17 نوفمبر، 2024 1:48 ص
Search
Close this search box.

الشخصية في سيرة “شهوة الأمكنة” للروائي مصطفى لغتيري

الشخصية في سيرة “شهوة الأمكنة” للروائي مصطفى لغتيري

 

كتب: ياسين فخر الدين

ينتمي كتاب شهوة الأمكنة إلى جنس السيرة الروائية، والتي يتداخل فيها صوتان، صوت الروائي، ذاك الكائن الاجتماعي الظاهر والحاضر والمعروف، الذي لا يمكن له تجاوز الحدود التي تواضع عليها عصره، إذ لابد له أن يكتب في مقابل رقابة ذاتية تحد من أنانيته، وتجعله يحصر نفسه في دائرة مواضيع لا تلغي الآخر، وإنما تجعله بين عينيها، تخاطب الذات، وتكيل لها وابلا من النقد الإيجابي. وصوت الراوي المتواري والمستتر وغير المعروف، والذي يؤدي مهمة ثم يغادر غير آبه لمواضعات اجتماعية أو ثقافية، فهو لا يخشى اللوم، ولا يخاف العقاب. والجمع بين صوت الروائي وصوت الراوي مطلوب كي يحوز العمل أعلى نسبة أصوات، وكي يكون له جمهور هائل، فالأعمال الرائعة هي التي تؤثر في الجماهير وتسطو على الأفئدة، وتلتصق بوجدان الحشود مهما تعددت اتجاهاتها وأصولها ومنابعها ومعارفها.

وكتاب شهوة الأمكنة يحفل بالمكان وأحداثه، يحدثنا الراوي عن الدار البيضاء والحي الحسني والجديدة وأزمور واشتوكة والحوزية وسيدي بوزيد ودرب عمر، وغيرها من الأماكن التي عاش فيها السارد أو زارها أو ترفه فيها أو استجم أو ساحَ أو تاجر أو لعب أو لها أو رافق شخصا ما. وفي هذي المقالة لن أتحدث عن المكان أكثر مما سبق؛ لأن السارد تحدث عنه، ويكفي الرجوع إلى الكتاب لمعرفة المزيد عن هذه الأماكن وما علق بها من وقائع، وإنما سأتحدث عن الشخصيات التي حكى عنها الكتاب، والتي تحتل في نظري موقعا هاما رغم أن الكتاب عن المكان تكلم، فمن هي هذه الشخصيات؟ وهل هي حقيقية أم متخيلة؟ وما الغاية من الحديث عنها؟

الشخصية مصطلح فلسفي تبحث فيه أم العلوم، والتي تتكلم عن هذا المفهوم باعتباره يطلق على الفرد الواعي المدرك لما يجري حوله، أو القانوني المميز بين الحق والواجب، أو الأخلاقي المناصر للفضيلة، لكننا لن نستخدمها بهذا المفهوم، بل سنوظفها باعتبارها مفهوما أدبيا، صنعها أديب مبدع، وأوجد لها أحاسيس وانفعالات ونفسية ومسارات وقائعية. وكتاب شهوة الأمكنة ينظر في الشخصية ويعيد لها الاعتبار، قد تكون منتمية إلى صنف الكادحين والمتعبين وضحايا الإهمال والتناسي إلا أنها تحمل بذرة خير وأمل وحكمة وموعظة حسنة. ورغم انتمائها إلى العالم التحتي والمسحوق والمقهور شاركت في بناء الفرد، وضحت بما تملك وما لا تملك للإعلاء بالإنسان، وقامت بما وجب أن تقوم به مؤسسات وجمعيات وجماعات. وكتاب شهوة الأمكنة لا يتحدث عن المقهورين فقط، ينظر إلى الواقع المغربي، ذاك الواقع الذي راهن فيه الإنسان على الكسب من منعرجات شتى، وقطع سبلا متفرقة يهيم على وجهه، ويدعو بواسطة، يزور الأضرحة، ينغمس في الجهل، يسخط على وضعه، يتغيا العرافين، يصدق السحرة والمشعوذين، يفضح نفسه، يتجرأ على المحارم.

يحكي السارد -أول ما يحكي- عن أبيه، وكان هذا الأب يملك دراجة نارية، هي وسيلته للتنقل في المناطق المجاورة لأزمور، في مناطق الولجة وسيدي بونعايم وأربعاء اشتوكة والخميس، مما يتيح فرصة كبرى للتمتع بجمالية المكان وربط علاقات إنسانية مع أناسه، والذين في الغالب من الأقارب. كان السارد المغامر يفضل عمته، والسبب واضح عبر عنه :”متوجها بذلك نحو أول أهل لنا في البادية، والذين أفضل أن أقضي لديهم عطلتي، لأن لهم أندادا لي في العمر، فيحلو اللعب معهم ومرافقتهم”(1). ونستنتج أن في هذا متعة لا تضاهى، وإذا كانت الزيارة في فترة الصيف تزدد المتعة ويرتفع منسوب المغامرات الطفولية. ونستنتج شيئا آخر خفيا لم يصرح به الراوي، ونتعرف حرص الأب على تمتيع ابنه بالعطلة ورسم البسمة على محياه بما يملك من زاد يؤهله للتعريف بنسب عائلته حضورا لا غيابا، وعملا لا قولا، وسلوكا لا شفاهة. هذا رجل عرف قدر الحياة الدنيا، فلم ينس ابنه، ولم ينس أحبته، ووصل رحمه، بل علم الابن كيف تكون صلة الرحم، وسبل الإخلاص.

ويأتي بعد الأب أبناء العمة، وهم أقرانه، والمشاكسون أمثاله، يبادلونه الهم نفسه، يزورهم، ويلعب رفقتهم. هم المطلعون على أسراره، وهو المطلع على أسرارهم، لا يغارون منه. كانت لهم جدة من الأب تعامل البطل معاملة حسنى، تتحدث إليه، تجهر له بالقول الثابت، تركبه الأتان -عن بقية الصغار- للذهاب إلى السوق الأسبوعي، ولا يغير ذاك من معاملة أبناء عمته له. هذه المرأة ترمز للمرأة القروية المغربية المناضلة، والتي تفكر في بيتها، وفي اقتصاد البيت، تعين الزوج دون جلب المضرة له، وهي قادرة على المشاركة في تدبير شؤون البيت، ويكفيها أن تحمل إلى السوق دجاجاتها التي اعتنت بها مسبقا إلى أن سرت الناظرين، ويكفيها أن تحمل البيض، وأن تتجه به إلى هذا الفضاء المفتوح لبيعه وشراء ما يلزم. هذه امرأة منافحة عن حوزة بيتها سواء أكان زوجها على قيد الحياة أم قضى نحبه.

ولا يحكي السارد عن قوى من لحم ودم فقط، ويتجاوز ذلك، ويسرد ما تعلق بشخصيات غرائبية تستمد جوهر نفسها من عالم الغرابة المتأصل في الثقافة الشعبية المغربية المتميزة :”ببعدها السردي والرمزي، مرتبطة بالمجتمع وبمكوناته المتعددة، وخاصة بتاريخ البادية المغربية على الخصوص، وهي منفتحة أيضا على الثقافات الأخرى -سواء كانت عربية أم أجنبية- التي تفاعلت معها عبر التاريخ”(2).

يسرد السارد ما جرى للالة عائشة البحرية، وهي امرأة تنحدر من العراق، أعجبها ما سمعته عن الرجل أبي شعيب السارية من علم وزهد في الحياة الدنيا، وقررت عيادته في بلده، و:”قطعت المرأة المباركة المسافات الطوال من أجل الظفر بالرؤية، بعد أن ضج القلب بالرؤيا”(3)، وهكذا شقت طريقها من المشرق إلى المغرب إلى أن بلغت الضفة الشرقية لأزمور، وهي بذاك تقصد الضفة الغربية، لكنها لم تصلها، فيضان النهر منعها من ذلك. وبينما هي تتأهب لرؤية ما قطعت من أجله المسافات فاجأها الموت ودفنت في المكان الذي هي فيه، فعملت المخيلة المغربية على نسج خيوط قصة عصية على الخيال

ويحكي عن إنسان حاضرة أزمور كان طفلا أو امرأة أو رجلا، كان صغيرا أو كبيرا، لكونه امتاز بالسلمية وحب الآخر، وهوى ركوب البحر، وعشق نهر أم الربيع، وكان على بعد خطوات من مصبه. وكان الزموري يربط مع الآخر علاقة مودة وفكاهة، وهذه المودة والفكاهة تشملان العلاقات الاجتماعية بين الزموريين أو مع غيرهم، يتبادلون المنافع، وحق للزموريين زمانئذ أن يتغنوا بشعر معروف الرصافي:

يعيش الناس في حال اجتماع … فتحدث بينهم طرق انتفاع

وتكثر للتعاون والتفادي … على الأيام بينهم الدواعي

وهل ينسى السارد كهف وعدود؟ بالطبع لا، وكان مزارا لبعض نسوة المدينة، واللاتي يزرنه قصد الحاجة، يجدن على بابه رجلا طاعنا يشترين منه الشموع، ويدلهم على المكان المعني بالذات، وقد يشير لهن بإشعال الشموع أو تركها في الجانب حتى يقوم هو بإشعالها لما تنطفئ الشموع المضيئة. ولا يحتاج المفكر لكثير من العناء حتى يكتشف الاستغلال والمكر الذي يمارسه رجل كهف وعدود هذا، فلولا حاجة النسوة للزواج ما جئنه أبدا، ولو كان لهم نصيب ضئيل من الفكر لما جمع شموعهن مساء ليبيعها لأخريات في الغد، وغايتهن زوج يجلب وحظ يقبل ونصيب يؤتى.

هكذا لا ينسى المثقف هدفه قارئا وباحثا وكاتبا، ويحكي عن بعض الممارسات الاجتماعية المعيقة للتقدم، والتي تشعر رائيها أو السامع عنها بالاشمئزاز، ويرجو زوالها انطلاقا من التعريف بها ووصفها وتحديد المكان الذي تمارس فيه مثل هذي التقاليد، والتي تعبر عن جهل أمة وذهاب عقل وانقضاء رجاء وفناء همة وزوال حكمة، وذاك لمعرفة الخلل والبحث عن طرق تجاوزه.

سنترك كهف الأماني ونقصد ضريح مولاي بوشعيب، لنعرف شيئا عن شخصيات جانبية تعيش على التجارة، ويمكن أن تجد عند هؤلاء الباعة الصغار ما يخفى عليك، فكل شيء يباع في هذا المكان الذي فضله السارد وصحبه، يجرون هوس الطفولة، ويحضنون البسمة والشقاوة. وكان هؤلاء الصغار في هذا المكان يفضلون التين الشوكي، يتنقلون، يتطاولون على حباته، ولا يسمعون لغوا ولا تأثيما، وإنما هي دقائق تعد حتى ترى القوم استسلموا للشوك المنغرس في الأكف. يتركون ما هم فيه من خفة يد ودم، ويدخلون خفية إلى الضريح ليستمر تعجبهم بخصوص الممارسات التي تمارس فيه، فهنا كف ترفع لغير الخالق، وهنا امرأة سقطت تتلوى، وهنا رجل يأمر بالذبيحة. ومثل هذه الأفعال المسيئة، سدد نحوها صاحب كتاب الأضرحة وشرك الاعتقاد رميات أسماها قذائف النور على باطل عبادة القبور، واستعرض كثيرا من الآي التي تبطل زيارة القبر لغير العظة، وعلى رأس هذه الآيات ما جاء في الآية الثامنة عشرة من سورة الجن، قال تعالى:”وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا”، وما جاء في سورة الأعراف، وفي الآية الرابعة والتسعين، قال تعالى:”إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين”. وهناك أحاديث براقة كثيرة تنهى عن الممارسات التي ذكرنا، ومنها ما جاء في الصحيح :”ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك”، واللفظ لمسلم(4). والمطلوب من المؤمن النقي إذا سأل أن يسأل الله، وإذا استعان أن يستعين بالله، وليعلم أن الأمة غير قادرة على جلب المنفعة له أو دفع المضرة عنه.

يكبر البطل شيئا ما، ويحس أن العائلة والأقارب لم يعودوا يسدون حاجاته الجديدة، ويعوضهم بأصدقاء آخرين تعرف عليهم في المدرسة، لكن حبل التعارف وسع دائرة المدرسة لتشمل حياته خارجها أيضا. يتصل بأصدقائه خارج أسوار ميدان التعليم، ويحاول رفقتهم التعرف على العالم المتاح له، يمارسون التجارة، يجلبون السلع، وعندما يتضاعف مبلغ رأس المال يتخلصون من البضائع المتبقية، ويقصدون وجهة سياحية بإمكانها أن تسعدهم. يعينون رئيسا عليهم، يسلمونه مبلغا مشتركا تنفقه الجماعة في حاجاتها، ويحتفظون بمبالغ قليلة لاستعمالات فردية. وفي الغالب يكون بطلنا هو رئيس الجماعة، وبإمكاننا استنتاج ما لهذا الاختيار من مسؤولية وثقة خبرها القوم. وتظهر شخصية البطل في مدينة الجديدة التي يقصدها هؤلاء، وعلى رأسهم السارد المحب للمغامرة والسباحة والغطس والعوم والتجول في حدائق المدينة وشواطئها وأسواقها.

في هذه المرحلة يتفتق وعي السارد ناظرا إلى سور الحي البرتغالي ومتخيلا ما كان عليه الأسلاف من تقدم معماري، ويعترف :”رغم حداثة سني كان يعجبني السفر في الزمن، أحاول تخيل حياة الذين سبقونا، لذا استهواني التطلع إلى هذا الجدار العظيم، وكنت من خلاله أتخيل تلك القرون الخالية”(5). وبهذا التأمل نسجل للفتى وقفة حيرة وإعجاب جعلته يدرك أن البرتغاليين:

يبنون ما تقف الأجيال حائرة … أمامه بين إعجاب وإطناب

في هذه المرحلة يعبر عن ولعه بالقراءة وحبه للكتب والاطلاع وذيوع عادته الغريبة هذه بين زملائه، والذين لم يألفوها، لأنها ستميز عنهم فردا وتنقص منهم مغامرا متحاورا مع شخصيات ورقية، وربما افتقدوه وقت الحاجة، وهذا ما كان يجري بالضبط، كان يمسك كتابا يفتح دفتيه، وربما ناقش مواضيع وشخصيات مع الغير، كأن يقرأ قصيدة على مسامع من يعشق قصيد نزار قباني، أو يتحدث عن بطولات شخصيات مصطفى لطفي المنفلوطي، أو يناقش مواضيع خاصة بفلسفة جبران خليل جبران، أو يحكي عن العالم المقفر لشخصيات فيكتور هيجو في روايته البؤساء، أو يحكي عن السيدة الأنيقة بوفري كما رسمها فلوبير. ولا يحتاج قارئ السيرة جهدا كي يدرك أن البطل استهوته القراءة مبكرا، وقذفت في أحشائه سحرها، وجرته جرا، وأصابته في مشغل، بالعدالة التي تحقق، والحياة السعيدة التي تنسجها. وفي ظرف أصبح على معرفة بقباني والمنفلوطي وجبران وهيجو وفلوبير وبلزاك وموليير، وهذا يدعو للدهشة والانبهار.

ومن جديد يعود إلى الأسطورة، ويعطيها سردا كافيا، يتكلم عن بطولة من بطولات النسوان، ويحكي عن شخصية عائشة قنديشة التي أرعبت الجنود البرتغاليين، والذين أزهقوا روح ابنها أو زوجها، لكنها قررت أن تنتقم بطريقتها، كان جمالها الجذاب سلاحا لها لأداء مهمتها، واستدراج أحد الجنود، وهناك تستل خنجرا وتطعن الجندي مصيبة إياه في مضجعه دون حراك. وتستمر في طريقتها إلى أن ترعب الجنود، وتتحول إلى بطل يتحدى الجند والحديد والرصاص، لا لشيء، ولتحقيق ما لم يحققه الإنسان في ذاك الزمان.

الهدف من الحكاية الشعبية إيجاد مجتمع بديل وتحقيق الأحلام(6)، والتي تتعطش  لها الجماهير المحتقرة، خاصة إذا استحضرنا فترة الاستعمار والحرب، والمستعمر يستغل ما في البحر، ويسور محميته بسور يحميه، ويحصد الزرع ويجني الثمار، ويقطع الرؤوس إذا أينعت وحان قطافها. هذا الاستضعاف المحيط بالمغربي من كل صوب وجانب يجعله يبرع في تحريك مجاري مخيلته ليفوز ببارقة أمل، لعله يشفي ما هو فيه من احتقار واحتقان وتذمر من ما آلت إليه البلاد من خراب وفساد.

يعود السارد إلى مغامراته في مدينة الجديدة مع أصحابه، يكترون غرفة مع الجيران ويعيشون على التدبير، وأغلب غذائهم على الأسماك وما كان رخيصا منها، وليس هناك أرخص من السردين، البحث عنه داخل الميناء مكن من ربط علاقات أخوية مع الملاحين والبحارة والباعة، وصاروا يؤمنون قوتهم من هذا المكان المفتوح الذي يفتح شهية البيضاوي أكثر وأكثر، ويمضي أياما دون إحساس بملل، ويعود السبب لتعدد الفضاءات التي ينفتح عليها الزائر.

ولا يخفي صاحب السطور ضجره من بعض الأماكن، وكان ذاك لما استجاب دعوة تدعوه لزيارة خيمة نصبت بجانب ضريح مولاي عبد الله أمغار، لكن هل يألف هذا المكان من جاور البحر والرمل والميناء والجولان في المدينة الساحرة؟ لم يألف الوضع المليء بالسحر والشعوذة والاحتيال والخداع، ولم يتآلف مع الصخور التي تمنع السباحة بشكل طليق، وعاد إلى المدينة واليم مع أصحابه، والذين فضلوا غرفة، ورأوها الفسحة، واستروحوا فيها واطمأنوا على اصطيافهم الممتد أياما. الجماعة تريد المدينة حتى تستمر المجازفات، وتواصل أيامها في ندية بين مد وجزر. نحن مع جماعة لم تقصد مدينة الجديدة للفرجة على ممارسات ترفضها الأخلاق ويتصدى لها الدين، ولم نعرف عنهم أنهم هواة انحراف، إن هؤلاء الشبان أتوا للمتعة التي لا تدانيها متعة أخرى، وينصرفون إلى اللهو واللعب والاستمتاع في تعاون بدؤوه من الدار البيضاء لما جمعوا مالهم عند قائد يتولى مهماتهم الاقتصادية ريثما ينفد الزاد وأفرغوا شحنات موسم دراسي شاق ومتعب.

يظل البطل مخلصا للبحر وأمواجه وأجوائه، كأنه الروائي حنا مينة أفرغ متنه عن البحر، وكأنه الروائي إرنست همنغواي ارتبط أبطاله بالبحر. بدأ يحكي ومكان الحكي يدور في فلك واحد، يستعرض حبه للبحر وللمدن والقرى المتاخمة لهذا المخلوق العظيم. وبعد أن كلمنا عن أزمور وبواديها، وعن الجديدة وشواطئها، لا ينسى الحديث عن شواطئ الدار البيضاء. ويعترف أنه أحب البحر منذ أن وعى نفسه، وينظر إليه بالعظمة من خلال زوج عمته الذي كان واحدا من صفوف البحرية الملكية، وكان مسالما يحب مشاركة الابتسامة مع صغيرنا، وكان من خلال لباسه الأزرق يشعر بالمهابة والوقار. دائما مع البحر يحدثنا عن بعض النسوة اليهوديات اللائي امتلكن مطاعم تحاذي البحر، مثل السيدة شوال والسيدة لولا، ويعود للتعريف بالأضرحة من جديد، وهذه المرة يعرف بالرجل عبد الرحمان وضريحه، ويعرف بأعماله التي يمكن أن يقبلها العقل، مثل مداواة المرضى معتمدا على مزمار ومشيه على سطح الماء، وشربه من عين وسط البحر وغذائه على السمك بعدما أخرجه من البحر بيديه واستوى له بحرارة الشمس.

هذه الشخصيات الواقعية تمهد لشخصيات تقبع في الأضرحة، أتى بها السارد ليعدد الفوضى العارمة في المجتمع المغربي، والذي يشرب من معين الجهل، متجها لقضاء مآربه إلى المشعوذين والسحرة والدجالين، سائلا إياهم جلب حظ أو عمل أو زوج أو ولد، والمؤمن يسأل الله، ولا يطلبه بواسطة، يرجو عذابه، ولا يشرك به شيئا، لأن الشرك لظلم عظيم.

المكان البيضاوي فرض سطوته على السارد، وكذاك فعلت بعض الشخوص، والتي كانت في يوم من الأيام على هذه البسيطة، لكن قضت نحبها بعدما مضت في الحياة. ومن هذه الشخصيات التي كان لها بصمة في الحي الحسني شخصية ومؤسسة في الآن نفسه، دعاه الناس حليبة، ويقال إنه كان يربي الأبقار، ومن هنا أقبل هذا اللقب. وبالفعل إنه شخصية فذة: “يوفر فرجة لا مثيل لها، يتفاعل مع المباراة بشكل غريب، يصرخ، يشتم، يتوسل، يهيج، يهدأ”(7). وهذا ما أبصرناه في هذا الفكاهي النادر، والذي يعد مدربا ولاعبا وفكاهيا ذا نوادر، وأبا رحيما، يكفي أن يراه المار بالقرب من أحد ملعبي الحي الحسني فيمكث غير بعيد متأكدا أنه سوف يشاهد مباراة ويضمن فرجة مسرحية بطلها هذا الرجل.

كان ينتشل اللاعبين من الأزقة ومن دور الصفيح المحاذية لشاطئ عين الذئاب، ويكون منهم فريقا يعمل فوق طاقته لتأمين حاجياته من أقمصة وتبانات وجوارب، وأجرة ملعب وحكم مباراة… وبفضل هذا الأب شاهد المتفرجون المسرح الارتجالي، فقد مارس الحلقة دون إعداد مسبق لها، فهو يمتلك الأدوات والوسائل التي جادت بها الطبيعة. يقصد رفقة فريقه مستودع الملابس، يلبسون ويغادرون لتمارين إحمائية قبل المباراة، ويركن في المكان الخاص بالمدرب، يوجه بأعلى صوته، يتعجب لضياع، يتفاجأ لانسلال خصم، يتحسر على هدف دخل مرمى فريقه، ويتنفس الصعداء إذا أحرز فريقه الهدف. ويصل به الحنق أقصى مداه إذا كان فريقه منهزما، حيث ينادي على أحد اللاعبين ويدخل مكانه، ويستمر في مهامه التدريبية وهو داخل المستطيل. ولا أحدثك عن جموع المتفرجين وقد روحوا عن النفس ونسوا ما فيه من بؤس وفقر وهشاشة. هكذا هو هذا الرجل الذي لم ينصفه زمانه، ولم يلتفت إليه الناس، لأنهم لا يلتفتون لمثله، ومات وتنكرت له الأيام، وهو ما يجب ألا يكون مع هذه الباقات والمدارس، فرحمة ربنا أبدا على حليبة وأمثاله.

تتواصل المغامرة في عوالم الدار البيضاء، وتتغير التجربة شيئا فشيئا، هوى البطل كرة القدم، وهام بها حبا، واتجه إلى الملاعب الكبرى كما يفعل أغلب الشباب البيضاوي الهاوي لفريق الوداد البيضاوي أو الرجاء البيضاوي أو غيرهما، لكنه لم يجد لذته، ووجد حربا كلامية وعنصرية مبالغا فيها، وعلم أنه خاطر في كثير من المرات يأتي لمشاهدة مباراة من مباريات الغريمين التقليديين، فاكتفى بالتلفاز والإذاعة من خلالهما يتابع أطوار المباريات. وفي هذه السن بالذات سيجد ملاذا ينسيه التجارب التي سبقت، إنها تجربة أخرى انفتح فيها على السينما، والتي لم تكن مثل اليوم حين أضحى العالم كله يلقى ما يبحث عنه متاحا بكبسة. كان مطلوبا أن تهيئ للذهاب إلى السينما الصديق وثمن التذكرة وصفحات الذهن لتسجيل ما يتعلم في هذه الفضاءات. ويعترف البطل أنه المكان الذي تعلم فيه فن الصمت والاستماع إلى الذات. وسيكون مع تفتح خيالي مغاير بانفتاحه على فن الحلقة، وتشربه من فنانيه الشعبيين المؤثرين في النفوس.

كل هذه التجارب المتباينة نظرا لاختلاف العمر جعلت السيرة غنية، حملت الواقعية، كما اغتنت بحديثها عن الأسطوري المتوغل في الثقافة المغربية. هو خليط يجمع بين اللعب وحب القراءة والاكتشاف والاستطلاع، كسا الكتاب وأغناه. الشخصيات واقعية أو أسطورية توغلت في مخيال الذاكرة الجماعية للمغاربة، والذي منحها أبعادا دلالية ورمزية تبتعد عن المنطق، وتدخل في باب المستحيل الذي يبدو ممكنا مع إنسان يعصف الجهل بعقله وتحوم الخرافات حوله وتكاد تتخطفه إلا أناسا يهاجرون إلى الله ورسوله في زمان الفتن العاصفة. وعبر البطل عن ما عاشه في مرحلة الطفولة من بطولة استحضرها الشوق الجارف، وانتقل بنا إلى مرحلة عمرية يتسلح فيها الإنسان بالفكر، ولم ينس بعض الشخصيات الهامشية، سلط عليها الضوء، لما لعبته في تكوين أجيال وإصلاح صغار، على أمل الانتباه لهذه الأعلام وإعطائها فتيلا مما قدمته، اعترافا بفضلها ودورها في الحياة.

 

الهوامش:

1) شهوة الأمكنة، مصطفى لغتيري، منشورات غاليري الأدب، ط 1، 2020، ص 8.

2) الحكاية الشعبية المغربية: بنيات السرد والمتخيل، محمد فخر الدين، دار المعرفة، ص 247.

3) شهوة الأمكنة، مصطفى لغتيري، منشورات غاليري الأدب، ط 1، 2020، ص 12.

4) الأضرحة وشرك الاعتقاد، عبد  الكريم دهينة، دار النور المحمدي، ط 1، 1414-1993، ص 144-146.

5) شهوة الأمكنة، مصطفى لغتيري، منشورات غاليري الأدب، ط 1، 2020، ص 34.

6) الحكاية الشعبية المغربية: بنيات السرد والمتخيل، محمد فخر الدين، دار المعرفة، ص 242.

7) شهوة الأمكنة، مصطفى لغتيري، منشورات غاليري الأدب، ط 1، 2020، ص 64.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة