29 مارس، 2024 9:57 ص
Search
Close this search box.

“الشطار” .. ثائرون في الأدب الشعبي ولصوص لدى المؤرخين !

Facebook
Twitter
LinkedIn

خاص : عرض – سماح عادل :

من المعروف أن حكايات الشطار نمط فني شائع في الآداب العالمية منتشر في جميع الحضارات، ومن الثابت تاريخياً أن هذا اللون من الحكايات لا يزدهر إلا في فترات تاريخية بعينها.. هي تلك التي تزامن مرحلتي التصدع والتفكك في كل حضارة، ويستدل العلماء على ذلك بما وصل إلينا من حكايات اللصوص والشطار في التراث الهندي والبابلي والفرعوني والعربي.

المنظور التاريخي..

استطاعت بغداد، حاضرة الخلافة العباسية وهي في أوج مجدها السياسي، أن تتجاوز أكبر محنتين تعرضت لهما في تاريخها، منذ أنشأها “أبو جعفر المنصور”.. إحداهما إبان فتنة “الأمين” و”المأمون”، التي دامت أربعة عشر شهراً، والأخرى إبان الصراع الذي نشب بين “البغاددة” و”بني بويه” منذ النصف الثاني من القرن الرابع، وقد كان عدد “العيارين” الثائرين ضد النفوذ الفارسي إبان فتنة “الأمين” والمأمون” قد بلغ مئة ألف في المعركة الواحدة، كما أن القائد الواحد من “العيارين” كان يسير إلى الحرب في خمسين ألفاً من “العيارين” الثائرين ضد النفوذ الأجنبي.. وعلى الرغم من ذلك فقد كان في فتوة الخلافة ما يعصمها من التمزق والإنهيار حتى نهاية القرن الثالث الهجري. وإن كان المؤرخون يرون أن الحاضرة العباسية، بغداد، قد بدأت الأيام تتنكر لها بعد عصر “المعتضد بالله”، آخر الخلفاء العباسيين الأقوياء، (٢٧٩ – ٢٨٩هـ)، ولا يعني هذا أن “مدينة السلام” كانت بلا لصوص أو شطار.. بل يعني أن قبضة الدولة كانت قوية من ناحية، وأن حزم الخلفاء أنفسهم وكفاءتهم للحكم قد حالا دون نشاطهم من ناحية أخرى..

فإذا ما مضى عهد “المعتضد بالله”؛ بدأت بغداد تتنكب من جديد، وعلى وجه التحديد سنة ٣١٥ هجرية؛ حين ملأها “العيارون” ثم صار أمرهم يتفاقم كلما ضعفت الحكومة، وكانت أسوأ أيامها السنوات التي أفلت فيها الزمام من يد الحكومة، فيما بين مقتل بحكم ودخول “بني بويه”، أي ما بين عامي ٣٢٩ هجرية و٣٣٤ هجرية، وكأنما كان سقوط رأس القبة الخضراء، التي في قصر “المنصور” بمدينة السلام عام ٣٢٩ هجرية إرهاصاً بأفول نجم “بني العباس”، وأحياناً كانت الدولة تنجح في قمع هذه الحركات، كما هو الحال في حوادث سنة ٣٩٣هـ، ففيها اشتدت الفتنة في بغداد، وانتشر “العيارون” والمفسدون، فبعث “بهاء الدولة البويهي”، “أبا علي بن أبي جعفر”، المعروف بأستاذ هرمز والملقب بـ”عميد الجيوش”، إلى العراق ليدبر أمره، فوصل إلى بغداد وقمع المفسدين.

القرن الخامس الهجري..

لكن الدولة في أغلب الأحايين عجزت عن قمعهم.. فلا يكاد القرن الخامس يهل حتى ظهر أمر “العيارين” ببغداد وعظم أثرهم، ولم يكن ضعف ملوك “بني بويه” وحده هو الذي أغرى “العيارين” ففعلوا ما أرادوا، كما يقول “ابن الآثير”، ولكنه أيضاً ظلم الأتراك اللصوص المرتزقة، الأمر الذي دفع العيارين لتقليدهم، (أليسوا هم بأموال بغداد أحق)، ومع دخول “السلاجقة” بغداد قويت شوكة السلطنة من جديد.. وعاد لبغداد، “مدينة السلام”، شيء من السلام الذي افتقدته منذ وقت طويل، وعلى الرغم من عدم وصول أخباراً ذات بال لنا عن “العيارين” في السنوات الأولى من الحكم العسكري السلجوقي، الذي فرض على بغداد، فإننا لا نلبث أن تصادفنا، مع نهاية القرن الخامس وأوائل القرن السادس الهجريين بعض أخبار متناثرة هنا وهناك عن نشاط “العيارين”؛ تارة تهزمهم السلطنة وتارة يهزمونها، غير أننا لا نكاد نقترب من سنة ٥٣٠هـ؛ حتى تكون بوادر فتنة سياسية خارجية في الأفق، حين شرع السلطان “مسعود السلجوقي” في محاصرة بغداد، حيث ثار “العيارون” ببغداد وسائر محالها، وأخذوا أموال التجار وحصرهم السلطان نيفاً وخمسين يوماً، فلم يظفر بهم، بحسب رواية “ابن الآثير”، الذي وصف هذه الإنتفاضة أو الحركة الشعبية المقاومة للنفوذ التركي باللصوصية والنهب وتغاضى عن هذا الدور البطولي في الدفاع عن بغداد.. وقد حكم عليهم “ابن الآثير” بنفس الطريقة أثناء دفاعهم عن بغداد ضد النفوذ الفارسي إبان فتنة “الأمين” و”المأمون”، وكذلك ضد النفوذ “البويهي”.

أصحاب قضية..

فقد أطلق الخصوم والمؤرخون على “الشطار” و”العيارين” صفات مذمومة، إلا أنهم تاريخياً كانوا أصحاب قضية، وأنهم واقعياً تميزوا بآداب وتقاليد وسمات تميزهم عن سمات اللصوص بالمعنى اللغوي والقانوني؛ مثل الشجاعة والمروءة والشهامة والنجدة والصبر على المكاره والبعد عن الشهوات، والمحافظة على المحارم والوفاء بالوعد والحفاظ على العهد، وعدم التعرض لأي شخص أستسلم لهم.. وكان شعارهم: “الثورة على السلطة وأصحاب المال”، أي رفض الأوضاع السياسية والاقتصادية السائدة، ولهذا إنحصر نشاطهم ضد حكم العسكر، والجند المرتزقة، والتسلط الخارجي، وتخاذل السلاطين والخلفاء وعجز ولاة الشرطة والأثرياء وكبار التجار والأمراء ومن والاهم. وكان أن صار هؤلاء “الشطار” و”العيارون” مصدر قلق للسلطات حين تميزت حركاتهم بطابع ثوري ضد الحكام، وزاد من خطرهم أن صار لهم تنظيم مسلح يخضع لرئاسة تراعي أمورهم في بعض الأحايين. ومهما حاول خصومهم الإنتقاص من قيمتهم والحط من دورهم والتسفيه من قضيتهم، فإن الذي لا شك فيه أن اﻟﻤﺠتمع الشعبي قد تعاطف مع هؤلاء “الشطار” و”العيارين”، ورأى في “قضاياهم النبيلة” قضاياه، فتبنى حركتهم في إبداعه الشعبي، فيما يعرف بأدب الشطار والعيارين، فتغنى ببطولتهم وأشاد برسالتهم.

فتوة الحرافيش والزعار والعياق في مصر..

“مصر الفاطمية” عرفت تمرد “الشطار” في أواخر القرن الرابع الهجري، ولعله وصل إليها عن طريق الشام، ففي مطالع عهد “الحاكم بأمر الله”، حوالي سنة ٣٩٠هـ، يقول “يحيى بن سعيد الأنطاكي”: “فقد كان الرعايا والرعاع يجتمعون في الأسواق، بين يدي الحاكم، فيتصارعون ويتدافعون ويتلاكمون فأقتضى ذلك وقوع حرب شديدة بين أحداث مصر وأحداث القاهرة، لأن صار عصبة لرجلين كانا يتصارعان بين يديه وقعت الحرب بينهم في موضع البحر الذي يعرف بقبر الحمار، وأفترقوا في ذلك اليوم، وبعد ثلاثة أيام اجتمعوا على وعد كان بينهم في اللقاء، وقد حملوا السلاح وأعدوا آلات الحرب وأقتتلوا إقتتالاً شديداً وقتل من الفريقين جماعة كثيرة، وانهزم أهل مصر، وتبعهم أهل القاهرة وأخذوا ثياب النظارة، ونهبوا القرافة والمعاقر، وقتل الحاكم فهد بن إبراهيم الرئيس، وأقر حسين بن جوهر على النظر في الأمر”.

و”مصر المملوكية” عرفت كذلك نظام “الفتوة الرسمية”؛ بإنتقال “الخلافة العباسية” الصورية إليها، ففي سنة ٦٥٩هـ ألبس الخليفة العباسي، “المستنصر بالله”، الملك “الظاهر بيبرس”، سراويل الفتوة؛ وهكذا راج أمر الفتوة بالمعنى الصوفي في “مصر المملوكية” بشكل رسمي حتى درج سلاطين المماليك، فيما بعد حتى القرن الرابع عشر، على منح سراويل الفتوة للأمراء والأعيان المصريين في بعض الأحيان، وهو النظام الذي ضم في جانبه الشعبي، وبخاصة في المراحل المتأخرة، الحرفيين والصناع والأصناف وغيرهم من العامة والباعة والسوقة والمعدمين وأشباه المعدمين والعاطلين، وهي الطوائف التي شكلت عصب الحركات الشعبية في مصر المملوكية والعثمانية، على نحو ما كان أمر الفتيان “العيارين” و”الشطار” في بغداد والشام. ومع ذلك فلم يؤثر أن يسمى أصحاب الحركات الشعبية في مصر الإسلامية بالأحداث أو الفتيان أو الصبيان، وإنما تزعمها من أطلق عليهم المؤرخون اسم “الحرافيش” و”الزعار” و”العياق” الذين إزدهر نشاطهم منذ أواخر “العصر الأيوبي”، وإبان العصرين “المملوكي” و”العثماني”.

أما “الفتوة” التي عرفتها مصر، منذ إحياء “الخلافة العباسية”، أيام “المماليك”، فقد انتشرت بين عشائر أو نقابات أرباب الحرف وأهل الصنايع، إذ كان لابد لكل نقابة من طريقة صوفية لها طقوسها الخاصة تضم أبناءها وتميزهم وتلزمهم بسلوك اجتماعي وديني ومهني معين، وتحقق لهم نوعاً من الحماية والتكتل والتماسك، وسوف تلعب هذه التنظيمات الحرفية أو الطوائف أو الأصناف، طبقاً لتعبيرات تلك العصور، دوراً ثورياً متميزاً في التاريخ المصري بانضمامهم لثورات أو هبات العوام وإنتفاضاتهم ضد المماليك والعثمانيين، وقد كانت هذه الطوائف الشعبية تقطن الأحياء الدنيا، التي كانت تقع على تخوم القاهرة مثل؛ “الحسينية وبولاق وباب الشعرية ومصر القديمة”، وكانت هذه الأحياء التي شكلت ضواحي حقيقية، أيام “المقريزي”، أحياء شعبية حرفية تضم الطوائف الحرفية الكبرى لصناع المواد الغذائية التي نشأت فيها، ومن ثم كانت مناطق شديدة الحساسية بالنسبة للتقلبات والضوائق الاقتصادية الكثيرة في أيام المماليك والعثمانيين، فكان لها دائماً عسكر من أبنائها لحمايتها تعرف باسم “عسكر الأحياء”، ثم أطلق على بقاياهم فيما بعد “الفتوات”.

حكايات الشطار في الأدب الشعبي..

برز بعض هؤلاء “الشطار” في المأثور الشعبي، ووقفت حكاياتهم على صعيد واحد في الضمير الشعبي مع الأبطال الملحميين، مثل “عنترة وسيف، وحمزة، وأبي زيد الهلالي، والأميرة ذات الهمة، والظاهر بيبرس”، سواء بسواء، تعكس من خلالهم الجماعة الشعبية رأيها ورؤيتها لقضاياها السياسية والاجتماعية، فلم يفرض “الشطار” و”العيارون” وجودهم على عالم “ألف ليلة وليلة” فحسب، بل فرض هذا النمط، “البطولي”، وجوده أيضاً في عالم الملاحم والسير الشعبية العربية، حيث ميدان “البطولة” القومية والعسكرية، (الشعبية)، التي تتمحور حولها هذه السير والملاحم. لم تكن محض مصادفة أيضاً أن تعقد البطولة، (الملحمية)، الثانية دائماً في السير الشعبية العربية جميعها لهؤلاء الشطار والعيارين، وأن تستوعب أنماط الإبداع الشعبي العربي أكبر كم من قصصهم وأخبارهم، حتى لا تخلو واحدة منها من عشرات الحكايات التي يلعب الشطار والعيارون بطولتها سلباً وإيجاباً، الأمر الذي يؤكد إلى أي مدى بلغ تعاطف الوجدان القومي مع هذه الفئة، ورأى في بطولتهم شيئاً (قومياً) يستحق الخلود، وقد زاوج القاص الشعبي في إبداعه الملحمي بين هؤلاء المتمردين تاريخياً وبين الدور الثوري للبطل الملحمي بطريقة لا تتناقض مع أخبارهم التاريخية، وتصوراته المثالية للبطولة الملحمية.

إن الرؤية الأدبية للشطار والعيارين إلتزمت إلى حد بعيد بالصورة التاريخية، فلم يكن ثمة تناقض بين الأدب والتاريخ في تجسيد الأهداف والغايات الرافضة للواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وإن اختلف منظور المعالجة أو التناول بطبيعة الحال. ففي حين كانت الرواية الأدبية متعاطفة إلى حد كبير مع هذه الحركات، “الثورية”، كانت الرواية التاريخية، “متعالية”، إلى حد كبير مع هؤلاء، “المتمردين”، العصاة الخارجين على القانون، فلم تر في حركاتهم التي أجهضت تاريخياً ضد الشرعية المفروضة والطبقات الإقطاعية التي تسيطر عليها، إلا حركات “غوغائية” يقودها “السفلة من الحثالة العامية” ممن سموهم باللصوص من “الشطار والعيار والزعار والدعار والأحداث والفتيان والصعاليك والحرافيش والمناسر والعياق” إلى غير ذلك مما صادفنا من مسميات “تاريخية” أو بالأحرى “سياسية” و”اجتماعية”.

تشابه تاريخي..

مما يلفت النظر أن دور “الشطار والعيارين والأحداث والزعار” في بغداد، ودمشق، والقاهرة، على التتابع المكاني والزماني، دور واحد متشابه تاريخياً، وهو أمر أدركه الوجدان العربي، في إبداعه الشعبي، إدراكاً قومياً ومصيرياً، فجعل من “الزيبق”، أشطر الشطار في التراث الشعبي العربي بطلاً يتولى، “مقدمية”، بغداد والشام والقاهرة، في آن واحد.. ولم تكن هذه، “المقدمية”، إلا رمزاً لتحقيق العدل الاجتماعي وسيادة القانون ومحكاً حقيقياً لهيبة الدولة وحرمة الخلافة. إن ظاهرة “الشطارة والعيارة والزعارة والفتوة” قد سايرت التاريخ العربي، والحضارة العربية بشكل يجعل من “أدب الشطار” وثيقة فنية لها دلالتها، ومصدراً من مصادر المعرفة التاريخية والاجتماعية في آن واحد.

إن حركات العامة التي كان يقودها هؤلاء “الشطار والعيارون والأحداث والفتيان والزعار” في بغداد، دمشق، القاهرة التي كانت تشكل في مجموعها المحور الحضاري العربي، كانت تهدف تاريخياً وفنياً إلى تحقيق هدفين جوهريين؛ هما: التحرر السياسي من حكم أجنبي متسلط والتحرر الاجتماعي من ظلم إقطاعي مستبد.. ولهذا طبيعي أن يحتفل التراث الأدبي والشعبي بأخبار هؤلاء الشطار والعيارين وحركاتهم ويحتفي بحكاياتهم ومواقفهم إحتفاء له دلالاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

مهما يكن من رأي التاريخ، “السلطوي”، أو الرسمي في هؤلاء العيارين والشطار وأشباههم، ˜ممن أطلق عليهم “العصاة” و”اﻟﻤﺠرمين” و”أرباب الشر والفساد من السفلة والغوغاء والحثالة العامية”، الذين اضطروا إلى العيش على هامش اﻟﻤﺠتمع والتمرد على قوانينه المرفوضة، والخروج على أصحاب “الشرعية” المفروضة، فإن التراث الشعبي العربي، وهو في بعض جوانبه تاريخ شعبي، كان له موقف آخر من هؤلاء.. فقد رأى في هؤلاء الشطار والعيارين أبطالاً ثائرين على حين لم ير في مغتصبي السلطة والسيادة والثروة إلا لصوصاً آثمين. وهو أمر من شأنه أن يدفعنا لإعادة النظر في تاريخنا السياسي والاجتماعي.

المصدر:

كتاب (الشطار والعيارين)، تأليف “د. محمد رجب النجار”، إصدار عالم المعرفة.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب