعات عبر “لجنة الرقابة المنهجية”.

تأسست “لجنة الرقابة المنهجية” عقب إعدام تنظيم الدولة الإسلامية لأبي جعفر الحطاب حيث اكتشف التنظيم أن شرعيين يتبوؤون مناصب حساسة في هيكليته يتبنون أفكارا ومواقف شرعية تهدد تماسكه واستقراره، فالحطاب مثلا لم يكن جنديا عاديا بل كان مسؤولا كبيرا في قطاع التعليم، “يبدأ عمل اللجنة بمقابلة الشرعيين في الدولة والتعرف عليهم من خلال ذكر سيرتهم ونفيرهم وعملهم في الدولة وطرح المسائل المتداولة والمشكلة بين الإخوة الشرعيين ثم كتابة تقرير بعد الجلسة يشتمل على: رحلة الأخ في طلب العلم، نفيره للدولة الإسلامية وعمله فيها، رأيه في المسائل المطروحة عليه وقوله فيها، تقييم عام للأخ مع توصيات بشأنه، وتكون الأولوية في اللقاء بالشرعيين لمن أُثِرَتْ عنه مقالة مخالفة أو أثيرت حوله بعض الشبهات المنهجية أو الشذوذ العلمي”[86].

كانت اللجنة تضم في بداية تأسيسها عضوية كل من أبي محمد فرقان وأبي مسلم المصري وأبي بكر القحطاني وأبي وليد السيناوي وأبي خباب المصري وأبي سليمان الشامي وأبي رغد الدعجاني وأوس الجزراوي، ويسع القارئ أن يلاحظ أن هذه الأسماء ينتمي بعضها إلى “تيار البنعلي والقحطاني” والبعض الآخر إلى “تيار الفرقان”، ويرجع ذلك إلى أن تأسيس اللجنة كان بعد إعدام الحطاب وقبل أن يتبلور الخلاف والشقاق بين التيارين، لكن بعد أن باشرت اللجنة عملها وقامت بالجلوس مع من يُشك في تعاطفهم مع الحطاب مثل أبي سعيد العتيبي، تصاعد النقاش واحتد السجال في المسائل التي أثارها “تيار البنعلي والقحطاني” مثل مسألة من لم يكفر عابد الصنم التي أثارها القحطاني، ومسألة التحاكم إلى المحاكم الوضعية التي أثارها أبو المنذر الحربي، وفتوى أبي مسلم المصري الذي اعتبر الاستشفاع بالميت بدعة مفضية إلى الشرك وليست شركا بذاتها. في هذه اللحظات حصل تحول في عمل “لجنة الرقابة المنهجية” وانقلب جدول أعمالها من رصد مقولات “الغلو” في قناعات الشرعيين إلى التفتيش عن تأصيلات التجهم والإرجاء في عقائدهم، واكتشفت اللجنة “أن الظاهرة الأقوى بين الشرعيين هي الإرجاء… وأن ظهور الغلاة كان مجرد ردة فعل على انتشار الإرجاء”[87]، فجرى عزل القحطاني وأبي مسلم المصري والشرعيين الآخرين المقربين من تيار البنعلي من اللجنة، بل تم إخضاعهم لجلسات استجواب في سياق عملها ورفع تقارير بشأنهم إلى القيادة مذيلة بتوصيات إما بعزلهم أو مراقبتهم أمنيا أو استتابتهم[88].

هذا التحول السريع في أجندة الأوصياء على الملف الشرعي داخل تنظيم الدولة يمكن معاينته بوضوح أكثر من خلال وضع شرعييها البارز تركي البنعلي، فبتاريخ 13/02/2016 رفع تقريرا إلى اللجنة المفوضة في الولايات الشرقية (العراق) حول ظهور من سماهم بالغلاة الجدد، وقال: “لقد أطل الغلاة هذه الأيام برؤوسهم من جديد لكن كبراؤهم اليوم ليسوا توانسة بل جزراوية” يقصد ربما أبي سعيد العتيبي، وعرج البنعلي في رسالته على معتقدات هؤلاء الغلاة الجدد وقال بأن منهم من “يكفر العاذر بإطلاق”، و”من يقول بأن التكفير أصل من أصول الدين”.. وحثَّ على ضرورة التصدي لهؤلاء واقترح في ختام رسالته تكليف القحطاني بمعالجة هذه الظاهرة لأنه المؤهل علميا لذلك[89].

وفي 21/02/2016 عقدت لجنة الرقابة المنهجية أولى جلساتها لاستجواب الشرعيين، وبعد جلستين مع الغلاة المفترضين (أبو عمر الداغستاني ثم أبي سعيد العتيبي) ركزت اللجنة في معظم جلساتها اللاحقة على الشرعيين المشتبه بحملهم أفكار “الإرجاء”، لتستجوب في 10/04/2016 تركي البنعلي نفسه في مؤشر واضح أن أمور التنظيم آلت إلى تيار الفرقان، الذي توج هذه السيطرة ببيان المكتب المركزي لمتابعة الدواوين الشرعية حول حكم المتوقف في تكفير المشركين في 29/05/2016 أي بعد أقل من شهرين من استجواب البنعلي[90].

من خلال الاطلاع على ما تسرب من تقارير لجنة الرقابة المنهجية يلاحظ بوضوح تعاطفها مع من تلبس من الشرعيين ببعض أفكار الغلاة، وتفهمها لمواقفهم الحادة من القضايا المثارة، لأن ذلك –حسب اللجنة-طبيعي في ظل انتشار مقولات “الإرجاء والتجهم” في أوساط الشرعيين الكبار، فأبي سعيد العتيبي المسؤول الشرعي بديوان الركاز مثلا أثناء استجوابه من اللجنة لم يخف استيائه من عملية إعدام الحطاب، وكان معروفا بتأصيلاته الحازمية، وطالب بإدراج التكفير في المناهج الدراسية، غير أن اللجنة وإن سجلت أنه سيء الأدب في الحوار إلا أن تقييمها له على العموم كان إيجابيا وأنه “لا يشكل أي خطر مادام لم يقترب من الخط الأحمر” (الفتنة)[91]، ونَوَّهَت به كأول من حذَّر من انتشار الإرجاء في “الدولة”[92]، وفي جلسة استجواب أبي الرباب التونسي ويعمل شرعيا بالمعسكرات فقد سجلت اللجنة “أنه يتبنى تأصيلات الحازمي” بما فيه التكفير بالتسلسل ويُكَفِّر فعليا بعض الشرعيين في الدولة، إلا أنها خلصت في النهاية إلى أن أبا الرباب “شخص بسيط وغير متزن عقليا”[93].

أما جلسات استجواب كل من تركي البنعلي وأبي بكر القحطاني الذين يفترض أنهما الشرعيان البارزان في “الدولة”، فلم تكن ملاحظات اللجنة إزائهما بالحسنة، أبو ميسرة الشامي نقَّبَ في تراث البنعلي وجمع نصوصا وفتاوي كتبها عندما كان عضوا في اللجنة الشرعية لمنبر التوحيد والجهاد التابع لأبي محمد المقدسي، واستنتج من خلالها أن البنعلي متلبس بعقيدة الإرجاء والتجهم ومتأثر بالشيوخ الذين درس عندهم لاسيما “الزنديق أبي محمد المقدسي” -حسب وصفه-عندما كان مفتيا في موقعه[94]، كانت ملاحظات اللجنة على كل شرعيي تيار “البنعلي والقحطاني” سلبية للغاية، تراوحت بين كون المًسْتَجْوَب “غير متمكن البتة في المسائل”[95] كما هو الحال مع أبي المنذر الحربي وبين “استتابته من الردة وإلزامه بالتراجع عن معتقده الفاسد في خطبة الجمعة” كما هو الحال مع أبو فهر التونسي[96].

ولتعذر التطرق إلى كل تقارير لجنة الرقابة المنهجية عرضا وتحليلا على أهميتها في فهم خلفيات الصراع المنهجي داخل تنظيم الدولة الإسلامية، ننوه إلى أهمية الاطلاع على تقارير اللجنة ونكتفي هنا بإدراج ملخص بعض الجلسات كما صاغه المشرفون على اللجنة.

في هذه الفترة ازداد نفوذ “تيار الفرقان” وتحدث مقربون من تيار البنعلي أن هذا الأخير عانى من الإقصاء والتهميش، هو وسائر الشرعيين الذين يعملون ضمن “مكتب البحوث والدراسات”، كما استتيب بعضهم وتعرض البعض الآخر للسجن أو الملاحقة، ورغم مقتل أبي محمد الفرقان في سبتمبر 2016 إلا أن ذلك لم يؤثر على قبضة تياره على مفاصل الدولة خصوصا “اللجنة المفوضة” و”مكتبة الهمة” و”ديوان الإعلام المركزي” و”ديوان الأمن العام”، مقتل الفرقان تلقاه تيار البنعلي بسعادة وارتياح حتى أن بعضهم “سجد شكرا”[97] عندما سمع بخبر مقتله، وهي مشاعر عبرت بشكل جلي عن عمق التصدع في بنية التنظيم ووصول الخلافات بين فرقاءه إلى نقطة اللا عودة.

في 14/07/2016 بعث الشرعي في “تيار البنعلي والقحطاني” والقاضي في ولاية الرقة “أوس النجدي” رسالة إلى أبي بكر البغدادي ذكره فيها “بما لطلبة العلم من الفضل وعلو المنزلة” لأنه “في الآونة الأخيرة… وبعد ظهور الغلاة من جديد بلبوس منهج الدولة جرت أمور عندنا في الشام لا نرتضيها”، وأضاف: “فبعد أن تولى الشيخ أبو محمد الإعلامي (الفرقان) تبيين منهج الدولة الإسلامية حول مسائل الكفر والإيمان خصوصا ما يتعلق بمسألة تكفير العاذر بالجهل لاحظ الكثير من الإخوة الكثير من الملاحظات في طريقة عرض المسألة وتأصيلها من قبل الشيخ”[98]، واستنكر النجدي في رسالته الأسلوب السيء الذي تعامل به الفرقان مع الشرعيين والغلظة في النقاش معهم، وعبر في رسالته عن قدر الحيرة والارتباك التي واكبت تقرير عقيدة الدولة الإسلامية قائلا: “وإني لأعجب أن يصل بنا الحال أن نقرر عقيدتنا ونحن في شك منها” واتهم من أخرج بيان المكتب المركزي لمتابعة الدواوين الشرعية بأنهم “يغازلون شرذمة الغلاة”، لم يكن النجدي مبالغا في حديثه عن المعاملة السيئة والمهينة التي تعرض لها زملاؤه الشرعيين فقد كشف التسجيل الصوتي المسرب لجلسة “لجنة الرقابة المنهجية” مع الشرعي أبي عبد الرحمن الزرقاوي من معاملة قاسية معه خصوصا من طرف أبي مرام الجزائري العضو في اللجنة[99].

سادسا: عقيدة الدولة تتبدل!!
في 17/05/2017 أصدرت “اللجنة المفوضة” تعميما ملزما لجميع جنود ورعايا “الدولة” عنونته بالآية الكريمة {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة}. أتى التعميم في محاولة لوضع حد للخلافات المستشرية في مفاصل التنظيم، وليؤكد أن “تيار الفرقان” يمسك فعلا بأهم هيئة في “الدولة” ويستطيع أن يُلزم الجميع بمواقفه الشرعية وتأصيلاته المنهجية التي باتت تُذيل بأعلى ختم في الدولة بعد ختم الخليفة، جاء في التعميم أن تنظيم الدولة “يكفر الطواغيت المشرعين ومن انتخبهم، ويكفر عباد القبور ومن جادل عنهم” وأنها “لا تؤصل الإسلام في دار الكفر الطارئ”، ثم أورد التعميم مواقف القحطاني والبنعلي والحربي في سياق المواقف الشرعية التي تُنسب إلى الدولة خطأ مثل: “من كان يبيح شرك التحاكم إلى الطاغوت بدعوى الضرورة ومن يتوقف في تكفير المنتخبين بدعوى جهلهم لحقيقة الانتخابات.. أو يجعل تكفير المشركين مسألة خفية أو خلافية، ويضع للعمل بها قيودا ثقيلة بحيث تؤدي إلى تعطيل الناقض الثالث”[100]، وكل ما تضمنه البيان الذي وقع في سبع صفحات على أساس أنها عقائد منحرفة تتبرأ منها “الدولة” كانت في الواقع أقوالا وتقريرات جادل عنها سابقا تيار البنعلي والقحطاني ورأوا أنها تمثل عقيدة الدولة الإسلامية.

أثار تعميم “ليهلك من هلك عن بينة” جدلا حادا أكثر مما أثار البيان الأول الصادر عن المكتب المركزي لمتابعة الدواوين الشرعية، ونشط “تيار البنعلي والقحطاني” في الرد عليه، واعتباره تعميما بدعيا، فحرر البنعلي ردا مطولا على البيان مبينا أخطاءه الشرعية واللغوية أيضا، واستنكر صدوره عن “اللجنة المفوضة” عوض صدوره عن هيئات أخرى لا يمس الرد عليها وتراجعها عن أخطائها سمعة “الدولة”، ورفض البنعلي كل ما جاء في البيان لاسيما ما ورد فيه من كون “التكفير أصل من أصول الدين الظاهرة” لأن التكفير بالتسلسل سيكون من لوازم هذا القول. يعني أن من لم يُكفر الكافر فقد نقض أصل دينه، وقال بأن ذلك سيترتب عليه تكفير شيوخ التيار الجهادي الكبار كأبي يحيى الليبي وعطية الله وأبي عمر البغدادي لأنهم لم يكفروا حماس لمشاركتها في الانتخابات مثلا[101].

كما كتب الشرعي البارز في تيار البنعلي أبو عبد البر الصالحي أن “خروج تعميم بهذه الركاكة في الأسلوب والعبارة والاستشهاد بضعيف الأحاديث وفي الصحاح غنية عنها؛ موسوم بختم اللجنة المفوضة عن الإمام مما يزري بدولتنا”، وأضاف الصالحي في رد من 11 صفحة أن “هذا التعميم سيُكَفَّر به بعض أئمة الجهاد ويُبدع آخرون” ثم استرسل في الرد على ما جاء في التعميم من أن “الدولة” لا تؤصل الإسلام في ساكني ديار الكفر الطارئ واعتبر ذلك خروجا على ما قرره قادة الدولة الأوائل بمن فيهم العدناني، وحذر من أن التعميم سيكون مقدمة لتكفير مؤسسيي الدولة كأبي مصعب الزرقاوي وأبي حمزة المهاجر وأبي عمر البغدادي[102].

ما حذر منه أبو عبد البر الصالحي لم يتأخر كثيرا حيث نشرت صحيفة النبأ الأسبوعية في عددها 85 الصادر بتاريخ 15/06/2017 -أي بعد شهر من تعميم اللجنة المفوضة-مقالا ضمن سلسلة مقالات “رموز أم اوثان” لمح من خلاله الكاتب إلى كفر أبي بكر البغدادي نفسه، المقال تعرض بالازدراء لبعض “المنتسبين إلى أهل السنة الذين يعظمون بعض الرموز… كرموز الإخوان المرتدين ورموز القاعدة كعطية الله الليبي وأبي مصعب السوري” وسماهم الكاتب في سياق مقاله “بعباد الرموز”، وإذا رجعنا إلى الكلمات الصوتية التي أصدرها أبو بكر البغدادي سنجد له كلمة صوتية في يوليو 2012 حملت عنوان “ويأبى الله إلا أن يتم نوره” جاء فيها في سياق ثناءه على عطية الله الليبي “العالم العامل المجاهد: عطية الله صاحب العلم والوقار”[103]، فهل كان البغدادي ضمن من شملهم وصف “عباد الرموز”، وأيضا وبمقتضى تعميم اللجنة المفوضة السابق سيكون البغدادي مرتدا، لأنه لم يكفر عطية الله الليبي الذي رفض تكفير حماس عندما دخلت المجلس التشريعي الفلسطيني.

النخبة المحيطة بالبغدادي استشعرت دقة وحساسية المرحلة التي وصل إليه الاستقطاب داخل “الدولة”، وجسامة الخطر الذي انطوت عليه بنود التعميم الذي صدر عن “اللجنة المفوضة” والمقالات التي نُسجت على منواله. فصدر في 15/09/2017 تعميم جديد من اللجنة المفوضة ألغى العمل بالتعميم السابق الذي أثار الجدل. التعميم الجديد كان أشبه ما يكون ببيان انقلاب سيتم بمقتضاه تغيير أوضاع “الدولة” تغييرا جذريا، وإعادة كتابة عقيدتها من جديد، جاء في مقدمة البيان ما يلي: “فقد تم إلغاء العمل بمضمون التعميم المعنون له بالآية الكريمة {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة}… وذلك لاحتوائه على أخطاء علمية وعبارات موهمة غير منضبطة أدت إلى حدوث التنازع والتفرق بين المجاهدين خاصة والمسلمين عامة… كما أنه قد تم إعادة كتابي (التقريرات المهمة في أهم أبواب العقيدة) و(توعية الرعية بالسياسة الشرعية) والتي تم إلغاؤها… علما أن هذه الكتب لم يتبين عند التحقق احتواؤها على ما يخالف عقدية أهل السنة والجماعة، ونوصي بالرجوع إلى هذه الكتب في بيان مسألة المتوقف في تكفير المشركين أو حكم الطائفة الممتنعة أو أحكام الديار أو غيرها من المسائل”، ونوه التعميم إلى أنه ستصدر سلسلة صوتية عبر إذاعة البيان لتوضيح عقيدة تنظيم الدولة فيما يتعلق بالمسائل المثيرة للخلاف[104]، واضحٌ جدا أن تيار البنعلي والقحطاني قد نجح في إحداث اختراق نوعي في الدائرة المحيطة بالبغدادي واستطاع السيطرة على أعلى مؤسسة في الدولة بعد “ديوان الخليفة”، وتمكن من ترسيم عقيدته وخطابه الشرعي وإعادة الكتب التي صاردها تيار الفرقان إلى التداول من جديد.

قام أبو بكر البغدادي بعزل أعضاء “اللجنة المفوضة” الذين أشرفوا على تعميم {ليهلك من هلك عن بينة} وصدرت بحقهم أوامر بالاعتقال والاستتابة، فبدأ “ديوان الأمن العام” حملة لمطاردتهم وتصفيتهم، فتمكن بعضهم من الفرار والخروج إلى تركيا مثل أبي زيد العراقي (إسماعيل العيثاوي) الذي اعْتُقِل وسُلِّمَ إلى السلطات العراقية وصدر بحقه حكم بالإعدام، وقد ظهر في مقابلة ضمن برنامج صناعة الموت على قناة العربية[105]، أبو مرام الجزائري أيضا تمكن من الفرار ورجَّحَ البعض دخوله إلى تركيا، كما فرَّ أبو أحمد الفرنسي وخرج من مناطق سيطرة التنظيم ليقع أسيرا في قبضة الأكراد، بينما قُتل أبو حفص الودعاني تعزيرا كما تبين من خلال وثيقة مسربة عن ديوان الأمن العام[106]، الودعاني يتبوأ مناصب رفيعة في الدولة منها والي حلب ووالي الخير (دير الزور)، ووالي الرقة، وأميرا لديوان الزكاة، وأخيرا عضوا باللجنة المفوضة[107]، ولا يُعلم على وجه اليقين مصير الأعضاء الآخرين باللجنة.

قام أبو بكر البغدادي بتعيين لجنة جديدة معظم أعضائها من شرعيي “مكتب البحوث والدراسات” وأمر عليهم أبو محمد المصري وكلفهم بكتابة عقيدة تنظيم الدولة الإسلامية، لكن الجدل والانقسام لم ينتهيان عند هذه النقطة.

قامت اللجنة الجديدة بإعداد سلسلة دروس صوتية تشرح عقيدة الدولة الإسلامية تحت إشراف أبو محمد المصري وسميت السلسلة بـ “سلسلة علمية في بيان مسائل منهجية” وكان عدد حلقاتها تسع حلقات وهي كالتالي: الأولى: مقدمة في تفنيد البيان البدعي المُلغى.

الثانية: في شرح مسألة أصل الدين

الثالثة: مسألة تكفير المشركين

الرابعة: الرد على شبهتين دخلتا على الغلاة

الخامسة: مراتب تكفير المشركين

السادسة: حكم من كفَّر مسلمًا بغير حق

السابعة: تتمة حكم من كفر مسلمًا بغير حق

الثامنة: الطائفة الممتنعة.

التاسعة: مسألة أحكام الديار.

لقد أمسك إذن “تيار البنعلي والقحطاني” بزمام الأمور في تنظيم الدولة، وسيطلق حملة تطهير داخل مفاصله تستهدف الشرعيين الموالين لـ “تيار الفرقان”، فقد بعث أبو حفص الودعاني الشرعي في تيار الفرقان رسالة غاضبة إلى أبي بكر البغدادي يستنكر فيها المعاملة السيئة التي تعرض لها واعتقاله في زنزانة انفرادية وتفتيش منزله ومصادرة حاسوبه، وتحقيق أبو محمد المصري مع رفاقه بتهمة الخيانة، وأضاف بأنه أرسل إليه عدة رسائل وهو في السجن ولم يتلق أي رد عنها، وخاطب البغدادي بلهجة صريحة قائلا: “يا شيخ بالله عليكم ماهي المصلحة التي حققتموها من إلغاء التعميم، ومن ثم إنزال هذه السلسلة التي أنتم أعلم بها مني، والتي بَيَّنَ لكم الإخوة في الإعلام الملاحظات التي فيها” وحذر البغدادي قائلا: “هل تعلم أن أكثر الجنود لا يثقوا بكم.. وأن أكثر الجنود بين خارج إلى ديار الكفر وقاعد عن الجهاد”[108]، كانت رسالة الودعاني مفعمة بالغضب والاستياء، ولم يكن مستغربا أنها كانت سببا في تقرير مصيره؛ القتل تعزيرا[109].

بدأت إذاعة البيان التابعة “لديوان الإعلام المركزي” المعقل الأهم لتيار الفرقان ببث الحلقات، ورغم رفض بعض العاملين فيه لمحتواها إلا أنهم لم يجرؤوا على الاعتراض في العلن فقد جرى عزل بعض كوادر الديوان ممن أثيرت حولهم شبه الغلو، كما أن الحلقات قد تم عرضها على البغدادي ووافق على مضمونها كلها[110]، وبدا التنافس والصراع داخل تنظيم الدولة محسوما لصالح “تيار البنعلي والقحطاني”، لكن ما إن شرعت إذاعة البيان في بث السلسلة حتى جاء أمر من الشخصية النافذة المقربة من البغدادي “حجي عبد الله” بإرجاء بث ثلاث حلقات منها وهي الحلقة الرابعة والسادسة والسابعة، إرجاء تحول إلى حظر للنشر، فخرجت الحلقات بشكل غير رسمي[111].

منع ثلاث حلقات من النشر كان بداية فصل جديد من فصول الصراع داخل تنظيم الدولة الإسلامية، لم تكن فيه السيطرة لأي من التيارات المنهجية التي كانت تحاول فرض مواقفها الشرعية على التنظيم وتكريس قناعاتها في خطابه الأيديولوجي، كانت السيطرة في الواقع لنخبة من التكنوقراط؛ رجال حرب متنفذين يحيطون بالبغدادي، لا يهمهم “الجدل الكلامي والعقائدي” الذي غرق فيه التنظيم في المرحلة السابقة، كما أن لحظة الهزائم المتوالية التي لحقت بالتنظيم وخسارته لمعاقله الرئيسة تجعل أي “نقاش كلامي” عبثا لا معنى له؛ غير أن بعض شرعيي “تيار البنعلي والقحطاني” يعزون سبب حظر بث الحلقات الثلاث من السلسلة إلى رغبة حجي عبد الله في “نصرة الغلاة وحفاظا على مشاعر تركة الفرقان”[112].

إن النخبة العسكرية العراقية المحيطة بالبغدادي والمتمثلة أساسا في “حجي عبد الله القرشي” و”حجي عبد الناصر” و”حجي حامد” هي من تتحكم بما تبقى من تنظيم الدولة، ولا يبدو أنها متأثرة بأي من التيارات المنهجية التي تنافست على إدارة الملف الشرعي في التنظيم، ومنذ وقف بث السلسلة العملية التي أشرف عليها أبو محمد المصري وسجلها بصوته وديوان الأمن العام ينفذ عمليات اعتقال وتصفية بحق كل المعترضين[113] على سياسات التنظيم سواء كانوا محسوبين على “تيار البنعلي والقحطاني” أو على “تيار الفرقان”، هذه النخبة العسكرية المتنفذة سماها أبو محمد الهاشمي في كتابه الجديد “كفو الأيادي عن بيعة البغدادي” بـ “الحجاجي” وقال بأنهم “يصدرون القرارات العامة دون الرجوع لأي طالب علم أو دون أي مستند شرعي”، وكان حجي حامد واضحا وصريحا في جوابه على مقترح بتشكيل مجلس موسع للشورى يجعل كوادر جديدة تشارك في إدارة الدولة حيث قال بلهجته العراقية “ما ننطيها… ما نعرف قرعة أبوهم منين يجون ياخذونها منا”[114]، وهو اعتراف بإمساكهم “بالدولة” ورفضهم إشراك أحد في تدبير شؤونها.

لن نجد وثيقة تعبر عن واقع هذه اللحظة أكثر من رسالة الودعاني الى البغدادي التي عرضنا مقتطفات منها في فقرة سابقة يقول الودعاني عن هذه المرحلة: “صارت الدولة فريقين، بل هناك حملة على الفريق السابق، كأنها حكومة جديدة استولت على الحكم كما يقول كثير من الإخوة، ونحن لا نعلم حقيقة هل هذا الأمر يحدث بعلمكم أو بغير علمكم… وأكثر الجنود لا يعرف على ماذا يقاتل، ولا يعرف ما هي عقيدة الدولة، خاصة بعد عزل أبي محمد المصري وأصحابه –عاملهم الله بعدله- بل الكل يسأل: هل السلسلة مازالت هي عقيدة الدولة أم بعد عزل القائمين عليها أُلغيت معهم، كما فُعِلَ بالذين من قبلهم، أي نحن فإنه حينما عُزلنا واعتقلنا أُلغي التعميم معنا”[115]. عبارات الودعاني عكست المنطق الذي اشتغل به التكنوقراط المحيطون بالبغدادي في هذه المرحلة حيث الأولوية لأمن “الدولة” ووحدتها وشرعية أميرها أكثر من أي عقيدة أو أي منهج مهما كان، فمادام حملة هذه المناهج يهددون أمن “الدولة” وشرعية أميرها فلابد من القضاء عليهم كلهم.

رغم المكانة التي تبوأها أبو محمد المصري في تنظيم الدولة، وإمساكه باللجنة المفوضة بعد إلغاء التعميم المثير للجدل، إلا أن احتجاجه على وقف بث الحلقات الثلاث، عَرَّضَه للمتابعة والاعتقال هو والشرعيين المقربين منه، ففي 8/12/2018 أي بعد أربعة أشهر من بث الحلقة الأولى من “سلسلة علمية في بيان مسائل منهجية” تعرض أبي محمد المصري للاعتقال مع الشرعي البارز وأمير مكتب البحوث والدراسات أبي يعقوب المقدسي وقد تزامن الاعتقال مع أخبار مفادها عودة “الغلاة إلى التنفذ في مفاصل اللجنة المفوضة”[116]، في 4/01/2018 تم اعتقال “أوس النجدي” أمير المكتب الشرعي لديوان الجد، في 29/04/2018 تم اعتقال أبي عبد الرحمن الزرقاوي، في 30/08/2018 تنظيم الدولة يتهم أبا يعقوب المقدسي بالعمالة لمؤسسة راند والتواصل مع أبي محمد المقدسي وحيازة الأرشيف والأختام وإيواء المطلوبين، وتسريب الكتب والأبحاث بغير إذن.. وغيرها من التهم[117]، في 8/09/2018 تم اعتقال أبي الحسن الجراح أمير ديوان الدعوة والمساجد سابقا وأبي حفص الهمداني أمير المكتب الشرعي لديوان الجند سابقا، في 16/11/2018 تم اعتقال أبي مصعب الصحراوي مسؤول ديوان البحوث والافتاء والمدرس بالمعهد الشرعي، في 18/11/2018 تعرض سجن تابع لديوان الأمن لقصف جوي من قوات التحالف قتل على إثره عدد من الشرعيين المعتقلين أهمهم أبو مصعب الصحراوي وأبو أسامة الغريب وأبو حفص الهمداني، في 4/12/2018 تم الإعلان عن مقتل الشرعي البارز أبي يعقوب المقدسي، وبعد يومين أي في 6/12/2018 أعلن عن مقتل أبي محمد المصري في قصف تعرض له السجن الذي اعتقل فيه، ويعتبر المصري أهم الوجوه الشرعية في تيار البنعلي والمشرف على إنجاز “السلسلة العلمية في بيان مسائل منهجية” وقارئ حلقاتها المنشورة عبر إذاعة البيان، وبذلك يكون تيار البنعلي والقحطاني قد تفكك ولم يعد له تأثير يذكر أو على الأقل إلى اللحظة التي يتم فيها تحرير هذه الدراسة[118].

الملاحظ من الاعتقالات والتصفيات التي تعرض لها الشرعيون سواء من تيار “البنعلي والقحطاني” أو من “تيار الفرقان” أنها لم تكن على خلفية مواقفهم الشرعية أو اختياراتهم العقدية، وإنما بسبب “شقهم الصف” و”عدم طاعتهم للأوامر”، أي أن أولوية النخبة المحيطة بالبغدادي هي الحفاظ على تماسك ووحدة ما تبقى من التنظيم خصوصا وهو مقبل على مرحلة جديدة قد لا يستطيع معها ضبط أفراده وإلزام كوادره بسياساته، وهي مرحلة حرب العصابات، والعمل الأمني السري، وهذا ما أظهرته رسالة سرية مسربة بعث بها ديوان الأمن إلى مسؤول أمني تابع لولاية البركة (الحسكة) في 25/06/2018 يطلب من خلالها معلومات “على وجه السرعة” عن شرعيين من بينهم أبي محمد المصري وأبي يعقوب المقدسي وأبي المنذر الحربي وأبي حفص الهمداني و أوس النجدي.. و”مستجداتهم من ناحية التزامهم بالعمل وهل هم ممن يثيرون الفتن والشبهات… وهل لديهم تجمعات أو ما شابهها من الظواهر المريبة أمنيا”[119]، إذن فالهاجس الأمني والخوف من “الفتنة” هو المخيم على الدائرة المحيطة بالبغدادي، وبدا ذلك بشكل أوضح في لائحة الاتهام التي صدرت بحق أبي بيعقوب المقدسي التي احتوت فقط على تهم على علاقة مباشرة “بأمن الدولة”.

المحور الثالث: الانقسام المؤسساتي في تنظيم الدولة
الخلاف والتباين في القناعات الأيديولوجية بين فرقاء التنظيم أدى إلى تضارب في صلاحيات المؤسسات التي أنشأها التنظيم من أجل تدبير خطابه الأيديولوجي، وإدارة شؤون “الخلافة” الناشئة التي كانت بصدد التمدد والتوسع. ولعل من أبرز الإشكالات التي أربكت الجهاز البيروقراطي للتنظيم في المرحلة السابقة؛ ذلك التنافس المحتدم بين “ديوان الإعلام المركزي” و”مكتب البحوث والدراسات” وسعي كل مؤسسة التي ممارسة صلاحيات الأخرى. ويرجع ذلك أساسا إلى كون “ديوان الإعلام المركزي” معقلا رئيسيا لـ “تيار الفرقان”، وإمساك “تيار البنعلي والقحطاني” بـ “مكتب البحوث والدراسات”.

عندما تولى أبو محمد الفرقان ملف الإعلام قبل تمدد “الدولة” إلى الشام، (يسمى بالفرقان نسبة إلى مؤسسة الفرقان الذراع الإعلامي لدولة العراق الإسلامية) سعى إلى توظيف الكوادر المقربة منه أو التي تتقاسم معه نفس القناعات والأفكار، ومع مرور الوقت أصبح “ديوان الإعلام المركزي” مؤسسة يتحكم بكل مفاصلها وأقسامها كوادر يدينون بالولاء لأبي محمد الفرقان. وكان هذا الأخير يتابع باهتمام ودقة كل تفاصيل الديوان ويشرف على المواد التي يتم بث أو نشرها حتى لا تخرج عن الخط التحريري الذي يريده. وعندما نتحدث عن “ديوان الإعلام المركزي” فنحن نتحدث عن مؤسسة ضخمة وفي منتهى الاحترافية، يشتغل بها مئات الموظفين والكوادر من تقنيين ومحررين ومصورين ومترجمين… موزعين على عدة أقسام ومجموعات عمل حسب المهام والتخصص، يعملون على الساعة لإنتاج مواد إعلامية مختلفة بأهم لغات العالم[120].

لم يكن “الفرقان” مجرد تقني ينتج الدعاية لتنظيم الدولة، بل كانت له أفكار حول الشكل الذي يجب أن تبدو عليه الهوية الأيديولوجية لتنظيم، لقد كان أول المشرفين على “لجنة الرقابة المنهجية” المعنية بمراقبة واستجواب الشرعيين. فحدث بذلك أول اصطدام له مع “مكتب البحوث والدراسات” الذي يُصِرُّ القائمون عليه على أنهم وحدهم الأوصياء على الخطاب الشرعي “للدولة”، قام الفرقان بحظر نشر الكتب والمؤلفات التي أصدرها شرعيون بمكتب البحوث والدراسات بحجة أنه المخول بتقرير ما ينبغي نشره من عدمه، في المقابل قام بنشر مطويات ومنشورات دون إذن من مكتب البحوث، الأمر الذي اعتبره كوادر هذا الأخير تدخلا في صلاحياتهم. وقد كتب تركي البنعلي إلى أبي بكر البغدادي عن “حجم الهوة بين مكتب البحوث والدراسات وبين الشيخ أبي محمد فرقان”[121].

بعد تشكيل تنظيم للدولة للدواوين انتظم معظم الشرعيين في “ديوان البحوث والإفتاء” المكلف بإصدار الفتاوى وكتابة البحوث والدراسات، لكن وفي سياق التهميش الذي تعرضت له الكوادر الشرعية وافتقادهم للنفوذ والسيطرة التي تخول لهم فرض مواقفهم جرى تحويل “الديوان” إلى “مكتب”، فعقيدة الدولة ومواقفها الشرعية لا يحددها الشرعيون وإنما رجال متنفذون في الدولة[122]، وخلال الصراع والتنافس وتزامنا مع سيطرة تيار الفرقان على اللجنة المفوضة تم إلغاء “مكتب البحوث والدراسات” فشكل ما تبقى من الشرعيين تجمعا غير رسمي أسموه “المجس العلمي”.

بعد إلغاء تعميم “ليهلك من هلك عن بينة” وحل “اللجنة المفوضة” التي أصدرته وتعيين لجنة أخرى، سعت اللجنة الجديدة إلى تطهير “ديوان الإعلام المركزي” من الكوادر التي لازالت تحتفظ بولائها لأفكار الفرقان، وعزلت بالفعل كثيرا منهم، غير أن حظر نشر الحلقات الثلاث من السلسلة العلمية، ومطاردة الشرعيين الذين أشرفوا على كتابتها أعاد من جديد تقوية نفوذ تيار الفرقان في ديوان الإعلام مع صلاحيات لم تكن لهم من قبل، وصلت إلى رفضهم الامتثال أمام القضاء على خلفية شكايات رفعت ضدهم أو الالتزام بالضوابط الشرعية في العمل. هذا الانفلات أدى بحوالي 40 كادرا إعلاميا من مختلف التخصصات إلى رفع شكوى إلى قيادة التنظيم بسبب “ما يمرّ به الديوان من نزاع وشق الصف” ورفض بث “إصدارات فيها مقتطفات من السلسلة” ونشر “أخرى بها عبارة يُفهم منها تكفير الشعوب” وتطرقت الشكوى إلى بعض التفاصيل فيما يتعلق بالخلافات والانقسامات داخل الديوان[123].

كشفت رسالة مهمة بعث بها من تبقى من الشرعيين المحسوبين على “تيار البنعلي والقحطاني” إلى قيادة تنظيم الدولة حول وضع “ديوان الإعلام المركزي” عن حجم الاضطراب والارتباك الذي يعيشه الجهاز الإعلامي للتنظيم و”المخالفات الجسيمة التي يقترفها أمراءه والقائمون عليه”، وتعرضت الرسالة لكواليس عمل الديوان في الفترة الأخيرة وأسماء بعض أمراءه النافذين، وعن “غياب الرقابة الشرعية المؤهلة على ما يصدره ديوان الإعلام وما ينتهجه من السياسات، وتفلت أميره ومن معه من الرقابة الشرعية والمساءلة، ومنابذتهم وعداوتهم لطلبة العلم في الدولة الإسلامية”، وأيضا “تدني مستوى عمل الإعلام، وغياب التوجيه الشرعي له، وتجاوز أبي حكيم أمير الديوان ومن معه للحدود الشرعية؛ حيث إن “ديوان الإعلام” أصبح يستغل من قبل أبي حكيم ومن معه؛ لنشر الغلو في التكفير، وافتعال القضايا الأمنية لطلبة العلم في الدولة الإسلامية، والطعن والتشهير والافتراء عليهم” واتهمت الرسالة مسؤولي الإعلام بتسريب تقارير لجنة الرقابة المنهجية بهدف المس بسمعة الشرعيين[124].

إلغاء مكتب البحوث والدراسات ومطاردة الشرعيين، ووقف بث السلسلة العلمية، أدى بهؤلاء الشرعيين وأنصارهم إلى إنشاء مؤسسات بديلة تضطلع بمهمة نشر أخبارهم وإصداراتهم وكتاباتهم، سواء كتاباتهم الجديدة أو التي كتبوها سابقا ولم يُسمح لهم بنشرها. وهذه المؤسسات هي:

مؤسسة التراث العلمي: وهي من أهم المؤسسات التي اهتمت بنشر أخبار الشرعيين وإصداراتهم المختلفة، كما تولت أيضا طبع بعض بحوثهم وتوزيعها بين المناصرين، ويبدو أن القائمين عليها يحتفظون بأرشيف معظم الشرعيين من مقالات وكتب وفتاوى ومحاضرات صوتية عندما كانوا يعملون ضمن مكتب البحوث والدراسات، وللمؤسسة علاقات واسعة مكنتها من الحصول على الأخبار من مصادر مقربة من دوائر صنع القرار بتنظيم الدولة، وهي التي نشرت الحلقات الثلاث الممنوعة من “السلسلة العلمية في بيان مسائل منهجية”.

مؤسسة الوفاء الإعلامية: هي مؤسسة مناصرة يشرف عليها أفراد مؤيدون لتنظيم الدولة، تبنت قضية الشرعيين بعد دخول التنظيم في مسارات الانقسام والاحتراب المنهجي، ونشرت لهم مواد وأخبار حصرية.

مؤسسة معارج: هي أيضا مؤسسة مناصرة تخصصت في نشر أخبار وكتابات “تيار البنعلي والقحطاني”.

مجموعة النقد البناء: هي مجموعة على برنامج التيلغرام تضم العشرات من الناشطين وأفراد تنظيم الدولة المتحفظين على سياساته؛ يتحدثون فيما بينهم عن أخطاء وانحرافات التنظيم، ويُناقشون قضايا الشرعيين ويتداولون كتاباتهم ومحاضراتهم.

هذا النشاط الفكري والإعلامي المنافس والموازي للنشاط الذي تضطلع به المؤسسات الرسمية لتنظيم الدولة، خلق سجالا حادًّا بين أنصار وعناصر التنظيم. فقسم منهم يعتقدون أن ما تنشره المؤسسات الإعلامية الرسمية هو المعبر فقط عن سياسة وعقيدة “الدولة الإسلامية” كما بينت ذلك في أكثر من مناسبة[125]، وبالتالي ما تقوم به مؤسسات التراث والوفاء والمعارج هو “افتئات على ولاة الأمر وخروجا عليهم”، واتباعا لمخططات مؤسسة راند الأمريكية، بينما يرى قسم آخر منهم أن التعصب لما يصدر عن القنوات الرسمية هو بدعة لا أصل لها ويسمون القائلين بها بـ “عباد الرسمي” و “يهود المناصرين”[126]، وبما أن الحلقات الثلاث من السلسلة تم نشرها بشكل غير رسمي فقد أدى تداولها إلى تعميق الشقاق والانقسام بين عناصر التنظيم وأنصاره، فمن قائل إنها تتمة لسلسلة علمية وافق عليها أمير الدولة، وقائل بأنها لاغية ولا يجوز اعتمادها لأنها لم تخرج عبر القنوات الرسمية للتنظيم، وهكذا تتوالى الهزات الارتدادية لزلزال بدأ من الاختلاف في مسائل عقدية دقيقة انتشلها شرعيو تنظيم الدولة تحت ركام من المسائل الكلامية والعقدية التي تجاوزها العقل الإسلامي فقوضت البنية الأيديولوجية والتنظيمية “لدولتهم” الناشئة.

في الجدول التالي تلخيص لأفكار وقناعات التيارات المتنافسة داخل تنظيم الدولة، وأسماء أهم رموزها وقادتها ومفاصل ومؤسسات التنظيم التي يسيطر عليها كل تيار.

البغدادي الدور الملتبس
تتبعنا أطوار الانقسام والصراع داخل تنظيم الدولة وتعاقُب التيارات المتنافسة على التحكم بمفاصل التنظيم وإدارة مؤسساته النافذة، لكن السؤال الذي يفرض نفسه بكل جدية وبكل إلحاح هو: ما موقع الخليفة من هذا الانقسام وما هو دوره فيه؟ كيف يفترض بنا أن نفهم أن “الأمير” احتفظ بمنصبه وصلاحياته في خضم صراع غَيَّرت فيه “الدولة” عقيدتها أكثر من مرة. لماذا لم يقم بحسم الجدل وكان بإمكانه أن يفعل ذلك في كلمة صوتية كالتي اعتاد أن يصدرها في مناسبات عدة، ولماذا ترك السجال قائما في أروقة “دولته” وكل تيار يزعم أن مواقفه الشرعية هي نفسها مواقف “أمير المؤمنين”؟ هل كان مترددا أم خائفا أم غير مقتنع بجدوى السجال الكلامي الذي خاض فيه جنوده ورجاله؟

ثمة فرضيات كثيرة حاولت تفسير الموقف الملتبس للبغدادي إزاء الأزمة الداخلية التي عصفت بأركان “دولته”، لكنها تفتقد إلى الدليل الذي يخرجها من دائرة التخمينات والتكهنات فتبقى بالتالي آراء شخصية تخص أصحابها. الثابت أن البغدادي لم يمنح أيا من التيارات المتصارعة دليلا ملموسا على أنه يتبنى قناعات معينة، ولو كان أحد هذه التيارات يملك وثيقة أو تسجيلا صوتيا يؤكد أن “الخليفة” يتقاسم معه نفس القناعات لقام بالتلويح به في وجه التيارات الأخرى ولحسم بالتالي التنافس لصالحه، لكن “الخليفة” تكتم على قناعاته الشخصية ولم يبدها لأحد، الثابت أيضا أن ما فعله البغدادي والنخبة المحيطة به طيلة مسار الأزمة هو محاولة الحفاظ على استقرار التنظيم؛ وأن إبعاد أو تقريب هذا التيار أو ذاك -بغض النظر عن أفكاره- مرتبط بمصلحة التنظيم أولا، خصوصا من ناحية وحدته وتماسكه، وما أسعفتنا به الوثائق والشهادات وتأكدنا منه هو أن البغدادي أمر شخصيا بإعدام أبي جعفر الحطاب ذي الخلفية الحازمية، وقام بحل “اللجنة المفوضة” وطارد أعضائها الموالين لتيار الفرقان وأعدم بعضهم كأبي حفص الودعاني، وقام أيضا بحل “اللجنة المفوضة” البديلة التي يشغل عضويتها شرعيون من تيار “البنعلي والقحطاني” واعتقل الكثير منهم وأعدم آخرين كأبي يعقوب المقدسي، كل التيارات إذن نالت حظها من المطاردة والقتل والتصفية. فهل يكفي هذا دليلا للقول بأن البغدادي والنخبة المحيطة به لا يبالون في الواقع بالمباحث العقدية والكلامية التي أثارت الجدل بقدر ما يبالون بأمن “الدولة”، والتعامل الصارم مع كل من يتجاوز الخطوط الحمراء.

لا شك أن أبا بكر البغدادي لو أعلن عن موقفه الشخصي إزاء المسائل العقدية المختلف حولها لفقد شرعيته عند قطاع عريض من أتباعه، فلطالما اعتبرت تلك المسائل خارجة عن نطاق الاجتهاد السائغ، وبالتالي لو أعلن البغدادي عن موقفه لاتهم لامحالة إما بالتجهم والردة والإرجاء أو الغلو والخارجية والاعتزال، وفي كلتا الحالتين سيخرج بالضرورة قسم من أتباعه عن “خلافته” ويتمردوا عليها وربما أعلنوا خلافة بديلة، فهل كان الالتباس في موقفه عبارة عن نوع من الغموض الإيجابي الذي يعتقد معه كل تيار أن “الخليفة” يقف إلى جانبه ويؤيده في اختياراته؟ ليبقى هذا الأخير خيطا رفيعا يصل ما تفرق من أوصال “الخلافة” الممزقة، ويظل رمزا للوحدة والاجتماع مهما اشتدت عواصف الخلاف والنزاع.

هناك من يجادل حتى من أتباع التنظيم وقادته المنشقين أن البغدادي لا يملك في الحقيقة أي سلطة ذات بال، وأن شخصيته ضعيفة ومهزوزة وأن الممسكين بدفة الأمور هم النخبة العسكرية العراقية المحيطة به مثل “حجي عبد الناصر” و”حجي عبد الله” و”حجي حامد” وغيرهم[127]، وهم من أدار خيوط المشهد منذ البداية، وبما أنهم عراقيون لم يعتادوا “الجدل الكلامي” إبان سنوات المقاومة ضد القوات الأمريكية، فسيكون مفهوما تماما أنهم يميلون إلى أبي محمد العراقي أي “تيار الفرقان”، إضافة إلى أن التيار الأخير هو من قامت على كتفه “الدولة” ومن أوصلها إلى قمة مجدها العسكري والإعلامي، ومعروف عنهم الاقتصاد في الكلام والايجاز في العبارة والتأصيل[128]، عكس تيار “طلبة العلم” المتفرغين في مقراتهم للكلام والتأصيلات المطولة والاستطراد في التفاصيل، فردودهم مثلا على بيانات تيار الفرقان المختصرة تبدأ من التحفظ على تاريخها الميلادي وأخطائها اللغوية وعلامات ترقيمها وتنتهي بالاستدراك على أدق تفاصيلها العقدية والشرعية، وهذا لا يروق لنخبة عسكرية تكنوقراطية تحتفي بالعمل الناجز وطاعة الأوامر والانضباط. فلو استثنينا كتاب أبي مرام الجزائي الذي تجاوز 200 صفحة لم يصدر عن “تيار الفرقان” إلا بيانات قصيرة ومطويات مختصرة ومنشورات لم تتعدى بضع صفحات عكس “تيار البنعلي والقحطاني” الذي أصدر مئات المقالات والكتب والدراسات ذات العناوين المسجعة جمع بعضها في مجلدات كبيرة. على أي حال لقد خسرت “الدولة” كل معاقلها وعاد ما تبقى من أفرادها إلى أساليب حرب العصابات والعمل السري، والكمون في أودية البادية السورية وصحاري الأنبار الشاسعة، وتحولت ولاياتها إلى ولايات أمنية بحتة، ولعل قيظ الصحراء وهجيرها وإكراهات العمل الأمني ليست ظروفا مثلى لممارسة ترف الكلام والسجال حول “المتوقف في التكفير” و”الناقض الثالث” و”أحكام العاذر” وبالتالي قد يخفت صخب النزاع والتنافس إلى حين، أو لعله سيأخذ مسارا آخر، بعيدا عن هذه المسائل العقدية الدقيقة.

خاتمة
لا يزال أفق الخلافات داخل ما تبقى من تنظيم الدولة مفتوحا على مزيد من التصعيد والتفاقم، إذ لم تعد الأزمة محصورة في التنافس بين “تيار الحازمي” و”تيار الفرقان” و”تيار البنعلي” وهي تسعى لترسيخ قناعاتها في الخطاب الأيديولوجي الرسمي للتنظيم، ولا في تضارب صلاحيات المؤسسات التي استحدثها التنظيم لتدبير شؤون “خلافته” الناشئة، وإنما بات الخلاف دائرا حول شرعية “الخلافة” ذاتها ومكانة البغدادي داخلها، ما يعني المس بذلك الخيط الرفيع الذي بالكاد يجمع بين ما انفرط من عقد “الخلافة” المتداعية، لقد أثار كتاب “كفوا الأيادي عن بيعة البغدادي” للقيادي الشرعي في التنظيم أبو محمد الهاشمي عاصفة حامية من الجدل في صفوف التنظيم، ودفع بالخلافات إلى زاوية استحقاق البغدادي لمنصب “الإمامة العظمى”، ثم زاد أبو عيسى المصري وضع “الخلافة” تأزما في حواره الأخير مع مؤسسة التراث العلمي عندما اعتبر استعمال مصطلح الخليفة والخلافة من “المغالطات”[129] واستبعد –وهو القيادي الشرعي في التنظيم- أي مصالحة داخلية لأن “القيادة مصرة على المنكرات الشرعية التي ترتكبها، وتأبى أن ترد المظالم، وتأبى العدول عن سياستها الخرقاء”[130] ورأى أن أي مصالحة لابد أن تعني بالضرورة “تنازلا عن المبادئ وتعاليم الدين” وهذا ما لا يستطيع “طلبة العلم” القيام به[131].

ربما توضح كلمات أبي عيسى المصري جزءًا من الخلل الذي اعترى تفكير القيادات الجهادية خصوصا تلك المرتبطة منها بتنظيم الدولة الإسلامية، إنه التفكير الذي لا يضع أية نقطة خلاف مهما تضاءل حجمها في نطاق “الرأي والحرب والمكيدة” وإنما يحرص دائما على تكييفها تكييفا عقديا لا يسمح بأي هامش للتوافق والمصالحة، إن التوافق في هذا السياق بمثابة تنازل عن المبادئ وتفريط في العقيدة… فالانسحاب التكتيكي يعتبر هنا “توليا يوم الزحف”، وتحييد بعض الأعداء يعتبر “مداهنة للكفار”، والجلوس للتفاوض “تمييعا لعقيدة الولاء والبراء”، والنصيحة للأمير “شقا لعصا الطاعة”، والانحياز “التحاقا بدار الكفر”… وقد يكون الابتعاد عن هذا المنطق في التفكير هو ما ساعد بعض الجماعات الأخرى على الاستمرار والتماسك في خضم صراعات صفرية استمرت لسنوات طويلة كما هو الحال مع حركة طالبان في أفغانستان. ([132]).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهامش
[1] بيان صار عن المكتب المركزي لمتابعة الدواوين الشرعية رقم 175، الصادر بتاريخ 1/06/2016 link

[2] حكم الفصائل التي تقاتل الدولة، اللجنة المفوضة، 20/12/2015 link

[3] مجمع أصول الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة ص: 7، (نسخة إلكترونية بدون معطيات) link

[4] المصدر السابق

[5] أنظر مثلا تقرير لجنة الرقابة المنهجية واستتابتها لأبي المنذر الحربي، 22/03/2016 Link

[6] وثيقة تبين الأولوية التي أعطاها تنظيم الدولة الإسلامية لكتب العقيدة، قناة النذير العريان، link

[7] عبد الرحمن صيام، إعلام تنظيم القاعدة.. أفول زمن المنتديات وصعود تيلغرام، العربي الجديد، 17/03/2017.

[8] مشكلة الغلاة، أبو ميسرة الشامي، قناة النذير العريان، link

[9] انظر تقرير لجنة الرقابة المنهجية عن أبي عيسى المصري واعترافه بأنه لم يسمع بعلي الخضير إلا بعد التحاقه بالدولة، قناة النذير العريان، link

[10] انظر تقرير لجنة الرقابة المنهجية عن أبي الرباب التونسي، قناة النذير العريان، link

[11] كان الخلاف في البداية بين جبهة النصرة وأحرار الشام من جهة وبين تنظيم الدولة من جهة أخرى في بداية امتداد التنظيم إلى سوريا خلافا تنظيميا لأن الكل كان ينادي بتطبيق الشريعة، وقد اعترف العدناني بذلك في مناظرته مع أبي يزن الشامي القيادي في أحرار الشام، لكن رغبة تنظيم الدولة في القطيعة مع الفصائل الجهادية دفعته إلى البحث في المسائل العقدية الدقيقة عن مسوغات لهذه القطيعة. انظر مناظرة العدناني لأبي يزن الشامي وإقراره بإسلام الفصائل الجهادية في بداية الخلاف. موقع الدرر الشامية، 1/01/2015 link

[12] وثيقة حول ملابسات إخراج البيان رقم 155 الصادر عن المكتب المركزي لمتابعة الدواوين الشرعية، قناة النذير العريان، link

[13] انظر وثيقة تأسيس لجنة الرقابة المنهجية، قناة النذير العريان، link

[14] انظر تقرير لجنة الرقابة المنهجية مع أبي فهر التونسي، قناة النذير العريان، link

[15] أبو محمد الحسيني الهاشمي، النصيحة الهاشمية لأمير الدولة الإسلامية، ص:12 link

[16] التوضيحات لبعض أعمال مكتب البحوث والدراسات، مكتب البحوث والدراسات، 3/07/2016 link

[17] المقصود البيان رقم 155 الصادر عن المكتب المركزي لمتابعة الدواوين الشرعية بتاريخ 29/05/2016

[18] الإصدار المرئي صرح الخلافة، مؤسسة الفرقان، 6/07/2016

[19] سنرى لاحقا بالتفصيل كيف سيطر “تيار الفرقان” على اللجنة المفوضة وإصداره لبيانات تتماشى مع قناعاته العقدية، ثم سيطرة “تيار البنعلي والقحطاني” عليها بعد عزل أعضاء “تيار الفرقان” وإصدارهم للسلسلة المنهجية التي ألغت كل ما صدر سابقا عن اللجنة.

[20] أحمد بن عمر الحازمي، أعلام من بلادي، link

[21] استقبال أسطوري للشيخ محمد حسان في تونس، link

[22] جلسة لجنة الرقابة المنهجية مع أبي الفداء التونسي، النذير العريان، link

[23] المقصود كتاب “الرسالة الثلاثينية في التحذير من الغلو في التكفير” لأبي محمد المقدسي وكتاب “جؤنة المطيبين” لأبي قتادة الفلسطيني

[24] كتاب التشجير لمسائل الإرجاء والغلو في التكفير، ص: 15 (نسخة إلكترونية) link

[25] محمد بن عبد الوهاب، متن نواقض الإسلام، ص: 2 (نسخة إلكترونية)

[26] أحمد بن عمر الحازمي، درس تأصيلي في مسألة العذر بالجهل، link

[27] أبو أسيد الأنصاري، تفصيل مسألة التسلسل في التكفير والرد على مبدعي الشيخ الحازمي، 15/08/2017 link

[28] تكفير المشركين وعلاقته بالكفر بالطاغوت، أحمد بن عمر الحازمي، 16/10/2013 link

[29] سيرة أبي جعفر الحطاب، قناة النذير العريان، link

[30] أبو جعفر الشامي، القول الندي في كفر دولة البغدادي، link

[31] كفريات دولة البغدادي مدونة مصباح الظلام، link

[32] طالب علم، إعلان النكير على فرقة البنعلي الجهمية الحمير، 10/08/2014 link

[33] مناصرة الإخوة المأسورين في دولة الجهمية الكافرين، موقع الراصد، 28/08/2014 link

[34] وثيقة حول سلسلة التوحيد الخالص، قناة النذير العريان، link

[35] أبو ميسرة الشامي، الحازمي بين كبيرة القعود وضلال الجامية، 16/01/2016 link

[36] سنعرض لاحقا مقتطفات من وثائق صادرة عن رموز هذا التيار تظهر جانبا من المقاربة الأمنية التي انتهجوها ضد خصومهم داخل التنظيم، انظر على سبيل المثال الوثيقة التي حررها أبو ميسرة الشامي باسم “مشكلة الغلاة” على هذا الرابط: link

[37] مجمل أصول اعتقاد أهل السنة ص:7 (نسخة الكترونية) link

[38] المصدر السابق ص 9

[39] المصدر السابق ص 10

[40] صحيفة النبأ العدد: 41

[41] انظر تفصيل هذه العبارات في كتاب التشجير لمسائل الإرجاء والتكفير ص: 17(نسخة الكترونية) link

[42] أبو ميسرة الشامي، مشكلة الغلاة، قناة النذير العريان، link

[43] انظر تقرير لجنة الرقابة المنهجية مع أبي أيوب اليمني، قناة النذير العريان، link

[44] بعد إلغاء تنظيم الدولة لتعميم اللجنة المفوضة المعنون بـ ” ليهلك من هلك عن بينة” لمخالفته عقيدة التنظيم، تم عزل جميع أعضاء اللجنة وملاحقتهم أمنيا، وكان أبو زيد العراقي ضمن المطلوبين لديوان الأمن العام لمساهمته في كتابة التعميم.

[45] انظر صحيفة النبأ العدد: 75 ومجلة رومية العدد: 8

[46] سيرة أبي حفص الودعاني، قناة النذير العريان، 14/10/2018 link

[47] سيرة شعبة المصري، قناة النذير العريان، 16/10/2018 link

[48] سيرة أبي مرام الجزائري، قناة النذير العريان، link

[49] أبو أسامة الغريب، المختصر الجلي في سيرة شيخنا تركي البنعلي، link

[50] رغم انتشار التسجيلات الصوتية والمرئية والردود المكتوبة لأبي بكر القحطاني واشتهار مواقفه الشرعية داخل تنظيم الدولة إلا أنه لم يتم نشر سيرة ذاتية مفصلة له حتى الآن.

[51] تركي البنعلي، شروط وموانع التكفير، 11/01/2017 link

[52] السؤالات البغدادية، مكتب البحوث والدراسات، link

[53] المصدر السابق

[54] مجموع رسائل ومؤلفات مكتب البحوث والدراسات، المجلد الأول، ص: 107

[55] تركي البنعلي، الرد على تعميم اللجنة المفوضة، link

[56] تركي البنعلي، التحاكم إلى القوانين الوضعية، link

[57] بيان من طلبة العلم في الدولة حول أبي يعقوب المقدسي، مؤسسة التراث العلمي، أكتوبر 2017، link

[58] لجنة الرقابة المنهجية، جلسة مع أبي المنذر الحربي، 22/03/2016 link

[59] جلسة لجنة الرقابة المنهجية مع أبي عبد الرحمن الزرقاوي، link

[60] تأكيد مقتل أبي محمد المصري، مؤسسة التراث العلمي، 6/12/2018 link

[61] ذكر الهاشمي معلومات عن نفسه ودوره في تنظيم الدولة وقصة هروبه من جهازه الأمني في كتابه “كفو الايادي عن بيعة البغدادي” في الصفحة 101

[62] أبو ميسرة الشامي، مشكلة الغلاة، link

[63] المصدر السابق

[64] وثيقة صادرة عن ديوان الأمن العام بتاريخ 15/11/2015، قناة النذير العريان، link

[65] سيرة أبي جعفر الحطاب، قناة النذير العريان، link

[66]خباب الجزراوي، تعليق حول مقتل أبي بكر القحطاني، link

[67] تقرير لجنة الرقابة المنهجية حول أبي سعد العتيبي بتاريخ 25/02/2016، قناة النذير العريان، link

[68] مواضيع مدونة مصباح الظلام، link

[69] بيان صار عن المكتب المركزي لمتابعة الدواوين الشرعية رقم 175، صحيفة النبأ العدد 76

[70] تقرير حول فتنة الرد على البيان، قناة النذير العريان، link

[71] المصدر السابق

[72] أبو يعقوب المقدسي، نصيحة حول موضوع البيان، مؤسسة التراث العلمي، link

[73] أبو عبد الرحمن الزرقاوي، نقد ونصيحة، مؤسسة معارج، link

[74] انظر الوثيقة التي تحدث فيها شعبة المصري عن حيثيات إخراج البيان رقم 155 الصادر عن المكتب المركزي لمتابعة الدواوين الشرعية على هذا ارابط: link

[75] رسالة أبو الفداء التونسي الى والي ولاية الخير، قناة النذير العريان، link

[76] شعبة المصري، رسالة إلى اللجنة المفوضة، link

[77] أبو ميسرة الشامي، رسالة إلى اللجنة المفوضة، link

[78] أبو زيد العراقي، رسالة إلى اللجنة المفوضة، قناة النذير العريان، link

[79] مسرب الوثيقة يقول إن هذا الشخص هو أبو محمد العدناني

[80] رسالة اللجنة المفوضة إلى أبي عبد الرحمن الزرقاوي، قناة النذير العريان، 28/08/2016 link

[81] وثيقة صادرة عن والي ولاية الخير، قناة النذير العريان، 25/04/2016 link

[82] السؤالات البغدادية، قناة النذير العريان، linkوفي متن الكتاب تظهر ملاحظات الفرقان مظللة بلون مميز.

[83] رسالة إلى قيادة تنظيم الدولة الإسلامية حول أبي بكر القحطاني، قناة النذير العريان، link

[84] أبو بكر القحطاني، مناظرة حول قاعدة من لم يكفر المشركين، link

[85] تركي البنعلي، الإجابة عن مسألة الاستتابة، link

[86] وثيقة حول ملابسات تأسيس لجنة الرقابة المنهجية، قناة النذير العريان، link

[87] المصدر السابق

[88] انظر مثلا تقرير لجنة الرقابة المنهجية حول أبي المنذر الحربي، قناة النذير العريان، link

[89] تركي البنعلي، رسالة إلى اللجنة المفوضة في الولايات الشرقية، قناة النذير العريان، link

[90] وثيقة خاصة عن تحولات عمل لجنة الرقابة المنهجية، قناة النذير العريان، link

[91] تقرير لجنة الرقابة المنهجية حول ابي سعد العتيبي، قناة النذير العريان، link

[92] وثيقة تحتوي ملخص تقارير لجنة الرقابة المنهجية، قناة النذير العريان، link

[93] وثيقة تحتوي ملخص تقارير لجنة الرقابة المنهجية، قناة النذير العريان، link

[94] ملاحظات أبو ميسرة على منهج تركي البنعلي، قناة النذير العريان، link

[95] تقرير لجنة الرقابة المنهجية حول أبي المنذر الحربي، قناة النذير العريان، link

[96] تقرير لجنة الرقابة المنجية حول أبي فهر التونسي، قناة النذير العريان، link

[97] أبو محمد الحسيني الهاشمي، النصيحة الهاشمية لأمير الدولة الإسلامية، ص: 9 link

[98] رسالة أوس النجدي إلى أبي بكر البغدادي، قناة النذير العريان، link

[99] جلسة لجنة الرقابة المنهجية مع أبي عبد الرحمن الزرقاوي، link

[100] اللجنة المفوضة، تعميم بعنوان:” ليهلك من هلك عن بينة”، 17/05/2017، link

[101] تركي البنعلي، الرد على تعميم اللجنة المفوضة، link

[102] أبو عبد البر الصالحي، الرد على تعميم اللجنة المفوضة، link

[103] أبو بكر البغدادي، ويأبي الله إلا أن يتم نوره، مؤسسة الفرقان، يوليو 2012، link

[104] اللجنة المفوضة، إلغاء تعميم ليهلك من هلك عن بينة، صحيفة النبأ العدد:98

[105] مقابلة مع إسماعيل العيثاوي، صناعة الموت، قناة العربية، link

[106] وثيقة مقتل أبي حفص الودعاني، قناة النذير العريان، link

[107] سيرة أبي حفص الودعاني، قناة النذير العريان، link

[108] أبو حفص الودعاني، رسالة إلى أبي بكر البغدادي، قناة النذير العريان، link

[109] وثيقة مقتل أبي حفص الودعاني، قناة النذير العريان، link

[110] شكوى الاخوة المصلحين في ديوان الإعلام المركزي، مؤسسة التراث العلمي، 2018 link

[111] عبد السميع البغدادي، تعرية الجهلة الذين أنكروا تتمة السلسلة، مؤسسة الوفاء، 2018 link

[112] المصدر السابق

[113] إضافة إلى شرعيي “تيار البنعلي والقحطاني” الذين تمت تصفيتهم كأبي محمد المصري وأبي يعقوب المقدسي وأبي مصعب الصحراوي قتل أيضا ابو حفص الودعاني من تيار “الفرقان” وطورد قادة آخرون كأبي أحمد الفرنسي وأبي مرام الجزائري وأبي زيد العراقي.

[114] أبو محمد الهاشمي، كفوا الأيادي عن بيعة البغدادي، مارس 2019، ص: 152

[115] أبو حفص الودعاني، رسالة إلى أبي بكر البغدادي، قناة النذير العريان، link

[116] جميع أخبار المعتقلين والقتلى من تيار البنعلي والقحطاني نشرتها مؤسسة التراث العلمي في قناتها التي تعرضت للإغلاق من قبل شركة تيلغرام.

[117] بيان من طلبة العلم في الدولة، مؤسسة التراث العلمي، أكتوبر 2017، link

[118] جميع الأخبار المتعلقة باعتقال وتصفية شرعيي “تيار البنعلي والقحطاني” كما نشرتها مؤسسة التراث العلمي المعنية بمتابعة أخبارهم تم جمعها في هذا الرابط: أخبار مؤسسة التراث العلمي، link

[119] وثيقة سرية بخصوص العلماء وطلبة العلم، ولاية الشام، link

[120] شكوى الإخوة المصلحين في ديوان الإعلام المركزي، مؤسسة التراث العلمي، 2018 link

[121] تركي البنعلي، الإجابة عن مسألة الاستتابة، link

[122] أبو محمد الحسيني الهاشمي، النصيحة الهاشمية لأمير الدولة الإسلامية، ص:12 link

[123] شكوى الإخوة المصلحين في ديوان الإعلام المركزي، مؤسسة التراث العلمي، 2018 link

[124] رسالة المجلس العلمي في بيان حال غلاة ديوان الإعلام المركزي، مؤسسة التراث العلمي، 27/04/2018 link

[125] انظر الإصدار المرئي: من الداخل 8، مركز الحياة للإعلام. 2018

[126] سفيان الحربي، يهود المناصرين شرذمة البغي والفساد، مؤسسة الوفاء، 8/07/2018 link

[127] أبو محمد الهاشمي، كفوا الأيادي عن بيعة البغدادي، مارس 2019، ص:155

[128] يلاحظ في ردود تيار الفرقان نفورهم من التفصيل والاطناب والاقتصار على البيانات المختصرة عكس تيار البنعلي والقحطاني الذي ينحو نحو التفصيل الذي يستغرق عشرات الصفحات.

[129] حوار مع الشيخ أبي عيسى المصري، مؤسسة التراث العلمي، أبريل 2019 ص: 58 link

[130] المصدر السابق، ص: 16 link

[131] المصدر السابق، ص: 17
المصدر/ المعهد المصري للدراسات

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب