خاص: قراءة – سماح عادل
يقول المخرج الفرنسي “برنار بوردوري” أن السينما أصبحت بين أيدي المستغلين، وأن هناك سعي لعمل أفلام العنف والجنس. ويقول “كلود سوتيه” أنه على المخرج مساعدة الممثلين بشرح الحكاية وتفاصيل الشخصيات، ويرى أن مهنة صناعة السينما مهنة وسطاء. ويقول “جان جيرو” أنه يفضل ترك الحرية للممثل في الأداء، وأن اهتمام الجمهور بالفيلم هو أسمى مكافأة تقدم للسينمائي.
نواصل قراءة الكتاب المميز (قرن من السينما الفرنسية.. من خلال اعترافات مخرجيها)، تأليف “إيريك لوغيب”، ترجمة “محمد علي اليوسفي”، حيث يحتوي على عرض حوارات أبرز المخرجين في السينما الفرنسية. لنتعرف من خلال تلك الحوارات على السينما الفرنسية ورموزها واتجاهاتها.
برنار بوردوري Bernard BORDERIE
“برنار بوردوري” مخرج فرنسي، ولد سنة 1924 في باريس وتوفي سنة 1978. ابن المنتج “ريمون بوردوري”.
من أبرز أفلامه: (الصبيّة الصدئة (1952)؛ حظ تربيعي (1954)؛ الغوريلا تبلغكم السلام (1957)؛ القائد (1960)؛ الفرسان الثلاثة (1961)؛ لمّي للسيدات (1961)؛ فارس باردايان (1962)؛ أنجيليك مركيزة الملائكة (1964)؛ كاترين، يكفي حب واحد (1968).
وللتلفزيون: (موهيكان باريس؛ سادة بوادوري الوسيمون؛ غاستون فيبوس (1978).
الفيلم الثاني..
يقول “برنار بوردوري” عن كيف صار مخرجاً: “السينما هي حياتي كلها. ولقد تدرّبت على يد أبي الذي كان سينمائياً في شركة بارامونت. وكان يخرج أفلاماً يعرضها لأطفال الحي. وتمكنت من العثور على بعض بكراته في المنزل. وبصفته منتجاً فقد كان وراء إنتاج “أطفال الجنة” لكارني و”جزاء الخوف” لكلوزو. وكان يريد توجيهي نحو الرسم. وما زلت أمارسه حتى الآن.
بدأت العمل في السينما كمساعد في شريط “مقدّم المتسلقين للجبال” للويس داكان عن كتاب لفريزون – روش، وذلك لأنني كنت أجيد التزلج وتسلق الجبال. ثم كانت تجربة “أطفال الجنة”. ولم أكن أفكر في التحول إلى الإخراج، إذ كنت آنذاك أدرس الفنون الجميلة. وسرعان ما غادرت تلك المدرسة لأنني لم أتعلّم شيئاً.
وهكذا تابعت العمل كمساعد حتى في ظروف لا تصدق. ففي العام 1945، وكنت في الحادية والعشرين من عمري، وجدت نفسي وحيداً في انجلترا، أمام مائتين وخمسين مظلياً وطائرات نقلهم، لتصوير “كتيبة الجو” وبذلك تعلمت مهنتي. وبقيت أعمل مساعداً لمدة ست أو سبع سنوات.
ليس الفيلم الأول هو الصعب، بل الثاني، وتأتي بعد ذلك المثابرة. ولقد أخرجت عدداً من الأفلام القصيرة، كما يفعل الجميع. وأعجبني ذلك كثيراً”.
وعن إعجابه بمخرجين آخرين يقول: “في شبابي أدمنت مشاهدة الأفلام وتأثرت كثيراً بالأفلام الأمريكية. ويظل وجود فورد هو الأعظم في نظري. توصلت، بعرق الجبين، إلى اقتفاء أثر تلك السينما الباذخة من خلال إخراجي لشريط “حظ تربيعي” وكان أول شريط فرنسي من نوع الشاشة العريضة (سينما سكوب). ولقد حافظت على دروس السينما الأميركية لأطبقها على أفلامي البوليسية، وكذلك على سلسلة “أنجيليك”. فكانت أفلاماً ذات مؤثرات عالية لكن بميزانيات متوسطة جداً. هكذا تعلمت العمل السريع والناجح. وتوصلت إلى إخراج شريطين دفعة واحدة كما حدث أثناء تصوير “الفرسان الثلاثة” و”أنجيليك”… أنا وبريسون لا نمارس المهنة نفسها!
