11 أبريل، 2024 6:45 ص
Search
Close this search box.

“الشيخ سيد” .. العابر لزمن الخلل الإلكتروني !

Facebook
Twitter
LinkedIn

خاص : كتب – عمر رياض :

كيف عبرت موسيقى (سيد درويش) إلى وقتنا الحاضر.. كيف لها التغلغل في يومياتنا المعاصرة حالياً ؟

فقد مر على مولد هذا الفنان الساحر 125 عاماً, ومازالت موسيقاه تُلهم وتفتن الأجيال، من الموسيقيين والباحثين، على الرغم من رحلتة الفنية القصيرة.

مشوار “سيد درويش” قصير زمنياً لكنه كثيف وعريض.. (بناء مسطح متنوع, وليس رأسي وحيد), باعتراف الجميع، طفرة في زمانه الخالي من البرمجيات ووسائل الحفظ الحديثة.

كانت ذاكرته الأهم هي الناس، التى يأتي من وحي بساطتها فنه، لكي يعود إليها أيضاً.. فسرعان ما حفظت اعماله ليرددها هؤلاء البسطاء من الطوائف المختلفة, قبل أن تعرف طريق التسجيل.

لذلك كانت الناس أحد أهم أسباب عبور “فنان الشعب” عبر الزمن، وهذا اللقب الآخير واحد ضمن أكثر من عشرة ألقاب أطلقت عليه في الشارع المصري، وقد يساعد فهمها في فك شفرة الطفرة الفنية.

بالإضافة للقاعدة الشعبية تأتي روح “سيد درويش” الموسيقية وعبقريته الفنية، بمثابة فضاء لروادها من الباحثين والمتخصصين في الموسيقى إلى الآن، إلا أن موسيقى “سيد درويش”, بحسب ما كتب, لم تلقى نفس قدر الاهتمام الذي لاقته سيرته الذاتية.

لم يترك الشيخ “سيد درويش” ثروة أكاديمية تعين في صياغة مناهج التعليم، لكن ترك ثروة فنية هي الأكبر في تاريخ الموسيقى العربية، ليس بالكم بل بالتنوع، حيث يستحق كل لحن وكل عمل دراسة وتأمل.

في أدواره العشرة, مثلاً, نجد كل دور من مقام مختلف, عرض فيه “سيد درويش” الكيفية المثلى لمعالجة نغمات هذا المقام.

وفي ألحان رواياته, هناك أكثر من 200 لحن لم تتكرر فيها جملة واحدة, تكفي للتعبير عن كافة حالات الشعور الإنساني.

فعل “سيد درويش” في مصر ما فعله “بتهوفن” في ألمانيا، وإن كان “باخ وهايدن وموتسارت” قد مهدوا لظهور “بتهوفن”، فقد قام الشيخ سيد بثورة لم يسبقها تمهيد.

الآن.. وهنا.. وعلى الأجهزة الحديثة ما زالت موسيقى “سيد درويش” تعبر, من خلال عشاقه من الفنانين والمستمعين, في زمن “الخلل الموسيقي الحديث”.

سيرة الشيخ سيد..

في هذه المساحة كتب العديد من المؤلفات التي تضمنت أهم محطات رحلة “الفنان الخالد”, وهذا لقب آخر.

وعاب البعض على جزء من تلك الكتابات، إذ لم تكن دقيقة، أو اهتمت بالجانب الفني واهملت الجانب الإنساني للشيخ سيد، بالإضاف إلى انها قليلة أو أنها لم ترقى لمنهج أكاديمي مثلاً.

وتتفق هذه الكتابات على التواريخ الهامة في مشوار الشيخ سيد، القصير الكثيف, وتسرد بالتسلسل الزمني عدد من تلك الأحداث منها:

ولادته في الإسكندرية عام 1892..

لأسرة بسيطة في حي “كوم الدكة” بمدينة الإسكندرية العريقة, وهو حي على ربوة عالية في وسط المدينة تطل على أحياء الوسط الراقي, بينما تفصله عن ذلك الوسط حواجز اجتماعية واضحة، ولم يكن به مدرسة، فقط “كُتاب” صغير لتحفيظ القرآن الكريم وتعليم بسيط، بينما في خارجه مدارس أجنبية ومسارح وشركات وجمعيات خيرية دولية نشطة، والحي كما لو كان قرية في وسط المدينة.

انتمى “سيد درويش” مباشرة بحيه الشعبي ومدينته – الإسكندرية – التي جمعت ثقافة أوروبا كلها، وهكذا جاء فنه أيضاً، أصيلاً شعبياً في ثوب حضاري.

لم ينشأ “سيد درويش” وسط أسرة فنية تشجعه على السير باتجاه الفن، بل كانت حياته مزيج من العنت والتعنيف والإكراه على عمل أشياء لم يجد فيها إحساسه بذاته، بسبب ظروف معيشته، وكان “الفن” بالنسبة لمثله ترفاً لا يمكن الإقتراب منه.

فحمل الصغير مسؤوليات أكثر من طاقته بعد وفاة والده في سن السابعة، وحملته أسرته على الزواج المبكر في السادسة عشرة من عمره، واضطرته تلك المسؤوليات إلى العمل مبكراً من أجل الأسرة الجديدة, وهو لم يكمل تعليمه بعد.

داخل هذه الظروف كان الفتى الصغير يبحث عن وسيلة للتعبير عما في نفسه من ضغوط وعن أحلامه في الحياة، فلم يجد أفضل من الموسيقى، وانجذب بحسه العالي إلى ما سمعه من أساتذته فى المدرسة, وبدأ يبحث بنفسه عن مصادر أخرى لهذا الفن, فأخذ يتردد على الأماكن التي تقدم الفنون في مدينته الهادئة الإسكندرية، المحلي منها والأجنبي، ثم بدأ يردد ما حفظه على أسماع أصدقائه.

كان “درويش” طالباً بالمعهد الديني بمسجد “أبى العباس المرسي” الشهير, الذي أنشيء في بالإسكندرية عام 1905، وفي هذا المعهد كان يقوم بالآذان بمسجد المعهد وإحياء الحفلات بالمعهد، وفي الموالد، مما أدى إلى تركه المعهد وتفرغه للغناء.

“حاول الشيخ عندئذ العمل بالفن لكنه لم يفلح، ومن أعاجيب القدر أنه عندما استسلم لضغوط الحياة وبدأ يعمل كبناء لحساب أحد المقاولين, فإذا بهذا العمل نفسه يقوده إلى أبواب الفن، فها هو المقاول يكتشف فيه موهبة ذات فائدة عظيمة عندما سمعه يغني وسط العمال وهم يرددون غناءه، لم يكن المقاول فناناً لكنه، تماماً كشركات الإنتاج، ومن زاوية مصلحية بحتة، عرض على سيد درويش التفرغ للغناء للعمال بينما يحتفظ بنفس الأجر لما وجد أن غناءه أثناء العمل يزيد من حماس العمال ويجعلهم يعملون بلا كلل أو ملل، فاستراح الشيخ الصغير من عناء العمل وتفرغ للغناء”.

في عام 1909, كان رجلان من الشام يجلسان مصادفة على مقهى بجانب العمارة التي يعمل بها “الشيخ سيد”, وهما “أمين” و”سليم عطا الله” صاحبا فرقة مسرحية تعمل بالشام، وعرض الرجلين عليه فوراً العمل بفرقتهما, فقبل “الشيخ سيد” وسافر في أول رحلة له خارج مصر وعمره حينئذ 17 عاماً، لكنه لم يمكث غير عشرة شهور لم يوفق فيها مادياً لكنه جمع تراثاً موسيقياً قيماً, خاصة بعد لقائه بالموسيقي المخضرم “عثمان الموصلي”.

في عام 1914, عاد “سيد درويش” للعمل بمقاهي الإسكندرية, لكنه لم يكتف بتقديم ما حفظه عن الأقدمين, كالشيخ “سلامة حجازي”، ولكنه بدأ يبدع ألحانه الخاصة فقدم أول أدواره (يا فؤادي), كما ظهرت أغانيه القصيرة السريعة إلى الوجود وغناها بنفسه, كما غناها غيره من المطربين، وبدأ نجمه يعلو في المدينة حتى سمع عنه الشيخ “سلامة حجازي” وقرر أن يذهب لسماعه بنفسه، ثم عرض عليه الذهاب إلى القاهرة ليعمل بفرقته.

هذه هي ولادته الفنية لوطنه وأمته بالقاهرة عام 1917, حسب ما يقسم المؤرخين تاريخ “الشيخ سيد”.

كان “الشيخ سلامة” مقتنعاً تماماً بموهبة “الشيخ سيد”، ولذلك طلب منه التلحين لفرقة “جورج أبيض” المسرحية ولرواية كاملة هي (فيــروز شاه).

كانت مسرحية (فيروز شاه) تجربة خاصة من “جورج أبيض”, الذي اعتاد المسرح الجاد وقرر أن يخفف شيئاً من مادته في هذا العرض كي يجتذب جمهوراً أكبر من منافسه المسرح الكوميدي، ولم تنجح تجربته, لكن الجمهور جذبه شيء جديد هو ألحان “سيد درويش”، لقد تركت انطباعاً بأن تياراً فنياً جديداً أتى وأنه أقوى من أن يعرض مرة واحدة.

في غضون شهور قليلة اصبح “درويش” يلحن لجميع الفرق المسرحية بالقاهرة, وانضم لفرق: “نجيب الريحاني، علي الكسار، منيرة المهدية”، وكان عطاؤه غزيراً حتى قيل عنه أن باستطاعته تلحين خمس روايات في شهر واحد.

لم تقتصر سيرة “الشيخ سيد” على رواية المؤرخين أو المتخصصين في الموسيقى, لكن جمع البعض سيرة شعبية تسجل المعلومات, كما يتناولها سكان الأحياء الشعبية، كأسم “الداية” أو من تقوم بتوليد النساء في الأحياء الفقيرة حتى زمن قريب.

فتقول رواية: أن “سيد البحر درويش” هو أبن المعلم “درويش البحر” نجاراً بسيطاً، وامه “ملوك بنت عيد”, والداية أو القابلة “فطومة الوردانية”.. ولد في العطارين, وشيخ حارته يدعى “بسيوني العدس”.. ولد من أبوين فقيرين فكان لوالديه قرة عين, لأنه أول ذكر رزقا به بعد ثلاثة بنات, وهن: “فريدة, ستوتة, زينب”.

وكان الطفل “سيد”, بعد انصرافه من المدرسة, يجتمع بأصدقائه ممن هم في سنه ويذهبون إلى مسجد “سيدي حذيفة اليماني”, ويأتون بصندوق كبير من الخشب ليقف عليه “سيد” وينشدهم ما كان يحفظه من ألحان الشيخ “سلامة حجازي”, وكان أهل الحي يصفقون له ويشجعونه.

كما كان يقول التواشيح التي كان يسمعها من المرحومين “الشيخ أحمد ندا” و”الشيخ حسن الأزهري”, وكان يهرب في المساء من والدته ويذهب مع بعض أصدقائه لسماع إنشاد السيرة النبوية الشريفة من الأستاذين “نداء والأزهري”.. بعد ذلك انتسب “درويش” إلى المعهد الديني العلمي, الذي أنشأه الخديوي “عباس”, وكان بزيه المعمم, وكانت أول مرة يضع العمامة على رأسه عندما فكر أحد أصدقائه أن يقيم حفلاً في منزله فدعا “سيد” وبعض الأصدقاء لإحياء الحفلة فأحضر له عمامة وجبة وقفطاناً.

قاده الحس الفني النابع من الحياة البسيطة وتكوينها الإجتماعي من اصحاب الحرف والعمال وربما فئات أخرى اندثرت، إلى الإندماج القوي بالوطنية، خاصة مع قيام ثورة 1919.

وكان للشيخ “سيد” فضل تغذيتها بالأناشيد الوطنية والأغاني التي تعرضت لكل ما هو وطني، وفي طريق الثورة على القصر الفاسد والاحتلال الأجنبى, قدمت روايات محلية احتوت على كثير من الرمز ضد الاستبداد وأعلت كثيراً من شأن القيم والرموز الوطنية والشعبية, وحقيقة قام المسرح بدور كبير في هذا الاتجاه, وكانت ألحان “سيد درويش” هي السبب في نجاح هذه المسارح والفرق بانتشارها العارم بين الناس وبسرعة فائقة.

غير أن طموحات “سيد درويش” لم تكن مسرحية ولم تكن مادية, بل كانت موسيقية بالدرجة الأولى، هو يريد موسيقى أفضل.. وإن كان المسرح هو الوسط الملائم فليكن، لكنه اصطدم بإدارات تلك الفرق التى تريد من الهزل كما لا بأس به إلى جانب الجد، كما تريد تقليل النفقات ما أمكن، فعمل على إنشاء فرقته الخاصة ليستقل بنفسه.

خلال عام 1920 أنشأ فرقته الخاصة, وقدم بها روايات (العشرة الطيبة) لـ”محمد تيمور”, و(شهرزاد) لـ”بيرم التونسي” و(الباروكة الفرنسية).

وكان ينافس عملاقان, هما “داود حسني” و”كامل الخلعي”، وهما مصريان أجادا التلحين, خاصة للمسرح, وقاما بتلحين أعقد النصوص حتى الأوبرا، وكان على “درويش”، الذي لم يختلط بهما، منافستهما وأن يخرج من تلك المنافسة متفوقاً وبسلام.

وربما كان سر ذلك.. أن “سيد درويش” لم يعتبر نفسه محترفاً في أية لحظة، كان هاوياً إلى درجة العشق، عشق الفن والجمال والحرية والتعبير، ولم يكن الفن عنده مهنة كغيرها لكسب القوت، وإنما رسالة سامية وواجب وطني، ويذكر عنه رفيق دربه “بديع خيري” أنه “عندما عانت فرقته من مصاعب مادية كان ينزل إلى وسط البلد, وهو مفلس فيسمع ألحانه تقدمها الفرق الأخرى, فيعود إليه إحساسه بالسعادة وينسى ما كان فيه من هم”.

في عام 1921 قرر “سيد درويش”، بعد نجاحه, أن يكتب عن الموسيقى، فكتب للصحافة مقالات موسيقية كان يقصد بها توعية الجمهور والتثقيف الموسيقي العام, واعتبر هذا الميدان, الذي لم يرتاده أحد قبله, أحد واجباته تجاه الرسالة الفنية التي حمل لواءها، وكان يختم مقالاته بتوقيع “خادم الموسيقى سيد درويش”، ثم قرر أن ينشر كتاباً يضم “نَوت” ألحانه واتفقت معه إحدى الصحف على نشر الكتاب في حلقات.

عام 1923 استعد “درويش” للسفر, لكن القدر لم يمهله ووافته المنية بالإسكندرية, مسقط رأسه, عندما ذهب إليها ذات فجر ليكون فى استقبال الزعيم “سعد زغلول” العائد من المنفى, وبينما كان الشعب في فرحة غامرة بعودة زعيمه, كانت أسرة “سيد درويش” تبكيه في هدوء حزين, ولم يتنبه أحد في الخارج إلى وفاة روح الثورة “سيد درويش”.

تراث الموسيقار الخالد..

لم تكن أعمال “سيد درويش” مجرد تراث لفنان احدث طفرة موسيقية, لكنها كانت أيضاً تراث وطني قاعدي، يرتكز على هموم الفقراء, لا الوطن الرسمي “الملك”, تراث يمزج ببن الثورة والفن، البساطة والعمق. في حين كانت الأغاني السائدة في ذلك الوقت من أصول تركية غير معبرة عن البيئة والمزاج المصري ومليئة بالتراكيب المعقدة والزخارف اللحنية, وهو ما كان معروفاً بـ”موسيقى الصالونات”, يسمعها فقط خاصة العائلات والطبقة الأرستقراطية من الأتراك، كما أن موضوعاتها اقتصرت على الحب والغرام والهجر والفراق.

أيقظت ألحان “سيد درويش” الروح الوطنية بين المصريين بكلمات لـ”يونس القاضي” و”بديع خيري” و”بيرم التونسي”، بعضها أيضاً من نظمه هو، كان يقوم بتلحينها على الفور دون معرفة مسبقة بمؤلفها، ومنها لحن (قوم يا مصري) لـ”بديع خيري”, فقد كان الشعور الوطني يوحد بين الكتاب والفنانين في وقت ساد فيه الاحتلال وفسدت السلطة، ولم يتقاض أجراً عن تلحينه لأعظم ألحانه الوطنية.

ويكفي النظر إلى بعض مقاطع أغانيه, لكي نعرف عن ماذا يتحدث “سيد درويش”, وما الذي يعبر عنه، ولكي ندرك النقلة الكبيرة التي أحدثها.

وفي لحن (سالمة يا سلامة):

صفر يا وابور واربط عندك.. نزلني في البلد دي

بلا أميركا بلا أوروبا.. ما في شي أحسن من بلدي

وفي نشيد (قوم يا مصري):

قوم يا مصري مصر دايماً بتناديك.. خد بناصري نصري دين واجب عليك

شوف جدودك في قبورهم ليل نهار.. من جمــــودك كل عضمة بتســتجار

صون آثارك ياللي ضيعت الآثــــار.. دول فاتوا لك مجد خوفو لك شـــعار

ليه يا مصري كل أحــــوالك عجـب.. تشكي فقرك وانت ماشي فوق دهب

مصر جنة طول ما فيها انت يا نيل.. عمـــر ابنــك لم يعــش أبداً ذليــــل

وفي أغنية (طلعت يا محلا نورها):

طلعت يا محلا نورها شمس الشموسة.. ياللا بنا نملا ونحلب لبن الجاموسة

وفي لحن (الصنايعية):

الحلوة دي قامت تعجن في البدرية.. والديك بيدن كوكو كوكو في الفجرية

ياللا بنا على باب الله يا صنايعية.. يجعل صباحك صباح الخير يا اسطى عطية

 

والنشيد الوطني الذي وضع “سيد درويش” كلماته, مستوحياً إياها من كلمات الزعيم الوطني “مصطفى كامل”:

بلادي بلادي.. لك حبي وفؤادي

وهو نشيد الشعب الذي غناه في ثورة 1919, وهو النشيد الوطني الحالي, بعد أكثر من 80 عاماً.

والأغنية التي انتقدت تجنيد الشباب بالقوة لخدمة الجيش البريطاني:

يا عزيز عيني وانا بدي اروح بلدي.. بلدي يا بلدي والسلطة خدت ولدي

كما غنى بمزيج من اللهجات واللغات اللصيقة بقضايا مصر, كانفصال مصر عن السودان عام 1922, أغنية (دنجي دنجي) في رواية “الطاحونة الحمراء”.

 

ويقول الموسيقيون في مصر، كبارهم وصغارهم: “كلنا خرجنا من عباءة سيد درويش”.

وسار على نهج “سيد درويش” كبار الملحنين في القرن العشرين، والذين لم تقتصر ألحانهم على مصر بل ذاعت في جميع الأقطار العربية، وهم: “محمد القصبجي، زكريا أحمد، محمد عبد الوهاب, رياض السنباطي”، وأحدثت تلك الألحان ثورة جديدة في الذوق العربي الموسيقي، وساهمت في إثراء الحركة الثقافية القومية.

لم تنقل موسيقى “سيد درويش” بالكامل بصوته، حيث لم تمنحة حياته القصيرة، مساحة التسجيل الكامل للأعمال، إلا إن الرفاق والتلاميذ والموسيقيين هم من قامو بنتقلها, ومن ثم اكتشافها وتحليلها أيضاً.

فقد امتد تأثير “سيد درويش” إلى كامل المنطقة العربية, عن طريق من ساروا على نهجه بعد رحيله.

وتنوع إنتاجه ليشمل أنماطاً عديدة من التأليف الموسيقي, حاول بها إثبات أن كل شئ مكتوب يمكن أن يلحن ويغنى مادامت هناك فكرة ورآي وموقف وإحساس، حتى الأنماط الأقدم استعملها في أساليب جديدة.

في بحث عن الشيوخ الذين حفظوا عن “سيد درويش”, نجد أن أشهرهم الموسيقار السكندري “محمد عفيفي”, يقول: “لقد أعجبت بألحان محمد عبد الوهاب كثيراً، ولكن حينما استمعت إلى أعمال سيد درويش أدركت أنني أستمع إلى الأصل، وليس الفرع !”.. وأنشأ “عفيفي” في الإسكندرية “كورال” باسم “سيد درويش”, ظل يقدم ألحانه في الحفلات العامة على مدى 25 عاماً منذ 1967 حتى 1992.

تجديد كثيف ومنقوص..

يتطلب هذا العنوان أبحاثاً لا نهائية من متخصصين، حيث يجتمع كل من تطرق لخصائص وتحليلات موسيقى “سيد درويش” على أنها لم تتكشف بعد.

يقول بحث متخصص: “أن التطور الذي أحدثه فن الشيخ سيد كيفاً وكماً كان كفيلاً بمد من جاءوا بعده من الفنانين بمدد لم ينفد بعد, وقد مضت أكثر من ثمانبن سنة على وفاته، وتكفي هذه الشهادة لإثبات مدى أصالة عن هذا الفنان، وكانت الموسيقى من عزف وغناء وتأليف وتلحين لمئات السنين تهتم بالقوالب الشكلية والزخرفة بصرف النظر عن الجوهر والمضمون، واتفق في ذلك الفن التركي مع بقايا الفن الأندلسي من الموشحات وانفصال كلاهما بالتالي عن واقع الحياة والناس، وقد توجه سيد درويش بالموسيقى نحو الأصول الشعبية والتحديث في آن، بالإضافة إلى ذلك تنوعت الأشكال والمقامات المصرية التي قدم من خلالها فنه”.

في هذا السياق, كتب العديد من الباحثين حول الخصائص والتنوعات الذي تتميز به موسيقى “إمام الملحنين”.

هنا يمكن المرور على بعض من تلك الخصائص والإكتشافات, أبرزها التنوع في القوالب.

بلغت ألحان “الشيخ سيد” للأوبريت فقط عشرين لحناً، لفرق “نجيب الريحاني” و”علي الكسار” و”جورج أبيض” و”منيرة المهدية”، فإذا كانت كل “أوبرا” مكونة من 10 ألحان إضافة إلى الأناشيد والموشحات والطقاطيق والمنولوجات وغيرها، فنجد أنها تجاوزت 200 لحن قدمها “الشيخ سيد” للموسيقى العربية.

ولحن “الشيخ سيد” أيضاً 10 أدوار, كل دور بمقام مختلف، مثل دور (أنا هويت), ودور (أنا عشقت).

ويتطلب قالب الدور, على سبيل المثال, فنان متمكن من ادواته وموهوب لأداءه.

يقول موسيقيون أن “سيد درويش” كان سيحدث ثورة في المسرح, لكنها جاءت منقوصة بسبب وفاته المبكرة، فقد جذبت ألحانه جمهور المسرح، وهو نوع الفن الذي كان منتشراً في ذلك الوقت، إلا انه كان سطحي إلى حد ما، أو كوميدي بالنكات والمونولوجات فقط.

العابر إلى الخلل الموسيقي دائماً..

موسيقى “الشيخ سيد” هي دعوة للسماع أكثر من القراءة, هذا ما يود المقال توصيله في هذا المقطع، فقد تجاوزت موسيقى “عبقري الموسيقى” الكلمات لتصبح الموسيقى العابرة دائماً للأجيال بمختلف ثقافاتهم الموسيقية.

من هذه الزاوية جرب العديد من الموسيقيين أنفسهم خلال هذا الفائض الهائل, بداية من “فيروز” التى غنت (اللي صار) حتى موسيقيو “الموسيقى المستقلة” اليوم.

على سبيل المثال قام الملحن وعازف العود “أحمد عمران” بمشروع حمل أسم “تكسير شرقي”, وتضمن المشروع غنوة (أنا هاويت) لسيد درويش, واستخدم خلالها تقنية “موسيقى الخلل” هي نوع من أنواع الموسيقى الإلكترونية التي ظهرت في أواخر التسعينيات. هذه الموسيقى قد وصفت بإنها أظهرت “جمال الفشل التقني”. حيث تعتمد على استخدام أصوات إلكترونية.

مصدر أصوات الخلل عادة ما يكون صوت أجهزة معطوبة وأصوات أجهزة التسجيل المتعطلة أو الإلكترونيات الرقمية، مثال على هذا: “التخطي السريع لأصوات الـ”سي. دي”، صوت أزيز الكهرباء، التشويش الرقمي والتناظري، ضوضاء الأجهزة والبرمجيات، أصوات التحطيم، أصوات هسهسة الأسطونات الموسيقية، أصوات أخطاء نظام الحاسوب”.

ويعد سماع العمل لأول مره كأنه تضخيم التكسيرات التي لحقت هذه الأعمال الخالدة، من خدوش على الإسطوانات في هيئة ايقاعات أو نقل سيء للتسجيلات في تركيز على اللزمات والجمل الموسيقية وتكرارها بنقاء يعطي حضوراً طاغي لفنان الشعب مع عزف راقي ومتقن لفنانين عالمين أيضاً شاركوا في العمل.

من مقام “كورد”:

 

ومن خلال نوع “موسيقى الجاز”, قدمت المطربة “شيرين عبده” أغنية (اللي صار) بمشاركة عازف الباص العالمي “أحمد نظمي”.

من مقام “كورد”:

https://soundcloud.com/ahmedaldwiny/shereen-abdo-ahu-da-eli-sar

 

كما قدمت المطربة “مريم صالح”, مع المجموعة, أغنية (يا عزيز عيني).

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب