خاص: قراءة – سماح عادل
يقول المخرج الفرنسي “آلان روب غريييه” أنه ينبغي هز الجمهور،ويرى أن السينما عبارة لغة موسيقية، شعرية، تشكيلية، كما يرى أن الفيلم عمل جماعي. ويقول “فريدريك روسيف” أن الأفلام التي تتناول التاريخ تتم محاكمتها بقسوة، كما يرى أن السينما اختيار والتليفزيون صدمة. ويقول “ألكسندر أستريك” أنه مقتنع بالتخييل الروائي ويكره تحطيم الأشكال الفنية، ويقول أن الروائي يعرف الماضي، غير أنه لا يمتلك الحاضر.
نواصل قراءة الكتاب المميز (قرن من السينما الفرنسية.. من خلال اعترافات مخرجيها)، تأليف “إيريك لوغيب”، ترجمة “محمد علي اليوسفي”، حيث يحتوي على عرض حوارات أبرز المخرجين في السينما الفرنسية. لنتعرف من خلال تلك الحوارات على السينما الفرنسية ورموزها واتجاهاتها.
آلان روب- غرِييِيه Alain ROBBE-GRILLET
“آلان روب- غرِييِيه” مخرج فرنسي، ولد في بريست سنة 1992. اقترن اسمه بظاهرة “الرواية الجديدة” التي أسسها ومن أبرز رواياته: (الغيرة، الممحاة، في المتاهة، فوريّات).
ومن أبرز الأفلام التي أخرجها: (الخالدة (1962)؛ قطار أوروبا السريع (1966)؛ الرجل الذي يكذب (1967)؛ عدن وبعد (1970)؛ التغلغل التدريجي للرغبة (1974)؛ اللعب بالنار (1975)؛ الأسيرة الجميلة (1983).
هز الجمهور..
يقول “آلان روب غريييه” عن التوفيق بين الكتابة والسينما: “لم أولد كاتباً. المخرج والكاتب، يلغي أحدهما الآخر، وفق النشاط الذي تجري ممارسته. وربما استطعت القول: إن السينمائي لا علاقة له بالكاتب؛ فأنا عندما أمارس الإخراج أنسى أنني روائي. وفي الأثناء لا ينتابني الشعور بسرقة وقت الروائي لأنني سينمائي. ولو وجدتْ السينما في زمن فلوبير لتمكن من إخراج أفلام في أوقات تتخلل كتابة رواياته الخمس أو الست. وينبغي القول بأن غوستاف فلوبير هو والدي الروحي. ولقد وُجِّهت إليه، في عصره، المآخذ ذاتها التي توجّه إلي. ولا أخفي اعتزازي بكون المقالات التي وجهت إلي سنة 1957، هي المقالات نفسها التي وجهت إليه سنة 1857.
يمكن التمهل في كتابة الرواية، بعكس السينما التي تتطلب سرعة الإنجاز لأنها تتضمن وقت الآخرين أيضاً. وقد يكون من غير المعقول، أو من المستحيل إمضاء خمسة عشر عاماً في إنجاز فيلم. وحتى لو تعلق الأمر برائعة سينمائية، فإن أحداً لن ينتبه إلى ذلك”.
وعن موقفه من الجمهور يقول: “ينبغي هزّ الجمهور، لأنه قد يفضل النوم في السينما. أما ما عدا ذلك فأنا أهتم بالجمهور دائماً وبشكل مرعب. وأتألم كثيراً عندما لا يلقى أحد أفلامي استقبالاً جيداً. ولاسيما أنني لا أشرع في وضع كتاب أو فيلم، إلا إذا أعجبني شخصياً، ورغبت في إنجازه. أنا بطيء جداً في عملي”.
ويجيب عن سؤال هل تعود إلى رؤية أفلامك بعد عروضها الأولى: “لدى ظهور فيلم بتوقيعي، أتخيل صادقاً أن الآخرين كلهم مثلي. ويحدث لي أن أدرك بأنني لم أعمل إلا وأنا أفكر في نفسي فقط. فأحاول مشاهدة أفلامي وكأنني لست مَن أخرجها، مع الرغبة في أن أكون متفرجاً مجهولاً أثناء العرض الأول، الكامل، للنسخة رقم 1”.
وعن تعريف السينما يقول: “السينما التي أحلم بها هي لغة؛ لغة موسيقية، شعرية، تشكيلية. وقد يكون شريطي المثالي عملاً يقول، من خلال شكله، شيئاً آخر غير ما يرويه”.
لغة سينمائية جديدة..
وعن قصده الحقيقي، والعميق، عند إنجاز فيلم، على غرار “عدن وبعد” يقول: “هذا الفيلم تتمة لـ “الرجل الذي يكذب” من وجهة نظر الأشكال المعمارية الناجحة. ففي هذا وذاك، سعيت إلى وضع لغة سينمائية جديدة. إنه شريط يختلف عن الأشرطة الأخرى، فهو بالألوان من جهة، وهذا مهمّ، لأن اللون لا يدرك على الشاشة فحسب، بل يوجد في الموضوع وفي السيناريو أيضاً. وهو عنصر فتنة وإغراء. يضاف إلى ذلك أن فيلم “عدن وبعد”، ولأول مرة في أفلامي، يقدم المرأة كشخصية رئيسية، بعد أن ظل الرجل هو ضمير الحكاية. والموضوع يعتمد على نوع من المسارة التعليمية التي تمتزج فيها التجارب والمحن على طريقة “جوستين ” للمركيز دي ساد، والبحث عن التابوت المفقود. وأعتبره مظهراً جديداً، إذ أثريه بمادة غزيرة حول الميثولوجيا الحديثة التي تغذي الوعي الجمعي. من جهة ثانية لاحظت أن وسائل الإعلام الجماهيرية في العالم المعاصر تخلق فانتازيا جديدة من الأساطير الشعبية. وهذا ما يفسر اتّكاء الفيلم على تلك العناصر الفانتازية نفسها. فهو ينتقل من “شهرزاد” إلى “أنجليك مركيزة الملائكة”. فثمة ميثولوجيا أخرى لا ينبغي إهمالها.
أما بالنسبة للجمهور غير المهيّأ لمثل هذا البناء الهندسي، فأنا أقدم له شريطاً ذا مظهر حديث، يجد نفسه فيه. لهذا، تتقدم القصة بنوع من الإيقاع، لا اليومي، بل الإخباري، أي الأخبار التي تذكرها الجرائد. وتقصد وجهتها مثل سفينة ترفع المرساة. وهذه الوجهة هي الحكاية الفانتازية الناجمة عن سراب المخيلة الشبقية. أما المغامرات التعليمية بالنسبة للنجمة كاترين جوردان، فيمكن أن تقارن بمغامرات “أليس في بلاد العجائب”؛ إذ نشاهد اجتيازها الصحراء وفخاخها وسرابها. ثم تجد نفسها في مواجهة قرينها، وقرينتها التي تستولي على قِطَع مما تدججت به، أو تعيدها إليها.
في هذا المستوى لا يشكل الفيلم مسار صوفي ، بل خيالي. ففي نهاية الحكاية يبدأ كل شيء. وكان بودي لو وضعت كلمة “البداية” بدل كلمة “النهاية” على الشاشة. لكن ذلك من شأنه الإزعاج أكثر!”.
الفيلم عمل جماعي..
وعن معنى الفيلم بالنسبة له يقول: “أرى أن الفيلم عمل جماعي، في حين أن الرواية عمل منفرد. وهكذا أترك للمعاونين والممثلين أكبر وظيفة إبداعية ممكنة، انطلاقاً من اهتمامهم الصادق بها أفعل. وفي هذا المجال قد ألجأ إلى استشارة الممثلين والتقنيين حول بعض النقاط. فأنا حريص على التعاون الفعلي. في مثال كاترين جوردان، ضمن شريط “عدن وبعد” أعتقد أن القصة نجحت لأنها ساهمت فيها بشغف حتى أن الفيلم صار يجسد قصتها الشخصية تقريباً.
أستخدم الكثير من الأفلام الموجبة خلال التصوير لحرصي على توفير أكبر عدد ممكن من التنويعات للمونتاج. إن المسؤولية تؤرقني باستمرار حقاً. أقول هذا من دون افتعال التواضع، وأتفهم أسباب منع أفلامي عمن سنّهم أقل من ثلاثة عشر عاماً”.
وعن إلى من يتوجه بأفلامه بالدرجة الأولى يقول: “لا أعتقد أن أفلامي تخاطب العقل بقدر ما تخاطب الحواس. لا أرغب في أن يؤدي البناء الدقيق والمتقن إلى جفاف الموضوع. أنا أخاطب الحواس. وأَفضل تعليق يبهجني هو “هذا جميل” لذلك أستفظع من يُعمل عقله ولا يتوصل إلى الفهم فيغضب بسبب ذلك. أعتقد أن على المتفرج في السينما أن يسلس القياد. فعندما لا يطفو المتفرج يغرق الفيلم”.
وعن إعجابه بمخرجين آخرين يقول: “أنا شديد الإعجاب بإيزنشتاين الذي ابتكر سينما مونتاج قريبة مما أحلم بإنجازه. فيما بعد ظهر أورسن ويلز، ثم غودار في بداياته. وبالمقابل هناك سينما لا أحبها، وهي التي أدعوها سينما القرن التاسع عشر، تلك التي تستند إلى أشكال روائية لم يعد لها من وجود راهن”.
وعن أهم مرحلة خلال الإخراج يقول: “هي المونتاج في رأيي . حتى على مستوى التصوير أُولي أهمية قصوى للوهم، أو الخداع الإبداعي. وهدف السينما هو خلق الاعتقاد بأن الوهم حقيقة. ففي مسرح القرن التاسع عشر كان هناك سعي إلى تصديق الشخصية التي يجسّدها الممثل. أما في أفلام القرن العشرين فالممثل هو الذي يفرض الشخصية من فرط التماهي معها. أستنكر الممثل الذي يمثل وأحب الذي تزدوج شخصيته. لقد انقلبت عمليات الاسترجاع (الفلاش بلاك) في الحياة، وفي الشارع. صارت استرجاعات إلى الأمام، أو ومضات قادمة. لقد صارت الأمور تتسارع في السينما كما في المجالات الأخرى. لذلك قد أكون، بوتيرتي المتسارعة، أخاطب أوسع جمهور ممكن”.
وعن هل وفرت له السينما ذكريات جميلة يقول: “حصلت على جائزة ديلوك سنة 1963. ثم عرض شريط “الخالدة” في برلين. لكن كل ذلك ليس كبير الأهمية. ما أفتخر به هو أن جوزيف فون سترنبرغ أبدى شغفه بهذا الفيلم. وكان الوحيد في ذلك، وهو ما يعطي لحكمه وزناً أكبر، وقيمة متفردة”.
وعن بدور النقاد ووظيفتهم يقول: “النقاد يخدمون أفلام البحث والتجريب. وفي هذا المجال يعتبرون نافعين. ويمكنهم كإعلاميين أن يثيروا الرغبة في مشاهدة الفيلم”.
وعن موقفه من التلفزيون يقول: “أعتقد بإمكانية تصوير شريطين في آن؛ أحدهما يكون مخصصاً للتلفزيون، والثاني للسينما، وذلك بالشخصيات والديكورات نفسها. وخلال عملية المونتاج، يكفي تزويد كل فيلم بـ 50% من الصور المختلفة لنحصل على حكاية مغامرتين مختلفتين تماماً. وقد يشكل ذلك بداية نوع جديد من التعاون بين السينما والتلفزيون”.
وعن التفكير في إخراج فيلم وسترن، ذات يوم يقول: “سبق لي التفكير في مشروع تصوير فيلم من هذا الصنف، تجري أحداثه بين رومانيا وتونس. ولو طلب مني تعريف الوسترن لقلتُ: عودة رجل إلى قريته، حيث مسقط رأسه، لإصلاح خطأ كان قد تسبب فيه، أو خطأ ذهب ضحيته آخرون. ويكون البطل عادلاً وبريئاً، لكنه حوكم ظلماً. لاحظ أن الشريط الصوتي في فيلم “عدن وبعد” ينتمي إلى موسيقى الوسترن أصلاً”.
ويجيب عن سؤال هل تعتقد أن الأحكام التي وجّهت إليك، انطلقت منك: “أحياناً يتم اعتباري مؤلفاً مولعاً بالإثارة الجنسية. وأنا أستنكر ذلك بشدة. ففي هذا المجال لست سوى شاهد. وأعتقد أن الإثارة الجنسية ليست سوى أحد مكونات الميثولوجيا الحديثة. لا أسعى إلى الإيقاع بالمتفرجين وجرّهم إلى فخ، بل إلى توجيههم داخل بعض المتاهات في مجتمعنا الراهن”.
فريدريك روسيف Frederic ROSSIF
“فريدريك روسيف” مخرج فرنسي، ولد في مونتينغرو سنة 1922. توفي سنة 1990. مخرج تلفزيوني وسينمائي في آن. نال الأوسكار في هوليود.
من أبرز الأفلام التي أخرجها: (زمن الغيتو (1961)؛ الموت في مدريد (1962)؛ الحيوانات (1963)؛ ثورة أكتوبر (1967)؛ جدار في القدس (1968)؛ لماذا أمريكا؟ (1969)؛ بقدر ابتعاد الحب (1970)؛ المخلب والسن (1976)؛ الحفل المتوحش).
وللتلفاز: (الأوبرا المتوحشة؛ بيكاسو (1982)؛ جاك بريل (1982)؛ متوحش وجميل (1983)؛ القلب الموسيقي (1987).
محاكمة الأفلام التاريخية..
يقول “فريدريك روسيف”عن موقعه من السينما الفرنسية: “أنا سعيد لنجاحي في تجربتي المزدوجة بين السينما والتلفزيون. لقد باتت تكاليف أفلام المونتاج في ارتفاع متزايد. حتى أن المرء قد يمل من لعب دور دون كيشوت. أما الأفلام ذات السيناريوهات الكلاسيكية، سواء أكانت بوليسية أم عاطفية، فتجري محاكمتها من الخارج بموضوعية أكثر، عامة. ففي داخل كل منا مؤرخ ذو رؤية شخصية للعالم. هذه المسائل تشد انتباهي لكنها لا تمنع الاصطدام بردود فعل انفعالية.
فقبل إخراج أي فيلم تتوجب قراءة مئة كتاب على الأقل. وعندما نتعرض للهجوم لا نعرف بماذا نجيب، وذلك لالتباس بعض المراحل التاريخية، أو طريقة النظر إليها.
وهكذا فقد تعرضت لهجوم قوي لدى ظهور فيلم “زمن الغيتو” حول نقطة دقيقة تخص الجيش الأحمر. وكان المهاجم أستاذ تاريخ. وقد تبين أنه أخطأ بفارق سنة حول وقوع بعض الأحداث. ولقد واجهت مثل تلك المشاكل أيضاً حول أسبانيا الجمهورية. فهناك الكثير من الأفكار المسبقة. أما معالجة الموضوعات الروائية المتخيلة فهي أسهل من ذلك بكثير.
وعن تناوله لحاضر الحيوان يقول: “رؤية الحيوانات جميلة للنظر، لكنها صعبة التفسير. إنها فاتنة. وأنا أسعى إلى نقل فتنتها عبر الصورة. وللحيوانات ذاكرة أبعد من ذاكرة الإنسان الأول. هي درس الحرية و ملاذها. وباتت الحيوانات ترمز إلى الفردوس المفقود، وإلى تلك الحرية التي انتزعت منا، بل التي انتزعناها من أنفسنا بأنفسنا. الحيوانات ماضينا، نصيبنا من المخيلة. ولقد نجمت الحيوانات الفانتازية في الأعمال الشعرية لجان بول، ولوحات غويا، وجيروم بُش، والأحلام السوريالية، من عملية التشويه التي خضعت لها ذاكرتنا. إن أول موسيقى أدركها الإنسان، قبل حتى أن يستمع إليها، هي زقزقة العصافير، أي الموسيقى الأصلية، موسيقى النشأة. فما زال العندليب يشدو باللحن نفسه منذ ثلاثة آلاف عام.
وأنا أتبنى جملة بوفون: “عَيْنَا السمكة تصيبانني بالحمى” إن الحيوانات التي يفتتني تصويرها، حتى لا ننساها عندما تنقرض، هي نظرة أسلافنا. ويتوجب علينا أن نجيد قراءة تلك النظرة. أرى أن سعادة أي بلاد مرتبطة بالدفاع عن طبيعتها، وحجارتها وأشجارها وحيواناتها. إن حضورها، قبل تحولها إلى ذكرى، هو آخر ما تبقى من الفردوس الأرضي”.
وعن تناوله لصور فظيعة ومن ثم تحريكها يقول: “كثيراً ما أصور معارك وحشية مخيفة، لكنها ليست فظيعة. فالحيوانات تلجأ إلى القتل لكي تقتات وتحافظ على الإيقاع الطبيعية للحياة وتوازن الطبيعي. ولهذا لا أخفي احتقاري الشديد للرياء الإنساني المتلفّع بالفرو”.
وعن معاييره للشروع في إنجاز فيلم جديد يقول: “ينبغي أن نخرج الأفلام التي نرغب في إخراجها دائماً، وذلك مهما كان الموضوع المختار”.
حرية الاختيار..
وعن الشعور بمسؤولية خاصة إزاء الجمهور يقول: “مسؤولية المخرج جزء من مسؤولية الفرد في حياته الاجتماعية وعائلته ومعتقداته. نحن نعيش عصراً خاضعاً إلى تيارات أخلاقية كبيرة، حيث تختلط مسؤولياتنا المختلفة. وكل فرد منا يتحمل مسؤولية إزاء حياته الشخصية. لذلك أعتبر أن الحكم الذي يمكن أن نحمله تجاه الذات هو الحد الفاصل الأكثر نجاعة. فليست الوظيفة هي التي تجعلنا مسئولين، بل حرية الاختيار هي التي تجعلنا كذلك”.
وعن العلاقة بين السينما والتلفزيون وهل هي “حرب أهلية” يقول: “ينبغي أن يظلا متكاملين. ومن الخطأ الخلط بينهما لأن ذلك قد يؤدي إلى عدم التمييز بين المتخيَّل الفردي والمتخيل الجماعي. أما من وجهة النظر التقنية المحض فيمكن الانتقال بسهولة من هذه الوسيلة التعبيرية إلى تلك، مع ضرورة الملاحظة بأن التلفزيون يتطلب تفاصيل أقل في البناء.
أما السينما فتتطلب احتفالاً جماعياً يجري في العتمة، مع ضرورة الدفع قبل الدخول، في حين يتم استقبال التلفزيون في البيت. ويمكن المتابعة معه أو تركه في منتصف الطريق. السينما اختيار، والتلفزيون صدمة. السينما تؤثر فيك دفعة واحدة، والتلفزيون يفعل ذلك بالتقسيط، وفي زمن متقطع.
مع ذلك ينبغي إيجاد تعايش بينهما. فهما وسيلتا تعبير تستجيبان لحاجات مختلفة. والخلط بينهما يؤدي إلى عدم فهم هذه وذاك”.
وعن الذي أثر فيه تأثيراً حاسماً من بين السينمائيين القدامى والمحدثين يقول: “اسمح لي بذكر أسماء: أولاً، ايزنشتين الذي أجاد التعامل مع مادة حقيقية. ثم مورنو الذي اختار الدرب العميق للحلم. وأخيراً ميزوغوشي، ملك الميتافيزيقا الشعرية. هؤلاء الثلاثة فتحوا دروب السينما وأغلقوها. والثلاثة تصارعوا مع الشيطان. وهم أكثر الذين أثّروا في بالتأكيد”.
وعنما طموحه السينمائي بوجه عام يقول: “أسعى دائماً إلى إخراج أفلام تغذّي أحلامي. وهي الأحلام التي أحاول تبليغها للآخرين، لاحقاً”.
وعن تصرف مع الممثلين يقول: “أطالبهم منذ البداية أن يكونوا كما هم. الممثلون حلفاء، وهم قادرون على تمثيل الحياة بجدية، إنهم الماسكون بوزارة الأحلام. ودور المخرج يتمثل في خلق العالم الذي يتحركون فيه”.
بلد السينما..
وعن القدرة السينمائية الأمريكية التي يعترف بها شخصياً يقول: “عندما نتحدث عن فتوة الأمم لابد من التعرض إلى بلوغها سن الرشد. لقد بلغت الولايات المتحدة الأمريكية سن الرشد على مرحلتين: 1918 و 1942. ففي سنة 1917 أرسلت أمريكا بالرجال إلى ما وراء البحار، وذلك للمرة الأولى، في حين كان دورها حتى ذلك التاريخ، يقتصر على استقبال البشر. وفي مرحلة ما بين الحربين، أي خلال أربعة وعشرين عاماً، اجتازت عمر المراهقة لتبلغ سن الرشد. وعندئذ تزايدت وتيرة أحلامها الوحشية، من غزو الغرب الأمريكي، إلى عصابات الكلو – كلاكس – كلان، إلى حروب العصابات، ليتحول كل ذلك إلى ماضٍ استبق حاضرها، وزالت معالمه بحيث يمكن لإيقاعاتها الراهنة أن تكون محملة بنبضها القديم. وتظهر علامات ذلك في الكوميديا الموسيقية والوسترن والأفلام البوليسية، والحكايات التاريخية”…
وعن شعوره بجاذبية حقيقية تجاه الولايات المتحدة يقول: “نعم، أنا مفتون بهذا البلد الذي اضطر في الثلاثينات إلى تجاوز شبابه وعافيته لمواجهة سلسلة أزمات. وهو يبقى دائماً وقبل كل شيء، بلد السينما”.
وعن رؤيته لمستقبل السينما الأمريكية والسينما الفرنسية وغيرها يقول: “لن أجازف بالتشخيص. الحياة إبداع مستمر، ومحمًّل بالجديد غير المنتظر. أما أنا فلست قادراً على التنبؤ بالمستقبل”.
ألكسندر أستريك Alexandre ASTRUC
“ألكسندر أستريك” مخرج فرنسي، ولد في باريس سنة 1923. صحفي وروائي من رواياته: (العطلة؛ سماء رمادية (جائزة روجيه نيمييه)؛ الثعبان الأصفر (1977).
ومن أبرز الأفلام التي أخرجها: (ذهاب وإياب؛ الستار القرمزي (1953)؛ لقاءات خطرة (1955)؛ حياة (1957)؛ طريدة الظل (1961)؛ التربية العاطفية (1962)؛ المسيرة الكبرى (1966)؛ نيران على بحر الأدرياتيك (1967)؛ لويس الحادي عشر (للتلفزيون على مرحلتين: 1977 – 1978)؛ أرسين لوبين (1980).
الستار القرمزي..
يقول “ألكسندر أستريك”عن تفسير موهبته المزدوجة، كاتباً ومخرجاً، والتناوب الإبداعي الناجم عنهما: “تعاطيت الكتابة في سن العشرين حتى أنني بدأت بكتابة رواية سنة 1945. وبعد التعبير عن الاندفاعات الأولى أدركت أنني لا أملك ما يمكن قوله. إذ لم أُراكم ما يكفي من الحياة الداخلية لكتابة رواية كل عام. آنذاك واتتني الفرصة لإخراج شريطي الأول “الستار القرمزي” عن كتاب لبارباي دوريفلي، وتمثيل جان كلود باسكال. ولقد قررت الاكتفاء بإخراج الأفلام حتى سن الأربعين، ثم العودة إلى التأليف. ولم يمنعني ذلك من تدوين ملاحظاتي وأفكاري في دفاتر خاصة مع محاولة كتابة بعض المقالات، بين فيلمين.
وحصل أن انفجرت موهبتي الروائية سنة 1973. فكتبت “سماء رمادية” دفعة واحدة في حوالي ثمانمائة صفحة مخطوطة. وتوّج الكتاب بجائزة روجيه نيمييه. ثم أصدرت روايتي الثانية بعنوان “الثعبان الأصفر”، واعمل الآن على الثالثة التي سوف تصدر بعنوان “ذكرى ملاك””.
ويجيب عن سؤال هل يوجد شخصان يحملان اسم ألكسندر أستريك: أحدهما رجل صورة، والثاني رجل أدب؟: “ما بين السينما والأدب توجد تماثلات كثيرة كما توجد اختلافات شاسعة. وهكذا فان شريطي “طريدة الظل” كان من الممكن أن يشكل رواية من مائتي صفحة. وكنت، عندما أشتغل بالسينما، أنكبّ على تحويل أدب بلزاك وموباسان وبارباي دوريفلي إلى صور. كذلك عندما أكتب شخصياً، أحوّل كتابتي إلى صور، مباشرة. وهكذا اكتشفت سعادتي الجديدة المتمثلة في حرية الكتابة. إذ يمكن مراكمة الموضوعات، وتحرير الخيال، من دون إخراج.
أكتب روايات تحافظ على الحكاية تماماً كما هو شأن الأفلام التي أحببت. وإذا كنت معجباً بجون فورد وراؤول ولش وهوارد هوكس في السينما، فأنا معجب بما يكتبه ميشال تورنييه وجان ديتور وميشال ديون في الأدب، تماماً كما كان ستاندال وزولا يكتبان في الماضي. لهذا لا أشعر بأية علاقة بـ “الرواية الجديدة” وهذا يجعلني متهماً بالرجعية وبالانتماء إلى اليمين. وهو أمر لا يزعجني كثيراً، خصوصاً وأن اليسار بات يتخلى اليوم عما شكل عظمته، أي تبجيل الحرية الفردية والمآثر الكونية لصالح مبادئ مختزلة وجافة ولا إنسانية، وقد باتت عرضة للهجوم من قبل الفلاسفة الجدد مثل أندريه كلوكسمان. أما ميراث الخيال فقد صار من مهام اليمين.
ولا نزاع في كوني أشعر بالقربى إزاء بيار بوتان أو رولان لودنباخ – وأحاورهما بسعادة – أكثر من ألن روب غرييه الذي لا أرغب حتى في معرفته”.
وعن إيقاعه الإبداعي يقول: “كروائي. أكتب من خمس إلى عشر صفحات يومياً. تكون الفكرة جاهزة في ذهني، لكني لا أدونها، أنساق إلى حركة الشخصيات. أنا مقتنع بالتخييل الروائي وأكره تحطيم الأشكال الفنية”.
وعن انجذابه للصورة والدليل على ذلك أنه أنجز برنامجاً تلفزيّاً يقول: “بالتأكيد، فقد أخرجت الجزء الأول من شريط عن “لويس الحادي عشر” وسوف يبث خلال أعياد العام 1977. أما الجزء الثاني فلسوف أشرع فيه قبل بضعة أسابيع من ذلك البث. أتصرف في التلفزيون كما في السينما. إذ يشكّلان وسيلة تعبير متماثلة في الواقع. وما إن أشرع في إخراج شريط تلفزي تاريخي حتى أتخلى عن الارتجال واقتفي بكل تواضع نموذج لوتشينو فيسكونتي.
بالنسبة لشريط “لويس الحادي عشر” لم أعبأ كثيراً باستعادة أجواء العصر بحذافيرها، بل سعيت- وأقول هذا بنوع من الادعاء إن شئت – إلى اقتفاء شكسبير وساشا غيتري اللذين لا أخفي إعجابي بكليهما”.
وعن هدفه بوصفه روائياً يقول: “يكمن طموحي الأكبر في التوصل إلى وضع أعمال تندرج ضمن تقاليد الرواية الفرنسية ومآثرها، وكذلك الرواية الألمانية، كما يمثلها موزيل أو توماس مان صاحب “الدكتور فاوست”. إنها السلالة التي جمعت بين السخرية والخيال والمعرفة الواسعة”.
تشابه السينما بالرواية..
وعن موقفه من السينما حالياً يقول: “باتت تهمني كمتفرج أكثر مما تهمني كمخرج. وقد أفرح إذا طلب مني أحد المنتجين شراء حقوق روايتي “الثعبان الأصفر”، لكنني لن أقبل بإخراجها مطلقاً، لأن إخراجها، شخصياً، قد يخونني عبر محاولة الالتصاق الوفي بالنص.
مع ذلك يوجد تشابه جوهري بين السينما والرواية ويكمن في خاصية إنتاج الصور. يلجأ مؤلف السينما إلى من يشاء كي يأتي بالصور. وهو شأني أنا، عندما لجأت إلى إدغار بو أو بارباي دوريفلي. أما الروائي فلا يغرف إلا من ذاته. ولو نقلت إحدى رواياتي إلى السينما لاكتفيت بالمشاركة في السيناريو. فليس على الروائي أن ينقل ما كتب إلى الشاشة. وهكذا، عندما أخرجتُ “حياة” لم أخن غي دي موباسان. لم أفعل سوى إعادة قراءته عبر مزاجي الخاص”.
وعن أقرب أفلامه إليه يقول: “يأتي في المقدمة Evariste Galois الذي أحبه كثيراً، وكذلك “حياة”. أكثر ما يهمني عندما أصور شريطاً هو الممثلون. وكما يقول سيلين: “على الضيف ألا يشم روائح المطبخ”. لذلك ينبغي التحكم جيداً في التقنيات والصوت والصورة والتقطيع والمونتاج، بحيث لا يشاهد المتفرج سوى الممثلين على الشاشة. فالشخصية التي يؤديها الممثل هي الأساس. كذلك عندما تبدأ الشخصية الروائية بالتشكل عبر كتابتي، أنظر إليها نظرتي إلى ممثل يقف أمام الكاميرا التي بحوزتي، أي بالحرارة ذاتها والكثافة ذاتها. وسواء أكنت سينمائياً أم كاتباً أجد نفسي متمتّعاً بحرية قصوى تعطلها عراقيل قصوى في آن.
الروائي يعرف الماضي، غير أنه لا يمتلك الحاضر. وأبرز من يدل على ذلك شخصياً فوتران وراستينياك اللذين إما أفلتا، أو فرضا نفسيهما، على بلزاك، على امتداد رواياته”.
وعن استمرار تعلقه بحب السينما يقول: “في سن العشرين كنت أتردد على قاعات السينما يومياً. وفي نهاية الحرب، أثناء تجنيدي، تدبرت لنفسي بذلة عسكرية شبه أميركية. وبفضل ذلك الزي، وتراخيص منتصف الليل الفرنسية، صرت قادراً على التسلل إلى قاعات العرض المخصصة للجنود الأميركيين، كل ليلة. وهكذا تمكنت من مشاهدة الأعمال الأميركية الكلاسيكية التي لعبت دوراً مهماً في تكويني. وتطور شغفي بالسينما حتى سن الأربعين. حينها بدأت أنتقي الأفلام التي أود مشاهدتها، على غرار شريط “النبّاب (النائب) الأخير” لكازان، أو “السبت الأسود” لفرانكنهيمر”.
و مع القراءة يقول: “مررت بمرحلة مطالعة مكثفة ما بين السابعة عشرة والثلاثين. ثم توقفت عن القراءة لمدة عشرين عاماً، لأن النتاج الروائي للمرحلة لم يكن ليجذبني. إذ ذاك فضلت التعامل مع الرياضيات لمجرد المتعة. وربما كان من المفارقة أنني عندما شرعت في الكتابة عدت إلى المطالعة المكثفة”.
وعن ابتداعه صيغة “الكاميرا- القلم” وما موقفه منها حالياً يقول: “لما أطلقت تلك الصيغة أردت القول من خلالها إن في إمكان المرء إخراج أفلام على طريقة الكتابة، أي بالمسعى نفسه والإرادة نفسها. وعندما صغت تلك العبارة المركّبة “كاميرا – قلم” كنت أتوقع العودة إلى الكتابة. وربما عدت متأخراً كثيراً، غير أنني أتمسك بمقولة برنانوس: “لا يمكن للمرء كتابة رواية قبل سن الأربعين”. وعلينا ألا ننسى أيضاً بأن بلزاك، وحتى كتابة روايته “آل شوان” أو “الشُوَانيون”، لم يكن يوقع إلا باسم مستعار: سان أوبان”.
وعن التوفيق بين هذين النوعين من النشاط يقول: “من المؤكد أنني عندما أصور لا أتمكن من الكتابة. فخلال إخراج فيلم يكون عدد ساعات العمل الرسمية ثماني ساعات يومياً، لكننا نصل إلى اثنتي عشرة ساعة.
مع ذلك أظل مقتنعاً بأن مهنتيْ السينمائي والروائي ليستا متناقضتين. ومعظم الكتّاب مارسوا أنشطة أخرى: بلزاك كان مطبعياً، كلوديل وموران كانا دبلوماسيين، سانت اكزوبيري طياراً، مالرو وزيراً”…