أستطيع إدارة مائتي شخص لأعطي انطباعاً، على الشاشة، بوجود ألفي شخص. ولم أنقطع عن تقديم سينما أمريكية بوسائل فرنسية. واعتقد أنني تمكنت من ترسيخ انطباع جيد عن السينما الفرجوية الواسعة، خاصة وأن جيلي كان متأثراً جداً بالسينما الأميركية.
قدم لنا الأميركيون نماذج متميزة، كما جرى بالنسبة للحرب الأهلية وقانون تحريم الخمر، حيث الديكورات والأسلحة والسيارات والمطاردات والمعارك.
أما نحن، فهنودنا هم حراس الكاردينال، ولم يكن ينقصهم الريش على القبعات ذات الحواف العريضة. من المؤسف أن ماضينا قد شاخ، بينما ماضيهم لا يزال متحركاً في الحاضر. هذه الفتنة التي تشكلها السينما الأمريكية لم تتوقف. لقد أدهشني فيلم “M.A.s.H”. ولم يكن ذلك بسبب الإخراج بل لحرية النبرة والأسلوب. فتمكن ذلك الفيلم من قول كل ما كنت أرغب في قوله شخصياً منذ زمن طويل. أما في فرنسا فما زلنا نصطدم بالمشاكل المغلوطة”.
المجلات المصورة..
وعن معاييره في اختيار الأفلام التي ينوي إخراجها يقول: “لم أعد أستجيب للمعايير حالياً. لا أريد إعادة إخراج الأفلام نفسها، كأن أكون محكوماً بالعودة إلى “الغوريلا”. لكنني أجد متعة في إخراج المسلسلات التاريخية الكبيرة. الآن، وكما هي حال النشر، سيصير التلفزيون معادلاً لكتاب الجيب، فيما تصير السينما أشبه بالمجلات المصورة الباذخة والملونة. ومع ذلك لا أعتقد في إمكانية الخلط بين النوعين.
ينبغي الاحتفاظ بالمواضيع العادية والقصص المسلية للتلفزيون كي يشاهدها الناس على الشاشة الصغيرة، كما في السابق عندما كانوا يرتادون قاعات السينما، وقبلها المسرح، والأوبريت، كمبرر للخروج. ومن أجل حث الناس على الخروج من بيوتهم لابد من أفلام استثنائية يشعر المرء بالندم إذا فوتها. غير أن السينما باتت بين أيدي المستغلين، وهذا تطور جديد. وصار لابد من المراهنة على الممثل النجم، والحال أن عدد النجوم محدود في فرنسا.
وهناك ما هو أخطر. لم يعد ثمة مجال لأفلام المؤلف… بل هناك زحف على أفلام العنف والإثارة الجنسية. في شهر آذار/مارس 1969 توجب علي التخلي عن مشروع فيلم حول مكافحة إدمان المخدرات. قيل لي: لا مجال لمعالجة هذا الموضوع. وبعد ثلاثة أشهر ظهر فيلم “More” زد على ذلك أن التجربة ورطتني في نفقات مالية”.
وعن اعتقاده بوجود رقابة مخيفة يقول: “مشكلة الرقابة مرعبة بالنسبة لنا. وفي كل مرة أشرع في إخراج فيلم أردد بأنني فنان رسام، ولا أريد توريط مجموعة كاملة في فيلم قد لا يرى النور. إن عالم السينما يواجه مشاكل مأساوية. القيم الثابتة تنهار. ينبغي تركنا نمارس مهنتنا بهدوء. أكرر بأن كارثة النجومية جعلت من الصعب إخراج فيلم من دون نجوم. هذا أمر في منتهي الغباء، لأن الممثل النكرة، اليوم، قد يغدو نجماً في المستقبل. وأنا شخصياً أطلقت الكثير من النجوم: لينو فنتورا، جيرار باري، ميشال ميرسييه، إيدي كونستانتين… أنا الذي “هَدْهَدتهم” عندما كانوا في المهد صبياناً!”
وعن كيف يدير الممثلين على “البلاتوه”: “يتوجب عليّ إجبارهم على القيام بما أريده منهم. وينبغي أن يكون هناك نوع من التفاهم. وقد ألجأ إلى تكييف الدور حسب الشخصية. وهكذا أوجدت تفاهماً عميقاً مع روبير هوسين. بشكل عام لا أفتقر إلى التقنية. وهذا ما يجعلني أكثر اهتماماً بالممثلين. نبدأ بإتباع النص ثم نحوّر بعض الكلمات أو الجمل. فلكل واحد طريقته في التعبير. وإذا لم يكن النص لشكسبير أو لأنويله، نستطيع تحويره. وخلال التصوير أحاول عدم السقوط في الكليشيهات والمبالغات التي تصور الحياة اليومية. فأنا أرفض تصوير ما هو بشع. ولم أحب الواقعية قط”.
وعن الشعور بمسؤولية معينة إزاء جمهوره يقول: “أول ما يهمني هو ألا يشعر الجمهور بالملل. لابدّ من العثور على إيقاع. كما أحب أن يضحك الناس مما أضحكني شخصياً. لكنني لا أنساق إلى السهولة. إن أي فيلم يعرض لكي يُرى، وإلا فمصيره الفشل. عندما أتذكر “أضواء المدينة” أدرك كم بتنا نهمل تلك المهارة. لم يهرم ذلك الفيلم رغم مرور نصف قرن. أضفْ إلى ذلك تلك الابتكارات التقنية المصاحبة لكل صورة. ولم يكن ذلك الفيلم ليحتاج إلى الكلام. كانت الموسيقى الجميلة كافية. أما الحكاية فكانت في منتهى الشفافية والصفاء”.
الثقافة السينمائية..
وعن هواية السينما يقول: “الثقافة السينمائية مطلوبة. وهذا أمر جيد، على ألا تتحول إلى نزعة مبالغ فيها. فالموجة الجديدة على سبيل المثال، لم يبدأ استلهامها إلا من خلال فريتز لانغ. إنها إعادة ابتكار لحيل قديمة. ومن بين الذين أحب في السينما الفرنسية هناك كلوزو. إن الذكاء والموهبة يعوضان مواهب الدنيا كلها. لا يمكن للمرء أن يعرف كل شيء في هذه المهنة. وأدنى ما هو مطلوب أن يتعرف على تفاصيل التصوير الفوتوغرافي. وهكذا يميز بين ما هو قابل للإنجاز وما هو غير قابل لذلك. فبفضل معرفتي بالتصوير الفوتوغرافي لم أورط الذين عملوا معي في التصوير، في مواقف حرجة. والألوان، إنها تشكل إضافة مهمة جداً، وتعطى للصورة حضوراً لا يحققه الأسود والأبيض”.
كلود سوتيه Claude SAUTET
“كلود سوتيه” مخرج فرنسي، ولد في مونروج سنة 1924 وتوفي سنة 2000. تخرج في معهد الدراسات السينمائية العليا. عمل في كتابة السيناريو لمدة طويلة.
من أبرز أفلامه: (صباح الخير أيتها الابتسامة (1955)؛ صفّ المخاطر كلها (1959)؛ السلاح على اليسار (1965)؛ أشياء الحياة (1969)؛ ماكس وباعة الحديد (1970)؛ سيزار وروزالي (1972)؛ فنسون، فرنسوا، بول، والآخرون (1974)؛ مادو (1976)؛ حكاية بسيطة (1978)؛ الابن العاق (1980)؛ غارسون (1983).
ولع بإدارة الممثلين..
يقول “كلود سوتيه” عن كيف بدأ شغفه بالسينما: “أقول بكل صراحة إن أول سبب جعلني أتعاطى السينما يعود إلى ولعي بإدارة الممثلين. كل شيء، بما في ذلك التقنية والسيناريو، يمرّ عبر هذا الغربال. والمخرج الذي لا يعترف بذلك يكون مخادعاً أو يمكنه ممارسة مهنة أخرى”.
وعن إعطاءه الأولوية للممثلين يقول: “الممثلون هم أول الوسطاء في العلاقة مع الحس الشعبي. لذا أكنّ احتراماً فائقاً للممثلين في نطاق كوني أبحث فيهم دائماً عن أصلهم أو نشأتهم الحقيقية، أي عن طفولتهم تقريباً. وتحقق ذلك مع لينو فنتورا، وجزئياً مع بيكولي، وأعتقد بصدق، مع مونتان أيضاً. هذا ما يثير شغفي. حتى أنهم يكتشفون على أنفسهم مرغمين نسبياً. كان ذلك أمراً بسيطاً في الكثير من الأفلام. ففي “أشياء الحياة” وكذلك “ماكس وباعة الحديد” ركّزت جهودي على رومي شنايدر وميشال بيكولي، الذي يتميز بموقف متيقظ ومتلصص كثيراً في طريقة عمله.
إيف مونتان وسامي فراي لا يتميزان بالمرونة، أما رومي شنايدر، ورغم معرفتي العميقة بها، فتظل امرأة، وينبغي الاهتمام بها. وتظل إدارة الممثلين، بشكل عام، أصعب ما تكون في البداية. غير أنهم سرعان ما يتشبعون بالشخصيات التي يؤدونها فتظهر النتيجة وتكون رائعة. وهكذا أتوصل فجأة إلى اكتشاف الشخصيات التي كنت أعتقد أنها ما زلت نظرية، وقد تحولت إلى كائنات حية. طبعاً في هذه اللحظة، يقدم الممثلون إضافتهم. ويمكن القول إن على المخرج في بداية الفيلم مساعدة الممثلين بطريقة مكثفة عبر توضيح الحكاية وتفسيرها وكذلك الشأن بالنسبة للشخصيات”.
ويجيب عن سؤال منذ ظهور الفكرة، حتى بلوغ النسخة النموذجية، هل توجد لحظات أكثر إثارة وأخرى قاسية؟: “أصعب المراحل بالنسبة لي هي السيناريو. في البداية تكون هناك فكرة الفيلم، وتظهر أشبه بحلم، شيء ما غامض، مع ملامح جمالية وأخلاقية. عندئذ يتوجب تحويلها إلى شيء محسوس. وهذا ما يشكل السيناريو لاحقاً. وهو عمل مرعب لأنه يتطلب جهداً قاسياً من الصياغة والبناء والتحوير. عمل جاد وصارم لا ندرك مدى حيويته وتشويقه وإيقاعه.
هذه المرحلة المغرقة في النظرية تظل الأشد رعباً. وما إن تبدأ كتابة السيناريو النهائية حتى يصير من الممكن العودة إلى الذات والضحك، أو البكاء على حدة، تأثراً. هكذا يكون السيناريو قد اكتمل. لكننا نكون ما نزال في نقطة الصفر. فمع التصوير يعاد كل شيء، كما لو كنا نجهل السيناريو تماماً. فلا يظل لدي اقتناع إلا بالبناء الداخلي. فإذا كان السيناريو مبنياً بطريقة جيدة يمكن أن نحافظ على 95% مما هو مكتوب. أما إذا كان ثمة خطأ فلا بد من إجراء التعديلات. نهاية التصوير مؤلمة جداً. أنا شخصياً في منتهى القسوة والتشدد والانفعال. لحظة تفرق فريق العمل تكون حزينة. عندئذ أجد نفسي، أنا المخرج، في مواجهة مشكلة المونتاج، وحيداً. ومن جديد أنطلق من نقطة الصفر، كما لو لم أكن أنا الذي صور ما صور. وتدوم تلك الحال ثلاثة أشهر متضمنة مواجهة مشاكل الصوت والموسيقى.
أما في مرحلة إعداد النسخة النموذجية فيساورني الشك حول نجاحي في تبليغ ما أردت قوله. لحظة الحقيقة هذه، تدق وقت عرض الفيلم في المختبر من أجل كشف المعايير، أي موازنة الألوان. وإذا كانت القاعة خالية في هذه المرحلة، فمعنى ذلك أن الفيلم لم يجذب الكثير من الناس. أما إذا امتلأت القاعة بكل التقنيين فيمكن التنبؤ بمدى إقبال الجمهور في القاعات. بعد ذلك تأتي مرحلة الانتظار المضني والمنهك عصبياً: مرحلة عرض الفيلم في القاعات. إن اهتمام التقنيين ومهندسي الصوت والعارضين يدل على نجاح ما، للفيلم”.
وعن شعوره عندما يعرض أحد أفلامه مثل “السلاح على اليسار”، على شاشة التلفزيون يقول: “في الحقيقة، لا أعرف. ولكن، يمكنني النظر إلى ذلك انطلاقاً من أفلام مخرجين آخرين. على سبيل المثال شاهدت على شاشة التلفزيون شريط المخرج راؤول ولش “جنتلمان جيم”. وكان تأثري عميقاً كما في قاعة السينما. أما أنا فأقدم أفلاماً تفقد قيمتها في التلفزيون. لا أدري لماذا. أما شريط مثل “لولا مونتس” لماكس أوفولس الذي يبدو شريطاً خاصاً بالشاشة الكبيرة فقد بدا لي أقوى لدى عرضه على شاشة التلفزيون.
عندما عرض شريط “صف المخاطر كلها” في التلفزيون، شاهدته كما لو لم يكن من إخراجي. وجدته أشبه ببطاقة بريدية تمثل نسخة عن لوحة لفان غوخ. يظل الهيكل العام وتتبدل الألوان”.
وعن أهمية التقنية يقول: “في البداية تكون حاسمة، كما في الموسيقى. لا يمكن عزف الموسيقى من دون معرفة النوطة. ولابد من التنسيق والتوليف بين العناصر البسيطة أو التي تبدو كذلك في البداية. والتقنية ذات سلسلة لا تنتهي من التوليفات. فلا بد من معرفتها وعدم الخضوع للرتابة. عندئذ يمكن التخلص من مشاكل التقنية أثناء التصوير. إذ تتحول إلى مسائل ذات علاقة بالكلمات المناسبة والبسيطة وكذلك بالسيناريو والأداء والزمن واللون وتحريك الآلات. أي أن التقنية تكمن في الإحساس بنتائجها، وإلا أغرقت صاحبها”.
مهنة وسطاء..
وعن استمرار ولعه بالسينما يقول: “هذا أمر فظيع، عندما أبدأ بكتابة سيناريو، وحتى عرض الفيلم في القاعات، لا أستطيع الذهاب إلى السينما. وهذا هو السبب: إذا شاهدت شريطاً متواضعاً انتابني الإحباط. إذ أجد، أحياناً، في ذلك الفيلم أفكاراً مشتركة، ومن جهة أخرى إذا شاهدت شريطاً رائعاً وعدت لرؤيته خمس أو ست مرات، انتابني شعور بالانسحاق. لذلك أفضّل الانعزال.
عندما لا أكون منشغلاً بتصوير فيلم أذهب إلى السينما، غير أني لا أشاهد الكثير من الأفلام. وأميل أكثر إلى إعادة مشاهدة أفلام أحبها كثيراً. وهنا تصير الأمور غريزية، إذ أن ردة فعلي تكون شبيهة بردود فعل الجمهور.
ثمة مشكلة لم تجد حلا حتى الآن: لماذا تمتلئ إحدى القاعات، من دون اللجوء إلى الإشهار، منذ اليوم الأول، بينما يجري الترويج والإشهار لقاعة أخرى، لكنها تظل خالية من الجمهور. مهنتها مثل مهنتكم، مهنة وسطاء”.
وعن حدوث تغيّر على الأفلام المفضلة لديه يقول: “هذا سؤال عويص، لا أستطيع الإجابة عنه”.
وعن المشاريع يقول: “لا يمكنني البتة الحديث عن مشاريعي. ولو فعلت بطريقة واضحة لعجزت عن إنجاز الفيلم. أشعر دائماً أن ما نقوله يقتل ما نريد فعله. أنا أصنع أفلاماً لأنني كنت خجولاً في طفولتي. ولم أكن قادراً على التعبير بسهولة. وما أريد قوله اليوم يظهر في أفلامي”.
وعن وقت التجدد، بين ظهور الفيلم وبداية مشروع آخر، لاستعادة الحيوية يقول: “هذا يتوقف على نوع الحالة. فبعد أفلام مثل “أشياء الحياة” و”ماكس وباعة الحديد” و”سيزار وروزالي”، شعرت بالإنهاك تماماً. فكان لابد من استعادة الأنفاس. وتنتابني رغبة جامحة في تصوير شريط جديد أو عدم القيام بأي شيء. لكن عدم الفعل يعني الموت. إذن ليس لي من خيار”.
وعن موقف إزاء الجمهور يقول: “بادئ ذي بدء لا يمكن معرفة الجمهور. لذلك نبدأ من أنفسنا: إذا أعجبك الفيلم وحرّك مشاعرك وأضحكك، فهذه بداية. بعد ذلك لا ينبغي الانخداع، فالناس المقربون، الذين نحبهم ويحبوننا، هم الذين يشكلون الجمهور الأول. وهكذا، حتى عندما تخطر لي فكرة، وتبدو لي طريفة أو مؤثرة، لكنها تزعج زوجتي أو ابني، أتخلى عنها ولا أحاول فرضها”.
وعن أهمية الموسيقى يقول: “إنها تشكل مناخاً، وهذا المناخ ينبغي أن يكون غير مرئي. كما يمكن القول إن كل شيء في الفيلم ينبغي أن يكون لا مرئياً، باستثناء تماهي الممثل مع الشخصية. وكذلك هو شأن التقنية، واللقطات. أنا ضد الموسيقى التي تعرض نفسها كموسيقى. فالشريط في حد ذاته موسيقى. إنه الموسيقى. إن نغماً ضمن موسيقى الفيلم يعني أن هناك موسيقاراً سيدوم. أما إذا كان مجرد “موضة” فمصيره الاضمحلال معها. وهذا ينطبق على السينما. إذا كان الفيلم يساير موضة ما، ندرك جيداً أنه سوف يتلاشى”.
وعن النصائح إلى شاب في بداية طريقه يقول: “ألا يأخذ نفسه مأخذ الجد أبداً. أن يتحلى بصبر لا ينفد، أن يعاند، أن يكون حازماً. لكنني في الواقع قد لا أنصحه بشيء لاقتناعي بعدم إمكانية مساعدته.
لقد تعلمت كل شيء بمفردي. بدأت مخرجاً متواضعاً. ولم أكن أعمل كثيراً. لذلك لا أستطيع إسداء النصائح. وفي هذه المهنة لا توجد مدرسة. إنها مسألة طبع. لو قال لي أحدهم: أريد العزف على الكمان. إذن… عليه أن يتعلم. أو: أريد أن أرسم. فليرسم! أريد أن أكتب: فليكتب! لا يمكننا أن نساعد إلا من سار خطوات في مجاله.
لست أدري كيف ستكون السينما في المستقبل. في السابق كنا نقول “اذهب لمشاهدة الأفلام” لكننا نعرف أن ذلك لا يكفي. وما أكثر الأشخاص الذين أدمنوا مشاهدة الأفلام يومياً لمدة أعوام ولم يتمكنوا من إنجاز فيلم واحد. ولم يكن السيد ولش يشاهد أفلاماً في عصره، لأنه كان يصنعها. هذا كل شيء. إذن، أكرر، لا توجد حلول جاهزة”.
جان جيرو Jean GIRAULT
“جان جيرو” مخرج فرنسي، ولد في فيلنو – لا – غراند (شامبانيا) سنة 1224. توفي سنة 1982. حاز على دبلوم من معهد الدراسات السينمائية العليا. وعمل كسيناريست.
من أبرز الأفلام التي أخرجها: (الطّفيليّ (1960)؛ المزوِّدون بالبضائع (1961)؛ متعددو والحِرف (1962)؛ المحظوظون (1962)؛ فجّروا المصرف (1963)؛ بويك – بويك (1963)؛ دركي سان تروبيز (1963)؛ الغوريلات (1964)؛ دركي في نيويورك (1965)؛ الدركي يتزوج (1968)؛ جو (1971)؛ رجال شارلو في إسبانيا (1972)؛ رخصة السياقة (1973)؛ أم أربع وأربعين تطقطق وترقص (1977)؛ أبراج الحظ (1978)؛ الدركي والقادمون من الفضاء (1978)؛ البخيل (1980)؛ حساء الملفوف- في إخراج مشترك مع لويس دي فونيس (1981)؛ الدركي والدركيات (1982).
فيروس السينما..
يقول “جان جيرو” عن كيف بدأت موهبته السينمائية: “إنها حكاية قديمة. عندما كنت أتابع دراسة الطب تعرفت على أصدقاء يمتهنون السينما. وبالتدريج أصبت بالـ “فيروس”. فبذلت كل جهودي من أجل تعاطي هذه المهنة. إنها قرارات غير قابلة للتفسير، إلا فيما بعد، عندما نحاول، أو ندعي، القول إنها الموهبة. طبعاً لم يكن الأمر سهلاً.
كان ذلك في مرحلة ما بعد الحرب. مررت بدورات تدريبية لمدة ثلاثة أعوام، ومارست جميع أنواع الأنشطة المتواضعة التي تقع عادة على عاتق المتدرب، وكثيراً ما تكون غير سينمائية، ومن شأنها أن تنفّرك من السينما إذا لم تتوافر لديك قوة الإرادة والحب. لكنها تغدو مجدية في خاتمة المطاف وتقي صاحبها من كل العواصف في مهنته.
وبذلك عملت مساعداً في عدد من الأفلام التي لا يذكرها أحد. والحال أن مثل تلك الأفلام هي التي تُعلّم المرء مهنته بطريقة جيدة. فهو يتعلم قبل كل شيء – وهذا لا يُقدّر بثمن – ما لا ينبغي فعله، عندما يأتي دوره ليقف خلف الكاميرا. كما إن هذه الطريقة في تعلم المهنة تسمح لك بالعمل إلى جانب أبرز المخرجين. والدرس في منتهى الثراء. ذلك أن كبار المخرجين – وأنا متأكد بأن الأمور لم تتغير منذ بداية السينما – لا يتركون للمتعلّم إلا أن يتخذ موقفاً، ولا يفسحون له إلا منفذاً إذا كان مولعاً حقاً: أن يشاهدوه يعمل. فلا تخلو البداية من شعور بالتنغيص، وربما البؤس. ولا يمكن إدراك الدرس إلا عند تحمل المسؤولية لاحقاً. إنها فرصة يتوجب على كل متمرن أن يجيد اقتناصها”.
وعن إعجابه بمخرجين آخرين يقول: “آه! نعم. بالكثير منهم. ولو ذكرت أسماءهم كلها لملأت كتاباً، أو بالأحرى “مذكرة”. العدد أكبر من أن تتحمله مثل هذه المقابلة وأقل من أن يملأ حياة سينمائي مولع بهذا الفن. في فرنسا، وفي ما يخص مرحلة ما قبل الحرب، يتوجب علي أن أذكر في البداية رونيه كلير ومارسيل كارني. وعندما كنت شاباً أدمنت مشاهدة كل الكوميديات الأميركية التي يكون أبطالها غاري غرنت، وجيمس ستيوارت، وغاري كوبر، وكلارك غيبل.
أما أفضلها والتي حافظت على أهميتها فهي تلك التي أخرجها فرنك كابرا وليو ماك كاري. آه! كم تفتّح قلبي لدى عرض “لن تحمله معك” و”السيد سميث في مجلس الشيوخ” و”نيويورك – ميامي”، و”مستر ديدس الغريب الأطوار” لكابرا، و”هذا الشيخ الطيب سام” لماك كاري، على سبيل المثال. ذلك السينمائي الرائع الذي عمل مساعداً لتود بروننغ وبدأ نجاحه بإدارة لوريل وهاردي. عندما كنت في المدرسة الثانوية، كثيراً ما جازفت بالهروب من الدروس حتى لا يفوتني أي فيلم من تلك الأفلام”.
وعن شعوره بالحنين لتلك الأيام يقول: “اعتقد أن مثل تلك الحميّا لم تعد موجودة. كان ذلك عالمي المفضل. وا أسفاه! لم يعد له وجود”.
وعن موقفه من الممثلين يقول: “أرى أنه لا ينبغي على المخرج تنصيب نفسه أستاذاً للفن الدرامي على الممثلين. وحتى لو فعل ذلك، فمن المفترض أن يكون ممثلاً بدوره. عندما أكون في حضرة ممثلين كبار أكتفي بتقديم توضيحات حول الأداء وحركة الجسد وفهم الأبعاد النفسية للشخصيات التي عليهم أن يجعلوها حية على الشاشة. ولا بد من تطبيق هذا الأسلوب بقدر من الليونة في إطار المشاهد المطلوب تصويرها. من جهة أخرى تتعلق التوضيحات بتذكير الممثلين بما حدث في المشهد السابق وبما سوف يحدث في المشهد اللاحق، وذلك حتى التقاط الصورة الأخيرة. لقد كان مبدئي دائماً ترك الحرية للممثل، إذا كان لابد من الحديث عن مبدأ، لأنني أكره كل ما هو منهجي”.
وعن اعتباره التقنية مسألة أساسية يقول: “لا ينبغي أن تستعبدنا التقنية. مع ذلك أحبّ أن يظهر كل شيء منطقياً أثناء البث. فلا بد أن تكون الصورة جميلة، وكذلك الديكور. فهناك الكثير من التفاصيل الصغيرة، وعلى جميع المستويات، مما يحس به الجمهور، فضلاً عن اهتمامه بالحكاية المروية وبمهارة الممثلين”.
وعن الفيلم الناجح في نظره يقول: “أظلّ مقتنعاً بأن نجاح الفيلم يعني أن المخرج قد أجاد اختيار ممثليه”.
ويجيب عن سؤال على ذكر الممثلين، من منهم ترك لديك ذكريات جيدة، أو مَن الذين تعتبرهم من أفضل المتعاونين معك؟: “كيف أجيب وقد عملت مع ممثلين من أمثال لويس دي فونيس، وبرنار بلييه، وفرنسيس بلانش، وجيرار ساتي، وداري كول، وبيار مودندي، وفرنسوا بيرييه، وميشال كالابرو، وجان لوفيفر، وأندريه لوغيه… ألا يكون من الأفضل أن يعبروا، هم، عن آرائهم تجاهي؟
أعتقد، بوجه عام، أن تنوع شخصيات الممثلين هو ما يحدد أسلوب الشريط الذي يعالجه المخرج. ومن الطبيعي، بل ومن المنطقي، والحال هذه، أن يضع الممثل شروطاً قبل المشاركة في أي فيلم”.
الصمت نهاية..
وعن اهتمامه بالجمهور يقول: “طبعاً، طبعاً! أهتم كثيراً بالجمهور الذي يمكنه جعل الفيلم يدوم في القاعات. واهتمام الجمهور بالفيلم – بعيداً عن المسألة المادية – هو أسمى مكافأة تقدم للسينمائي. ولابد من القول إن كل سينمائي يحترم نفسه، يفكر في الجمهور، ولا يكفّ عن التفكير فيه، ولاسيما إذا كان متخصصاً في الكوميديا.
ففي الكوميديا، أو الشريط المعلن عنه باعتباره مضحكاً وطريفاً، إذا لم يضحك الناس، فإن ذلك يعني خسارة كل شيء، بما في ذلك شرف المخرج، ومن دون نسيان شهرة الممثلين الذين لن يغفروا ذلك للمخرج، تماماً كما يفعل المتفرجون. أما في الأفلام الثقافية، بهذه الدرجة أو تلك، ففي إمكان الجميع الذهاب إلى الصيد والعودة بما يرغبون في الحصول عليه منه. أنا أقدم أفلاماً إلى جمهور يرغب في الضحك والتسلية والاسترخاء. وينتظر كل شيء من التسعين دقيقة التي يستغرقها عرض الشريط. بالنسبة إلينا، نحن مخرجي الكوميديا: إما الضحك أو الصمت. فإذا خيّم الصمت، يكون الحكم قاسياً، وربما إلى الأبد”.
وعن طريقته في كل مرة، لتقديم ما يثير الضحك يقول: “إنها طريقة بسيطة، في خط مستقيم، مثل حالة بهلوان السيرك الذي لا يستطيع سوى وضع رجل أمام أخرى وهو يتقدم على الحبل، مخاطراً بالسقوط”.
وعن وجود، في هذا المجال، وصفة سحرية يقول: “أفضل وصفة في اعتقادي هي أن تبدأ بنفسك، وتتساءل عما إذا كان ما تقدمه يضحكك ويسليك”.
وعن مواصفات المخرج الكوميدي انطلاقاً من تجربته يقول: “إذا كان متشائماً بطبعه فلا حاجة به إلى الخوض في هذا النوع من الأفلام. لا يمكنني إيجاد مثال أفضل من لويس دي فونيس. فإذا ضحك وهو على “البلاتوه” يمكننا التأكد بأن الجمهور سوف يضحك في القاعات. أهم مبدأ في السينما التي أنجزها هو معرفة كيفية التسلي والضحك من مواقف الحياة المتعاقبة”.
وعن وجود محبة خاصة لأحد أفلامه يقول: “بالتأكيد “جُو”. لأنه الفيلم الذي أنا بصدد إنهائه حالياً. فهو يذكرني كثيراً بـ “بويك – بويك”. وهو عبارة عن كوميديا مقتبسة من مسرحية. ومع أن البعض يزعم بأن نقل المسرحيات إلى الشاشة لا يقدم أفلاماً بصرية ناجحة، فأنا أظل مصراً على العكس. طبعاً، لابد من التوصّل إلى إيجاد إيقاع جديد ضمن السيناريو المقتبس من المسرحية. ففي المسرح يُقدّم الإيقاع عبر تعاقب الفصول، وهو ما لا نراه في المسرح. وعلينا أن نُظهره وأن ننقله إلى الشاشة. يتطلب الأمر تحويل الكلمة إلى صورة”.
وعن طموحه الأكبر يقول: “أن أكون منتج أفلامي، ويكفي أن يتحقق ذلك مرة أو مرتين. ومن جهة أخرى، ما زلت أحلم، منذ مدة طويلة، بإخراج شريط مع الممثل الذي يستطيع دائماً أن يُضفي قيمة خارقة على الشخصية التي يؤديها: لينو فونتورا”.