9 فبراير، 2025 1:04 ص

السينما الفرنسية (19) أليكس جوفيه: مخرجو الأفلام يتحملون مسؤولية إزاء الأخلاق العامة

السينما الفرنسية (19) أليكس جوفيه: مخرجو الأفلام يتحملون مسؤولية إزاء الأخلاق العامة

 

خاص: قراءة – سماح عادل

يقول المخرج الفرنسي “جاك باراتييه” أنه لا يهتم لعمر الممثل أو لدرجة احترافه طالما توافقت مواصفاته الجسدية والنفسية مع الدور، ويرى المخرج الفرنسي “نوربير كاربونو” بخصوص السينما الهزلية أن الدعابة هي تهذيب اليأس، كما يعطي الأهمية لكتابة السيناريو، كما يقدر صعوبة مهنة التمثيل مقارنة بالقيادة التي تتمثل في الإخراج. ويقول “أليكس جوفيه” أن مخرجي الأفلام يتحملون مسؤولية إزاء الأخلاق العامة.

نواصل قراءة الكتاب المميز (قرن من السينما الفرنسية.. من خلال اعترافات مخرجيها)، تأليف “إيريك لوغيب”، ترجمة “محمد علي اليوسفي”، حيث يحتوي على عرض حوارات أبرز المخرجين في السينما الفرنسية. لنتعرف من خلال تلك الحوارات على السينما الفرنسية ورموزها واتجاهاتها.

 

جاك باراتييه Jacques BARATIER

“جاك باراتييه” مخرج فرنسي،         ولد سنة 1918. عمل مساعداً لرينيه شاناس. من أبرز الأفلام التي أخرجها: (جحا الساذج (1958)؛ اللعبة (1961)؛ حلوى ملبّسة بالفلفل (1963)؛ ذهب الدوق (1965)؛ المكبّ (1970)؛ هل تهتم بذلك الشيء؟(1973)؛ مدينة الصفيح (1975)؛ عنكبوت الساتان (1986). من أفلامه القصيرة: (باريس ليلاً؛ مهنة الرقص؛ فخ؛ إيدن ميزيريا). وللتلفزيون: (برنامج حول المخرج رينيه كلير؛ و”المكب المحظور”).

داء السينما..

يقول “جاك باراتييه”عن كيفية مجيئه إلى السينما: “ظاهرياً، كانت صدفة. انطلقت سنة 1948 محملاً بأدوات خفيفة لرسام، فوجدت نفسي في قلب الصحراء. وهناك وجدت الفرقة السينمائية التي كانت تصور شريط “السرية البيضاء”. حاولت الحصول على دور ثانوي عبثاً. وذات يوم استدعي مساعد المخرج لخدمة العلم. فاقترحوا علي تعويضه. وكنت موافقاً، طبعاً، قبل أن أجيب بنعم. وفي نهاية التصوير أصبت بداء السينما.

بعد انتهاء العقد، تابعت رحلتي باتجاه الغرب حتى وصلت إلى المغرب. وهناك كلفتني الإقامة العامة الفرنسية بتصوير شريط قصير عن البربر. كان بحوزتي ألف متر من الأفلام الموجبة، معظمها فاسد. ومع ذلك تمكنت من تصوير فيلم عُرض أثناء تقديم فيلم توباز لمارسيل بانيول، في فرنسا.

وعلى الرغم من هوسي الشيطاني بالسفر، تعلقت بمهنة السينما، ولم يكن ذلك بدافع فكري وثقافي، بقدر ما كان ناجماً عن دافع غريزي متعلق بالفعل والحركة.

عن معاييره في اختيار الممثلين يقول: “أبدأ باختيار المحترفين الضروريين. ثم هناك من أتبناهم بسبب شخصيتهم البدنية والنفسية، لأنهم يتوافقون مع الشخصيات التي تخيلتها قبل نقلها إلى الصورة. وبذلك لا أكترث للجانب الاحترافي كثيراً، كما لا يهمني عمر الممثل، سواء أكان أكبر من دوره أم أصغر، ما دام موهوباً”.

وعن شعوره  بمسؤولية تجاه الجمهور يقول: “إنها عملية تسوية متبادلة، بيني وبينه. فإذا ارتاد القاعات التي يعرض فيها شريطي، فإن ذلك يعني نجاح الطرفين، وتحقيق الآمال، وبراءة الذمة!”.

سينما الحقيقة..

وعن فيلم “هل تهتم بذلك الشيء؟” هل يشير هذا الفيلم إلى مسايرة “موضة” معينة يقول: “إنه فيلم أنجز بناء على طلب. وأعترف بأنني أحب العمل بناء على الطلب. آمل أن أكون قد حققت موقعاً في هذا الأسلوب السينمائي. أوضّح أكثر: مع شريط “هل تهتم بذلك الشيء؟” عدت إلى أسلوب شريطي السابق “حلوى ملبسة بالفلفل”، أي إلى شكل معين من سينما الواقع، سينما الحقيقة. فمن خلال نوع معين من الإثارة الجنسية، انضم إلى اهتمامات الفيلم البرجوازي، مع الغمز باتجاه “الثيمات”: الرفاهية، العطل، اجتماعات العائلة ومآسيها المزيفة، أوقات فراغها وخمولها، وما إلى ذلك.

أنا مقتنع بأن إخراج فيلم جيد، موضوعه الإثارة الجنسية، يظل عملاً صعباً، شأنه شأن إخراج فيلم حربي جيد، أو فيلم عصابات. وحتى في هذا المجال، لا يمكن الإفلات من الحلم الرومانسي، مهما كانت مسايرة موجة التعري الحالية على الشاشة”.

ويجيب عن سؤال انطلقتَ من فيلم تلفزي هو “المكبّ” فحورت، وغيرت فيه، لتجعل منه شريطاً سينمائياً بعد بضع سنوات؛ أكان ذلك ممكناً: “نعم، أجريت تحويرات في المونتاج، لأن الديكور تطور في الواقع الذي عشته دائماً. ذلك أنه تم الانتقال من مدن الصفيح إلى المباني الجماعية الإسمنتية. ولا يمثل ذلك تحولاً سيكولوجياً أو معمارياً كبيراً. لقد حلت الخرسانة بدل الصفيح. مع الكآبة ذاتها بالنسبة لمن يستشرسون للعيش فيها. كان طموحي يهدف إلى تحليل تبدلات مجتمع  لا يمكن له أن يتغير. وخلال الانتقال من الشاشة الصغيرة إلى الشاشة الكبيرة، صار “المكب” يحمل عنوان “المكب المحظور””.

وعن التوفيق بين تخصّصه السينمائي وولعه بالرسم والسفر يقول: “يحاول المرء أن يعيش حياته كما لو كان يؤلف كتاباً، وذلك لكي يجعل منها وحدة متكاملة. أسعى إلى العثور على روابط بين فصول حياتي. وهكذا كانت مُسَاعِدَتي في مونتاج “المكب المحظور” هي ابنة الكاتب بوريس فيان، تماماً كما حدث لي سنة 1976 عندما التقيت ابن فيان أثناء تصوير “الفوضى في سن العشرين”.

اقتنعت بأن الأحداث تتكرر خلال حياة المرء، كما في أفلام ألفريد هتشكوك. وكما بدأت مهنتي السينمائية في الصحراء مع شريط “السرية البيضاء”، فقد عدت إليها لتصوير “عدن البؤس” (إيدن ميزيريا)”.

عدن البؤس..

وعن فيلم “عدن البؤس” يقول:”لقد منع هذا الفيلم في التلفزيون. وهو عبارة عن رحلة تقتفي أثر إيزابيل إيبرهاردت؛ تلك المرأة الاستثنائية التي أقدمت على التوغل في المناطق غير المكتشفة، في عمق الجنوب الجزائري. لقد توصلت إلى زيارة قبرها في قلب الصحراء. قال عنها الماريشال ليوتي: “كانت تمثل أكثر ما يستهويني في العالم: منشقّة”. وأنا أشاطر ليوتي ولعه بالمنشقين والمتمردين”.

وعن أجمل ذكرياته يقول: “هي ذكرى ليست ذات علاقة بالسينمائي، بل بالصحافي الذي كنت أتمنى أن أكونه. لقد كُلّفت بمحاورة أنطوان دي سانت إكزوبري حول كتابه “أرض البشر”. وما إن حضرت أمامه حتى سألني بغتة: “هل قرأت الكتاب؟” فتوجب علي أن أوضح له بأن الوقت لم يسعفني بذلك بعد. عندئذ قدّم لي نسخة من الكتاب قائلاً: “اذهب لقراءته في المقهى، ثم عد إلي”.

وبعد ساعتين تجرأت على الصعود إليه مرة ثانية وطرقت بابه. فاستقبلني بلطف ومودة كما في المرة الأولى، مع تلك الابتسامة المتساوقة والحياة التي أجاد وصفها في كتابه “رسالة إلى رهينة”. آنذاك سألني أنطوان دي سانت إكزوبري: “والآن، هل لديك أسئلة تريد طرحها علي؟” فأجبت بحياء وشغف أيضاً: “نعم، لدي سؤال واحد: كيف يصير المرء طياراً؟” فنصحني برقة. وتحادثنا طيلة ساعات. ولم أنقل شيئاً من كلامي إلى صحيفتي. فقد اغتنيت بما هو أفضل من مجرد مكافأة الاستكتاب.

وسرعان ما اندلعت الحرب. وفي القطار الذي كان ينقلني إلى قاعدتي، خلال التعبئة، وكنت قد صرت طياراً برتبة ملازم فقط، التقيت سانت اكزوبري لآخر مرة. اقتربت منه وأعلمته: “لقد اتبعت نصائحك وصرت طياراً”. بدا سعيداً. وأجاب معلقاً: “سوف أدعوك إلى العمل معي عندما أتمكن من ذلك”. لكننا لم نلتق بعد ذلك أبداً”.

 

نوربير كاربونو Norbert CARBONNAUX

“نوربير كاربونو” مخرج فرنسي، ولد سنة 1911. مخرج أفلام قصيرة. مثَّل في فيلم “لِيَا، في الشتاء”. من أبرز الأفلام التي أخرجها (قراصنة غابة بولونيا (1953)؛ رأس صغير (1956)؛ زمن البيض المسلوق (1957)؛ كانديد (1961)؛ غامبرج (1961)؛ كلهنّ جُننْن به (1966)؛ سليم النيّة (1971).

سينما الكوميك..

يقول “نوربير كاربونو” عن كيف جاء إلى السينما: “في سن السابعة والعشرين، أي بعد عدة سنوات أمضيتها في الحرب، وأنهيتها في جيش باتون. في الأسر، أخرجت مسرحية “يوريديس” لجان أنويله. في ذلك الوقت كنت مولعاً بالمسرح خاصة، وكان أنويله يرغب في مرافقتي له كمساعد. لكنني رفضت، وفضلت مواصلة العمل كسيناريست لفترة طويلة. وذات يوم طُلب مني إخراج فيلم قصير عن إدمان الكحول. فاستعنت بلويس دي فونيس وكريستيان دوفاليكس. وهكذا صوّرنا أربعة وعشرين مقصفاً وملهىً خلال أربعة أسابيع في منطقة بيغال.

وظهر الشريط بعنوان “نخب الأدواق الكبار”. ثم بدأت بإخراج شريطي الحقيقي الأول “قراصنة غابة بولونيا” مع لويس دي فونيس دائماً. وينبغي أن أشير إلى أنني كنت أمتلك آلة عرض باتي- بايبي، بين السابعة والرابعة عشرة من العمر، فلم أكن أكف عن عرض أفلام شارلي شابلن وبوستر كيتون. آنذاك تعلمت المونتاج والإيقاع من دون قصد”.

وعن من يعجبه من السينمائيين يقول: “أحب لوبيتش، وكل أعماله، بشكل عام، ثم يأتي شابلن، كما يحبه الجميع. بعد ذلك، كان هناك Hellzapoppin الأقل سهولة في التقبل. أحببت بعد ذلك أفلام جاك تاتي الثلاثة الأولى. من سوء الحظ أن “سينما الكوميك” لم تعد موجودة اليوم. صرنا مكرهين على اختصار اللقطات وإيجاز المشاهد. لم يعد من الممكن البناء، وإشفاء الغليل، وإطلاق الخيال، والتوصل إلى إضحاك جمهور كامل حول “ثيمة” واحدة، مثل ثيمة السيد الذي لا يتوصل إلى إشعال سيجارته. والسبب ليس عدم ضحك المشاهدين بل تجريدنا من الوسائل والإمكانيات”.

وعن تعريفه لمفهوم الضحك والسينما الهزلية يقول: “الضحك ليس كل شيء. لابد من وجود موضوع وراءه. فأنا أجد نفسي أقرب إلى الدعابة والظرف مني إلى الهزل. وأقدّر عالياً ما قدمه ألك غينس عن السخرية البريطانية. وأتبنى هذا التعريف: الدعابة هي تهذيب اليأس”.

وعن معاييره في اختيار الممثلين يقول: “لا أختارهم بصفاتهم الشخصية بل وفق الفريق الذي سيندمجون فيه من أجل الفيلم. وأدرس أيضاً تعارض الطباع والأجسام. أحب الممثلين وأحاورهم مطولاً حول ما سنقوم به، قبل التصوير. وعند كل مشهد أعرض عليهم المشهد السابق، كي يتخيلوا اللاحق. وبوجه عام إذا كان المشهد مكتوباً بطريقة جيدة لا تكون هناك مشاكل. وعندما يظهر أحد الأفلام سيئاً لدى عرضه، يكون السبب راجعاً إلى سوء كتابته. ولهذا أحرص على كتابة السيناريو بنفسي”.

وعن شعوره  بمسؤولية خاصة إزاء الجمهور يقول: “بالقدر نفسه الذي أحس بها تجاه الممثلين الذين يعملون معي. نعم، أنا أحترم الجمهور بشكل دائم. ولذا أحب الاختلاط به في القاعات، كما أطمح، في أعمالي، إلى أن تكون مفهومة من أوسع الشرائح. وذلك لا يعني التعالي على أذواق الجمهور. إن الفيلم الجيد يظل مطمحاً بعيداً. وكم مرة عدت إلى أفلامي فتمنيت لو حذفت وعدلت. أتمنى الوصول إلى تحقيق فيلم أرضى عنه تماماً طيلة مدة عرضه، أي على امتداد ساعة ونصف الساعة!”.

صعوبة مهنة التمثيل..

وعن تجربته في التمثيل، وهل أفادته لاحقاً كمخرج يقول: “عندما كنت ممثلاً، كان همي مساعدة المخرج. ولا أنتظر من الممثل أقل من ذلك. وأعرف أن مهنة التمثيل ليست مريحة. بل العكس إنها في منتهى الصعوبة. وهكذا تعلمت أنه من الأسهل أن تقود، لا أن تمثل”.

وعن موقفه الشخصي من السينما يقول: “أنظر إلى مهنتي بجدية، ولكن ليس إلى السينما، مع أن السينما تحديداً هي مهنتي. ولست قادراً على تقديم قصة حقيقية بهذه الوسيلة. ومع ذلك أجد أن  إضحاك الناس أمر حسن!”

وعن استمرار حبه للسينما يقول: “اذهب دائماً لمشاهدة أفلام الآخرين. غير أنني أنتقي الأفلام حتى لا أضيع وقتي. أرضى بالذهاب مثلاً لمشاهدة أفلام مثل “أشياء الحياة” و”حدث ذات مرة في الغرب” و”الفائز”…”.

السينما الفتية..

وعن السينما الجديدة يقول: “وما هي السينما الفتية؟ سبق وأن كنا نمثل السينما الفتية كما سبق لآخرين قبلنا. في ذلك الزمن كان الأمر يصل بنا إلى حد خياطة أزياء الممثلين بأنفسنا. والسينما الفتية الراهنة هي سينما هواة يريدون شطب من سبقهم. ينبغي أن يكون لديهم ما يقولون على الأقل. أعتقد أن السينما الشابة هي كلود سوتيه، السيد الذي تجاوز الأربعين من العمر!

لقد ماتت “الموجة الجديدة” على الشاطئ، على الرمال التي هجرها المصطافون؛ لقد كثر المخرجون والمجتهدون في كل شيء حتى بات التقنيون غير قادرين على فعل أي شيء. إذا تواصلت الأوضاع على هذا النحو لن تبقى إلا سينما الارتجال والتجريب. وقد يأتي يوم لا يتمكن فيه من ممارسة هذه المهنة سوى أبناء الذوات. لقد بات من الصعب منافسة المافيات”.

ويجيب عن سؤال إذا، مِمَّ تعاني السينما الفرنسية في العمق؟ يقول: “ما من فيلم يستحق حوالي مائتي مليون مقابل شهرين من التصوير. أضف إلى ذلك أننا نسينا كثيراً بأن الفيلم ليس عمل شخص واحد، أو مسئول واحد. وذلك لأن الجميع يعملون جيداً، ولا يقتصر ذلك على رأس القائمة، أو النجمة النسائية”.

وعن  فولتير يقول: “بقيت خمس سنوات أفكر في إخراج “سليم النية”. منذ زمن وأنا أرغب في التعرض إلى مشكلة الأحجار القديمة التي تم استبدالها بالخرسانة. وعندما أعدت قراءة فولتير، أدركت أن حكايته، خارج الزمن، يمكن أن ترمز إلى صراع الإنسان القديم ذي النية الطيبة ضد لا عقلانية العصر الحديث. لكن فولتير لم يجلب لي حسن الحظ دائماً. وهكذا منع شريطي “كانديد” ووضعه التلفزيون على القائمة السوداء، رغم حوالي سبع عشر عملية حذف علّمت عليها الرقابة!”.

 

أليكس جوفيه Alex JOFFE

“أليكس جوفيه” مخرج فرنسي ولد سنة 1918، أول سيناريو وضعه بعنوان: لا تصرخوا بذلك على السطوح! سنة 1943. من أبرز الأفلام التي أخرجها: (ست ساعات لا حاجة إليها (1946)؛ رسالة مفتوحة (1952)؛ جنود الخيّالة (1955)؛ قتلة يوم الأحد (1957)؛ عراك بين النساء (1959)؛ فرتونا (1960)؛ تراكاسان أو ملذات المدينة (1961)؛ السراويل الحمراء (1962)؛ لا يمكن ذلك يوم السبت (1964)؛ المتميّزون (1967)؛ ليفي يطير (1978).

حلم التمثيل..

يقول “أليكس جوفيه” عن كيف جاء إلى السينما: “بدأت تقنياً. فبعد إكمال دراستي في مدرسة شارع فوجيرار، عملت مديراً فنياً، ثم مساعداً. وعندما كنت سكرتيراً لدى جان أورونش ساهمت في سيناريوهاته، ثم كتبت سيناريوهاتي الشخصية. وبعد ذلك طمحت إلى إخراج أفلامي. فقدم لي راي فانتورا فرصتي الأولى، ويسر لي إخراج “رسالة مفتوحة”.

في البداية كنت أطمح إلى أن أصير ممثلاً. لكن، طال انتظاري للنجومية! وينبغي الاعتراف بأنني تعلقت بالسينما منذ سن الخامسة عشرة، وصرت أهرب من دروس الرياضيات كي أذهب لمشاهدة الأفلام.

التشجيع الثاني الذي حدث لي في مهنتي كسينمائي تمثل في برقيتين جاءتا تعليقاً على أحد أفلامي الأولى. والبرقيتان كانتا بتوقيع كل من رينيه كلير وجاك بيكر. ولدى تلقيهما صرت أمشي فوق الأرض، على ارتفاع متر على الأقل!”

وعن إعجابه بمخرجين آخرين يقول: “يأتي في المقدمة رينيه كلير وجان رينوار، رغم تميزهما عن بعض. ومن مرحلة الثورة الروسية، أي في بداياتها، أحتفظ بإعجاب كبير وغير محدود، إزاء ايزنشتاين. ومع ذلك لا أعتقد أنني كنت عرضة للتأثر بغيري.

عندما أخرج من مشاهدة شريط بتوقيع دفيد لين أعتز بمهنتي. وعندما أشاهد أحد أفلام ميشال أوديار، أخرج مرتبكاً، خجلاً من المهنة ذاتها.

تكون البداية انطلاقاً من الاستلطاف. وهكذا ربطتني علاقة صداقة حميمة مع بورفيل.  كنا نخرج معاً، ونسافر معاً، ونتبادل الاحترام. وهذا ما أحاول التوصل إليه مع كل الآخرين. أنا أحب الممثلين الغريزيين مثل روبير هيرش وروبير لامورو وجان – مارك تيبو. كما أنني لم أتوصل قط إلى التفاهم مع أولئك المحترفين تماماً، مثل بيار فريسني أو برنار بلييه”.

وعن الممثلين يقول: “لا أصدق الممثلين الذين يحتاجون إلى من يفسر لهم أدوارهم. لكل ممثل قاموسه الخاص وإيقاعه المتفرد. وبالنسبة للكتابة عندي فإنها تتم وفق الممثلين الذين سأعمل معهم. وهكذا فان بورفيل مصدر إلهام بالنسبة لي. وحدث أن كتبت سيناريو كاملاً وأنا أفكر فيه. وبما أنه لم يكن مهيأ فقد تخليت عن الفيلم. كل المخرجين هم ممثلون فاشلون.

وعن أهم القوانين التي تتحكم في مهنته يقول: “أعتقد أن مهنتنا تتطلب التحلي بموقف عقلاني إزاء أكبر عدد ممكن. ذلك أن رقم ثلاثين ألف متفرج يعتبر عدداً غير كاف. النقطة الثانية: أنا مقتنع بأن مخرجي الأفلام يتحملون مسؤولية إزاء الأخلاق العامة، والحياة اليومية. وهذا يشمل أفلام العصابات الإجرامية، وفكرة الأرستقراطية المزيفة، والأسطورة الكاذبة والنبالة المفقودة. السينما الفرنسية ينقصها دفء القلب وروح الدعابة. ينبغي مدها بذلك. إن ما يقدم، يقتصر على أفلام “ناشفة”. هذا رأيي على الأقل، وهذه فلسفتي”.

الحكي عن الذات..

وعن أين تضع نفسه يقول: “بدل الحديث عن الذات، يفضل الحديث عن العمل الذي نقدمه. نحن نقص حكايات، ولسنا في موقع الحكي عن ذواتنا”.

وعن التقنية وهل تعتبر من العناصر الأساسية في السينما يقول: “كلا، لأنني أكرهها. وليست لدي فكرة خاصة عنها. كل ما أعرف أن المسلسلات التي أشاهدها لا تسليني. أعتقد أن على التلفزيون أن يحسن علاقته بالمتفرج.

أحب مشاهدة أفلامي عندما تعرض في قاعات السينما. وكانت فرحتي عارمة لدى سماع قهقهات الجمهور في أحد عروض “السراويل الحمراء”. لكن، عندما تعرض الأفلام ذاتها على شاشة التلفزيون، لا نسمع إلا ضجيج حياتنا الداخلية. وهذا يثير أعصابي”.

وعن الدافع الذي يجعله يفكر في إخراج فيلم جديد يقول: “كثيراً ما يكون ذلك ناجماً عن اندفاعة صداقة مع أحد الممثلين. وهذا ما حدث دائماً مع بورفيل. وانتابني الشعور نفسه مؤخراً مع روفوس. وفي مرات أخرى يكون هناك دافع باطني يؤدي بي إلى محاولة تجسيد الأفكار التي تخالجني ونقلها إلى الصورة. وفي حالات ثالثة، قد يكون الأمر ذا علاقة بطلب يناسبني. وأنا لا أرفض هذه الصيغة.

أنجذب، بشكل عام، إلى ما لم أقم به سابقاً. ولا أخضع إلى متطلبات خارجية أو موقف نظري. أما بالنسبة لإيقاع العمل فأنا أعترف بأن وفاة بورفيل أربكتني حقاً. وسبق لي أن توقفت عن العمل عدة أعوام. لا أؤمن بالعمل القسري. فهذه المهنة تحتاج أحياناً إلى فترة تأمل”.

وعن ارتياده لقاعات السينما يقول: “طبعاً. ولا أذهب من أجل الذهاب فقط، بل لمتابعة عمل الأشخاص الذين يهمني أمرهم، من ممثلين ومؤلفين ومخرجين. وهناك أيضاً بعض الاكتشافات التي تتم بالمصادفة. وفي هذا المجال يمكنني ذكر Butch Cassidy and the Kid لجورج روي هيل، وكذلك Love الذي أخرجه كين راسل، والامتثالي Conformiste لبرناردو برتولوتشي، حيث تميزت دومينيك ساندا، حقاً… وأتمنى أن تمثل في أحد أفلامي ذات يوم. وأؤكد بأنني في اليوم الذي انقطع فيه عن الذهاب إلى السينما سوف أتوقف عن الإخراج.

إن لغة السينما تتطور بسرعة مطردة. لذلك لابد من المواكبة والتردد على السينما، ولو لمجرد رؤية طريقة الآخرين في سرد حكاية بشكل مختلف”.

وعن النصائح التي يقدمها إلى مخرج شاب يقول: “إذا كان شاباً على وجه الخصوص أنصحه بأن يحاول القيام بما يروق له. لكن… لو فكرت جيداً لقلت لك إنني لن أقدم أية نصيحة. ثمة أناس لا أعرف ماذا أقول لهم، وثمة آخرون محظوظون وموهوبون وقادرون على اختراق جدار اللامبالاة والغيرة والاغتياب. وهؤلاء أتمنى مصادقتهم، وبالتالي الحديث عن أشياء أخرى.

أعتقد أنه من الخطأ تحديد الناس نهائياً، ووضعهم في خانة معينة، انطلاقاً من المشاعر التي نكنّها لهم. وبذلك لا ننتبه إلى تطورهم.

والحال أن من يتطور في هذه المهنة، يتغير ذاتياً. ولهذا فأنا أرى أن أفضل خصلة منتظرة من مؤلف سينمائي، هي أن يعرف كيف يتطور. على السينمائي أن يعرف كيف يقاوم التخصص. لا ينبغي تصنيف الناس ووضعهم في إطار ثابت. ويعود للمخرج أيضاً أن يبرهن للجمهور بأنه قادر على إنجاز أفلام مختلفة، وأنه ليس متخصصاً، بشكل نهائي، في هذا النوع أو ذاك. هذا هو همّي الأساسي. وهو أمر يتطلب الكثير من الشجاعة”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة