18 نوفمبر، 2024 9:19 م
Search
Close this search box.

السيد بينيت والسيدة براون.. فرجينيا وولف

السيد بينيت والسيدة براون.. فرجينيا وولف

 

خاص: ترجمة وتقديم : خضير اللامي

هنا، في هذه المحاضرة الماتعة؛ رغم تمّيزها بالغموض والعمق وتناولها الشائك للشخصيات وتحليلها التي تُعدّ الثيمة الأساس أو العمود الفقري لها، تحاول فرجينيا وولف، وكما شأنها في توجهها في الأدب، أن تضع أسسا رصينة للحداثة تكون بديلا لما هو سائد في مفهومات المقالة في عهدها والعهود السابقة، ومن خلال عقد مقارنة بين العهدين الادواردي والجورجي في بريطانيا وصولا إلى عهدها، وكما هو السائد أيضا في الإبداع، وبخاصة في مجال الرواية.

ولا يغيب عن بالنا ما طرحته روايتها أو رائعتها الأدبية ” السيدة دالاوي “ وغيرها من الروايات، بوصفها رائدة لمفهومات تتجاوز ما قبلها ومنها مفهوم تيار الوعي واللاوعي. والمحاضرة بعد هذا تشد المتلقي أسلوبا، ومضمونا، وجراءة في تحليل الشخصيات التي ركزت وولف بكثافة فيها .

المترجم ..

يبدو أنني الشخص الوحيد(1) في هذه القاعة الذي ارتكب حماقة الكتابة؛ أو حاول كتابة الرواية (2)؛ أو اخفق في كتابتها. تساءلت مع نفسي بعد دعوتكم إيّاي في أنْ أتحدث إليكم عن الرواية المعاصرة . أيّ عفريت هذا الذي همس في أذني، وحثني إزاء قدري وبرز أمامي على هيأة رجل أو امرأة. “أنا براون، امسكي بي إنْ كان بمقدورك؟!”

معظم زملائي الروائيين يمرون بهذه التجربة. بيد أنَّ الاختلاف في اسم العفريت، البعض اسمه براون، والآخر سمث، أو جونز، يظهر أمامهم ويتحدث بطريقة مغرية جدا، وساحرة في الغالب، (ها أنذا أمامكم هل تستطيعون الإمساك بي ؟!) وهكذا يستدرجهم بهذه الطريقة السرابية . ويروح الروائيون يتخبطون في كتابة رواية بعد أخرى، ويقضون جلَّ سنين أعمارهم في المطاردة، ولا يتسلَّمون مقابل ذلك إلاّ جزءا قليلا من الأجر، والبعض الآخر لا يقبض إلاّ الريح. والغالبية منهم تقنع بخرقة بالية من بدلة تلك الشخصية، أو خصلة شعر من رأسها.

واعتقد أنًّ النساء والرجال ممن يكتبون الروايات فهم ُيستخَدمون طعما في خلق شخصية روائية تفرض نفسها عليهم، وعلى وفق مواصفات السيد آرنولد بينيت للشخصية. ففي مقالة له أقتبس هذه الفقرة “فأساس الرواية الجديدة هو خلق الشخصية، ولا شيء آخر. فالأسلوب يؤثر، والحبكة تؤثر، ووجهة النظر الأصيلة تؤثر، ولكن، لا شيء له تأثير فاعل أبدا، مثل تأثير الشخصيات، فإنْ كانت الشخصيات واقعية، فثمة فرصة لها، وإنْ كان العكس، فالنسيان سيكون من نصيبها، ويستنتج السيد بينيت في ختام مقاله.. إنه ليس لدينا روائيون شباب، مهمون من الدرجة الأولى في الوقت الحاضر؛ لأنهم غير قادرين على خلق شخصيات واقعية وحقيقية ومقنعة.

هذه هي المسائل التي أريد أنْ أناقشها، وأريد أنْ أبرهن، ماذا تعني حينما نتحدث عن (الشخصية) في الرواية. لنذكر شيئا ما عن السؤال الذي أثاره السيد بينيت عن الواقعية، ولنقدِّم بعض الأسباب عن إخفاق الروائيين الشباب في ابداع الشخصيات الروائية، فإذا هم كما يؤكد السيد بينيت فشلوا حقيقة في هذه المهمة، وهذا سيقودني، وأنا واثقة من ذلك إلى بعض المسوحات والتأكيدات الغامضة جدا، ذلك أنَّ السؤال غاية في الصعوبة. ألا تتفقون معي أننا لا نعرف إلاّ النزر اليسير عن الشخصية، ومعلوماتنا تقتصر على الشيء القليل من الفن؟ ولكن، لا بد لي من أنْ أكون واضحة قبل أن أشرع بالإجابة، هو أنْ نصنف الكتّاب الادوارديين (3) والكتاب الجورجيين (4) إلى مخْيميْن، وسأطلق على السيد ويلز والسيد بينيت والسيد غالزوورثي مخيم (الإدوارديين) والسادة، فورستر ولورنس وستراشي وجويس واليوت مخيم (الجورجيين) . فإن تحدثت باسم ضمير المتكلم المفرد الأول وبذاتية ربما لا تطاق، فإنني استميحكم مقدما العذر، فأنا لا أريد أن أعزو إلى نفسي عالم الآراء الانعزالية، والفردية المضللة والسرد المريض.

فتأكيدي الأول، هو أحد التأكيدات التي اعتقد أنكم ستخولونني إياها – إنَّ كل شخص كما افترض هو محلل في هذه القاعة، وفي الواقع، سيكون من المستحيل أنْ تمر سنة دون أن تلّم بنا كارثة، ولا يمكن مواجهتها ما لم يمارس المرء قراءة الشخصية، ويمتلك شيئا من المهارة في الفن، فعلاقاتنا الزوجية وصداقتنا تعتمد عليها، وشؤون عملنا ترتكز عليها بقدر أو آخر، وفي كل يوم يمر تثار أسئلة لا يمكن حلها إلا بقدرتنا على تحليل الشخصية. أخاطر بالتأكيد الثاني، وخاصة عندما نشير إلى العام 1910، الذي ترك بصماته وتأثيراته على الشخصية.

وهنا، لا ادعي أن التغير يحدث سريعا، مثلما يخرج شخص إلى حديقة ويشاهد هناك أن زهرة جديدة قد تفتحت، وأن دجاجة قد وضعت بيضة، فالتغير لا يأتي فجأة ومحددا بهذه الطريقة، بيد أنَّ التغير حاصل رغم ذلك، ومهما كان الإنسان تعسفيا في آرائه. فدعونا نضع تاريخا للتغير للعام 1910، (5). فعلاماته الأولى، مدونة في مؤلفات صاموئيل بتلر، كتابه، طريقة الجنس البشري، واستمرت مسرحيات جورج  برنادشو  تشير إليه.. من هنا نستطيع أن نلاحظ وتيرة التغير في مسار الحياة . فلنأخذ مثالا مألوفا لدينا نحن الانجليز، عن شخصية الطباخ في العهدين الفيكتوري والجورجي، فالطباخ في العهد الفيكتوري عاش شبيها بالوحش البحري الشرير في الأعماق السفلى، فهو كائن مرعب، وصامت، وغامض، ومحاط بالألغاز، في حين أنَّ الطباخ في العهد الجورجي مخلوق لشروق الشمس، والهواء الطلق في داخل وخارج قاعة الاستقبال.

وثمة مثال آخر، دعونا نلتمس من الديلي هيرالد، أنْ تقدم لنا نصيحة لشراء قبعة، فهل نطلب منها تفاصيل وافية عن تاريخ السلالة البشرية وسلطتها وتغيرها؟!! اقرأ اغا ممنون، Agamemnon، ولاحظ إنْ كانت مشاركتك الوجدانية في عملية الزمن في الغالب لا تتطابق مع كليتمنسترا Clytemnestra، أو تأمل الحياة الزوجية لكارليل، والنواح على الخراب، واللاجدوى (له او لها)، هو العرف المحلي المرعب الذي يجعل من ذلك شيئا ملائما للمرأة العبقرية في أنْ تمضي وقتها في مطاردة الخنافس، والبحث عن الفضلات في القدور بدلا من تأليف الكتب! فقد تغيرت جميع العلاقات الإنسانية – تلك التي بين السادة والعبيد، والأزواج والزوجات، والآباء والأبناء.

من المنطقي، حينما يعتري العلاقات الإنسانية تغيرا، فلا بد أن يحدث تغيرا في الدين، والسلوك، والسياسة والأدب. دعونا نتفق على المتغيرات في العام 1910 .

وقد ذكرت أنه يتطلب من الناس قدرا جيدا من المهارة، لقراءة الشخصية لمواجهة أية نكبة قد تواجههم، وقراءة الشخصية هو فن الشباب. فقد استخدم هذا الفن في العصر الوسيط والعصر القديم، وكان من النادر أنْ تخلق الصداقات والمغامرات الأخرى، والتجارب في فن قراءة الشخصية، ولكن، الروائيين يتمايزون عن بقية الناس، لأنهم لا يتوقفون عند الاستمتاع في تحليل الشخصية ذاتها.. وحين تكون جميع الأعمال العملية في الحياة قد أفرغت من مضامينها، فإنَّ ثمة شيئا ما يستمر حول الناس؛ يبدو لهم ذا أهمية غامرة بالرغم من الحقيقة أنْ ليس هناك قدرة على الاحتمال. مهما كانت أهميتها، لها تأثير على سعادتهم وراحتهم، وربما على دخلهم، وأمست دراسة الشخصية بالنسبة لهم مطاردة شيقة، ليضفوا عليها نوعا من التسلط الفكري.. وقد وجدنا هنا، من الصعوبة بمكان، أن نوضح، ماذا يعني الروائيون عندما يتحدثون عن الشخصية؟ وما هو الدافع الذي يحثهم بقوة بين مدة وأخرى ليجسدوا رؤيتهم في العمل الإبداعي؟

وهكذا، فلو سمحتم لي، أنْ اسرد عليكم بدلا من هذا التحليل والتجريد، قصة بسيطة، هي على كل حال، لا تحتوي على ثيمة، بيد أنها جديرة، أن تكون حقيقية. وهي عبارة عن رحلة ريجموند إلى واترلو، على أمل أن أريكم ماذا أعني بالشخصية ذاتها.. وبالتالي بإمكانكم أن تدركوا المظاهر المختلفة التي يمكن أنْ تتلبسها الشخصية، والخطر الشنيع الذي يحدق بكم مباشرة، سأحاول أن أصفها لكم ..

موعد مع السفر..

في إحدى الليالي، قبل أسابيع مضت، كنت على موعد مع السفر ، بيد أنني تأخرت بعض الشيء، عن موعد القطار، وعند وصولي المحطة، قفزت إلى أول عربة واجهتني، وعند جلوسي انتابتني مشاعر غريبة، وغير مريحة في الوقت ذاته، ذلك أنني قطعت حديثا كان يجري بين شخصين كانا جالسين في العربة، وكانا كلاهما متقدمان في العمر، فالمرأة تجاوزت الستين والرجل فوق الأربعين، وكانا متقابلين في جلستهما، كان الرجل يتكلم بثقة، كان ذلك يبدو ومن خلال جلسته، ومن خلال الضوء الذي ارتسم على وجهه، لاذ بالصمت، ويبدو أنني سببت له إزعاجا. فضلا عن مضايقتي إياه . أما السيدة العجوز التي سأطلق عليها، على كل حال، اسم السيدة براون، كانت تبدو إلى حد ما، مرتاحة، وكانت واحدة من السيدات اللائي يتمايزن بالنظافة، برغم الملبس الرث – فكل شيء مزرر، ومربوط بإحكام، ومرتب، ومصقول، لكنها توحي بالفقر أكثر مما توحي أسمالها، وثمة شيء ما يبدو يضايقها – نظرة المعاناة والخوف من شيء مرتقب، كانت ضئيلة البنية جدا، وكان قدماها في جزمتها الصغيرة النظيفة، نادرا ما تمسان الأرض، وشعرت بأن لا أحد يريد إنقاذها، وعليها أن تفكر بطريقة ما للخلاص من هذا الوضع الحرج.

ويبدو أنها هجرت أو تركت أرملة منذ سنوات مضت، ويبدو أنها تعيش حياة يشوبها الترقب والإنهاك، ربما كان ذلك ناتجا عن معاناتها من تربية وليدها الوحيد، أو من المحتمل أنه في هذا الوقت يسيء التصرف.. كل هذا انثال في ذهني بسرعة وأنا جالسة، وانتابني شعور بعدم الارتياح، مثل بقية الناس الذين هم في سفر مع زملائهم المسافرين، واحسب لهم حسابا آخر، بطريقة أو بأخرى، بعد ذلك، تطلعت إلى ذلك الرجل، لم تكن له علاقة مع السيدة براون، وأنا متأكدة من ذلك تماما، أنه ضخم البنية، ومن النموذج الذي يعوزه التهذيب، واستطيع أن أتخيل أنه من رجال الأعمال، ومن المحتمل جدا، أن يكون بائع قمح قادما من الشمال، يرتدي نسيجا صوفيا ازرق جيدا، يحتوي على جيب سكين، وقد وضع منديلا حريريا في جيب صدره، ويحمل حقيبة جلد كبيرة.

ومن الواضح، على كل حال، إنه ارتكب عملا غير سار ويريد أن يضع حلا مع السيدة براون، عملا سريا، ربما عملا فاسدا، لا ينويان مناقشته في حضوري. قال السيد سمث “كما سأسميه” “إن الكروفتيين (6) سيئوا الحظ مع خدمهم”.. قال ذلك، بطريقة توحي بالاحترام عائدا إلى الموضوع الرئيس بقصد التمويه والحفاظ على المظاهر. ردت السيدة براون “آه، يالها من إنسانة مسكينة “.. قالت العبارة بطريقة تظهر تفوقا تافها، ثم أردفت “كان لجدتي خادمة، جاءت عندما كانت في الخامسة عشرة، وبقيت معها حتى الثمانين” قالت ذلك، بشفقة مشوبة بألم، واعتداد عدائي، ربما بدافع التأثير علينا. قال السيد سمث بنبرة توفيقية “إن المرء لا يلتقي أحيانا بهذا البشر في هذه الأيام”، ثم لاذ بالصمت لمدة وجيزة، بعدها أردف، ويبدو أن الصمت لم يبعث في داخله الارتياح . “إنه من الغريب، أنهم لم يبدأوا بعد تأسيس ناد للغولف – واعتقد أن أحد الزملاء الشباب سيقوم بذلك”.

ولم تأخذ السيدة براون المشكلة محمل الجد، لذا لم تكلف نفسها بالإجابة. قال السيد سمث، وهو يتطلع إلى النافذة ويختلس النظر إلي كما يفعل دوما “ما هي التغيرات التي يقومون بها في هذا الجزء من العالم ؟”

يبدو جليا من صمت السيدة براون، ومن الدماثة غير المحببة التي تحدث بها السيد سمث أن له تأثيرا عليها من خلال الجهد الذي بذله من أجل ذلك. ربما كان بسبب ابنتها، ولربما كانت ذاهبة إلى لندن لتوقيع بعض الوثائق لتحويل ملكية عقار، ومن الواضح، أنها وقعت في براثن السيد سمث ضد رغبتها.. وبدأت أشعر بتعاطف كبير إزاءها، حينما قالت فجأة وبطريقة لا صلة لها بالموضوع وبصوت نير وإلى حد ما دقيق، وبطريقة مهذبة يشوبها الفضول، “هل بالإمكان أن تحدثني إن كانت أوراق شجرة البلوط تموت عندما تبدأ الدودة الجرارة بأكلها على مدى سنتين متتاليتين “.

جفل السيد سمث، لكنه تنفس الصعداء، ليتناول موضوعا لا ينطوي على مخاطر عن السؤال الذي وجهته إليه، أخبرها بسرعة عن وباء الحشرات، وقال، أن له شقيقا كان يمتلك مزرعة فواكه في منطقة كينت. وأخبرها أيضا عن عمل المزارعين الذين يأتون إلى في كل سنة إلى هذه المنطقة. وهكذا، وهكذا، وعندما تحدث إليها عن شيء غريب حدث هناك، تناولت السيدة براون منديلا صغيرا أبيض، وبدأت تمسح عينيها، كانت تبكي، بيد أنها استمرت في الإصغاء برباطة جأش لما يقوله سمث، استمر يتحدث بصوت مرتفع قليلا، تتخلله نبرات غضب، كما لو أنه كان فعلا قد شاهدها من قبل تبكي، وكما لو أنها كانت مادة مؤلمة، وفي النهاية أثارت عصبيته، توقف حالا، تطلع إلى النافذة، ثم مال باتجاهها، وبينما هو كذلك، فسحت مجالا، وهددته متوعدة أن يكف عن هذا الحديث، عن هذا الهراء.

قالت السيدة براون وهي تجمع نفسها وتوحي تعبيراتها بكرامة فائقة: “سبق أن كنا نتناقش في هذا الموضوع. ومن الأفضل ألا أتأخر أكثر لأن جورج سيكون هناك يوم الثلاثاء القادم”.

لم ينبس سمث ببنت شفة، نهض زرر معطفه، تناول حقيبته، وقفز من عربة القطار، قبل أن يتوقف في محطة كأفلام جنكشن، وقد نال ما أراد، ولكنه أحس بالخجل من نفسه. مع أنه بدأ عليه السرور وهو يغادر مشهد السيدة براون.

بقينا أنا والسيدة براون حسب؛ جلست هي في زاويتها المقابلة، جد أنيقة، جد ضئيلة، غريبة إلى حد ما، تعاني الكثير، مما تركت لدي انطباعا غامرا، جاءني متدفقا مثل تيار، مثل رائحة حريق، كيف تكوَن ذلك الانطباع الخاص، وذلك التيار الغامر؟! إنهما يتألفان من أفكار وعناصر لا تعد ولا تحصى، متناثرة وغير مترابطة، وأخرى منسجمة مع بعضها، تزدحم في رأس الإنسان في مثل هذه المناسبات، فأنت تشاهد إنسانا ما، والآخر يشاهد السيدة براون في مركز جميع المشاهد المتباينة.. تخيلتها وهي تسكن في دار على شاطئ البحر، تحيطها زخارف غير مألوفة، وقنافذ بحرية، ونماذج من السفن موضوعة في صناديق زجاجية، وأوسمة زوجها معلقة فوق رف الموقد الحجري. وهي تدخل الغرفة ثم تخرج منها تتكئ على حافات الكراسي، تلتقط بعض الطعام من الأواني القريبة منها، وتطلق العنان لتحديقات طويلة وصامتة في الفضاء، بدت تتأمل الدودة الجرارة، وشجرة البلوط التي تحتوي على جميع هذه الأشياء، وفي خضم هذه الحياة الخيالية المنعزلة، رأيت السيد سمث يتهاوى في مهب الريح في يوم عاصف مطير، وهو يتكلم ويضرب ويصفق بمظلته الأرض، مما أدى إلى خلق بركة من الماء وسط الغرفة وقد جلسا مختليين معا..

بعد ذلك، واجهت السيدة براون إلهاما مرعبا، فقد اتخذت قرارها البطولي، في وقت مبكر من الفجر، حزمت حقيبتها وحملتها بنفسها إلى المحطة ولن تدع السيد سمث يمسسها، فقد أحست أن كبرياءها قد جرحت وتحرر مركبها من مرساة المرفأ، ووصلت إلى مرتبة الأشراف الذين يملكون الخدم – ولكن لا بد من انتظار التفاصيل، وما يهمنا هو أن نبدأ بفهم شخصيتها والغور في قاع محيطها؛ بيد أنه ليس ثمة وقت كاف لأوضح أن ثمة إحساسا قد غمرني، إن تلك الشخصية كانت إلى حد ما، تراجيدية، وبطولية، وقذفت بالطيش والفنتازيا جانبا قبل أن يتوقف القطار. راقبتها وهي تختفي وهي تحمل حقيبتها، دخلت في وهج المحطة الهائل، بدت صغيرة ومتضائلة، وبطولية، ولم أرها ثانية، ولم أعرف ماذا حل بها..

من ريجموند إلى واترلو..

القصة تنتهي دون أي موضوع يشير إليها، بيد أنني لم أخبركم، أنّ هذه الحكاية توضح إما براعتي أو سعادتي في السفر من ريجموند إلى واترلو. أريدكم أن تلاحظوا مايلي: هنا شخصية اسمها السيدة براون فرضت نفسها على شخص آخر، كي توحي للكاتب أوتوماتيكيا في الأغلب أن يكتب رواية عنها . واعتقد أن جميع الروائيين، لنقل هكذا، يتعاملون مع الشخصية ليعبِّروا عنها – ولا يعظون تعاليم أو يؤدون أغانٍ، أو يحتفلون بأمجاد الإمبراطورية البريطانية. هذا النوع من الروايات هو ثقيل جدا، ومطنب، ولا دراماتيكي؛ رغم إنه ثر، ومرن، وحيوي، للتعبير عن الشخصية، وكما قلت، إنكم ستبقون تتأملون مليا، إن ذلك التأويل الواسع جدا، يمكن أن تحتال عليه الكلمات، فعلى سبيل المثال، إن شخصية السيدة براون ستدهشكم بطريقة مختلفة جدا طبقا للعمر، والبلد الذي ولدتم فيه.

ومن السهولة بمكان، أن تكتب ثلاث روايات متمايزة للحادثة التي وقعت في القطار، رواية انجليزية، ورواية فرنسية، وأخرى روسية. فالكاتب الانجليزي سيحول السيدة براون إلى شخصية انجليزية، وسيُظهر غرائبها، وأخلاقياتها، وازرّتها، وتجاعيدها، وأوسمتها وثآليلها، وستسود شخصيتها في الرواية . أما الكاتب الفرنسي، سيزيل كل هذه الصفات، وسيضحي بفردية السيدة براون ليعطي فكرة عامة عن الطبيعة الإنسانية، ليجعل من ذلك أكثر تجريدا وتناسبا. وسينفذ الكاتب الروسي إلى السيدة براون من خلال جلدها، وسيظهر لنا روحها – الروح فقط ، متجولا في واترلو ليطرح تساؤلا كبيرا عن الحياة سيبقى يرن ويرن في آذاننا حتى نهاية الرواية، فضلا عن العمر، ثمة مزاجية الكاتب التي يجب أن تؤخذ بنظر الاعتبار. فأنت ترى في الشخصية شيئا وأنا أرى شيئا آخر. أنت تقول تعني كذا، وأنا أقول تعني كذا ، وحين يحين مخاض الكتابة، فكل واحد منا يختار ما يناسبه وانسجاما مع مبادئه. وهكذا، بالإمكان أن تتعامل مع السيدة براون في تنوع مطلق من الأساليب؛ طبقا للعمر والبلد ومزاج المؤلف.

والآن يجب أنْ نستحضر قول السيد ارنولد بينيت، حيث يقول: “إذا كانت الشخصية واقعية فقط، فإن الرواية لها نصيب في البقاء على قيد الحياة؛ وبعكسه، فموتها حتمي. ولكن دعونا نطرح هذا السؤال على أنفسنا، ما هي الواقعية؟ ومن الذي يحكم عليها؟ فالشخصية يمكن أن تكون واقعية من وجهة نظر السيد بينيت، ولا واقعية من وجهة نظري تماما. فعلى سبيل المثال، يقول، في شرلوك هولمز هو شخصية واقعية تعلقا بي. أما أنّا فأرى د. واتسون هو عبارة عن كيس محشي بالقش، أبكم ومثير للسخرية. وهكذا، مع بقية الشخصيات الأخر، وبقية الروايات واحدة بعد الأخرى، ولا شيء يثير جدلا أكثر مثل الواقعية في الشخصية المعاصرة، فإذا وسّعنا المشهد أكثر، فأعتقد أن السيد بينيت كان صائبا تماما.

ومن هذا المنطلق، المشهد، بإمكاننا أن نفكر بروايات قد تبدو لنا عظيمة، مثل الحرب والسلام، وتدسترام وشاندي، وعمدة كاستر بريدج الخ.. وإن تأملتم هذه الروايات فإنكم لا تفكرون فجأة في شخصية محددة، قد تبدو لكم واقعية، “ولا أعني بذلك الحياة الواقعية”  ذلك أنها، أي الشخصية تمتلك القوة لتجعلك تفكر أيضا بقوة ليس فيها حسب؛ بل في كل أنواع الأشياء من خلال عينيها – في الدين، والحب، والسلام، والحرب، والحياة الأسرية، والعاب الكرة في مقاطعات البلدان، وشروق الشمس، وبزوغ القمر، وخلود الروح. وقلما نجد موضوعا عن التجربة الإنسانية لم تتناوله رواية (الحرب والسلام ) .

وإن جميع الروايات هذه وجميع أولئك الروائيين العظام طلبوا منا أن نرى ما كانوا يظهرونه من خلال الشخصية؛ وإلا لما كانوا روائيين، بل مجرد شعراء ومؤرخين أو كتّاب كراسات.

ولكن دعونا نتمحص . ما يريده السيد بينيت هو الاستمرار في حديثه. فقد ذكر أنه لا يوجد روائي عظيم بين الكتَاب الجورجيين، لماذا؟ لأنهم لا يستطيعون خلق شخصيات واقعية، وحقيقية، ومقنعة. وهنا، لا اتفق معه. إذ ثمة أسباب ومبررات وإمكانات تجعلني أفكر في أنْ أضع طيفا على القضية؛ وتبدو لي هكذا على الأقل، بيد أنني أدرك جيدا، أنّ هذه القضية التي من المحتمل أن أكون فيها متحيزة، ومتفائلة، أو قصيرة النظر. وسأضع وجهة نظري هذه أمامكم على أمل أنكم ترون فيها النزاهة والشرعية والعقل الحصيف..

وهنا، نتساءل، هل من الصعوبة بمكان تعلقا بالروائي في هذا العصر، أن يخلق شخصية تبدو واقعية ليس تعلقا ببينيت حسب، ولكن على نطاق العالم اجمع؟ بيد أنًّ ثمة سؤالا، لا بد أن يطرح نفسه، لماذا اخفق الناشرون تزويدنا برائعة أدبية منذ العام 1910؟ للإجابة على ذلك، هناك سبب واحد، هو أن الروائيين والروائيات الذين استلهموا كتابة الرواية من العام 1910، أو قريبا من هذا التاريخ، كانوا يواجهون مشكلة عويصة – ذلك لأنه ليس ثمة روائي انجليزي في استطاع الإفادة من تجربته الروائية باستثناء السيد كونراد قطبي الأرضين، بالرغم من أنه كان رائعا ، لكنه لم يكتب. أما السيد هاردي لم يكتب أية رواية منذ العام 1895، وكان أغلب الروائيين البارزين والذين حققوا نجاحا يذكر منذ العام 1910، هم، كما افترض ويلز، والسيد بينيت، والسيد غالزوورثي، والآن، يبدو لي الموضوع، كما لو أنك تذهب إلى هؤلاء الرجال وتطلب منهم أن يعلمونك كيف تكتب رواية – وكيف تبدع شخصيات واقعية – وعلى وجه الدقة، كما لو انك تذهب إلى اسكافي وتطلب منه أن يعلمك كيف تصنع ساعة؟ وهنا، لا أريد أن أعطيكم انطباعا أنني لا أعجب أو استمتع برواياتهم – فهم يبدون لي ذا فائدة عظيمة، فضلا عن أنهم سيشكلون ضرورة كبيرة بالنسبة لي، وهناك فصول من السنة تكون أكثر أهمية في أن نصنع فيها أحذية بدلا من صنع ساعات.

دعونا نسقط هذه الاستعارة، ذلك أنه بعد النشاط الإبداعي في العصر الفكتوري، اعتقد من الضروري جدا، أنًّ على الإنسان أنْ يؤلف أو يعيد تأليف الكتب التي ألفها ويلز وبينيت وغالزوورثي، ليس في الأدب حسب؛ وإنما في الكتب التي تتناول مختلف مسارات الحياة، وأتساءل مرة أخرى، ما هذه الكتب الغريبة؟! إن كنا صائبين أن نسميها كتبا؛ إذ ثمة شعور غريب ينتابني أن هذه الكتب لا تسد حاجة القارئ أو جوعه، وهي غير مقنعة.

ولكن قد تم كل شيء. وطبعت الكتب ولا يمكن إلا أن نضعها على الرف، ولا نحتاج إلى قراءتها مرة ثانية.. وهكذا، فان كل شيء كان في داخل الكتاب ولا شيء خارجه، بيد أن الادوارديين كانوا على العكس من ذلك، لا يستمتعون في الشخصية أو في الكتاب، بل يستمتعون بشيء خارج الكتاب. ولهذا، فإن كتبهم أو رواياتهم تعد كتبا ناقصة، وفي هذه الحالة، يتطلب من القارئ أن يبذل جهدا عمليا وحيويا لانجاز هذه الروايات.

وربما، نقدم صورة أوضح، أن أخذنا حريتنا في تخيل حفلة صغيرة في عربة قطار السيدة العجوز براون – فالسادة ويلز وغالزوورثي وبينيت هم مسافرون إلى واترلو مع تلك العجوز، وقد سبق لي أن ذكرت أن هذه السيدة كانت رثة الثياب إلى حد ما، وضئيلة الجسم، وتمتلك نظرات متلهفة ومنهكة. وقد انتابني شك، حينما أطلقتم عليها صفة امرأة متعلمة، وربما سأكون غير منصفة عندما لا أعير أهمية للتعليم المدرسي، ولكن لا استطيع إلا أن أكون غير ذلك..

حسنا، سيعرض السيد ويلز من خلال لوح زجاج نافذة القطار رؤية لعالم أفضل وأروع وأسعد وأيسر وأكثر مخاطرة وعملقة. من خلال عربات قديمة في إحداها امرأة عجوز محافظة، في وقت تجلب البوارج العملاقة الفواكه الموسمية من كامبرويل في الساعة الثامنة صباح كل يوم، وحيث مشاتل الأزهار العامة منتشرة، والنافورات والمكتبات في كل زاوية، وبيوت فيها غرف استقبال وغرف طعام، وتقام حفلات الزواج، والمواطن الانجليزي كريم ونزيه وشهم ومعتد بنفسه؛ والى حد ما شبيه بالسيد ويلز، ولكن لا أحد يشبه السيدة براون، وليس ثمة سيدات بهذا الاسم في عالم اليوتوبيا. وفي الحقيقة، لا اعتقد أن السيد ويلز يريد أن يجعل من عاطفته ما ينبغي أن تكون عليه السيدة براون، ولكن من جهة أخرى، ماذا يرى السيد السيد غالزوورثي؟ هل نستطيع أن نشك أن جدران مصنع دولتون تستقبل تصوره؟ ففي هذا المصنع ثمة نساء يصنعن خمسا وعشرين دزينة من الخزف في كل يوم، وثمة أمهات في مايل ايند وود يعتمدن في رزقهن على ربع ما تكسبه تلك النساء. ولكن، هناك في المقابل أصحاب عمل في سوري يدخلون السيجار الفاخر على أنغام صوت العندليب  ويمورون سخطا ورؤوسهم محشوة بالمعلومات التافهة، فضلا عن عدم رضاهم عن الحضارة.

ويرى السيد غالزوورثي في السيدة براون مجرد إناء خزف مكسور مقذوف على عجلة عربة في إحدى الزوايا المهملة، بيد أن السيد بينيت هو الكاتب الوحيد في العهد الادواردي الذي يحافظ على نظرته في عربة القطار. وفي الواقع، إنه سيراقب كل التفاصيل باعتناء دقيق، بما فيها الإعلانات وصور سواناج وبورتسموث وانتفاخ تنجيد جلود المقاعد وتقطع أزرتها . وسيلاحظ كيف أن السيدة براون تضع دبوس الزينة الذي اشترته بثمن بخس من وتوورث وقد عدلت من قفازيها . ويبدو أن إبهام قفاز اليد اليسرى قد وضع خطأ في إبهام قفاز اليد اليمنى، ولن يفوته على مسافة سير القطار دون التوقف من وندسور إلى ريجموند، هو ملائم لمواطني الطبقة الوسطى الذين بإمكانهم ارتياد المسارح دون أن ترهقهم النفقات.

بيد أنهم لم يصلوا المرتبة الاجتماعية التي تؤهلهم شراء سيارة. لكنهم بإمكانهم الذهاب لحضور بعض المناسبات بوساطة استئجار السيارات وهكذا، سيمشي السيد غالزوورثي برصانة اتجاه السيدة براون ليقدم لنا؛ أو ليقول، أن السيدة براون قد تركت أرضا هي ملكا صرفا (copyhold (7، وأخرى إقطاعية ملزمة (freehold (8، وثروة في داتشيت مرهونة باسم السيد بنغيه المحامي.

ولكن، لماذا عليَ أن استأنف التلفيق ضد السيد بينيت؟ هل انه لم يكتب روايات بنفسه؟ إن السيد بينيت لم ينظر بكل قوة ملاحظاته المدهشة وعاطفته وإنسانيته العظيمة إلى السيدة براون في زاويتها ولو مرة واحدة – فهي تجلس هناك في زاوية العربة التي كانت مسافرة ليس من ريجموند إلى واترلو، ولكن من عصر الأدب الانجليزي إلى عصر آخر، لهذا، فإن السيدة براون تتغير فقط على السطح، وليس ثمة أحد من الكتاب الادوارديين قد نظر إليها كثيرا . فهم نظروا نظرة قوية ومتفحصة وعاطفية من خلال النافذة إلى المصانع واليوتبيات، وحتى إلى زينة تنجيد أثاث العربة، ولكن ليس إلى السيدة براون، ولا إلى الحياة، أو إلى الطبيعة الإنسانية. وعلى هذا فهم قد طوروا تقنية كتابة الرواية التي تلاءم أغراضهم، ولكن تلك الأساليب (الأدوات) لم تكن أساليبنا، وتلك لم تكن أعمالنا. وإن تلك التقاليد والأساليب  تعلقا بنا هي بقايا آثار عفا عليها الزمن حسب.

وهنا، ربما تشكون من غموض لغتي، وربما تتساءلون ما هي التقاليد؟ وما هي الأساليب؟ وماذا تعنين بقولك أن تقاليد السيد بينيت والسيد ويلز والسيد غالزوورثي هي تقاليد خاطئة من وجهة نظر الجورجيين؟ ويبدو أن السؤال غاية في الصعوبة، ذلك أن التقاليد في الكتابة لا تختلف كثيرا عن التقاليد في الأخلاق . فكلاهما ضروريان في الحياة والأدب. ولا بد لنا من بعض الوسائل لتجسير الثغرة بين الكاتب وقارئة المجهول. فالكاتب على وفق هذه الأساليب يجب أن يكون في تماس مع قارئه من خلال شيء ما أمامه يعرفه ويحفز مخياله ويخلق لديه الرغبة في التعاون في أعمال أكثر صعوبة وحميمية .

ومن الأهمية بمكان أن هذا اللقاء العام بينهما يجب أن يصل بسهولة وبطريقة عفوية، كما لو أن الكاتب يسير في الظلام ويستخدم في الوقت ذاته عينا واحدة في تلمس الأشياء، وهنا، يستخدم السيد بينيت هذه الأرضية المشتركة بين المؤلف والمتلقي. والآن لو تسمحون لي، أن أمزق حكايتي هذه إلى مزق صغيرة، وسترون كيف أنني اشعر بحماس لحاجتي إلى التقليد، وكم يبدو أن الموضوع جاد حينما تكون أدوات أحد الأجيال عديمة الفائدة للجيل التالي. فالحادثة حفرت في ذاكرتي انطباعا حادا، ولكن كيف انقله لكم؟ كل ما استطيع فعله هو أن أكتب بدقة قدر الاستطاعة لأصف بالتفصيل ما قد ارتدت السيدة براون من زي، ولأقول أن جميع تلك المشاهد انثالت في ذهني لمتابعة تخبط الروائيين، ولأصف هذه الحيوية، وهذا الانطباع الغامر الشبيه بالتيار المتدفق، أو رائحة الحريق، ولا أكتمكم إذا قلت أنني أغريت بقوة لفبركة رواية من ثلاثة أجزاء عن ابن السيدة العجوز، ومغامراته عبر المحيط الأطلسي، وابنتها وكيف حافظت على محل صنع قبعات النساء في ويستمنستر، والحياة الماضية لسمث ذاته، ومنزله في شيفيلد، رغم أن هذه القصص تبدو أكثر جفافا، وغير مترابطة، فضلا على احتوائها قضايا احتيال في العالم؟

ولكنني، إذا أنجزت ذلك فلا بد لي من الهروب من الجهد المروع من قول ما أعنيه، ولكي أدرك ما عنيته، فعلي العودة إلى الخلف، ثم الخلف، ثم الخلف. ولأجرب هذه الجملة أو تلك، وهذه الفقرة أو تلك، والرجوع إلى مصدر كل كلمة من خلال رؤيتي، وأجعل لها مرادفا دقيقا قدر الإمكان. ومعرفة ذلك بطريقة أو أخرى، فإنه من الضروري إيجاد أرضية مشتركة بيننا، وتقليد أدبي لا يبدو لكم غريبا جدا أو غير واقعي، أو تصديقه بعيد الاحتمال، واعترف أنني تجنبت هذا التعهد الشاق. وجعلت سيدتي براون تنزلق من بين أصابعي ولم أخبركم عنها أي شيء.

بيد أن هذا كان خطأ الادوارديين الكبير إلى حد ما، وسألتهم بوصفهم الأدباء الكبار والأفضل – كيف ابدأ في وصف هذه الشخصية؟ قالوا: ابدئي بالقول، أن والدها مثلا، يمتلك محلا في هيروغريت للرقابة على استيفاء الإيجارات، ورواتب عمال المحل في عام 1878، وأنك اكتشفت سبب وفاة أمها، وصفي مرض السرطان الذي توفيت بسببه، وصفي القماش القطني. واكتشفي.. ” بيد أنني صرخت: كفى! كفى!” وقد شعرت بالندم أن أقول أنني قد رميت تلك الأداة القبيحة، والفظة، والمنفرة، من خارج النافذة، لأنني أدركت أن أنا وضعت السرطان والقماش القطني، فإن سيدتي براون تلك الرؤية التي أتشبث بها لا أعرف كيف أصورها لكم؟ وسأكون على هذا الأساس متبلدة الإحساس، ومتبددة، ومتلاشية للأبد.

هذا ما أعنيه بالقول، أن أدوات الادوارديين غير صالحة لنا في استخدامها، لأنهم ركزوا بقوة على فبركة الأشياء وأعطونا دارا على أمل أن تكون لدينا القدرة على تمييز الناس الذين يسكنون فيها، ولنمنحهم استحقاقهم، كما جعلوا من تلك الدار أفضل سكن يمكن العيش فيه. فإذا كنتم تعتقدون أن تلك الروايات هي تعبير عن مشاعر الناس بالدرجة الأساس، وثانيا، عن المساكن التي تسكنون، فهذه بداية خاطئة – وعلى هذا، كما ترون، أن الكاتب الجورجي وجب عليه أن يتخلى عن ذلك النهج في الكتابة الذي كان يستخدم في ذلك العصر. قد ترك هناك وحيدا في مواجهة السيدة براون دون أي منهج لإيصاله إلى المتلقي، بيد أن هذا ليس دقيقا، فالكاتب ليس وحيدا، فثمة أناس معه، فإذا لم يكونوا على المقعد في عربة القطار أو غيرها، ففي الأقل هم في الشقة المجاورة له. أما الجمهور فهو رفيق سفر غريب؛ فهو في انجلترا مخلوق لديه رغبة في التعلم ومثير جدا. فإن قلت له بلغة مقنعة تماما: “إن جميع النساء لهن ذيول وأن جميع الرجال لهم سنامات”. سيفكر فيما قلته، وربما لا نحتاج أن نقول له “هذا هراء! القرود هي التي لها ذيول والجمال هي التي لها سنامات.. ولكن النساء والرجال يملكون عقولا وعندهم قلوب. وهم يفكرون ويشعرون.”وهذا يبدو نكتة سمجة غير مناسبة للوصول إلى إقناع.

ولنعد للموضوع، هنا جمهور انجليزي جالس إلى جانب الكاتب، ويقول بطريقة جمعية واسعة أن العجائز يمتلكن منازب، ولهن آباء، وعندهن موارد مالية، ويمتلكن خدما، ويواجهن مأزقا، وبهذه الطريقة نعرف أنهن عجائز. فقد علمنا السادة، ويلز وبينيت وغالزوورثي أن نميزهن بهذه الطريقة، ولكن كيف نتعامل مع سيدتك براون، كيف نصدقك؟ فإن كانت الفيلا التي تمتلكها تسمى البرت، أو بالمورين، وكم دفعت ثمنا لقفازيها؟ أو كانت أمها توفيت بمرض السرطان، أو بذات الرئة، وكيف تعيش؟ كلا، إن الأمر تلفيق من بنات خيالك حسب.

فالنسوة العجائز لكي يكونن عجائز، يجب أن يقترنن بما يملكن من فلل Freeholds ،أو عقار فلل Copyholds، وليس هنا ذلك الخيال حسب.

فالروائي الجورجي، على هذا الأساس، هو في مأزق صعب، ذلك أن السيدة براون كانت تحتج أنها كانت متميزة، واستطاعت أن تغري الروائي لإنقاذها بطريقة ساخرة، رغم أسلوب وميض سحرها الزائل. من جانب آخر، كان هناك الادوارديون الذين ينشرون رواياتهم بين البيوت الفارهة، وبيوت اللصوصية في آن واحد، فضلا عن الجمهور الانجليزي الذي يصر على أن يرى المأزق أولا في وقت كان القطار مندفعا باتجاه المحطة الأخيرة، حيث يجب على الجميع أن يهبط منه.

وهكذا، فأنا اعتقد أن المأزق الذي وجد الروائيون الجورجيون الشباب أنفسهم في خضمه حوالي العام 1910، أمثال، فورستر ولورنس بشكل خاص – وقد دمروا أعمالهم، لأنهم بدلا عن التخلي عن تلك الأساليب التي حاولوا استخدامها، وحاولوا أن يوفقوا، وحاولوا أيضا أن يربط إحساسهم المباشر بما فيه من غرابة ومغزى للشخصية – بمعرفته Factory Acts، ومعرفة بينيت للمدن الخمس Five Towns، نعم إنهم جربوا السيطرة، ولا بد لهم من القيام بعمل ما، ومهما كلف الثمن في الحياة كلا أو جزء لتدمير الثروة النفيسة، ويجب علينا أن ننقذ السيدة براون، وأن نعبر عنها وتنطلق في علاقاتها السامية مع العالم قبل أن يتوقف القطار، وتختفي للأبد. وهكذا، بدأ التحطم والتهشم، وهكذا، أيضا نسمع ما يدور حولنا في القصائد والروايات والسير الذاتية، وحتى مقالات الصحف وافتتاحياتها نسمع صوت التحطم والسقوط والتهشم والخراب.. إنه الصوت في العصر الجورجي – إنه الصوت القادم من الماضي.. فكروا في شكسبير وملتون وكيتس وحتى في جين اوستن وثاكري وديكنز في اللغة والسمو اللذين يحومان طليقان حينما يشاهدان العقاب نفسه حبيسا أصلع وناعبا..

في ضوء هذه الحقائق – مع تلك الأصوات التي ترن في أذني، وتلك المخيالات في رأسي– لا أريد أن أنكر أن السيد بينيت لديه سبب وجيه عندما يشكو من أن كتابنا الجورجيين غير قادرين على أن يجعلونا نؤمن أن شخصياتنا هي شخصيات واقعية، وأنا مرغمة أن أقول لهم أنهم لم ينتجوا ثلاث روائع أدبية خالدة في العهد الفكتوري في كل خريف، وبدل من أن أكون متشائمة، فإنني أشعر بالتفاؤل، وفي هذه الحالة، إنه من المحتم كما اعتقد سواء في العصر الجليدي أم في عهد الشباب الغر، سيتوقف النقد الأدبي عن كونه وسائل اتصال بين النص والمتلقي بل العكس من ذلك سيتحول إلى عائق أو معرقل بينهما. وفي عصرنا سنعاني من عدم وجود نظام أخلاقي يقبله القارئ أو الكاتب على حد سواء، كاستهلال لاتصال أكثر إثارة في العلاقة بينهما، والتقليد الأدبي للعصور هو مسألة تلطف ليس إلا – وفي هذه الحالة، من الطبيعي جدا، أن يؤدي الوهن إلى حالة من الغضب، والقوة إلى تخريب المؤسسات والقواعد في المجتمع الأدبي، وتبدو علامات ذلك ظاهرة في كل مكان، فقواعد اللغة منتهكة، والإعراب متحلل، تماما مثل صبي يقضي عطلة نهاية الأسبوع مع عمته فيروح يتدحرج بحرية في حقل زهور الجيرانيوم، نتيجة يأس مطلق أصابه. أما الكتاب الكبار فلا يفعلون ذلك. وبالطبع يطلقون عنانهم في مثل لهو الصبي في حقل الزهور، لأن إخلاصهم شديد، وشجاعتهم فائقة، لكنهم لا يعرفون متى يستخدمون أيديهم؟ وهكذا، إذا قرأت جويس واليوت فإنك ستصاب بالصدمة لبذاءة الأول وغموض الثاني، فبذاءة جويس في عوليس تبدو لي وعي وحسابات الرجل اليائس الذي يشعر كي يتنفس عليه أن يهشم زجاج النوافذ، وفي اللحظة التي تتهشم  فيها النوافذ ينتابه شعور بالعظمة، ولكن، أي تدمير للطاقة هذا؟! وبعد ذلك كم تبدو غبية تلك البذاءة، أما غموض اليوت فاعتقد أنه كتب أبياتا فاتنة في الشعر الحديث، ولكن، كم كان متعصبا للاستخدامات القديمة وأخلاقيات ذلك المجتمع، الذي يحترم الضعيف ويقدر البليد!

وهكذا، فقد جربت امتدادا مضجرا، وأخشى أن أجيب عن بعض الأسئلة التي شرعت بطرحها، وقدمت تعليلا لبعض الصعوبات التي هي من وجهة نظري تكتنف كل الصيغ الأدبية للكاتب الجورجي. وقد بحثت عن مسوغ أقدمه له، فهل انتهى إلى مغامرة ، لأذكر كم كانت مدهشة ورغم ذلك، فإنكم ستسمحون لهؤلاء الكتاب كي يقدمون نسخا من رواياتهم، وصورة للسيدة براون التي ليس لها شبه لكل ما يظهر من اندهاش، وتبدون في تواضعكم أن أولئك الكتاب يتباينون عنكم دما ولحما، ذلك أنهم يعرفون السيدة براون أفضل منكم، وهم معصومون عن الأخطاء . هذا هو الفاصل بين المتلقي والمؤلف، وهذا هو التواضع من جانبكم، وهذه هي أجواء الاحتراف والتمايز، وهذا هو فساد الكتب وعجزها التي من المفروض بها أن تكون عافية فصل الربيع، فصل التحالف والتقارب بيننا.

ودوركم هو أن تصروا على أن أولئك الكتاب سيهبطون إلى الدرك الأسفل من قاعدة التمثال، وتصفون بجمالية إن أمكن، وبواقعية السيدة براون على كل حال، وتصرون على أنها سيدة عجوز في مقدرتها اللامحدودة وامتلاكها تنوعا متعددا، ومقدرة على الظهور في أي مكان. وترتدي أي زي تشاء، وتقول ما تشاء، وتفعل أشياء لا تعلم بها إلا السماء.. بيد أن هذه الأشياء التي تقولها والأفعال التي تنجزها، وإن عينيها وأنفها وكلامها وصمتها كله سحر غامر، ولأنها بالطبع، الروح الذي نستنشق من خلاله الحياة، بل هي الحياة ذاتها.

ولكن، لا تتوقعوا في الوقت الحاضر، ظهور صورتها كاملة مقنعة وقادرة على تحمل التشنج والغموض والإخفاق. ومساعدتكم هو أن تستحضروا سببا وجيها. ولهذا، سأقوم بتنبؤ نهائي واندفاع مدهش – ذلك، أننا نرتعش على حافة أحد العصور العظيمة للأدب الانجليزي، ولكننا، فقط سنصل إلى ما نريد إذا صممنا ألا نهجر السيدة براون أبدا، أبدا..

—————–

1- ارنولد بينيت ناقد وروائي انجليزي والسيدة براون شخصية روائية مفترضة بدأت الكاتبة بتحليلها في هذه المحاضرة (المترجم).

2 ــ محاضرة ألقتها فرجينيا وولف في نادي هيرتكس في كمبردج (المترجم).

3 ــ نسبة إلى ادوارد السابع ملك بريطانيا وأيرلندة 1841ــ 1910 (المترجم).

4 ــ نسبة إلى جورج الخامس ملك بريطانيا العظمى 1865ــ 1936(المترجم).

5 ــ وهي السنة التي تولى فيها جورج الخامس عرش بريطانيا العظمى وحدثت في عهده الحربين العظميين الأولى والثانية (المترجم).

6 ــ هم أصحاب الحقول الصغيرة المقسمة بين المزارعين عن طريق الشراء والاستثمار, خاصة في اسكوتلنده (المترجم).

7 ــ التملك الصرف للعقار، فلل، بيوت، أراض (المترجم) .

8 ــ عقار التملك للأرض وفق شروط بائعها الأصلي..

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة