13 أبريل، 2024 6:46 ص
Search
Close this search box.

السينما الفرنسية (12) جان دريفيل: أكثر ما أخشاه شعور المتفرج بالملل

Facebook
Twitter
LinkedIn

 

خاص: قراءة – سماح عادل

يؤكد المخرج الفرنسي”جان دريفيل” على أهمية المونتاج في إعطاء قيمة لأداء الممثلين، لكنه مع ذلك يفضل ألا تظهر التقنية بوضوح، كما يؤكد على الاهتمام بالجمهور، ولكن ليس بإتباع ما يفضل وإنما مباغتته. مشيرا إلى خوفه الكبير من ملل الجمهور. وعلى العكس منه لم يهتم المخرج “بيار بريفير” بالجمهور مما أدى إلى هجر الجمهور لأفلامه ويعترف بخطئه في ذلك، كما يعتبر أن السينما الناطقة أصبحت مرهقة أكثر من الصامتة.

نواصل قراءة الكتاب المميز (قرن من السينما الفرنسية.. من خلال اعترافات مخرجيها)، تأليف “إيريك لوغيب”، ترجمة “محمد علي اليوسفي”، حيث يحتوي على عرض حوارات أبرز المخرجين في السينما الفرنسية. لنتعرف من خلال تلك الحوارات على السينما الفرنسية ورموزها واتجاهاتها.

Jean DREVILLE       جان دريفيل

“جان دريفيل” مخرج فرنسي، ولد في باريس سنة 1906. مارس الصحافة في البداية. وفي العام 1928 أخرج شريطًا مواكبًا لتصوير فيلم “المال” الذي أخرجه مارسيل ليربييه.

أفلامه التي أخرجها: (رجل من ذهب؛ ترويكا؛ ليالي بطرسبورغ البيضاء؛ قفص العنادل (1943)؛ مزرعة المشنوق (1945)؛ الزائر (1946)؛ معركة الماء الثقيل(1947)؛ على الأقدام، على ظهور الخيل، وداخل السبوتنيك (1958)؛ نورماندي ـ نيامان (1959)؛ لافاييت (1961)؛ الحارس النائم (1965)؛ ليلة الوداع (1966).

التحليق بجناحين..

يقول “جان دريفيل” عن بداياته مع السينما: “عبر دروب معقدة نسبياً. كنت صحفياً في البداية، أمارس ما تمارسه أنت: تعذيب الناس! ومارست النقد السينمائي أيضاً. وبما أنني كنت شاباً فقد كنت في منتهى الشراسة. وفيما بعد تعلمت التسامح مع تقدم العمر. كما أنشأت جرائد، جرائد جمالية محض، جرائد طليعية. كنا في مرحلة 1925 ـ 1930. ولقد أشرفت على أبواب وزوايا في بعض الصحف اليومية مثل “العنيد” و “كوميديا” و “باري ماتان” ؛ أي معظم الصحف التي اختفت فيما بعد. ثم مارست هواية التصوير الفوتوغرافي لمدة طويلة. وجعلتني الصورة أرغب في التقاط مشاهد، وأدى بي التقاط المشاهد إلى فكرة تصوير أفلام قصيرة. وقبل البدء بتصوير فيلم طويل، اقترحت على مارسيل ليربييه ـ وكان بدوره يصور فيلمه الأول “المال” سنة 1928 ـ أن أنجز نوعاً من الريبورتاج المرافق لتصوير فيلمه، كي يطلع الجمهور على طريقة تكوُّن الفيلم في نهاية مرحلة السينما الصامتة. فوثق بي، وقدم لي كاميرا وأفلاماً إيجابية.

هذا الفيلم، من باب المفارقة، أتحدث عنه لأنه ربما كان الفيلم الوحيد الذي سوف يبقى خالداً من بين أفلامي. فهو يعتبر، في كل المكتبات السينمائية، وفي العالم كله، بمثابة إحدى أندر الوثائق الموجودة حول طريقة صناعة الفيلم في زمن السينما الصامتة.

بعد ذلك أنجزت الكثير من الأفلام القصيرة؛ من الأفلام الوثائقية السياسية، والصناعية، والأغاني المصورة، وغير ذلك، إلى أن ظهرت السينما الناطقة وأردت التحليق بجناحيَّ.

كانت البداية جيدة، من خلال مسرحيات نقلتها إلى الشاشة طبعاً. في نهاية مرحلة الأفلام الصامتة حققتْ السينما تألقاً فقدته تماماً مع بداية الأفلام الناطقة. وأنا، من موقعي المتواضع، حاولت أن أعيد ذلك الألق إلى الأفلام الناطقة. ولم أكن الوحيد. وكان الأمر طريفاً لأن تلك الأفلام كانت ذات أهمية في ذلك العصر، ولقد فقدتْها اليوم، بسبب مختلف التطورات التي شهدتها التقنية وأشكال التعبير الجديدة”.

وعن المخرجين القدامى والحاليين: “كلنا أعجبنا بمخرجين كبار، كما أعتقد. ولا شك أننا خضعنا لبعض تأثيراتهم من دون أن نعلم. فالمخرج ذاته، عندما يعجب ببعض أعماله، قد يقلدها. ذات يوم، وبفضل برنامج تلفزي، أتيحت لي فرصة العودة إلى مشاهدة حوالي ثلاثين من أفلامي. فاكتشفت أنني كثيراً ما قلدت نفسي من دون انتباه. والمخرج الذي أعجبت به كثيراً، في بداياتي، هو جاك فيدر. كان مخرجاً عظيماً، وأنا أعتبره أول مخرج. لقد أدرك أن السينما وسيلة محببة لمعالجة كل شيء. لذلك لم ينغلق ضمن صيغة جاهزة.

أما صديقي “كارني” فقد حجز نفسه في قالب محدّد، وصار يخرج أفلاماً تعكس ذلك ويمكن للمشاهد أن يقول: “آ… هذا فيلم لكارني!” من دون أن يقرأ “الجينيريك” (شارة الفيلم). بالمقابل كان فيدر ينتقل من “تيريز راكان” الفيلم الأسود، إلى “السادة الجدد” الذي ينتمي إلى الأفلام الوردية. كان يأخذ من كل جانب بطرف. زدْ على ذلك أنه كان مخرجاً بارعاً جداً. في بداياتي كان واحداً من أبرز الذين أحببتهم، ثم جاء دور الأساتذة الكبار في مدارس الإخراج السويدية والألمانية… فيما بعد ذهب بي الظن إلى أنني قد تخلصت من تأثير الذين أعجبت بهم. لكنني أدركت أن ظلالهم بقيت.

هناك علامة طبعت تطوري في الإخراج: لقد حاولت الخروج سريعاً من التقنية المحض. وكنت قد نشأت معها. إذ عملت مدير تصوير، ثم عملت في المونتاج. وفي بداياتي تعرضت للنقد فعلاً لأن أفلامي كانت مفرطة في التقنية. وسرعان ما تخليت عن التقنية لصالح الحكاية”.

نسيان التقنية..

ويواصل عن التقنية:”هذا ما من شأني أن ألوم عليه شباب اليوم. إن الغاية القصوى، ومنتهى الفن، في نسيان التقنية. ينبغي التوصل إلى جعل المشاهد ينسى أنه في السينما، وينسى وجود موسيقى ومونتاج وإخراج جيد. وأعتقد أنني لا أختلق شيئاً بقول ذلك. فالرسامون والمسرحيون الكبار هم أولئك الذين نسوا مباشرة تلك التقنية.

بالنسبة للمخرجين المحدثين. أحب لوزي كثيراً. ربما لأنني لا أستطيع القيام بما يقوم به. دائماً ما يرغب المرء في فعل ما لا يستطيع فعله. وأنا أحب الاقتراب من كل شيء، دائماً. ولقد جرى وضعي بتعسف نسبيّ في خانة مخرج أفلام الذكورة والحرب. وهذا يعود في الحقيقة إلى كسل المنتج الذي ما إن يراك نجحت في نوع معين من العمل حتى يطالبك بإعادة إنتاج مثل ذلك العمل. غير أنني أنجزت أفلاماً أخرى مختلفة، مع نجاحات، أو نصف فشل، في بعض الأنواع. ومن الواضح أنني انجذبت إلى الجانب الأصيل في السينما. وهذا ما جعل شريطاً مثل “معركة الماء الثقيل” أو “نورماندي ـ نيامان” من الأشرطة المقربة إلى نفسي”.

ويجيب عن سؤال هل هناك مواضيع رفضتها، وما زلت ترفضها؟: “نعم… أحببت  “Hellzapoppin” كثيراً. غير أنني عاجز عن مثله، أو عن نسخة شاحبة منه. وكذلك لم أخرج أي فيلم أو أوبريت أو فيلم موسيقي ـ استعراضي؛ أقصد الفيلم الاستعراضي الحقيقي. شخصياً أفضل الأفلام المستندة إلى الواقع وإلى استحضار الأحداث، ولا سيما الأحداث القريبة، سواء أكانت ذات علاقة بالحرب أم بغيرها. وأحب في الكوميديا ما يجمع بين الضحك وإثارة الانفعالات”.

إتقان المونتاج..

وعن كيفية اختيار الممثلين وطريقة إدارته لهم أثناء الإخراج يقول: “هذا سؤال طريف. ففي مهرجان “كان” عندما عُرض فيلم “رافائيل” للمخرج ميشال ديفيل، طُرح عليه السؤال نفسه. ولقد أجاب بما سأجيبك به الآن. فنحن نتفق في الرأي تماماً حول اختيار الممثلين؛ أو بالأحرى ثمة طريقتان لتصور إخراج فيلم. مثلا: ألاَّ نفكر قط في الممثل ونكتب الموضوع. وبعد اكتمال الموضوع نبحث له عن ممثل مناسب. ومن المؤسف أن هذه الطريقة صعبة التحقيق رغم صيغتها المثلى.

وثمة الحل الثاني الذي أحبه أقل. وهو يتم هكذا: “أنا متعاقد مع السيد فلان، أو الآنسة فلانة؛ فهل بإمكانك أن تكتب لي موضوعا يناسب هاتين الشخصيتين؟” أعتقد أنها صيغة متهافتة. وقديمة جداً. فإذا كان لديك وحش مثل جان غابان، يتوجب عليك أن تكتب خصيصاً له. ومن الخطأ عدم فعل ذلك. لكننا بدأنا تدريجياً، وخاصة مع أفلام الموجة الجديدة، نتوجه نحو مواضيع أصيلة باتت تتطلب البحث عن الممثل طبقاً للسيناريو المكتوب.

وهي صيغة لإبراز الممثل بواسطة المونتاج. وهذا ما جعلني ألجأ إلى التخلي عن المشاهد الكبرى لصالح الكاميرا الثابتة. وهذا ما يلغي إمكانيات المونتاج. فعندما تتنوع اللقطات تتوصل إلى نوع من “الموزاييك” الفسيفساء التي تبرز دور الممثل.

وحدث أن أضفيت على بعض الممثلين المتوسطين قيمة أفضل بواسطة مونتاج جيد، ولقطات متداخلة. ففي التلفزيون، على سبيل المثال، أنا ضد البث المباشر، ضد الفيديو، لأنه يحُول دون الإتقان الذي يحققه المونتاج، وذلك مهما كان الإعداد والتحضير.

بعد هموم البحث عن سيناريو وعن منتج، وكل ما يتعلق بمشاكل إنجاز الفيلم، تبدأ راحتي مع المونتاج. أشعر بالفرح خلال المونتاج. إنه يشبه عملية إضفاء قيمة نهائية  أو ما نظن أنها نهائية، على مادة خام. لذلك أسعى إلى استخلاص أفضل ما هو ممكن بواسطة المونتاج.

الموجة الجديدة..

وعن رأيه في السينما الجديدة: “لنبدأ بالنتائج الإيجابية. أنا مدين لـ “الموجة الجديدة”، أو لكل ما يمكن أن نطلق عليه اسم السينما الجديدة، بتعرية التقنية الأكاديمية التي استخدمناها طيلة عقود حتى باتت مهيمنة. وهذا ما أدى إلى تجميد السينما. غير أن ما يحصل اليوم هو ردة فعل جامحة في التقنية، ونوع من عدم الاكتراث بالقصة، عند الكثير من الشباب. أعرف أن الأمور سوف تنتظم مع مرور الأعوام. هذه نتائج إيجابية، تعرية التقنية التي أفرطت في الهيمنة، تطعيمها بتقنيات جديدة، أي بكاميرات أكثر مرونة، وأفلام إيجابية أكثر حساسية، ووسائل إضاءة لم تكن موجودة قبل بضعة أعوام، وكل الأشياء التي أعطت للسينما الجديدة إمكانيات لم نكن نملكها.

أما الجانب السلبي فيكمن في إهمال الحكاية الذي يزعجني كثيراً. وفي الحقيقة توجد قواعد للحكاية الدرامية، قديمة قدم العالم، ولا يمكن انتهاكها خشية بث الملل في المشاهد. فمهما كان عمر هذا المتفرج، فهو يظل طفلاً كبيراً نُركعه على ركبتيه ونحكي له حكاية. وثمة طرق متعددة لرواية تلك الحكاية. كما توجد طرق جيدة وأخرى سيئة جداً. أعتقد أن أكبر عيب في السينما الجديدة يكمن في نوع من الإهمال للحكاية، وعدم الاكتراث بفهم الجمهور. أظن أن لذلك علاقة بعيوب مرحلة الشباب، وقد مررنا بها كلنا.

لست أدري إن كان جان روش ـ إن لم يكن هو، فليعذرني ـ هو الذي كتب ذات يوم، أو قال: “أفضل فيلم، بالنسبة لي، هو أن أُخرج كاميرا إلى زاوية الشارع، وأن التقط الصور لمدة ساعة ونصف، أي مدة عرض الفيلم”. أنا لست مع هذا الرأي. ولا شك أن المتفرجين سوف ينامون في القاعة قبل مرور ساعة ونصف. ولا أذكر أيضاً، من الذي قال: “الفنّ هو اختيار اللحظات” ولا نزاع في أن الكاميرا هي الأداة المثلى التي تسمح بمثل هذا الاختيار للحظات. وإهمال هذه الإمكانيات يعني إهمال المنظور الأولي للسينما”.

ويجيب عن سؤال سبق لك القول إن كل دائرة لا بد أن تُغلق…؟: “نعم، ذلك أن تقدمي في العمر يسّر لي التعرف على عدة أجيال سينمائية، وألاحظ بكل افتتان، أن المشاكل تطرح من جديد مع كل جيل، وتُحل بالطريقة نفسها تقريباً. وما يماثل “الموجة الجديدة” هو “طليعة 1925″ مع المشاكل نفسها تقريباً والمتعلقة باكتشافات تقنية، تم التخلي عنها لاحقاً.

إن المبالغات في التعامل مع الحكاية، هي عملية دائرية، تكتمل دورتها فتنغلق. هذا أمر منطقي، ولا ينبغي التذمر منه كثيراً. لكن ليس هناك ابتكار كبير حقاً. كانت ثمة تيارات، وما زالت، وسوف تظل دائماً”.

وعن الجمهور، وهل يشعر بمسؤولية تجاهه يقول: “هو ذا سؤال يعجبني، لا أفكر إلا بذلك، لا أفكر إلا في الجمهور. ولا أتبع الجمهور، كما قيل، مع مبالغة في التبسيط. لا بد من استباقه، لكن بحذر، أي لا ينبغي مباغتته”.

ملل الجمهور..

وعن أفلامه الأقرب إليه يقول: “أي تعلق بفيلم من الأفلام، لا بد أن يتغير بعد عرضه، وفقاً لنجاحه أو عدم نجاحه. ثمة أفلام تمتعت بإخراجها، لكنها لم تحقق النجاح المأمول. ومع ذلك لم أنسها، كلا. لو فعلت ذلك لكنت أباً سيئاً. غير أني لم أعد أضعها بالمرتبة الأولى. وثمة أفلام أخرى تُوِّجت بالنجاح. فصارت تدفع بي إلى الحديث عنها أكثر.

يمكنني القول إنني أحببت فيلم “معركة الماء الثقيل” الذي كان من أول الأفلام التي صُوّرَتْ من دون ممثلين، في العالم. كما كان موضوعه مثيراً في عصره، لأنه يرتكز إلى هذه المصادرة: لِمَ لم يحصل هتلر على القنبلة الذرية؟ كان موضوعاً ذا علاقة بالأحداث الحارقة. أحببت كذلك إخراج فيلم “نورماندي ـ نيامان” من دون أن أنسى “قفص العنادل” و “الطفيليون”. لاحظ أنني انتقائي…

لقد تمتعت أيضاً بإخراج فيلم “نسخة طبق الأصل” برفقة جوفيه. أنا منفتح على كل الآراء. مررت طيلة عملي، كمخرج سينمائي، بأفلام رغبت في إخراجها، وأخرى اخترتها من بين ما عرض عليّ. وهكذا فإن الأفلام الأقل جودة، هي تلك التي قبلتها على مضض، نوعا ما، أي في سبيل كسب لقمة العيش.

وحتى أعود إلى قضية الجمهور، أقول: إنّ أول ما أفكر فيه، عندما أعد شريطاً، هو عدم بث الملل في الجمهور. لذلك أجعل الأفلام ذات سرعة معقولة، دائماً. فأخشى ما أخشاه هو اللحظة التي يبدأ فيها المتفرج بالتململ في مقعده! من المزعج أن أذكر بعض العناوين، ومع ذلك فأنا أخشى أن يتململ الجمهور كثيراً في مقاعده، عند عرض فيلم فسكونتي الجديد، مهما كانت درجة جماليته. أنا أحترم السيد فسكونتي، لكنّ ذلك لا يمنع مؤاخذتي له. أعتقد أنه لا يفكر كثيراً في الجمهور.

وقد أوجه اللوم نفسه إلى بعض أفلام بريسون. وفي هذا، ظاهرة لم تفسَّرْ قط. إذْ أن السينما وسيلة تعبير. إنها سلسلة برقيات، كما قال أحدهم، ونحن نقوم بالربط بين أطرافها. والأمر يتعلق بعمل توليفي (تركيبي): توليف الحوارات، توليف المواقف، توليف في الزمن، نظراً لصعوبة جعل الفيلم يتجاوز الساعة، أو الساعتين، عند العرض. لذلك لا بد من الحرص على عدم ملل الجمهور. وأقول هذا، لأنني أعتبر نفسي من الجمهور الجيد”.

وعن ارتياد السينما وهل يذهب إليها بوصفه مجرد متفرج، أم كمحب للسينما، أم كمحترف يقول: “في السابق، كنت أذهب لرؤية الأفلام مع الجمهور الحقيقي. ولم تكن تهمني مشاهدة العرض الأول للفيلم، بل ردّ فعل الجمهور إزاء ما آمله. لذلك أتوخى، في المونتاج، حذراً شديداً وأحاول توقع ما سيفكر فيه الجمهور، لأن الفيلم، ليس كالمسرحية، فمتى ما عُرض لا يمكن العودة إليه وتعديله”.

وعن النصائح التي يقدمها إلى سينمائي شاب يقول: “لا يمكن الزعم أن الشاب الذي يبدأ اليوم، يجهل عمل سابقيه، إذ أن أشخاصاً مثل غودار وغيره، يعترفون كثيراً بارتياد المكتبات السينمائية (السينماتيك). أما أنا فأذهب إلى القول أكثر من ذلك. لقد بالغوا في ارتيادها. وأتمنى أن ينسوا قليلاً ما شاهدوه. السينماتيك مهمة جداً، لكنني أعتقد أن أفلام كبار المخرجين الحاليين هي أفضل مدرسة للمبتدئين، وخاصة إذا تمكنوا من مواكبة إنتاج هذه الأفلام. لكن ذلك، مع الأسف، بات يعد من باب الخيال! ذلك ما فعلته شخصياً عندما واكبت تصوير فيلم “المال”. فالجانب العملي مهم جداً.

إن سؤالك لمن الحساسية بمقدار ما هناك من عراقيل ينبغي تذليلها اليوم. أول نصيحة لأي مبتدئ، هي أن أطالبه بممارسة مهنة أخرى. أما إذا كان شديد الاقتناع فليس من حقي إحباطه. إن السينما مهنة تشكو من الازدحام والحال أن عدداً كبيراً من الشباب يخوضها بزاد غير كاف. وقد يؤدي ذلك، لاحقا، إلى مزيد هجر الجمهور للقاعات. إذا كانت لدي نصيحة أوجهها لمخرج شاب فهي أولاً، أن يحاول سرد حكاية جيدة، بأقصى ما يمكن من الأصالة، من دون أن تقتصر الحكاية على تمارين أسلوبية هائمة”.

وعودة الى أهمية التقنية يقول: “التقنية، ينبغي نسيانها من فرط الاطلاع عليها. ما ألوم عليه شباب اليوم، هو ثقتهم المفرطة في التقنيين المحيطين بهم، من دون معرفة عمل هؤلاء التقنيين. من الأفضل أن يجربوا المونتاج والتقنيات الأخرى. وهذا ما أراه انطلاقاً من تجربتي الشخصية، إذْ عملت في الإدارة الفنية والتصوير والتركيب، ورسم الديكور. ولقد ساعدني ذلك كثيراً. أرى أن على السينمائي الشاب أن يطَّلع، بأكبر قدر ممكن، على تقنيات مختلف الأقسام التي سوف تكون تحت إشرافه. وكل ما يعرضه فيلمه يجب أن يكون له مكانه، بحيث لا يمكن حذف سلسلة لقطات، أو جزء منها، من دون إلحاق الضرر بتوازن الفيلم. والحال أن هناك أفلاماً يمكن حدوث خطأ فني في تسلسل عرض بكراتها، من دون أي تأثير، لأنها تفتقد إلى ما يربط بينها أصلاً.

وثمة أمر آخر أخشاه. ويحصل عندما أعود إلى رؤية بعض أفلامي القديمة في التلفزيون. ومهما صارت تلك الأفلام قديمة، فقد استغرقتُ وقتا كافياً لجعلها أفلاماً ذات قيمة، أعتقد أنني أمضيت في إخراجها اثني عشر، أو ثلاثة عشر أسبوعا. واليوم، لا يستغرق الفيلم نفسه أكثر من ستة أو سبعة أسابيع. ولقد انتهيت للتو من إخراج أربعة أفلام للتلفزيون مدّة كل واحد منها ساعة ونصف الساعة، حول موضوع معين، وذلك تحت عنوان موحد “رحلة خارج القرون”، فيلم مدته ست ساعات، أنجزته في ستين يوماً، أي خمسة عشر يوماً لكل جزء من أجزائه”.

     

Pierre  PRE’VERT     بيار بريفير

“بيار بريفير ” مخرج فرنسي، ولد سنة 1906 وتوفي سنة 1988. عمل مساعدًا لكل من كافلكَنتي، ورينوار، ومارك آليغريه، ومارسيل كارنيه.

أخرج أفلام:  (القضية على ما يرام (1932)؛ الحبل (1933)؛ الكوميسير إنسان طيب (1935)؛ وداعًا ليونار(1943)؛ الرحلة المفاجئة (1946)؛ باريس تأكل خبزها). وللتلفزيون: (رفاق بعل).

شغف بالسينما..

يقول “بيار بريفير” عن كيف أصبح سينمائيًّا: “حدث ذلك بشكل طبيعي. أنا ابن الحرب العالمية الأولى. بعد الخدمة العسكرية والدراسة فكرت في البحث عن مهنة. وكانت السينما. في ذلك الوقت كنت شغوفاً بالسينما الأمريكية، وخاصة الهزلية منها، وكذلك الأفلام المتسلسلة. ومن جهة أخرى أغرمت بأفلام مثل “ألغاز نيويورك”، و “مصاصو الدماء”، و “فانتوماس”. آنذاك توسط لي شقيقي الأكبر جاك، لدى أهلي، كي يسمحوا لي بمحاولة ممارسة هذه المهنة. وهكذا أدخلني جاك للعمل في إحدى قاعات السينما. فكُلِّفت في البداية بترتيب الصور وطيِّ الملصقات. وفيما بعد كلفت بعرض الأفلام لأن العارض المتخصص طُلِبَ للجيش. وبفضل الوظيفة الأخيرة بدأت أتعلم المهنة. ومن الأفلام التي كانت تعرض آنذاك أذكر “ربابنة زوارق نهر الفولغا” لسيسيل ب. ديميل. ولعلي شاهدته خمسين مرة على الأقل! لم أكن أطمح إلى أن أصير مخرجاً آنذاك غير أن المهنة بدأت تتغلغل فيّ من دون أن أشعر. وفضلاً عن ذلك، كنا نشكّل مجموعة تجوب القاعات المعتمة، وتتكون من إيف تانغي، ومارسيل دوهاميل، وأخي جاك، وأنا. وكانت المجموعة تعتبرني “التقنيّ”  لأنني كنت أعمل عارض أفلام”.

وعن تجربته الأولى في الإخراج يقول: “كان لشريطنا الأول اسمان: “ذكرى من باريس” أو “باريس إكسبرس”. وقد تم تصويره سنة 1928 لكنه لم يعرض إلا سنة 1959، إذ طُلِبتْ منا إضافة بعض المشاهد، فصار عنوانه “باريس الجميلة”. لقد تطلب الأمر ثلاثين سنة للتوصل إلى مونتاج نهائي!

ولأن هذا الفيلم لم يحقق إلا نجاحاً متواضعاً فقد عدت إلى العمل  كمساعد للمخرج ألبرتو كافالكانتي  في شريطه “ذات القبعة الحمراء” الذي يمثل فيه جان رينوار . فيما  بعد عملت مساعداً لرينوار. وبعد خيبات كثيرة، باستثناء “باريس الجميلة”، ساهمت قي شريط  “الساذج” لكاربونو.

وبالنظر إلى خيبتي في السينما فقد تلقفني التلفزيون وهكذا أخرجت “رفاق بعل”. و سارت الأمور على ما يرام. ثم صورت شريط “باريس تأكل خبزها”. وهو فيلم قصير أكن له محبة خاصة لأنه تحقق على أيدي مجموعة من الأصدقاء المتقاربين في الذوق. زد على ذلك أن هنري كرولا، عازف الغيتار المرافق لإيف مونتان، أعدّ لنا قطعة موسيقية جميلة جداً”.

وعن السينما التي يعتبرها أقرب إلى نفسه يقول: “هل هي مسألة عمر؟ إنني أفضل سينما الأمس بكل وضوح. في سينما اليوم يوجد شيء يزعجني كثيراً. فهم لا ينفكون يكررون إن فهم فيلم جديد يتطلب الذهاب إلى رؤيته خمس مرات على الأقل! أنا شخصياً لا أعود إلى رؤية فيلم إلا من أجل المتعة، فأنا شخص بسيط ذو ميول شعبية جداً وفي زمن السينما الصامتة كانت الأفلام توفر لي ملاذاً حقيقياً. كنت أتماهي مع الشريط. وكنت في ذلك الوقت مهووساً بكلارا بو”.

وعن الإعجاب  لسينمائيين آخرين يقول: “بالنسبة لي يظل جان فيغو أبرز شخصية في مسيرة السينما الفرنسية. بتّ أفتقده كثيراً، إلى جانب شقيقي، بقدر ما تفتقده السينما الفرنسية. ومن المؤكد أنني شديد الإعجاب بأعمال المخرج فوياد، غير أنني أعتبر شريطاً  مثل “أطلنطس” عملاً فرجوياً كبيراً. و كان جان فيغو شديد الإيمان بهذا الفيلم. ويمكن القول إن عمله قد أدى إلى موته تقريباً, و في كل الأحوال يكون المرء عرضةً للتأثر بغيره دائماً. وفي هذا المجال، كان هاري لانغدون متأثراً بمسرح النو الياباني”.

الغش والتزوير..

وعن التطور في السينما يقول: “في السابق، كانت هذه المهنة تسمح للجميع بالتطور. أما اليوم فقد انتشر الغش والتزوير.  صارت الأولوية للمردود ولم يعد ثمة مجال للخيال وللتغيير الحقيقي. لا أذكر أنني تخلفت، في الماضي، عن مشاهدة مسلسل أو فيلم. كان الخيار واسعاً بين الدراما و الكوميديا والمغامرة… ولم يكن من النادر أن يعثر المرء ضمن ذلك الخيار، على شريط مبهج، إذْ كان المخرجون قادرين على إبداع أفلام شاعرية حقيقية. والحال أن سينما اليوم باتت بائسة ومهجنة. لكنني أقرّ بوجود تقنية تلفزية. وأعتقد أن شباب اليوم يجدون فيها من المتعة ما كنا نجده في السينما سابقاً . و ليس كل الإنتاج جيداً، غير أن هناك أعمالاً ناجحة حقاً. وعلى سبيل المثال فقد شاهدت على “الشاشة الصغيرة” شريط فرنسوا ريشنباخ حول المكسيك، و أعجبتني الصور البصرية القوية التي لا تفتقر إلى الذوق”.

وعن  أساليب العمل التي يدير بها الممثلين يقول: “كنت في كل مرة ألجأ إلى ممثلين أعرفهم جيداً، وأطعّمهم بممثلين غير محترفين أو نصف محترفين. فمثلاً عندما لجأت إلى براسور وترينيه وكاريت وجاكلين بوفييه (مدام مارسيل بانيول) مزجتهم بأصدقاء لم يقفوا قط أمام الكاميرا. وكنت أحرص على توفير أجواء من التفاهم والراحة. وهذا المبدأ المهم تعلمته من جان رينوار عندما كنت أعمل معه في تصوير فيلم “الكلبة”. وهو على العكس من مارسيل كارني الذي كان قلقاً دائماً ينشر العدوى حوله. هذا أمر سيء. كنت أبدأ بتكرار التدريب على المشاهد. وعندئذ أوجه الممثلين فأخفف من اندفاعهم أو أشجعهم عليه وفق الحاجة. وأثبتت هذه الطريقة نجاعتها، خصوصاً في شريط “رفاق بعل” المسلسل.

وأحرص، كقاعدة عامة، على أن يكون الممثلون أصدقائي و بالنسبة إلى “رفاق بعل” رفضت منذ البداية أي شكل من أشكال المحاكاة الساخرة، لأن الأمر كان يتعلق بحكاية غريبة. ومع ذلك لم أرغب في أن تؤخذ الأمور بشكل مفرط في الجدية. وهكذا توصلنا معاً إلى إيجاد إيقاع المسلسل وأسلوبه. ولقد نجح أسلوب العمل ضمن روح جماعية. كثيراً ما قيل لي إنني ممثل ضلّ طريقه! وذلك ما يسر لي تقديم الكثير للممثلين”.

وعن الموضوعات التي لا تثير اهتمامه يقول: “إن الكتاب الكلاسيكيين الكبار هم أبعد ما يكونون عنيّ. لذلك يستحيل عليّ اقتباس موليير مثلا!”.

مشاهد حب جميلة..

وعن الشعور بمسؤولية إزاء الجمهور يقول: “لم أفكر في الجمهور قط. ربما كنت مخطئاً. وإذا كنت قد أحببت “الرحلة المفاجئة” فالجمهور لم ينجذب إليه بسبب العنوان. كذلك كان شأن “القضية المربوحة” رغم أن التوزيع كان جيداً. ولا ألوم المشاهدين إذا لم يأتوا لمشاهدة أفلامي، فأنا أحرص دائماً على سرد الحكاية كما أراها شخصياً.

كقاعدة عامة، أرفض دائماً ما هو منحط ومبتذل وبذيء.  لست متصنعاً للحياء أو رقيباً ولكنني لا أحب نوعاً من السينما الراهنة. لم تعد هناك قدرة على إنتاج مشاهد حب جميلة، صارت كلها مبرراً للإباحية”.

وعن العنصر الذي يستأثر باهتمامه أكثر أثناء الإخراج يقول: “أهم عنصرين عندي هما الموضوع و التمثيل. ولا تدخل التقنية إلا فيما بعد. لست مهووساً بتحريك الكاميرا والآلات، كما أكرر دائماً. من المؤكد أنني أقبل التقنية، لكن ينبغي التحكم فيها بمهارة كما في مجال التصوير الشمسي. والتقنية وحدها لا تكفي، لذلك أنجزها أساساً وقت المونتاج”.

يجيب عن سؤال أما زلت تحب السينما؟ يقول: “أرتاد قاعات السينما أقل بكثير مما في السابق. وحدث أن ذهبت إلى قاعة “البارامونت” في عروضها الصباحية والمسائية والليلية. كنا نذهب جماعة ونتغذى بالبطاطا المقلية.

فيما بعد صارت السينما الناطقة مرهقة أكثر من السينما الصامتة. وبدأت أكتفي بارتياد سينما الحي الذي أسكن فيه أسبوعياً. أما الآن فأنا أنتقي.  ومن المؤسف أن المرء قد يجد نفسه مكرهاً على مشاهدة فيلم لعدم وجود مقاعد شاغرة في القاعة التي تعرض شريطاً أفضل!”.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب