يواجه المشروع التركي في شمال سوريا، بعد مدينة الباب، اعتراضين: أميركيًّا وروسيًّا، ولن يتمكن من تحقيق أهدافه المتمثلة في إزالة خطر وحدات حماية الشعب الكردي وتنظيم الدولة إلا إذا اقترح تسوية سياسية تراعي الحسابات الأميركية أولًا والروسية ثانيًا.
كان رد فعل تركيا في البداية، على ما اعتبرته تهديدًا لأمنها، ضعيفًا جدًّا تجاه انتشار الجماعات المسلحة المصنفة دوليًّا إرهابية وتزايُد تأثير حزب العمال الكردستاني على إدارة المناطق الواقعة في شمال سوريا؛ لأنها اعتبرتهما تهديدين ضعيفين، لكن مخاوفها زادت بعد توسع تنظيم الدولة شمال سوريا، وانتهاز حزب الاتحاد الديمقراطي هذه الفرصة لتوطيد توسعه على الأرض. مما جعل تركيا تطلق عملية درع الفرات.
تواجه تركيا، بعد سيطرة قواتها العسكرية على مدينة الباب، اعتراضات جديدة نتيجة الاختلافات الاستراتيجية والتكتيكية مع باقي اللاعبين الرئيسيين،، خاصة مع واشنطن.
وفي ظل هذه الظروف، سينصب تركيز تركيا أولًا على تعزيز قدراتها العسكرية والسياسية في المناطق التي افتكَّتْها من قبضة تنظيم الدولة وتجنب تصعيد الصراع مع الولايات المتحدة. أما ثانيًا، وعلى المستوى المتوسط، فستتبنى تركيا استراتيجية سياسية تكون قادرة على خلق هيكل سياسي مستقر في شمال سوريا لا تكون فيه التنظيمات التابعة لحزب العمال الكردستاني طرفًا فاعلًا.
مقدمة
أعلن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في مناسبات عديدة، أن الهدف القادم لعملية درع الفرات سيكون التوجه نحو منبج بعد تحرير مدينة الباب. كانت تلك التصريحات تبدو أكثر معقولية قبل أسبوعين، حيث تُمثِّل وحدات حماية الشعب الكردية في منبج عدوًّا يمكن قهره على يد قوات عملية درع الفرات -المُشكَّلة أساسًا من وحدات الجيش السوري الحر المدعومة من قبل القوات المسلحة التركية-. بل إنه حتى عندما كانت وحدات حماية الشعب موجودة بمفردها في منبج، فإن توجه عملية درع الفرات نحو منبج كان سيشكِّل مشهدًا يزيد من تعقيد العلاقات التركية-الأميركية. ومع ذلك، فإن تقدم قوات درع الفرات نحو منبج الآن يبدو غير مجدٍ إلى حدٍّ ما في ظل وجود قوات أميركية وأخرى روسية، بالإضافة إلى نشر معدات عسكرية تابعة لعملية درع الفرات بينما وحدات حماية الشعب الكردي على الجبهات في منبج الآن.
والسؤال: كيف ستزيل تركيا هذه التهديدات دون إنشاء أخرى أخطر منها ودون الدخول في صدام مع الحليف الأميركي والجار الروسي؟
تنامي مخاطر جديدة وتبدل الأولويات
كانت السياسة الخارجية والأمنية التركية تجاه الأزمة السورية دينامية؛ حيث غيَّرت أنقرة أولوياتها واستخدمت خطابات وتكتيكات سياسية مختلفة في كل مرحلة من مراحل الأزمة. ففي المرحلة الأولى من الصراع السوري، كان هدف أنقرة الرئيسي تغيير النظام، ولهذا دعمت الجيش السوري الحر والمعارضة السياسية ضد نظام الأسد. خلال هذه الفترة، كان تصور تركيا للتهديدات تَشَكَّل أساسًا من الصراع الجيوسياسي المتزايد بين دول المنطقة مثل إيران والمملكة العربية السعودية. ومع ذلك، فكلما طال أمد الأزمة وتعمقت أكثر، ازدادت عسکرتها، ومن ثم ستبدأ تهديدات متعددة الأبعاد ضد ترکيا في البروز.
في المرحلة الثانية من سياسة تركيا السورية، واجهت أولويات أنقرة الأمنية تحديات درامية بفعل متغيرين مهمين طَرَءَا على اللعبة؛ فبينما ظهر البُعد الكردي للأزمة السورية مع بدء حزب الاتحاد الديمقراطي/وحدات حماية الشعب الكردية -التابع لحزب العمال الكردستاني- بملء الفراغ الحادث على مستوى السلطة الذي أحدثه تراجع قوات النظام في شمال سوريا، فإن تركيا دعمت المكوِّن الثوري المنقسم جغرافيًّا وأيديولوجيًّا وتنظيميًّا ودبلوماسيًّا. وكنتيجة لظهور تنافس على مستوى التكتيكات والتفاهمات الاستراتيجية والسياسية داخل المعارضة السورية تجاه الأزمة، فإن الانخراط السياسي والعسكري التركي في الأزمة السورية بدأ يضعف. وبالإضافة إلى اختلاف الأولويات السياسية والعسكرية وغياب استراتيجية شاملة، فإن الميليشيات الكردية وجدت نفسها أمام فرصة استراتيجية سانحة لتوطيد التوسع الجيوسياسي لحزب العمال الكردستاني.
كان ردُّ فعل أنقرة ضعيفًا جدًّا تجاه انتشار الجماعات المسلحة وتزايد تأثير حزب العمال الكردستاني على إدارة المناطق الواقعة في شمال سوريا؛ حيث كانت المبادرة الديمقراطية التي أطلقتها أنقرة (والمعروفة أيضًا باسم عملية السلام الكردية التي بدأت في أواخر عام 2010) هي الهدف السياسي الرئيسي الذي أرادت تركيا من خلاله حل قضيتها الكردية في ظل ظروف التحولات الإقليمية الجذرية الجارية. وخلال العام 2014، أصبح التنامي المستمر لتنظيم الدولة الإسلامية يحتل بُعدًا أكثر مركزية في صلب الأزمة السورية، خاصة في ضوء صياغة القوى الخارجية مجددًا للمشهد السياسي، كما أضاف عدم وجود سياسة شاملة لدى الإدارة الأميركية بُعدًا جديدًا للتصور الأمني التركي وللتهديدات التي تنتظرها، هذا في حين أثَّر التوسع السريع الذي أحرزه تنظيم الدولة على الأرض، والذي أعقبه تزايد في أعداد الميليشيات السورية وميلها نحو التشدد بشكل درامي، على التصورات التي أطَّرت الأطراف الفاعلة على ضوئها الأزمة السورية.
تدريجيًّا، غيَّرت الحرب ضد تنظيم الدولة ومكافحة الجماعات المصنفة دوليًّا مع القاعدة في الحرب الأهلية السورية وِجهةَ الأزمة نفسها؛ حيث إن توسع تنظيم الدولة الطارئ وتزايد بسط نفوذه على مزيد من الأراضي خاصة في شمال سوريا، حفَّز حزب الاتحاد الديمقراطي على توطيد توسعه على الأرض هو بدوره، هذا في حين سهَّلت عملية هجوم تنظيم الدولة على “كوباني” تدويل قضية مشروعية الكفاح الكردي. كان تنامي دور حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب الكردي، باعتبارهما قوتين محليتين جديدتين منخرطتين في الحرب ضد تنظيم الدولة من ناحية، والعلاقات الأيديولوجية والتنظيمية بين حزب العمال الكردي وحزب الاتحاد الديمقراطي من ناحية أخرى، عاملين حاسمين في انهيار عملية السلام التركية في يوليو/تموز 2015. في هذه المرحلة، فإن البُعد الكردي وحزب العمال الكردستاني باتا في قلب اهتمامات السياسة التركية في سوريا.
رُسمت السياسة التركية حيال سوريا، منذ يوليو/تموز 2015 وإلى يومنا هذا، من خلال إدراكها أربعة تهديدات:
أولًا: تنامي ظاهرة تنظيم الدولة وتزايد كثافة عملياته المسلحة داخل تركيا ذاتها، وكذلك على الحدود التركية-السورية.
ثانيًا: تنامي مشروعية حزب العمال الكردستاني-حزب الاتحاد الديمقراطي على مستوى الساحة الدولية.
ثالثًا: الخلاف في الرؤى بين الولايات المتحدة الأميركية من جهة، وتركيا من جهة أخرى، حيال الدعم الذي يجب تقديمه لوحدات حماية الشعب الكردية في حربها ضد تنظيم الدولة.
رابعًا: ارتفاع وتيرة وحجم التأثير الذي تمارسه السياسة الروسية وعمق انخراطها العسكري في الأزمة السورية.
علاوة على ما ذُكر أعلاه، فإن ردَّ الفعل التركي على الهجوم الذي انتهك أجواءها بعد اختراق طائرة روسية من نوع إس يو 24 مجال تركيا الجوي، وما تبعه من تصعيد سياسي للأزمة بين موسكو وأنقرة، ألقى بثقله وأثَّر سلبًا على موقع تركيا وموقفها من الأزمة السورية. والأهم من ذلك، فإن انهيار عملية السلام بين دولة تركيا والأكراد، ومحاولة حزب العمال الكردستاني إحداث تمرد مدني ضد تركيا في مناطق الجنوب الشرقي للبلاد، زاد في تدهور الموقف التركي من الحرب الأهلية الجارية في سوريا.
لدى تركيا، في هذه المرحلة، ثلاثة أهداف رئيسية في سوريا:
أولًا: الحيلولة دون السماح للأكراد بإقامة ترابط بين الأراضي التي يسيطرون عليها، ومنع إنشاء ممر يسيطرون عليه على طول امتداد حدود تركيا مع سوريا.
ثانيًا: القضاء على تهديد تنظيم الدولة القادم من حدود البلاد مع سوريا.
ثالثًا: المحافظة على دعم تركيا للجيش السوري الحر في شرقي حلب؛ حيث تهيمن القوات الجوية الروسية وتتفوق عددًا وعتادًا، وكذلك حيث باتت عمليات الميليشيات الإيرانية وقوات النظام السوري وحشية وغير متوازنة.
وعلى إثر الهزيمة التي تكبدها الجيش السوري الحر على أيدي قوات النظام المتفوقة عسكريًّا في حلب، ونظرًا لتزايد هشاشة نسيج الأمن القومي التركي بسبب الهجمات المسلحة المتزامنة التي نفذها كل من مقاتلي حزب العمال الكردستاني وتنظيم الدولة، فإنه كان على أنقرة إعادة ترتيب أولوياتها الأمنية حيال الصراع السوري، ومن ثم إجراء تغيير دراماتيكي في استراتيجيتها تجاه التدخل العسكري في سوريا. وقد أدى تغيير أولويات تركيا والدور المزعزِع الذي يلعبه تنظيم الدولة، إلى جانب التهديدات التي يمثلها حزب الاتحاد الديمقراطي، ليس فقط ضد السياسة الداخلية والمنظومة الأمنية بل أيضًا ما ينجرُّ عنها من تهديدات للسياسة الخارجية التركية وخاصة على علاقاتها مع واشنطن، أدى كل ذلك إلى إطلاق عملية درع الفرات التركية. كانت تلك هي المرة الأولى التي تشنُّ فيها تركيا عملية برية واسعة النطاق عبر حدودها، ومن ثم الانخراط المباشر في الحرب الأهلية السورية من خلال استهدافها دحر مقاتلي تنظيم الدولة عن حدودها، وكذلك منع حزب الاتحاد الديمقراطي وحزب العمال الكردستاني، استراتيجيًّا، من السيطرة على المناطق الواقعة على الحدود التركية-السورية. وقد جرى افتكاك مدينة الباب من قبضة تنظيم الدولة، بفضل التقارب التركي مع روسيا الذي سمح بتنفيذ العملية، وذلك بتفهم ضمني من قبل إيران والنظام السوري على حدٍّ سواء.
الحسابات المتعارضة حول الرقة
المشهد الاستراتيجي الجديد لتركيا في عملية درع الفرات، بعد سيطرة قواتها العسكرية على مدينة الباب، متحرك بدوره؛ حيث إن الاختلافات الاستراتيجية والتكتيكية بين تركيا وباقي اللاعبين الرئيسيين حول الخطوة التركية القادمة في سوريا، كانت تشهد تصعيدًا جديدًا، وخاصة بين أنقرة وواشنطن.
أولًا: ففي الوقت الذي كانت فيه تركيا تحاول استراتيجيًّا مراجعة وإعادة تقييم أولوياتها الجيوسياسية، عبر توسيع نطاق عمليتها العسكرية ضد حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني ووحدات حماية الشعب الكردي في منبج سعيًا منها لضمان انسحاب قوات حماية الشعب من المدينة نحو الجزء الشرقي لنهر الفرات، كانت روسيا والولايات المتحدة قد أرسلتا قوات إلى المنطقة المحيطة بمدينة منبج الشمالية بهدف وقف القتال بين وحدات حماية الشعب الكردية، بقيادة قوات سوريا الديمقراطية، والقوات التركية ومَن حالفها من الجماعات الثورية. أما الأهم من ذلك، فهو أن العملية العسكرية المفاجِئة والمنظَّمة، التي نفذها جيش النظام على امتداد جنوب مدينة الباب، قد أغلقت الجزء الجنوبي من المدينة بهدف منع التحرك التالي للجيش التركي نحو معاقل تنظيم الدولة، بعد أن استولى الجيش التركي على مركز مدينة الباب.
في هذه المرحلة، فإنه من الواضح جدًّا أن كلًّا من الولايات المتحدة وروسيا والنظام السوري لن يسمحوا لتركيا بالاستمرار في تنفيذ حملتها العسكرية ضد تنظيم الدولة، ضمن إطار عملية درع الفرات، إذا ما استمرت تركيا في استهداف قوات سوريا الديمقراطية في منبج. وضمن هذا المشهد الجيوسياسي المبني حول مستنقع شمال سوريا، وفي الوقت الذي بات فيه الهدف الرئيسي للإدارة الجديدة في الولايات المتحدة هو خلق توازن تكتيكي بين تركيا والأكراد السوريين دون التخلي عن أيٍّ منهما، فإن الهدف الاستراتيجي لروسيا يقوم على تعزيز تأثيرها على مسارات الأزمة السورية، ومن ثم إظهار مدى تأثيرها على كلٍّ من تركيا والولايات المتحدة، وبالتالي تأكيد قدرتها على تشكيل أوضاع وطموحات الأكراد الجيوسياسية في شمال سوريا.
ثانيًا: تسعى الحكومة التركية لممارسة الضغط على الولايات المتحدة من أجل تمرير خطة استعادة الرقة دون إشراك قوات سوريا الديمقراطية في ذلك. وتتركز الخطة التركية على استخدام الولايات المتحدة نفوذها على قوات سوريا الديمقراطية لضمان انتقال قوة تركية من تل أبيض إلى الرقة دون نشوب اشتباكات فيما بين القوات المتعادية. وبالرغم من أن تركيا أعادت مرة أخرى تقديم خطة عسكرية تقضي بتحركها جنوبًا، إلا أنه من الوارد، ربما، أن تزيد الولايات المتحدة من دعمها لقوات سوريا الديمقراطية، بما في ذلك الدعم العسكري المباشر لوحدات حماية الشعب الكردية في هجومها على الرقة، وهو ما من شأنه أيضًا الإضرار بالعلاقة بين أنقرة وواشنطن حيال موقفيهما من قضايا إقليمية أخرى.
ثالثًا: سيكون من الصعب جدًّا على تركيا -في ظل غياب أي اتفاق استراتيجي واضح بينها وبين الولايات المتحدة حول الجانب العسكري والتكتيكي لعملية الرقة، خاصة حول اشتراك قوات سوريا الديمقراطية في العملية- مواصلة تقدمها العسكري ضد قوات وحدات حماية الشعب ليس في منبج فقط، بل وحتى في تل أبيض؛ حيث إن القوات الأميركية ستعمل على منع تركيا من اتخاذ إجراء في هذا الاتجاه.
في هذه المرحلة، فإنه من الواضح أن الجانب العسكري للسياسة التركية وحساباتها الاستراتيجية تواجه تحديًا تفرضه التحركات الاستراتيجية المضادة ومتعددة الأبعاد؛ فعلى الرغم من أن تركيا ما زالت تملك خيارات مختلفة تجاه حزب العمال الكردستاني في شمال سوريا، إلا أن وجود طريقة تمكِّنها من مواجهة التحديات التي فرضها حزب العمال الكردستاني ستكون مهمة صعبة في المستقبل القريب.
سيناريوهات ما بعد مدينة الباب
حققت تركيا أهدافها الرئيسية المتعلقة بعملية درع الفرات؛ فقد قضت على تهديدات تنظيم الدولة التي كانت تتربص بها على حدودها كما أنها حالت دون التوسع الميداني لحزب الاتحاد الديمقراطي، واستطاعت سدَّ الفجوة الأخيرة المتبقية بين “كانتوني” منطقتي عفرين وكوباني. وعلى مستوى هذه النقطة، فإن لتركيا خيارين واسعين يمكنها اختيار أحدهما خلال مرحلة ما بعد استعادة مدينة الباب:
أولًا: التدخل أحادي الجانب
يمثِّل الدور المتزايد لأنشطة حزب العمال الكردستاني العسكرية والسياسية في المنطقة الأساس الذي يُشكِّل فلسفة الإدراك التركي للتهديدات المحدقة بها. وفي هذه المرحلة، تهدف استراتيجية تركيا قصيرة الأجل إلى دحر قوات وحدات حماية الشعب من منبج ودفعها نحو الجزء الشرقي من نهر الفرات، مع التركيز على تعزيز مكاسبها ومن ثم دعم إنشاء هيكل للحكم يكون خاضعًا للسلطتين السياسية والعسكرية للجيش الحر على الأقاليم التي تم افتكاكها من قبضة تنظيم الدولة. وفي حال ما إذا تمكنت وحدات حماية الشعب الكردية من المضي قدمًا في تنفيذ مشروعها الجيوسياسي الساعي إلى إقامة ما يسمى بالحزام الكردي في شمال سوريا، فإن تركيا قد تعود مرة أخرى إلى المناطق الخاضعة لسيطرة وحدات حماية الشعب الكردية (مثل عفرين وتل أبيض)، كونها مناطق استراتيجية من المهم السيطرة عليها، لمنع ظهور تهديدات ضد تركيا آتية من قبل وحدات حماية الشعب الكردية وحزب العمال الكردستاني. هذان الهدفان يمكن تحقيقهما عسكريًّا وجغرافيًّا لقربهما الجغرافي من تركيا لكنهما، من الناحية الاستراتيجية، غير مجديين ما لم تتوصل تركيا إلى عقد صفقة مع الولايات المتحدة الأميركية. أما ما هو أهم من ذلك، فكون مثل هذا التحرك قد يؤدي إلى نشوب معركة ضارية بين تركيا ووحدات حماية الشعب الكردية، فيُسبِّب أيضًا احتكاكًا مع الولايات المتحدة وروسيا. كما يمكن للتدخل العسكري التركي أحادي الجانب أن يضر بسمعة تركيا الدولية، خاصة أن العملية العسكرية بقيادة الولايات المتحدة لاستعادة الرقة، بمعيَّة قوات وحدات حماية الشعب الكردية، لا تزال في مرحلة التخطيط.
ويبدو، في هذه المرحلة، أن تركيا لن تنفذ أي تحرك ضد وحدات حماية الشعب الكردية في الجزء الشرقي من نهر الفرات إذا سحبت هذه الأخيرة قواتها من منبج، وتركت السيطرة عليها لقوات الجيش السوري الحر المدعوم من تركيا أو لقوات النظام السوري. وسوف يكون هذا الخيار ممكنًا في حال تمكنت الولايات المتحدة من إقناع قوات وحدات حماية الشعب الكردية بالانسحاب من منبج. كما أن لتركيا أيضًا تأثيرًا استراتيجيًّا آخر لردع تهديد وحدات حماية الشعب الكردية في المنطقة إذا لم تتمكن كل من أنقرة وواشنطن من عقد اتفاق حول قضية منبج، وقد يتمثَّل ذلك في تدخل غير مباشر بحيث يمكن لتركيا حشد قوات مسلحة مضادة، والدفع بها نحو المنطقة الخاضعة لسيطرة وحدات حماية الشعب الكردية. ويتمثَّل الخيار الأول هنا في تعبئة قوات مناهضة لحزب العمال الكردستاني مثل المجلس الوطني الكردي في سوريا المعروف بـ”بيشمركة روج”. وكان الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني، على إثر آخر زيارة قام بها برزاني لتركيا، قد نظَّم عملية إرسال أكراد سوريين إلى سنجار تحت اسم “روج بيشمركة”؛ حيث تشتبك وحدات المقاومة في سنجار -التي يُدربها حزب العمال الكردستاني- مع بيشمركة العراق من أجل سعي كل منهما لفرض سيطرته على منطقة سنجار. أفضى إرسال “روج بيشمركة” إلى سنجار، بدلًا من قوات البيشمركة العراقية، إلى نشوب أعمال عدائية بين اليزيديين الموالين لحزب العمال الكردستاني والأكراد السوريين. والأهم من ذلك، هو أن تصريحات الرئيس أردوغان التي قال فيها إنه لن يسمح بتحول سنجار إلى قنديل ثانية -وقنديل هي المقر الرئيسي لحزب العمال الكردستاني في جبال قنديل في شمال العراق- تُشير أيضًا إلى أن تركيا قد تستخدم قوات بديلة ضد حزب العمال الكردستاني في المنطقة. ويبدو أن العقلانية الاستراتيجية وراء هذه الخطوة تتمثَّل في زيادة التقارب بين أنقرة وأربيل بشأن قضايا الطاقة والأمن والاستقرار السياسي في كردستان العراق. وستتمكن تركيا من توظيف هذا الاختلال الاستراتيجي في التوازن بين حزب العمال الكردستاني من جهة وتركيا وحكومة إقليم كردستان من جهة أخرى، في زعزعة استقرار حزب الاتحاد الديمقراطي في شمال سوريا.
بالنسبة لتركيا، فإن الخيار الثاني، المتعلق بالأنشطة العسكرية غير المباشرة، قد يكون في إعادة تنظيم السكان العرب داخل المناطق الواقعة تحت سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي. ووفقًا للتقارير الصادرة عن المؤسسات الدولية لحقوق الإنسان، فإن حزب الاتحاد الديمقراطي يحاول تعزيز حكم الحزب الواحد في المنطقة من خلال إرغام السكان غير الأكراد على مغادرة أماكن إقامتهم، وهو ما يُحتمل أن يُفضي إلى نشوب صراع مجتمعي داخلي بين العرب والأكراد، وربما يكون الموقف التركي حينها داعمًا للقوات غير التابعة لحزب العمال الكردستاني ضد حزب الاتحاد الديمقراطي.
ثانيًا: إزالة التهديد بالمفاوضات
يتمثَّل الخيار الاستراتيجي الثاني المتاح أمام تركيا في تبني عملية سياسية تسعى إلى منع حزب الاتحاد الديمقراطي من السيطرة على التركيبة السياسية والقانونية والأمنية التي ستتشكَّل مستقبلًا، خاصة في فترة ما بعد دحر تنظيم الدولة عن سوريا. وفي هذه الحالة، هناك نموذجان مختلفان يمكن لتركيا اتباعهما:
قد تتفق تركيا والولايات المتحدة على وضع تصور هيكل سياسي لشمال سوريا؛ حيث يمكن لمختلف مكونات العنصر العرقي تقاسم الأجهزة السياسية والأمنية بينها بالتساوي. لكن المشكلة الرئيسية هنا هي: كيف ستصمم الولايات المتحدة مستقبل شمال سوريا في حقبة ما بعد حقبة سيطرة تنظيم الدولة؟ من الوارد ألا تقبل الجماعات التابعة لحزب العمال الكردستاني بذلك، ولكن بالنسبة لتركيا والولايات المتحدة، ستكون هذه لعبة مربحة للجانبين. بالتالي لن يقتصر الأمر فقط على إنشاء منطقة مستقرة في سوريا بعد رحيل الأسد، بل وسوف تنأى مصالح كل من تركيا والولايات المتحدة في المنطقة بأسرها عن التصادم. ومع ذلك، فإن هذا الخيار الاستراتيجي غير ممكن التحقق في المستقبل المنظور بسبب استمرار حرب تركيا ضد حزب العمال الكردستاني في كامل المنطقة.
قد تتبع تركيا مسارًا انتقاليًّا سلميًّا بالكامل، وقد تقبل الدولة التركية بعملية سلام جديدة مع الأكراد. عند هذه المرحلة، فمن المؤكد أن تركيا لن تسمح لحزب الاتحاد الديمقراطي بالسيطرة على العملية السياسية برمتها في شمال سوريا، وستعمل على دفع الأطراف الفاعلة، بما في ذلك الولايات المتحدة، إلى تبني هيكل نظام “شبه-دولة” متعدد الأحزاب. وهذا السيناريو هو الأرجح احتمالًا؛ لأن صراع تركيا مع حزب العمال الكردستاني في المنطقة لن ينتهي في المستقبل القريب. ونتيجة لذلك، فإن لتركيا بدائل مختلفة، ولكن أيضًا تواجهها تحديات في التعامل مع القضايا الناشئة عن قضية حزب العمال الكردستاني-حزب الاتحاد الديمقراطي في المنطقة. ومن أجل مواجهة التحديات، ينبغي أن تعيد تركيا النظر في أولوياتها واستراتيجياتها السياسية في الأجلين القصير والمتوسط، كما يجب أن تتفادى تصعيد الصراع مع الأطراف الفاعلة الخارجية مثل الولايات المتحدة وروسيا بشأن قضية الأكراد في سوريا.
ضرورات الشراكة
ستنتظر الإدارة الأميركية إلى ما بعد إجراء الاستفتاء التركي، في 16 أبريل/نيسان 2017، قبل إصدار قرارها النهائي بشأن عملية الرقة. والأهم من ذلك، وعلى الرغم من أن رغبة القيادة المركزية الأميركية “سنتكوم” هي المضي قدمًا في عملياتها ضد تنظيم الدولة مع وحدات حماية الشعب الكردية (بالنسبة لتركيا، فلا فرق لديها على الإطلاق بين وحدات حماية الشعب الكردية وحزب العمال)، فإن إدارة الرئيس ترامب تركز على الشراكة الاستراتيجية مع تركيا، وبشكل خاص حول تمكُّن الولايات المتحدة من ردع الدور المتزايد للنفوذ الإيراني في الجغرافيا السياسية الإقليمية.
لذلك، فإن الأهداف طويلة الأجل بين أنقرة وواشنطن ستكون حاسمة حيال قضية حزب العمال الكردستاني، وقد يتوصل الجانبان إلى اتفاق. وفي ظل هذه الظروف، سينصب تركيز تركيا أولًا على تعزيز قدراتها العسكرية والسياسية في المناطق التي حررتها من قبضة تنظيم الدولة وتجنب تصعيد الصراع مع الولايات المتحدة. أما ثانيًا، وعلى المستوى المتوسط، فستتبنى تركيا استراتيجية سياسية تكون قادرة على خلق هيكل سياسي مستقر في شمال سوريا لا تكون فيه التنظيمات التابعة لحزب العمال الكردستاني طرفًا فاعلًا.
المصد/ الجزيرة للدراسات