السينما الفرنسية (11) كريستيان ـ جاك: الناس في حاجة إلى الهروب من خلال الفنتازيا والكوميديا والمغامرة

السينما الفرنسية (11) كريستيان ـ جاك: الناس في حاجة إلى الهروب من خلال الفنتازيا والكوميديا والمغامرة

خاص: قراءة – سماح عادل

يؤكد المخرج الفرنسي “كلود أوتون ـ لارا” على أهمية التراكم في مهنة الإخراج، فالاحتراف يأتي نتيجة لكثرة العمل في المهنة، كما يرفض الأفلام التي تستعين بالعنف، ويكره أيضا تلك التي تبالغ في الذهنية مما يصعب الفهم على الجمهور، في حين يؤكد المخرج الفرنسي “كريستيان ـ جاك” على أهمية ترك الحرية للممثلين، وعلى أن مهنة الإخراج تحتاج إلى الفضول والاطلاع على كل شيء.
نواصل قراءة كتاب (قرن من السينما الفرنسية.. من خلال اعترافات مخرجيها)، تأليف “إيريك لوغيب”، ترجمة “محمد علي اليوسفي”، حيث يحتوي على عرض حوارات أبرز المخرجين في السينما الفرنسية. لنتعرف من خلال تلك الحوارات على السينما الفرنسية ورموزها واتجاهاتها.


كلود أوتون ـ لارا Claude AUTANT- LARA
“كلود أوتون ـ لارا” مخرج فرنسي، ولد سنة 1903 وتوفي سنة 2000. بدأ بإخراج الأفلام القصيرة. تخرج في مدرسة الفنون الجميلة.عمل في الديكور مع المخرجين مارسيل ليربييه وجان رينوار، ومساعداً لرينيه كلير. بين 1930 و 1932، وقام في هوليود بدبلجة الأفلام الأمريكية للغة الفرنسية.
من أبرز أفلامه التي أخرجها: (قصب الثوم (1933)؛ زواج شيفون، رسائل حب (1942)؛ الناعمة (1943)؛ سيلفي والشبح (1945)؛ الشيطان في الجسد (1947)؛ اِعْتَنِ بإميلي (1949)؛ الفندق الأحمر (1947)؛ القمح عشباً (1953)؛ اللاعب (1953)؛ الأحمر والأسود (1954)؛ مرغريتا الليل (1955)؛ اجتياز باريس (1956)؛ في حالة حدوث مصيبة (1957)؛ المُهرة الخضراء (1959)؛ سباق زوارق سان فرنسيسكو (1960)؛ الكونت دي مونتي كريستو (1961)؛ كنز جوزيفا (1963)؛ يوميات امرأة ترتدي الأبيض (1964)؛ فرنسيسكاني بورج (1968)؛ البطاطا (1969)؛ غلوريا (1977)).
أفلام بهيمية..
يقول “كلود أوتون ـ لارا” عن كيفية رؤية لنفسه ليس ضمن السينما الفرنسية فحسب بل والعالمية أيضاً: “أتمسك بالبقاء، على هامش إنتاج وإخراج الأفلام الرائجة. هدفي كسينمائي هو في البساطة بحيث لا أكاد أتجرأ على الاعتراف به! أحرص على حكاية جميلة وعلى روايتها بطريقة جيدة. اليوم هناك محاولات لإدهاش المتفرج. إنه طريق مؤسف تسلكه السينما. ولا شك أن هناك ضرورة للبحث عن الجديد لكن ينبغي أن يترافق ذلك مع تقديم ما هو جاد وحقيقي. وأحاول التوقف هنا.
إن الناس الذين لا يعرفون كيف يروون حكاية يلجئون إلى حيلة تتمثل في إنكار الحكاية. وهذا ما يفعله جماعة “دفاتر السينما”. إنه طريق مسدود. مثلاً، جان لوك غودار لم يعرف قط كيف يقص حكاية، وذلك أصعب ما يمكن النجاح فيه. لذلك يجري إدهاش المتفرجين بحركات الكاميرا، إذا لم يكن ذلك بالعري والمخدرات. لا يمكن المشاركة في تقدم الإنسانية عبر تقديم أفلام بهيمية.
ومع ذلك فالأمور في منتهى البساطة. لا حاجة للمخرج إلى أن يعذب نفسه من أجل فيلم جيد وجميل. وفي هذا المجال يسّرني ذكر الطرفة التي أوردها ساشا غيتري عندما سأله أحدهم عن كيفية الحصول على موضوع جيد، فأجاب: “رجل وامرأة يحبان بعضهما بعضاً”.
وعن اهتمامه بالجمهور يقول: “أحس بمسؤولية كبيرة إزاء الجمهور الذي يكلّف نفسه المجيء من أجل رؤية ما أعمل. لا أريد أن يكون ذلك بلا طائل. على كلّ سينمائي جدير بهذا الاسم أن يهتم دائماً بإنجاز أفضل فيلم ممكن. ليس من السهل بث فيلم على الشاشات. لا يمكن تسليم قاطرة تجرّ مقطورات مكتظة بالمسافرين، إلى غير القادر على قيادتها. لديّ مبدأ: لا ينبغي للأداة أن تتمرد على يد الصانع. والحال أنني أحتاج إلى السيطرة على الممثلين. ولعل هذا يفسر سبب لجوئي إلى بريجيت باردو مرّة واحدة؛ وكان ذلك في فيلم “في حالة حدوث مصيبة””.
وعن الظروف المثالية للإبداع يقول: “أنجز أعمالي في إطار شركة أشعر معها بالسعادة، لأنها تيسر لي العمل بحرية. وهذا سبب التزامي بالانضباط الصارم. أعرف المقاييس المعتمدة، فإذا أدركت أن أحد مشاريعي يتجاوزها، تخليت عن العمل. لا بد أن يكون المرء سيد نفسه في هذا المجال. لا أحترم المال، على الأقل مالي الشخصي، غير أنني أحرص على أموال من يثقون بي. وهذا، في الواقع، عنصر صغير في ممارسة المهنة. عملية الاقتصاد في المصاريف سرعان ما تصير آلية في مجال السينما.
الفرجة الحميمة..
وعن العلاقات بين السينما والتلفزيون يقول: “بادئ ذي بدء، ثمة مسألة رحابة ومدى؛ في السينما، تحتاج الصورة التي نشتغل عليها، إلى رحابة واتساع. وهناك شيء آخر يفرق بين السينما والتلفزيون. فهذا الأخير يناسب الفرجة الحميمة. في موازاة ذلك، تكتسب الأفكار التي نريد التعبير عنها في فيلم سينمائي، درجة من القوة، بحيث تتطلب استقبالها جماعياً.


شخصياً أعمل من أجل الجمهور، بل من أجل أوسع جمهور ممكن، فالسينما فن شعبي. لذلك أرفض ما يسمى بقاعات الفن والتجربة؛ لا وجود لسينما موجهّة لجمهور ذكي، وسينما للآخرين. والنجاح هو المحك الأول والأخير”.
ويجيب عن سؤال كيف يمكن للمرء أن يصير سينمائياً: “إنّ المدرسة، حتى المتخصصة في السينما، لا تعلم إلا أبسط قواعد المهنة. ولم يسبق لها تعليم الموهبة. السينما مهنة تتطلب نوعاً من النضج، لا بد من تقدم العمر في الممارسة على أمل تقديم ما هو أفضل. ولا شك أن جان فيغو نجح منذ فيلمه الأول “السيرة صفر” ثم “أهالي نيس” لكن…السينما مهنة تتطلب المواجهة المباشرة. إذ أنها لا تخضع إلى قوانين، باستثناء الوصفات. إنها مهنة شاقة.
أما الأفلام الحقيقية الجيدة فهي تعود إلى المحترفين الذين يدركون أن المشاكل تتغير من فيلم إلى آخر. وهكذا تكون البداية دائماً من الصفر. ولا يتوقف المرء عن التعلم. وحده التراكم الناتج عن المعارف والأخطاء المعترف بها، يُمكنه تقديم الدروس، وتكوين سينمائي”.
وعن وجود تواتر مفضل في الإبداع يقول: “التواتر الأمثل هو إخراج الأفلام، الواحد تلو الآخر، لكن من دون الاستسلام للابتذال. أنا حِرفيّ. هناك أيضاً مشكلة الإنتاج… لم يعد عندنا الكثير من المنتجين الجديرين بهذا الاسم. لقد تحولوا إلى ممولي سينما، وكفّوا عن تشجيع الإنتاج في غالبيتهم”.
وعن من سبقوه يقول:”في مرحلة الشباب، كنا معجبين بمن سبقونا، مثل جاك فيدر، رينيه كلير، مارسيل ليربييه… لقد وضعوا أسس السينما الفرنسية. أُعجبت كذلك بأعمال إيريش فون ستروهيم، إرنست لوبتيش، شارلي شابلن. وهذا الأخير ذهب إلى الأقاصي. ويظل الأفضل والأهم في السينما غير الفرنسية”. وعن سينما الآخرين يقول: “أذهب لرؤية الأفلام الجيدة. لا أرغب في تلويث نفسي بالأفلام الرديئة. مع الأسف لا يسعفنا الوقت برؤية كل شيء. ومثل الكتب، بات الإنتاج واسعاً. أي فيلم جيد يفرحني لأنه يشرف أهل المهنة كما يشرف بلده”.
المبالغة في الذهنية..
وعن المزايا الأساسية لأي سينمائي يقول: “القلب قي المقدمة. الشباب يبالغون في أهمية الذكاء. لا حاجة إلى ذكاء جاف ومنعزل. لا بد أن نسمع القلب يخفق على الشاشة. هذا يبعث الدفء وينشط الدورة الدموية.
كثيراً ما أتحدث عن الشباب لتوجيه التهم، لا أريد أن يفهم من ذلك وجود أحقاد وتصفية حسابات. مرحلة الشباب هي مرحلة الشغف. وهناك الآن، من الشيوخ- الشباب ما يعادل عدد الشباب- الشيوخ. وكلاهما مخيف. وأنا أدين، في نهاية المطاف كل شباب مزيف.
كذلك أنا وطنيٌّ متحمس بما فيه الكفاية. وكثيراً ما حاربت الإنتاج الأمريكي القادر على ممارسة الـ Dumping، وهو ما يسمح لهم بفرض أي شيء أو أيٍّ كان. لكنني لست من الغباء بحيث أنكر وجود مواهب سينمائية كبيرة في أمريكا، وكان هذا، باستمرار، منذ بدايات السينما.
لا أحب أولئك الذين لا يبحثون إلا عن إحباط الجمهور. وهنا أقصد الأفلام المبالغة في أبعادها الذهنية والثقافية. عندما أخرج من مشاهدة فيلم من إخراج آلن روب غرييه أو مرغريت دورا يحتدم غيظي. من حق الجمهور، أمام مثل هذه المشاريع، أن يفضل سيارته على الشاشة. ومن العبث الاعتقاد بأن الفيلم ينبغي أن يرضي صاحبه أولاً. إن الكاميرا تصور كل شيء، بما في ذلك الخلافات العابرة التي تحصل وراءها، أو الوحدة القائمة بين فريق العمل. لا شيء يفلت من عين الكاميرا. وخلال التصوير ينبغي رصد كل شيء. وإنها للحظة مباركة تلك التي يدرك فيها المرء ما كان ينتظره.
عندما شرعت في إخراج “الأحمر والأسود”، كانت هناك توصيات بعدم إظهار القساوسة أو المؤامرة السياسية. لكنني أصررت، إذ كنت أريد لشريطي أن يحث الجمهور على قراءة ستاندال. ورغم ذلك فقد عمدت الرقابة إلى حذف نصف ساعة من شريطي. وهذا لم يمنع الأرواح اليقظة من اتهام شريطي بالمبالغة في التطويل، مع الزّعم أنني بتَرْت الرواية، في آن.
هذه هي السينما: مهنة شاقة، تتطلب القدرة على تذليل آلاف العراقيل. وأي فيلم ناجح إنما هو معجزة، أو سوء تفاهم.
كريستيان ـ جاك CHRISTIAN- JAQUE
“كريستيان ـ جاك” مخرج فرنسي ولد في باريس سنة 1904. توفي سنة 1994. تخرج في مدرسة فنون الديكور. مارس فن الملصق والديكور. ثم بدأ بالإخراج سنة 1932. من أبرز أفلامه:
(فرنسوا الأول (1936)؛ مفقودو سان أجيل (1938)؛ كتلة من شحم الأمعاء (1945)؛ دَيْر بارم (1947)؛ بين رجال (1949)؛ لو أن كل شباب العالم (1950)؛ ذو اللحية الزرقاء (1951)؛ فانفان الزنبقة (1952)؛ لوكريس بورجيا (1953)؛ مدام دو باري؛ نانا (1954)؛ بابيت، إنها نهاية الحرب (1959)؛ الفرنسية والحب (سكاتش 1960)؛ مدام سان جين (1961)؛ الأسباب الوجيهة (1962)؛ الزنبقة السوداء (1963)؛ وجبة الوحوش (1964)؛ القديس يرصد (1966)؛ عشاق الليدي هاملتون (1968)؛ مشعلات الحرائق بالبترول (1971)؛ الدكتور عدالة (1975)؛ الحياة الباريسية (1977)؛ كارنيه رجل الكاميرا (1985)).
وللتلفزيون: (نداء استغاثة التردّد 17؛ عمر باشا؛ عمليات الهروب الشهيرة (لاعب الشطرنج، هروب دوق بوفور)؛ جوغايار؛ دورك في اللعب؛ ميلورد، عملية تهريب؛ شركة خفية الاسم؛ الحياة بنهم، الصندوق الهندي الجديد، رجل السويس).


اللعب بالمسرحيات..
يقول “كريستيان جاك” عن بداية موهبته: “لا شك أنها جرثومة أحملها في داخلي. أتذكر أنني في سن الخامسة أو السادسة، كنت أجمع أصدقائي الصغار من صبيان وبنات. وبدل اللعب بجنود الرصاص، أعدّ مسرحيات ونعرضها على أهلنا. وكما لو كنا محترفين، في مستوانا الخاص، كنا نلجأ إلى إعداد النص وتطويره والتدرّب عليه.
بعد ذلك جاءت مرحلة الدراسات الجادة. لقد ولدت في عائلة ذات علاقة بالهندسة المعمارية. وهكذا كان يتوجب عليّ الالتحاق بمدرسة الفنون الجميلة. وكما هو شأن كل طالب يحترم نفسه فقد كان يتوجب عليّ كسب مصروفي. ونظراً لمهارتي في استخدام الألوان المائية فقد عملت رسام ملصقات سينمائية لصالح قاعة “فيرست ناشيونال”. وكنت آنذاك أعمل مع صديق اسمه الأول جاك. نالت ملصقاتنا الإعجاب لكننا تعرضنا للوّم لأنها غير موقَّعة. فاتفقنا على استخدام اسميْنا المشتركيْن، ومن هنا جاء اسمي كريستيان ـ جاك. فيما بعد قرر ذلك الصديق ممارسة مهنة أخرى، لكنه طلب مني المحافظة على هذا الاسم المستعار. وهو يهاتفني حتى اليوم ليقول لي: “لقد شاهدت شريطنا، أعجبني كذا ولم يعجبني كذا…”
في مرحلة لاحقة عملت في وضع ديكور الأفلام. عندئذ أخبرت أهلي أنني سأتخلى عن الهندسة لصالح السينما. وعملت مع جوليان دُوفيفييه الذي طلب مني أن أعمل مساعد مخرج، إلى جانب الديكور. وأول فيلم أخرجته بمفردي كان فيلم مغامرات. ولقد حقق نجاحاً باهراً.
أعقب ذلك الإنتاج المتواتر، مع ما تضمنه من مخاطر التخصص في الأفلام الكوميدية.
وعن كونه مؤلفاً يقول: “لا أحب التخصص، وتكرار الشيء نفسه. والدليل على ذلك شريطاي “فانفان الزنبقة” و “لو أن كل شباب العالم”. أحب التنويع والتغيير”.
وعن أعماله: “هناك أربعة أفلام أفضلها على غيرها: “اغتيال بابا نويل” و “رُقى سحرية” و “فانفان الزنبقة” و “لو أن كل شباب العالم”. وتلك هي الأفلام التي أشعرتني بالفرح خلال التصوير وبعده، ثم عند عرضها على الجمهور. أعرف أن هناك تهماً توجه إلى أفلامي بكونها تجارية، وإن النقاد يتحدثون عن “براعتي السهلة”. هذا لا يزعجني بل، بالعكس، أعتبره إطراءً. ومذ ذاك توغلت في هذا المجال وتوجهت إلى التلفزيون. وهكذا أخرجتُ “جو غايار”. وأنا أفضله على شريطي “ليدي هاملتون” مثلاً. ويمكنني أيضاً ذكر فيلم “مشعلات الحرائق بالبترول”. الذي أنقذت به منتجاً، لأن مُخرجه كان في مُقتبل الشباب، بحيث لم يستطع السيطرة على بريجيت باردو، وكلوديا كاردينال. أمضيت ثمانية أيام للإشراف على كل شيء. اصطحبت دانيال بولانجيه، فكان في المساء يكتب معي المشاهد التي سنصورها غداً صباحاً”.
ويجيب عن سؤال ما الأسباب التي جعلتْك تحافظ على معدّل إخراجك باستمرار؟: “ينبغي إثبات الحضور. أعرف أني أستطيع التوقف عاماً أو عامين، لكني أخشى ألا أعود أبداً للإخراج”.
اندثار المؤلفين..
وعن حنينه إلى نوع معين من السينما يقول: “أعترف أن جنس المؤلفين بدأ بالاندثار. وأتأسف على الزمن الذي كنت أعمل فيه مع بريفير، وجانسون وسباك. ومنذ ذلك الوقت لم أشعر بفرح العمل مع مؤلف، باستثناء جاك إيمانويل في “بابيت، إنها نهاية الحرب” و “القانون هو القانون”. إن وجود روح في الفيلم أمر ممتع. واليوم لا تظهر إلا الأفلام التي يُضطر معها الجمهور إلى التفكير في القصة التي لا تُقصّ عليه. إنها عملية اغتيال للسينما، وذلك لصالح الاستمناء الثقافي. فالجمهور بات يهجر القاعات، ولا يكتشف السينما إلا عبر أفلام الشاشة الكبيرة التي تُعرض على الشاشة الصغيرة. أنا مقتنع بأن السينما الحقيقية سوف تُبعث بفضل الفيلم التلفزيوني (تلفيلم) ولهذا السبب أعتبر التلفزيون هو الفن الثامن حقاً”.
وعن السينمائيين الآخرين يقول: “لقد تأثرت حقاً بجون فورد وإرنست لوبيتش. وهذا لا يعني أنني في مستوى قامتيْهما. أعترف أنني، كمتفرج، أفضل أفلام الإثارة والفكاهة. ولا تعجبني أفلام التفكير والنكد.
إن السينما عمل جماعي. حتى فيلّيني بوجه خاص، وكذلك برغمان الذي أحبه، كانا يحيطان نفسيهما بمساعدين. ولا أخفي تفضيلي للسينما الإيطالية التي تنجح في المزج بين الفكاهة وحضور الروح، مع ظلال من الكآبة. وحسب ذوقي، تأتي بعد ذلك السينما الإنجليزية، ثم الأمريكية.
طلاق النقد والجمهور..
وعن ما يمكن أن يسمى طلاقاً بين النقد والجمهور يقول: “ينبغي الاعتراف بأن الفيلم الهزلي صار بمثابة قريب العائلة السينمائية الفقير. والحال أن هذا النوع هو الذي أنقذ السينما في الكثير من الظروف، وسوف يُستدعى إلى أداء هذه المهمة الإنقاذية في المستقبل أيضاً. الناس في حاجة إلى الهروب من خلال الفنتازيا والكوميديا والمغامرة”.
وعن معاييره في اختيار الممثلين، وكيف يديرهم يقول: “يعتبر اختيار الممثل من أصعب وأطول المهام. وينبغي أن يتوافر للمخرج عدة ممثلين للدور الواحد، كي يتحاور معهم ثم يتخذ قراره.
الممثل يقدم الكثير للفيلم. لكنني أفضل أن أقول له ماذا يتوجب عليه عدم فعله، أكثر من إرشاده كيف يمثل. ينبغي أن أشعر بكل ممثل وهو يؤدي دوره بعيوبه وحسناته، أي بما يملك في داخله. ولا يمكن أن أقول له: “يجب أن تفعل كذا…”
هناك حل آخر يتمثل في الاعتماد على المبتدئين، وهو حل يتطلب توافر وقت طويل للمخرج. أنا مقتنع بأن أهم ميزة لدى المخرج هي أن يعرف كيف يستمع بشكل جيد، أن تكون أذنه حساسة، وأن يحاول جعل الممثل يؤدي دوره كما يفهمه.
طبعاً ثمة وحوش! وهنا أستشهد بحالة فرنانديل. لقد أشرفت عليه في أول أدواره على الشاشة. كان الأمر يتعلق بفيلم متوسط الطول بعنوان “هذا يلصق” وكان “أوفرار” يرافقه في التمثيل. وهو فيلم مقالب، حيث يستعين رجل بجاره كي يلصق ورق جدران جديداً على حيطان شقته. كان فرنانديل عنيداً جدّاً. فأضطرُّ في كل عملية تصوير أن أقول له: “أرجوك، افعل هكذا، مرة من أجلك، ومرة إكراماً لبابا، ومرة إكراماً لماما، وأخرى إكراماً لزوجتك.” كان يحب هذه الصيغة فيقول لي: “موافق، لكنك خلال عملية المونتاج سوف تختار اللقطة التي قررت أن تأخذها”. كان فرنانديل شخصية في منتهى التلقائية.
وثمة ممثلون آخرون يتطلب الأمر تحريكهم بلطف. وأنا لا أغضب أبداً. لكن، أحياناً أبدي بعض العصبية فيأتي من يلاحظ لي ذلك. عندئذ أخرج لتغيير مزاجي ثم أعود هادئاً. وهناك من الممثلين من يستوجب التعامل معهم بيد من حديد في قفاز من قطيفة.
المخرج ليس قائد أوركسترا، لكنه رجل – أوركسترا، يكمن دوره في تفادي تنافر الأصوات. وهو يستطيع جعل كل الآلات تعزف، مع إمكانية عدم العزف على آلة”.
السينما مرهقة..
وعن كيفية رؤيته لمهنته: “عندما أتوجه بالكلام إلى الشباب، أقول لهم إن السينما مهنة حقيقية. وينبغي أن يكون المرء معروكاً بها. إنها مرهقة. ولهذا تجعلك محافظاً على شبابك ما دمت تمارسها. وفي كل الأحوال فقد مارستها دائماً بحماسة، حتى وقت ارتكاب الأخطاء.


والحقيقة أن سر المحافظة على صحة جيدة يكمن في ألا يحمل المرء نفسه على محمل الجدّ. نحن مهرجون، ومروضو دببة. ينبغي أن نعرف كيف نعلّم ونسلي ونؤثر. مهنة المخرج تتطلب الفضول والاطلاع على كل شيء.
وعن حبه للسينما يقول: “بشكل عام، لا تستهويني إلا الأفلام الإيطالية والأمريكية. وفي درجة ثانوية أذهب لمشاهدة أفلام بتوقيع ايف روبير، وبعض أفلام ليلوش، وأفلام ألن ريسني. ثمة أفلام تبعث فيّ الملل منذ البداية، وقد يكون ذلك انطلاقاً من موضوعها في حد ذاته. عندما أدخل قاعة يحدث ذلك غريزياً أكثر منه اختياراً”.
وعن التقنية يقول: “التقنية عند السينمائي، بأهمية القلم عند الكاتب. أوراقنا هي الأفلام الإيجابية، وقلمنا هو الكاميرا. والأساس في الحالتين، توافر متعة القراءة. لقد كان ميلياس عبقري زمانه. لكنني لست أفهم لماذا يواصلون النسج على منواله حتى اليوم”.
وعن اكتراثه للجمهور يقول: “كلمة جمهور، بالنسبة لي، لا تغطي الجمهور الفرنسي وحده، بل تشمل الجمهور الياباني والألماني والانجلوسكسوني والصيني والسلافي… ومن المهم أن نتوصل إلى تصدير أفلامنا”.
ويجيب عن سؤال في شريطك “الحياة الباريسية” هل عالجت نوعاً جديداً: “لم يكن نوعاً جديداً فقط بل كان “أول فيلم” أيضاً. لقد سبق لي إخراج “السمفونية الفانتازية”، غير أن “الحياة الباريسية” شيء آخر غير الأوبيريت. لم أكن أتوقع أن تعترضني مثل تلك المصاعب. إنه فيلم غنائي استعراضي. أردت دحض الحكم المسبق القائل بعدم وجود ممثلين يجيدون أداء كل شيء (التمثيل والغناء والرقص) كما في أمريكا. وهكذا اكتشفت وجودهم في فرنسا”.
خطورة التلفزيون..
وعن موقفه من التلفزيون يقول: “التلفزيون وسيلة تعبير أحبها وأقدرها. لها الكثير من المزايا القابلة للإعجاب. أولها عدم الاضطرار إلى الاستناد على نجوم التمثيل. وكثيراً ما أدى الهوس بالممثل النجم إلى مثل هذا المنطق: إذا لم نتمكن من أخذ “غابان”، نأخذ فرنانديل، وذلك من دون إجراء أي تغيير على السيناريو والحوار وروح الفيلم إجمالاً.
كذلك يتيح التلفزيون العودة إلى تلك الأفلام ذات الميزانية الصغيرة، والتي تعود إلى مرحلة ما قبل الحرب. وهي في كل الأحوال لم تكن أسوأ من الأفلام التي تُنجز حالياً بتكاليف أكبر. في الثلاثينات كان يمكن إخراج الأفلام في اثني عشر يوماً. ولا أدعي أنها كانت ناجحة دوْماً. لكنها لا تفتقر إلى بعض المحاسن. وهي التي علمتني مهنتي، وهيأتني للتلفزة.
لقد مارست الديكور سابقاً. وظلّ لي منه الكثير، فأنا أعد دفاتر، لكل أفلامي، كل شيء في موقعه، وأسجل الزوايا المدروسة والمتوقعة، جيداً. ويتميز التلفزيون أيضاً بكونه لا يستوجب حضور “المدفعية الثقيلة” التي تبطئ التصوير السينمائي. وفي الأخير فإن من دواعي سرور المخرج إدراكه بأن مسلسلاً فرنسياً ـ انجليزياً ـ ألمانياً ـ كندياً، مشتركاً، مثل “جو غايار” قد شوهد في وقت واحد من قبل مائة وخمسين مليون متفرّج تلفزيوني. غير أن التلفزيون يظل آلة في منتهى الخطورة أيضاً. وفي هذا المجال أشعر بالأسف لأنه تخلى عن برامجه الكبرى المتعلقة بالتحقيقات (الريبورتاج) وأضعف توجهه الإعلامي المعرفي”.
وعن مشاريعه الراهنة وقت إجراء الحوار يقول: “لا أنفك أغذي مشاريع جديدة، فالحياة تستمر من خلالها. وهكذا يتوجب عليّ أن أصور في العام 1978 شريطاً تلفزيونياً مع السوفييت، اقتباساً عن رواية فكتور هيغو “ثلاثة وتسعون” وهو موضوع أحمله في داخلي منذ عشرين عاماً.
وفي ورشتي أيضاً أن أنقل إلى شاشة التلفزيون رواية غير معروفة كثيراً لكنها رائعة لغاستون ليرو، بعنوان “قلعة سوداء وعرس غريب” وهي حكاية تجري أحداثها أيضاً مع شخصية رولتابي، غير أنها أروع وأقوى من “لغز الغرفة الصفراء” أو “عطر السيدة التي ترتدي الأسود”. تجري الأحداث في بلغاريا، والتصوير سيتم هناك أيضاً. وسوف أُخرج هذا الفيلم بأسلوب “ألغاز نيويورك” الذي مثل فيه بيرل وايت، ولون شاني، وهو من الأفلام التي هدهدت حماستي الأولى للسينما.
وأخيراً هناك فيلم مغامرات بحرية، اقتباساً عن رواية لريفو، وأريد إخراجه للسينما هذه المرة، بالاشتراك مع الأمريكيين، في ديكور جزر الفلبين وأندونيسيا”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة