خاص: إعداد- سماح عادل
كان أول ظهور لصور متحركة صامتة فوق شاشة في سينما (بلوكي)، وهي أول دار عرض سينمائي أسست في العراق في عام 1909 وفقا للكاتب “محمد رؤوف الشيخلي” في كتابه (مراحل الحياة في الفترة المظلمة وما بعدها) الذي نشر في جزأين، ويحكي فيه سيرة ذاتية لنفسه، ويرصد الحياة العامة في بغداد القديمة، وقد سجل في كتابه يقول: “كان في سوق الميدان محل فيه صور كثيرة قد صفت على جدار وأمام الجدار على مسافة متر واحد أو أكثر (بردة) ستار سميك وقد ثبتت فيه عدسات محدبة بقطر أربع أو خمس سنتيمترات، فالمتفرج بعد أن يعطي لصاحب المحل الأجرة يأتي به إلى أحد هذه العدسات فينظر منها الصورة مكبرة فتتجسم أمامه كأنه يرى المحل بعينه مائلاً أمامه، ثم يذهب إلى العدسة الثانية والثالثة حتى ينتهي من جميعها ويخرج، وقد يكون المتفرجون كثيرين فيتبادلون العدسات إلى أن يكونوا كلهم قد رأوا جميع الصور”.
هذه الصور التي حكى عنه “محمد رؤوف الشيخلي” تشبه الصندوق الخشبي الكبير الذي كان يحمله صاحبه ويطوف به في قرى ومدن العديد من الأقطار العربية، يتجمع الصغار والكبار رغبة في (الفرجة) على الصور التي تحكي بطولات أصحاب السير الشعبية العربية المعروفين، وقد عرف ذلك الصندوق الذي يحوي العجائب باسم (صندوق الدنيا).
أول عرض..
أما بالنسبة لأول عرض للصور المتحركة فقد كان في ليلة السادس والعشرين من شهر تموز عام 1909 في دار الشفاء الواقعة في الجانب الغربي من مدينة بغداد. وفي يوم الثلاثاء 5 أيلول عام 1911 قدم (سينماتوغراف بغداد) عرضاً للصور المتحركة الصامتة في بستان (العبخانة)، أقيم العرض تحت رعاية الوالي “أحمد جمال بيك” وتضمن ثمانية أفلام قصيرة هي (صيد الفهد، والرجل الصناعي، وبحر الهائج، والتفتيش عن اللؤلؤة السوداء، وسباق مناطيد، وطيور مفترسة في أوكارها، وخطوط حية)، والفيلم الثامن فقد كانت صور لجنازة ادوارد السابع ملك إنكلترا.
وقد كتبت صحيفة (صدى بابل) في ذلك الوقت عن هذا الحدث: “عندما أخمدت تلك الأنوار الساطعة انحصر الضياء بالمسرح فظهرت عليه كتابة تشير إلى المشهد الذي سيمثل، فأول مشهد مثل هيئة بحر هائج متلاطم الأمواج يصعد ماؤه تارة إلى أعلى قبة الفضاء وينحدر إلى أسفل الأعماق ما يصور للناظر هول تلك الأنواء، ثم أظلم المشهد وأضاءت المصابيح ولم تلبث حتى أظلمت المصابيح ثانية فظهرت على المسرح الكتابة ثانية التي تشير إلى هيئة المشهد الثاني وهكذا إلى آخر مشهد كما مفصل في الإعلان، ناهيك عن نفاسة المشهد الثامن والأخير الذي مثل تشييع جنازة ادوارد السابع حيث ظهر المسرح بما يجذب القلب إلى تلك المظاهر التي تكاد تكون طبيعية وليست تمثيلية صناعية فتشاهد ملايين الرجال من وزير وأمير ورفيع ورضيع بين فارس وراكب عجلة وراجل والعساكر بانتظام بديع يدهش الخاطر فيشخص إليها الناظر”.
سينماتوغراف..
وكان العرض الثاني لل (السينماتوغراف) في بستان (العبخانة) واحتوى على ثمانية أفلام قصيرة جديدة هي (اللص الخفي، وسواحل نرويج، وذكاء الكلب، وسباق الخيل، والمرأة المعتوهة، وألعاب متحركة، وأول جائزة يانصيب، والمحاربة في الأسطول)، وكتبت الصحيفة بعد العرض الثاني في عددها الصادر يوم الأحد 10 أيلول عام 1911 مشجعة الناس لمشاهدة تلك المناظر المصورة التي تقدمها الشاشة في البستان معددة مزايا عروض (السينماتوغراف).
ومكان آخر عرضت فيه الصور المتحركة، هو المسرح المركزي بحديقة الأهالي، حيث أسست سينما للأهالي لتعرض الأفلام القصيرة من أهمها (جريدة باته، وألعاب بدنية، وصورتان هزليتان، وطعام الملوك)، إلى جانب فيلم من خمسة أجزاء بعنوان (مناظر الحرب)، وكانت عروض (السينماتوغراف) غالبا ما تقام في المناسبات الهامة والاحتفالات العامة مثل ماحدث في (التياترو الجديد) بالبساتين العمومية عند الاحتفال بيوم الإمبراطورية 24 أيار عام 1918،حيث قدم العرض التمثيلي الذي قدمته فرقة الممثل الانكليزي “بول فريمن” ثم عرض فيلم سينمائي بعنوان (معارك هذه الحرب) رصد كوارث الحرب العالمية الأولى وأيضا عرض الصور الجديدة التي التقطت في شوارع بغداد وأسواقها، ومع زيادة اقبال الجمهور على مشاهدة هذه الأفلام التي تحتوي على المشاهد والصور المدهشة مما أدى إلى سعى بعض الأغنياء إلى الالتفات إلى هذه الظاهرة الجديدة التي عرفت في ذلك الوقت ب (السينما الصامتة) وفكروا يف الاستفادة المادية من حماس الناس تجاهها، لذا قاموا بإنشاء دور للعروض السينمائية وجلبوا أحدث الأفلام القصيرة التي كانت منتشرة في العالم كله..
وكانت دار (أولمبيا سينما) و(رويال سينما) تعرض الأفلام السينمائية القصيرة، المجلوبة من الخارج، واهتمت بتقديم أحدث الأفلام المسلسلة المتطورة التي تعتمد الإثارة والتشويق.
وفي 1920 زاد نشاط دور السينما في جلب هذا النوع الحديث من الأفلام الطويلة المسلسلة، ومن أكثرها نجاحا (ملك المسرح، ورصاصة النحاس الأحمر، وخفايا برشلونة، وسر الغواصة، ورداء التنكر الأرجواني) التي عرضتها (سينما رويال) إلى جانب رواية مسلسلة ناجحة ذات 38 جزء عنوانها (نمرة النحاس) قدمتها (سينما بين النهرين)، كما عرضت سينما (أولمبيا) (البنت الباسلة) في ثلاثين جزء إلى جانب مسلسل (سر اللطخة الحمراء) الذي بلغ طوله 36 ألف قدم.
وفي مساء الاثنين 26 تموز عام 1920 افتتحت (دار جريدة) للعرض السينمائي في الشارع الجديد، وسميت (سنترال) وتضمن أول عروض (سينما سنترال) على رواية (التذكرة الصفراء) إلى جانب فيلمين قصيرين هما (القرود في غاباتها، وحوادث مختلفة).
وقد تحمس الجمهور للأفلام ذات الطابع الكوميدي، ومن أهم تلك الأفلام الكوميدية التي عرضت في بغداد في فترة العشرينيات (قصة برنيطة، وكيف عاد جون، والسيدة عقيلة الوزير، والولد المشاغب، وموظف التلغراف، وهل تحب امرأتك، ونتائج الرهان، ولا تطاق، والممرضة الجديدة، وأرملة الشماس)، وقد تحمس الجمهور أيضا لمشاهدة المسلسل الكوميدي (صيد القمر) الذي عرضته (سينما أولمبيا).
وفي فترة العشرينيات أيضاً أسست دار أخرى في شارع الرشيد وسميت (السينما الوطني) وقد كانت تجلب مع دور العرض السينمائية الأخرى أحدث الأفلام السينمائية المسلسلة التي أصدرتها إيطاليا وأمريكا و فرنسا، وأبرز تلك الأفلام (ألف ليلة وليلة) الذي قدمته (سينما الوطني) من 10 كانون الأول عام 1927 ، وقامت فيه بدور البطولة الممثلة (بتي بلايت) التي كانت من أبرز ممثلات السينما في ذلك الوقت، وقد عرضت لها نفس السينما فيلماً آخر في 1928 بعنوان (هي التي يجب أن تطاع) كما كان فيلما (جزاء الخيانة، والطاحونة الحمراء) أبرز فلمين عرضتهما (سينما الوطني) في 1929، وقد خصصت تلك السينما عرضاً خاصاً لطلبة المدارس ليلة الجمعة من كل أسبوع، وأصبح ذلك تقليداً جرت عليه دور السينما الأخرى، وقد كان آخر الأفلام الصامتة التي عرضتها (سينما الوطني) فيلم (خطايا البشر).
فيلم ناطق..
في بداية فترة الثلاثينيات يوم عيد الفطر في 19 شباط عام 1931، في (سينما الوطني) عرض أول فيلم سينمائي ناطق في العراق، حيث عرض الفيلم الغنائي (ملك الموسيقى)، بطولة المغني الشهير (جونجون بولز) والممثلة (لورا بلانت)، و فيلماً آخرعرضت السينما بعنوان (ضابط الحرس) لنفس الأبطال…
ثم توالي عرض الأفلام الناطقة على شاشة (سينما الوطني) ومن أنجحها رواية الكاتب الألماني المعروف (إيريك ماريا ريمارك) المعروفة باسم (كل شيء هادئ في الميدان الغربي) والتي رصدت معاناة بعض الجنود الألمان في الحرب.
ومعظم الأفلام الناطقة التي كانت تعرض من النوع الغنائي، وهي ميزة افتقدتها الأفلام الصامتة التي بدأت تختفي بالتدريج، خاصةً بعد أن شرعت (سينما سنترال) في عرض الأفلام الناطقة من عشرين نيسان عام 1931 وكان أول أفلامها الناطقة (أنشودة شارع برودواي) ثم وعرضت الأفلام الغنائية الراقصة مثل (هوليوود، ومأساة مدان سيتي، وشارع اليونان، واعشقيني الليلة). وكذلك فعلت (سينما ليالي الصفا وسينما رويال) حيث بدأتا بعرض الأفلام الناطقة، ونتج عن ذلك تأسيس دور عرض جديدة مثل (سينما الرافدين وسينما الزوراء وسينما الحمراء وسينما الرشيد) وكانت كل تلك الدور تعرض أعدادا كبيرة وفيرة من الأفلام الأجنبية في فترة الثلاثينيات.
الأفلام المصرية..
كما كانت الأفلام المصرية تعرض في دور العرض في العراق، في شهر تموز 1932 عرضت (سينما الوطني) فيلم (أولاد الذوات) إخراج “محمد كريم” وبطولة (يوسف وهبي وأمينة رزق ودولت أبيض)، وفي العام الذي تلاه عرضت (سينما رويال) فيلم (سلمى) و(سينما سنترال) عرضت فيلماً غنائياً من إخراج “أحمد جلال”، وفي 6 كانون الأول عام 1934 عرضت (سينما الوطني) فيلم (الوردة البيضاء) إخراج “محمد كريم” وبطولة (محمد عبد الوهاب) وقد حقق ذلك الفيلم نجاحا ساحقا، وأعيد عرضه لأكثر من مرة، وفي شهر نيسان في 1934 عرضت (سينما رويال) الفيلم الغنائي (أنشودة الفؤاد)، وفي بداية شهر تموز في 1936 عرضت فيلم (بواب العمارة) الذي شارك في بطولته (علي الكسار).
وعرضت (سينما الرافدين) في شهر آب في 1936 فيلما (دموع الحب) ل”محمد عبد الوهاب” وفي نفس الشهر، عرضت (سينما الحمراء) فيلم (وداد) ل”أم كلثوم”، وفي 25 أيلول في نفس العام عرضت (سينما الرافدين) الفيلم (بسلامته عايز يتجوز) بطولة (نجيب الريحاني وعزيزة أمير وبشارة واكيم).
محاولات فردية..
في فترة الثلاثينيات كانت هناك محاولات فردية لصناعة سينما عراقية، في شهر كانون الأول 1931 نشرت الصحف إعلاناً بعنوان (فيلم زاد السينمائي يطلب هواة وهاويات تمثيل)، واشترط الإعلان ضرورة إجادة المتقدمين للغة العربية الفصحى وقدرتهم على التعبير عن المشاعر والأحاسيس المختلفة، كما كانت هناك محاولات فردية لجلب أجهزة الصوت والتصوير والإضاءة للعمل السينمائي، لكن لم تساعد الظروف السياسية والاجتماعية في ذلك الوقت على بدأ نشاط سينمائي، وقد تبلور ذلك النشاط في منتصف الأربعينيات.
وفي بداية فترة الأربعينيات شنت حملة صحفية منظمة، طالبت تلك الحملة بتأسيس استوديوهات السينما المجهزة بأحدث معدات الصوت والإضاءة والتصوير، وتوفير كل الظروف والإمكانات لتأسيس السينما الوطنية العراقية. ومن أهم ما نشرته الصحف في ذلك الوقت ما كتبه “فاضل عذافة” في جريدة (العراق) الصادرة في عشرين آذار 1945 تحت عنوان (حاجة بلادنا إلى صناعة السينما)، وطالب في تلك المقال رجال المال بتقديم المعونات المادية لمساعدة رجال الفن على أداء رسالتهم السامية وقال: “تتعدى المنفعة الاقتصادية منفعة أخرى هي المنفعة القومية، إذ أن أكثرية شعوب العالم المتمدن وغير المتمدن لا يعرف عن الأمة العربية شيئاً يذكر، بل كل ما يعرفه أنها تعيش عيشة قبائل رحل وحشية مما تروجه الدعاية الصهيونية من الدول الاستعمارية، فإذا قامت السينما بعمل الأفلام التاريخية التي تبين عظمة العرب وأخلاقهم وسجاياهم وحضارتهم وحياتهم المدنية الحاضرة لتغيرت وجهة نظر الأجانب إلى بلادنا»، كما كتب صحفيون آخرون في هذا الشأن مثل “محمد إبراهيم العشعوشي وفؤاد طرزي”.
لم تهتم السلطات في ذلك الوقت بتلك الدعوات من الكتاب الصحفيين، مما أجهض فرصة تأسيس سينما وطنية، وكان الدور الأهم لأصحاب الأموال، ففي شهر نيسان 1946 جاء إلى بغداد المخرج البريطاني “ريجنالد فوغزويل” لدراسة تفاصيل تأسيس أستوديو سينمائي، ويتم إمداده بالخبراء والفنيين الأجانب لكي يدربون العراقيين للبدء في العمل السينمائي، على أن يمول المشروع الأخوين “هورائي وأنطوان مسيح”.
القاهرة بغداد..
وفي 1946 في أستوديو مصر، الذي تأسس في القاهرة في العاشر من تشرين الأول 1935، تم تصوير المناظر الداخلية لفيلم (القاهرة بغداد) وهو أول إنتاج عراقي مشترك، بالتعاون مع شركة اتحاد الفنيين المصرية، وتم تصوير مناظر الفيلم الخارجية في العراق، شارك في البطولة الفنان “حقي الشبلي” مع “مديحة يسري وعفيفة اسكندر وبشارة واكيم وعبد العزيز خليل”، وقد شارك “حقي الشبلي” في كتابة السيناريو مع “يوسف جوهر” واخرج الفيلم “أحمد بدرخان”، وعرض الفيلم في مساء 9 آذار 1947 في دارين للعرض السينمائي هما (سينما الحمراء وسينما الارضروملي).
وبعد أربعة أيام من عرض الفيلم قررت إدارة (سينما الحمراء) عرض نسخة ثالثة منه ب(سينما النصر) في البتاوين حتى يسمح لعدد أكبر من الجمهور مشاهدة الفنانين العراقيين في أول لقاء سينمائي مع الفنانين المصريين، لكن للأسف لم يحقق الفيلم النجاح المتوقع، فقد ظهرت القصة مفتعلة الأحداث، لأن الكاتبين لم يهدفا إلى التوصل لرؤية ومعالجة سينمائية متكاملة، أو تقديم بناء درامي متماسك بل ركزا بشكل أساسي على توفير الفرصة لأبطال الفيلم للتنقل بحرية بين القاهرة وبغداد.
ووقع الفيلم الثاني من الإنتاج المشترك في نفس المشاكل وكان بعنوان (ابن الشرق) وساهم في فشل هذا الفيلم أنه لم يختار ممثلين معروفين كما حدث بالنسبة للفيلم الأول (القاهرة بغداد)، وكانت النتيجة ضعفاً في المعالجة السينمائية بالإضافة إلى ضعفً في الأداء التمثيلي، مما أدى إلى أن تكتب (سينما الحمراء الصيفي) تلك الجملة في إعلاناتها عن الفيلم (نسخة جديدة جرت فيها تعديلات عظيمة) عندما عرضته في اليوم الثالث من شهر تموز 1947 كمحاولة لجذب الجمهور الذي انصدم بهذه الأفلام.