28 ديسمبر، 2024 12:16 م

السينما الفرنسية (16) جان بول لوشانوَا: السينما لعبة، نكتشف فيها الحب ونتكلم لغة الأطفال الطبيعية

السينما الفرنسية (16) جان بول لوشانوَا: السينما لعبة، نكتشف فيها الحب ونتكلم لغة الأطفال الطبيعية

 

خاص: قراءة – سماح عادل

يؤكد المخرج الفرنسي “أندريه كايات” على ضرورة تحقيق الانسجام الكامل في مرحلة إعداد السيناريو، كما يحتفي في أفلامه بفكرة التضامن الإنساني، كما يرفض فبركة الجنس في السينما الجديدة. والمخرج الفرنسي “جان ـ بول لوشانوَا” يعتبر أن السينما هي اكتشاف الحب، ويزيد فيرى أن السينما عبارة عن لعبة، وأنها بمثابة لغة الأطفال الطبيعية. وعن الجمهور يشعر بكامل المسؤولية تجاهه.

نواصل قراءة الكتاب المميز (قرن من السينما الفرنسية.. من خلال اعترافات مخرجيها)، تأليف “إيريك لوغيب”، ترجمة “محمد علي اليوسفي”، حيث يحتوي على عرض حوارات أبرز المخرجين في السينما الفرنسية. لنتعرف من خلال تلك الحوارات على السينما الفرنسية ورموزها واتجاهاتها.

 

أندريه كايات André CAYATTE

المخرج الفرنسي “أندريه كايات” ولد سنة 1909 وتوفي سنة 1989. محام وروائي. من أبرز الأفلام التي أخرجها: (روجيه لاهونت؛ انتقام روجيه لاهونت (1946)؛ المغنّي المجهول (1947)؛ عشاق فيرونا (1949)؛ العدالة أخذت مجراها (1950)؛ كلّنا قتلة (1952)؛ ما قبل الطوفان (1953)؛ الملف الأسود (1955)؛ المرآة ذات الوجهين (1958)؛ عبور الراين (1960)؛ السّيف والميزان (1962)؛ الحياة الزوجية (1963)؛ فخ لسندريلا (1965)؛ مخاطر المهنة (1967)؛ دروب كَتَمَنْدُو (1969)؛ الموت حبّاً (1970)؛ لا دخان من دون نار (1973)؛ لكلٍّ جحيمه (1976)؛ بداعي المصلحة العليا (1978)؛ الحب مطروح للمناقشة (1978)).

إدراك جديد..

يقول “أندريه كايات” عن فيلم “دروب كَتَمَنْدُو” وهل يرمز إلى إدراك جديد لظاهرة السينما: “فعلاً، هذا الفيلم يشكل عندي تغيراً مهماً في تصور الفيلم وفي إخراجه، الأفلام التي سبقته كانت تخضع إلى تصور مسبق يشمل التفاصيل كلها. وعندما أقدم النسخة النهائية من أي فيلم أكون قد حفظتها عن ظهر قلب، من السيناريو إلى التقطيع، ومن حركة الكاميرا إلى اختيار الكادر والصوت. كل شيء كان مخططاً ومنفذاً حرفياً.

مع فيلم “دروب كَتَمَنْدُو” كان ذلك مستحيلاً. كانت القصة الأصلية تتحدث عن ضياع طيارين في الهملايا. ثم التقيت شخصين قَلَبَا مشروعي رأساً على عقب. اللقاء الأول تمثل في حالة واقعية. وهي سقوط فتاة في السادسة عشرة والنصف من العمر، في حالة حيوانية. ولم يصل بها الأمر إلى بيع جسدها فحسب، بل صارت تبيع دمها مقابل القليل من المخدرات. لم تعد تقوم حتى من أجل قضاء حاجتها الضرورية وخلال زياراتي الأربع لاحظت تزايد عدد الفرنسيين ووجود قليل من الأميركيين. أكنّ لهذا الفيلم مشاعر متناقضة. فأنا أشاهده بدوري كمتفرّج. وهذه أول مرة يحدث لي فيها ذلك مع أفلامي.

اللقاء الثاني كان حقيقياً أيضاً. فقد التقيت بشاب فرنسي. كان طالباً، يعيش في قرية منبوذين، ويكافح في ظروف قاسية جداً. الفتاة بلغت السقوط انطلاقاً من التمرد على وسطها الاجتماعي المتفاخر بالثروة والمزايدات المالية. أما الشاب فقد صارع من أجل السموّ، وإن كان من المنطلق نفسه الذي انطلقت منه الفتاة، ضد والديه اللذين اغتنيا من وراء كفاح مزعوم ضد الفقر في العالم.

لا أزعم أنني قابلت كل المنتمين إلى ظاهرة “الهيبز” في العالم. ومع ذلك لاحظت بأنه لا وجود لابن عاملٍ بينهم. ذلك أن الرحلة تتطلب أموالاً، على الأقل من أجل بلوغ نقطة الانطلاق نحو التعفّن التي هي اسطنبول.

تبدأ الرحلة عبر “الأوتوستوب”، أو بالطائرة، انطلاقاً من سويسرا. ولدى بلوغ الهند يكون المرء قد أصيب بداء الزهري. لكنه يندمج مع القطيع. ويحظى الجميع بنوع من التسامح ما داموا لا يسعون إلى الاختلاط بالسكان المحليين. وهذه المرحلة هي مرحلة الإصابة بالسل. ومع الوصول إلى كتمندو يحدث الانهيار. وتنتفي الحدود. فيتم تعاطي الحشيش بإدمان شديد، والحال أن السكان المحليين يتعاطونه بكميات محدودة ومحسوبة. وبذلك يكون السقوط: تهمل النظافة ويشحّ القوت. لقد كان الحشيش أرخص سعراً من عذق سبانخ.

حرصت على تمضية ثمانٍ وأربعين ساعة كاملة معهم، ووفق إيقاعهم. إنها تجربة انحطاط فظيعة يحاول بعض المثقفين تبريرها”.

وعن وصفه لنفسه كمخرج يقول: “لست مخرجاً إلا في نطاق كوني أخرج أفكاراً شخصية جداً، تسمح لي ببناء حكاية أصيلة. في رأيي أن الفيلم يمرّ بمرحلتين، الأولى تكون على الورق، أي مرحلة الكتابة. وهي مرحلة لا تقل أهمية في نظري عن المرحلة الثانية المتعلقة بتصوير المواقف والمشاهد.ما يشغل بالي قبل كل شيء هو السيناريو الذي ينبغي إعداده قبل تحويله إلى صور. أحرص على تحقيق الانسجام الكامل”.

التضامن..

وعن مشاغله العميقة كمؤلف أفلام يقول: “تأتي في المقدمة “ثيمات” الأفلام كما أدركها عندما أشرع في التعامل معها. ويأتي ذلك عادة، نتيجة تأمل في ماضيَّ الشخصي. أنا محام سابق. وما زلت مهتماً بمسائل العدالة. ولهذا تجد أن لازمة أفلامي هي التضامن. وهو ما حاولت التعبير عنه في جل أفلامي التي كتبتها بنفسي. ففي “عشاق فيرونا” تنجم مأساة روميو وجولييت من تضامن كليهما مع عشيرة مختلفة.

أما في “العدالة أخذت مجراها” فنجد مشكلة التضامن في حالتها الخام. لقد شغفت دائماً بمسألة المصائر التي تتبادل التأثير. وأرى أنها أهم من الحكاية ذاتها. فأنا مولع بمشكلة تداخل العوالم المغلقة.

في شريط  “كلّنا قتلة” يشير العنوان في حد ذاته، إلى هذا الانشغال، وهذا المسعى، اللذين ينزعان إلى إبراز الدراما، مع التأكيد على جمال التضامن الإنساني. في هذا الفيلم تندرج المشكلة ضمن السياق الاجتماعي لكل شخصية من الشخصيات.

أخيراً، وفي “ما قبل الطوفان” أعالج تضامن المجتمع من خلال طبقاته وأعماره ومسؤولياته، كما تنعكس من جيل إلى آخر. ذلك أن أبناء الأمس هم آباء اليوم. ويمكن أن يظهر هذا أمراً بديهياً، غير أنني أعتقد أن الأجيال حلقات في سلسلة لن تنقطع إلا بالموت”.

وعن موقفه من السينما الجديدة يقول: “أظن أن السينما قد انتقلت من مرحلة سعيدة ومتفائلة إلى مرحلة أزمة في النمو. إنها مرحلة مواتية في نظري. وسوف تبلغ السينما في نهايتها سن الرشد. تنوع المواضيع التي يمكن نقلها إلى السينما يثير غبطتي وشغفي. وأختم بالتعبير عن أسفي لقلة عدد النساء والشباب القادمين إلى الإخراج من خارج السينماتيك”.

وعن الأهمية التي يوليها للتقنية يقول: “التقنية لابد منها. لكن ينبغي أن تظل غير مرئية. إنها تسمح بأمور عديدة. وهي تشكل أحد عيوب المثقفين الشباب حالياً. شاهدت، مؤخراً، شريطاً جذاباً بعنوان “حياة شرلوك هولمز الخاصة” إنه شريط متقن. بعد مشاهدته لا نقول: “يا إلهي! ما أجود التقنية!” لقد ظهرت مقاصد المؤلفين والممثلين في مواضعها المناسبة. هذه هي التقنية: التمكن من إظهار ما هو مناسب، في وقت مناسب، وسماع ما ينبغي أن يقال في الوقت الذي قيل فيه. هذا كل شيء. وينبغي أن يجري ذلك في ذهن المتفرج. قال أوفولس: “التقنية هي سيارة قي حالة جيدة وطريق في حالة جيدة يسمحان لك باكتشاف منظر جميل”. المشهد موجود. وإذا لم تكن لديك وسائل لرؤيته يكف عن الوجود. وإذا كنت في سيارة “خردة” على طريق سيئة، لن تتمكن من رؤية أجمل منظر في العالم”.

وعن تأثره ببعض السينمائيين الذين سبقوه يقول: “تسألني عن الإعجاب؟ هناك واحد، على الأقل، إنه شابلن، الرجل العظيم. وهناك غيره، لكن إعجابي بهم متفاوت. أعجبتني السينما السوفياتية في بداياتها. لقد جذبني بودفكين أكثر من ايزنشتاين. كذلك أفلام مثل “نهاية بطرسبورغ” و”عاصفة على آسيا” و”الجثة الحية” وإن كانت أفلاماً لا تدعي الطموح كثيراً. غير أنني أفضلها على ايزنشتاين الذي يحظى بتقدير أكبر”.

فبركة الجنس..

وعن رأيه في السينما الفتية الراهنة يقول: “أجد حرجاً في الإجابة عن هذا السؤال. الكثير من الحكايات التي تقدمها السينما الفتية حالياً لا تثير اهتمامي. أجيب بكل خشونة. فأنا لا أتصنع الحياء، كما لا أدعي الطهرانية، غير أنني لا أحب هذه “الفَبْرَكَة” للجنس حالياً. والأمر لا يقتصر على السينما، بل يشمل كل الميادين: الأدب، الملصق، الرسم، المجلات… أجد هذا فظيعاً”.

وعن تعبير ما يحدث عن ظاهرة ملل يقول: ” نعم… هذا وارد. تعرف أن فرنسا تتمرّد دائماً على المواضيع الملتزمة. وأقصد بالالتزام كل ما تعنيه الكلمة في كل المجالات. فإذا تم تقديم طبيب دجّال تحتج نقابة الأطباء وترفع أصوات الإدانة. وكذلك الشأن بالنسبة للمحامين. أما الصحافيون فيعبّرون عن سخطهم ويدبّجون المقالات الغاضبة. هذا ما يحدث في فرنسا، وفي كل مناسبة مشابهة لذلك. لهذا السبب أعتبر الأمريكيين رائعين. والإيطاليين كذلك، لكن على طريقتهم. في فرنسا توجد امتثالية محافظة في الهياكل النقابية. ذات يوم، أراد مارسيل بالييرو تقديم شخصية عامل سمج، في أحد أحواض السفن، ضمن فيلم من أفلامه، فكان رد الفعل فورياً!”.

 

جان ـ بول لوشانوَا Jean-Paul LECHANOIS

والمخرج الفرنسي “جان ـ بول لوشانوَا” ولد سنة 1909 وتوفي سنة 1985. ناقد وممثل. عمل مساعداً لكل من رينيه كلير، وجان رينوار، وأناتول ليتفاك.

من أبرز التي أخرجها: (حياة رجل؛ زمن الكرز (1938)؛ السادة لودفيك (1946)؛ مدرسة المشاغبين (1948)؛ هذه الجميلة (1949)؛  من دون ترك عنوان (1950)، بابا، ماما، الشغالة وأنا (1953)، الهاربون (1954)؛ بابا، ماما، زوجتي وأنا (1954)؛ حالة الدكتور لوران (1957)؛ البؤساء (1958)؛ الفرنسية والحب (سكاتش 1960)؛ مانداران (1962)؛ السيد (1964)،  بستانيّ أرجنتاي (1966)). و    للتلفاز: (سيدتي، هل أنتِ حرّة؟).

سينما الحي..

يقول “جان بول لوشَانْوَا”عن كيف بدأتْ ميوله السينمائية: “حدث ذلك كما كان يحدث في ذلك العصر. أي أن جيلي نشأ مع شاشة السينما. تعود أولى ذكرياتي إلى الزمن الذي كان والداي يرافقانني فيه إلى السينما. كان يوم الأربعاء يوماً مقدساً. وفي ذلك الوقت كانت توجد سينما الحي. وهي ظاهرة اختفت تماماً. كنا نذهب إلى قاعة سينما توجد بين ساحة بلانش وساحة كليشي، شارع بالو، وتدعى لارتيستيك، فنقصد مقاعدنا المحجوزة، كما يحدث في الأرياف.

في ذلك الوقت لم تكن القاعات تتميز عن بعضها بعروض خاصة.  وعندما يخرج فيلم جديد تطبع منه نسخ بعدد القاعات تقريباً. وكانت كلها قاعات كبيرة. أتذكر، على سبيل المثال، “الفرسان الثلاثة” الذي كان رائعاً بالنسبة لي. قرأت الرواية وأنا صغير، فخاب ظني من طريقة اقتباسها سينمائياً. وبعد ذلك شاهدت الأفلام الأمريكية مثل “ألغاز نيويورك” و”اللؤلؤة البيضاء”… فتركت لدي انطباعاً رائعاً.

وهكذا شغفت بالصورة مع رغبة في إيجاد موقع لي في إنتاجها. ولم يكن ذلك على طريقة الفتى الذي يقول: “أريد أن أصير ضابطاً في البحرية”، إذْ لم أكن أقول: “أريد أن أصير مخرجاً” ولا: “أريد أن أكون مؤلفاً” كان الأمر أعمق من ذلك. ولو كانت السينماتيك موجودة آنذاك لكنت من روادها المتحمسين. وكان أول ما فعلت، وأنا طالب، هو التردد على أولى القاعات التي تعرض أفلاماً مهمة. كان ذلك رائعاً. كانوا يعرضون مثلاً، “الكلب الأندلسي” ياله من اكتشاف! وكانت هناك أيضاً بدايات نوادي السينما على غرار “المنبر الحر للسينما” و”سكوار راب”. وكانت تعرض فيها أفلام ممنوعة أيضاً، وأفلام روسية.

وفي كل عرض تكون التذاكر قد بيعت سلفاً. وتحضر الشرطة لدى عرض “مدرعة بوتمكين”. يبدو ذلك مزحة اليوم، لكن تلك التدخلات كانت متكررة آنذاك. يتوقف عرض الفيلم مع البكرة الرابعة وتدخل الشرطة للمراقبة. كان لكل ذلك جانب رومنطيقي وجذاب، مع شيء ما، أعمق من ذلك، قد أدعوه الحياة. وهنا أتذكر كلاماً لرينوار. قال لنا إن السينما في رأيه هي اكتشاف الحب. كان ذلك صحيحاً أيضاً بالنسبة لجيلنا. إذْ إن  أول امرأة أحببتها كانت غريتا غاربو. وتلتها أخريات معبودات من جيلنا. ولقد أتين لنا بالإثارة الجنسية، قبل استفحالها بطرق أخرى، من خلال صورهن العارية. وكان رينوار يقول إنه اكتشف، من خلال مقالب ماك سينيت، قبل 1914، وجهاً خفياً للمرأة. ففي كل أفلام سينيت الكوميدية كانت هناك نساء سابحات. وكل ذلك له علاقة باللاشعور.

يضاف إلى ذلك أن الطبيعة وهبتني ما لا أستطيع تسميته موهبة، لأن الكلمة كبيرة، ولنقل إنها وهبتني إمكانية الاهتمام بالحكايات، والقدرة، كما آمل، على روايتها. لم أحصل قط على الجائزة الأولى في مادة اللغة الفرنسية، غير أنني تمتعت دائماً بسهولة في رؤية الأشياء، والقدرة على نقلها كتابياً، والتفكير فيها من خلال الصور. ولم يكن الأمر سهلاً في ذلك الوقت. لم تكن توجد مدارس للسينما. عندما أتحدث مع أشخاص ينتمون إلى “الموجة الجديدة”، أقول لهم: “أما أنا فقد تربيت في المعمل” أي أنني بدأت بممارسة عدة مهن. ولاشك أنني لم أكن طالباً جيداً. كان اكتشاف الحياة من الأهمية بالنسبة لي، منذ سن التاسعة عشرة، بحيث سعيت إلى تعلم شيء آخر غير ما يدرس في الجامعة. ولم يتغير الأمر منذ ذلك الزمن. فما إن يخرج المرء من المدرسة الثانوية حتى يشعر بالحرية والاستقلال ويرغب في استغلالهما. لذلك لم أكن طالباً جيداً، لا في السوربون ولا في كلية الحقوق.

كان أهلي يتمنون لي مهنة جدية، إذْ كان والدي طبيباً. ولم يكن يريد لي أن أقتفي أثره. وأنا، في نهاية المطاف، أتأسف لذلك. إنها مهنة كنت أود ممارستها. ولو فعلت لشعرت برضا أكبر. كثيراً ما قلت لنفسي “ليتني فعلت ذلك” وهذا لا يعني أنني أتذمر مما أفعل الآن. لكنها كانت مهنة شائقة وممكنة. وباختصار كنت أحضر الدروس أحياناً وأتقدم إلى الامتحانات. لم أكن غبيّاً كثيراً، لكنني لم أكن طالباً ممتازاً أيضاً. هذا ما أدركه الآن. وكانت هناك أشياء كثيرة يتوجب عليّ معرفتها”.

جاذبية السينما..

ويضيف: “ازدادت جاذبية السينما وتعرفت على جان جاك أوريال الذي أسس “مجلة السينما” قبل ظهور “دفاتر السينما” لاحقاً. فصرت أعمل سكرتيراً للتحرير معه. وبصفتي الصحفية تلك التقيت بول جيلسون الذي طلب مني كتابات نقدية لبعض الأفلام كي ينشرها في صحف يشرف عليها. وإلى جانب تلك الاستكتابات أسست بدوري صحيفة باسم “المتفرج” وكنا ننشر فيها كل برامج الأسبوع من مسرح وسينما وغير ذلك. ولقد صمدنا على أية حال وأصدرنا ستة عشر عدداً! وبذلك تعلمت الإخراج الصحفي واطلعت على أعمال المطبعة.

لكن، كيف الدخول إلى عالم السينما؟ ذات يوم التقيت بريفير الذي تعاون مع صحيفة “المتفرج” (سبكتاتور) باسم إيف باوول ثم باسمه الحقيقي. ومن خلاله تمكنت من ولوج هذه المهنة. كان بريفير آنذاك يعدّ السيناريو، الأول في حياته. وكنا نسكن معاً. وبفضله تعرفت على مدير أستوديو يدعى شارل دفيد. فطلب مني أن أعمل معه.

وبالمشاركة في عملية الإنتاج ألحقت بالإدارة بتعلّة تمتعي بإجازة في الحقوق. ولمدة عامين عملت مساعداً لشارل ديفيد، أي أنني في الواقع كنت مديراً مساعداً لاستوديوهات باتيه، أهتم بالمسائل التقنية التي لا أفقه فيها شيئاً، وكذلك المشاكل الإدارية التي أعرف عنها القليل. ولم يكن ذلك ما أريد. حتى جاء اليوم الذي خرجت فيه من المكتب واتخذت لي موقعاً على “البلاتوه”.

ومن حسن حظي أن دار باتيه أعلنت إفلاسها. ولم يكن ذلك بسببي طبعاً! ولقد “أجَّروني” للمنتجين الذين استأجروا الأستوديو. وبذلك ترأست “البلاتوه” وعملت مساعداً لألكسندر كوردا، ودوفيفييه، ورينيه كلير، ورينوار، وتورنور. لقد أحبني مورييس تورنور كثيراً وطلب مني أن أعمل مساعداً له في فيلم (Koenigsmark). وفي المساء كنت أتعلم المونتاج وحدي. بعد ذلك التقيت دوفيفييه الذي تعلمت الكثير على يديه. إنه مخرج رائع، رغم أنكم لا تحبونه، أنتم النقاد، وكذلك الشأن عند الممثلين بسبب طريقة إدارته. لقد نجح في أمريكا بسبب سرعته في الإنجاز”.

لغة الأطفال الطبيعية..

ويعرّف السينما يقول: “السينما، في الحقيقة، هي لعبة: لغة الأطفال الطبيعية. لقد تعلمتها تدريجياً وفق ممارستها. كثيراً ما أرى ممثلين على “البلاتوه” لا يحبون النص، أو لا يستطيعون أداءه، فأكتب ميدانياً جزء من نص. شيئاً فشيئاً انتشرت شهرتي، إذا صح التعبير، كشخص قادر على كتابة، أو إعادة كتابة أجزاء من السيناريو لحل مشكلة طارئة أثناء التصوير. في ذلك الوقت لم يكن يوجد المخرج المؤلف، بل هناك التقنيون وواضعو الحوار والسيناريو. وأنا لم أعايش مرحلة السينما الصامتة.

كان المخرجون آنذاك يعانون من السيناريو في حالات كثيرة. وهذا يفسّر تعلق الممثلين بي. إذْ كنت قادراً على اختيار الكلمات المناسبة لنطقهم وأدائهم الصوتي.

ثم اندلعت الحرب. وبعد عودتي، تمكنت، بفضل شخص تعرفت عليه أثناء المقاومة، من إنجاز شريطي الأول. وتوالت أعمالي”.

المسرح العمالي..

ويواصل: “في سن العشرين، مثلاً، اهتممت كثيراً بما كان يدعى المسرح العمالي. وكان وقتها مسرحاً سياسياً، ثورياً، تحريضياً. اهتممت به مع جاك بريفير. فأسسنا “مجموعة أكتوبر” وواصلت ذلك معتمداً على ممثلين هواة دائماً. وعندما صرت مخرجاً سينمائياً أفادتني تلك التجربة كثيراً. وخاصة في مجال إدارة العديد من الممثلين. كل شيء يتعلمه المرء يفيد في مهنة الإخراج. وأنا شخصياً عملت في مجال الزراعة كما اشتغلت نادلاً في مطعم ثم كهربائياً”.

وعن موقفه من التلفزيون يقول: “أول تجربة لي مع التلفزيون كانت خلال تصوير مسلسل “سيدتي، هل أنت حرّة؟ ” في ثلاث عشرة حلقة ذات ست وعشرين دقيقة، أي ما يعادل أربعة أفلام. وتوجب إنجاز كل ذلك بميزانية متقشفة جداً. وكان الأمر مفيداً للسينما أيضاً”.

وعن اختيار مواضيعه يقول: “كل ما اخترته طيلة ممارستي المهنة، باستثناء مرة أو مرتين، كان يتمثل في مواضيع شخصية، وسيناريوهات أصيلة. ليس معنى ذلك أنني أزعم إجادة كل شيء، غير أن المرء يفهم ما يجربه بشكل أفضل. أستند أيضاً إلى معيار يتمثل في جدوى هذه المهنة بعيداً عن الجمالية. وهذا عيب، على الأقل في نظر المتعلقين بالجوانب الجمالية. فعلى سبيل المثال يعتبر شريط “مدرسة المشاغبين” هو الفيلم الأول الذي أنجزته وأحبه وأطلق شهرتي الصغيرة. والحال أنه فيلم يمجد المدرسة الحديثة، والعلاقات الجديدة بين المدرسين والأولياء والتلاميذ. وما زال هذا النوع من الأفلام الذي صور سنة 1948، يعرض في العالم كله. ثم أخرجت “من دون ترك عنوان” وهو عن سيارة أجرة، مع برنار بلييه ودانيال ديلورم، ومضمونه التضامن الإنساني. بعد ذلك فكرت في موضوع العزلة، وعالجتها من خلال وكالات الزواج. أعقب ذلك “في قلب الطوفان” وهو يتناول موضوع المقاومة. لأنني عشتها أثناء الحرب… أما بالنسبة لـ “البؤساء” فقد لجأت إلى قامة فكتور هيغو”.

معايشة الحياة..

وعن اهتمامه بالجمهور يقول: “أشعر بكامل المسؤولية تجاهه. أولاً لأنني لا أعيش في الوسط السينمائي بل أعايش الحياة في نبضها العميق. لدي أفكاري وقناعاتي، ونوع من الشكل الفلسفي لأفكاري. لكن ذلك لا يمنع انفتاحي على الناس وعلى طرقهم المختلفة في التفكير. إن شريطاً مثل “بابا، ماما، الشغالة وأنا” حقق نجاحاً هائلاً في نطاق كون الناس يجدون أنفسهم فيه، حتى في الصين، البلد الذي اذكره عمداً.

حكاياتي متفائلة دائماً، لأن الحياة لا تعرف اليأس. أنا أسكن في الريف كثيراً. ومن حظي أن زوجتي تحب الريف وتمل من طريقة العيش في باريس. وفي الريف لدينا جيران بسطاء نخالطهم ونتفرج معهم على التلفزيون. وندرك قيمة الأشياء الحقيقة”.

وعن طريقة اختياره للممثلين وكيفية إدارتهم يقول: “الاختيار في منتهى الصعوبة. أطلب منهم ألا يفرطوا في الكبرياء بل في التواضع. إن توزيع الأدوار يلعب دوراً حاسماً في نجاح الشريط أو فشله. ولقد علمني رينوار الذي عملت مساعداً له، ألا أحب الممثلين فقط، بل أن أكتشف أهمية التعاون بينهم وبين المخرج.

إذا لم أكتب السيناريو وحدي، أتحمل مسؤولية الحوار كله. وأثناء وضعه أكوّن فكرة عن كل شخصية. وهي فكرة مزعجة لأنها فكرة مؤلف. وفي هذه المرحلة يتوجب عليّ إيجاد ممثل مناسب لما كتبت. وهذا أمر غير يسير. إذْ ينبغي على الممثل أن يقترب أكثر ما يمكن مما كتبت. وكثيراً ما نتوصل إلى ذلك. ولابد من معرفة الكثير من الممثلين لأننا لا نستطيع عمل أفلام خاصة بالنجوم. لقد فعلت ذلك بالتأكيد، لكنه أمر لا يرضيني ولا يريحني. إذْ ينبغي أن تكتب خصيصاً للممثل النجم مثل جان غابان الذي لا يستطيع أن يكون إلا نفسه.

للإجابة عن الجزء الثاني من سؤالك، يتوقف كل شيء على التعاون أثناء التصوير، وكذلك على التعليمات التي تقدّم للممثلين. كل شخص يتلبس دوره سواء أكان ذكراً أم أنثى. إنه أمر شيق وطريف أحياناً، حتى إن مساعديّ كثيراً ما يضحكون عليّ عندما أعيد مشهداً غرامياً مع إحدى الممثلات.

عندما بدأت العمل مع روبير لامورو، قال لي الجميع: “إنه مزعج” ولم يكن ذلك صحيحاً. إذْ بدأت على طريقتي الخاصة: أن أكون أنا نفسي روبير لامورو”.

ويجيب عن سؤال هل تضمَّن انتقالك من الشاشة الكبيرة إلى الصغيرة بعض العراقيل؟: “لم تكن ثمة أية مشكلة. فقط هناك اقتراب أكثر من الممثلين. هذا كل شيء. أو ينبغي بالنسبة للتلفزيون إنجاز أعمال درامية بالأسلوب الذي يسمونه طريقة الفيديو، وهي طريقة وسيطة بين المسرح والسينما، أو إنجاز نوع من الأفلام المخصصة للشاشة الصغيرة، مع اقتراب أكثر من الممثلين. وهنا لا ينبغي الاعتماد على المناظر الطبيعية حتى وإن كانت بالألوان. قد يحدث ذلك فيما بعد. من الواضح أنه ليس بعيداً ذلك اليوم الذي سوف تعرض فيه أفلام تلفزيونية في القاعات، أفلام ضخمة عبر الاسطوانات والصور المغناطيسية. لقد قضي الأمر بالنسبة لشرائح الأفلام الموجبة. وهذا مدهش. لأنه سوف يتسبب في انتقاء جديد. ولابد أن يبقى مؤلفون وأناس متعلقون بها.

إن قوة المسرح تكمن في هذه العملية. المسرح ينبعث من رماده. يموت، لكن، دائماً يبقى هناك أناس متعلقون به، أشخاص يموتون جوعاً بسببه، غير أنهم يكرسون له حياتهم لأنهم يحبونه. وبموازاة ذلك نجد جمهوراً يظل وفياً للمسرح. هذه أمور مشجعة”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة