18 ديسمبر، 2024 11:02 م

السياسة الروسية وأمن الشرق الأوسط.. بين الإرهاب وإيران

السياسة الروسية وأمن الشرق الأوسط.. بين الإرهاب وإيران

إعداد/ د‮. ‬عزت‮ ‬سعد السيد‮
تعد مواجهة التطرف الديني من بين أهم محددات استراتيجية روسيا الخارجية في منطقة الشرق الأوسط، إن لم يكن أهمها علي الإطلاق. وقد تم تأكيد ذلك في العقيدة العسكرية الروسية الجديدة التي أقرت في 26 ديسمبر 2014، حيث وردت مسألة محاربة التطرف الديني في المرتبة الثانية علي قائمة أهم المخاطر الخارجية التي تهدد الأمن القومي الروسي، بعد القضايا المرتبطة بحلف شمال الأطلنطي (تزايد دور الحلف عالميا، وتوسيع عضويته ليكون علي حدود روسيا). وفي هذا السياق، تشير العقيدة إلي قلقلة الدول والمناطق، في إشارة ضمنية إلي ظاهرة عدم الاستقرار في سوريا، وليبيا، بجانب أوكرانيا بطبيعة الحال. وفي موضع آخر من العقيدة العسكرية الروسية، ثمة إشارات إلي مخاطر أخري تقول العقيدة إنها لا تؤثر في روسيا مباشرة، ومنها الإشارة إلي تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، والذي أصدر بيانا علي شبكة المعلوماتية في سبتمبر 2014، أشار فيه إلي أنه “جاهز لبدء حرب في الشيشان”، بل “وتحرير الشيشان وكامل منطقة القوقاز”. وتحذر الرسالة الرئيس الروسي بوتين من أن عرشه يوشك علي أن ينهار، وأن ما يرسله من طائرات لسوريا سوف تعود إليه.

أولا – روسيا .. والحرب علي الإرهاب:

مع عودة روسيا إلي الشرق الأوسط، قبل ثورات الربيع العربي، سعي الكريملين، خلال السنوات العشر السابقة، لتعميق الروابط مع العالم الإسلامي، سواء من خلال الحصول علي وصف المراقب لدي منظمة التعاون الإسلامي (المؤتمر الإسلامي سابقا)، أو التقدم بمبادرات في نطاق منظمة الأمم المتحدة، مثل حوار الثقافات والحضارات.

وفي ظل حقيقة تزايد معدلات المواليد بين المسلمين الروس(1)، والهجرة من منطقة آسيا الوسطي وأذربيجان، سعت موسكو إلي بذل المزيد من الاهتمام بالتطورات التي تؤثر في العالم الإسلامي مثل الربيع العربي، والحروب الأهلية، والصراعات الطائفية، والإرهاب، والتدخلات الخارجية.

وكما هو معلوم، فإن هناك العديد من أبناء جمهوريات شمال القوقاز، ذات الأغلبية الإسلامية، انضموا لصفوف “داعش”. ويقدر أعداد هؤلاء بما يتراوح ما بين 2500 و3500 من الشيشان، وأصول قوقازية أخري، بجانب متطرفين آخرين من داغستان وغيرها من جمهوريات شمال القوقاز الأخري الذين يقاتلون مع “داعش”.

ومن الناحية العملية، ورغم استبعاد روسيا من التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية لمحاربة “داعش” في سوريا والعراق، حيث تمسكت موسكو بضرورة استصدار تفويض بذلك من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وكذلك موافقة الدول التي تجري أنشطة التحالف في إقليمها، تقدر الحكومة الروسية أنها تشارك بفاعلية في المعركة الدولية ضد الإرهاب في الشرق الأوسط من خلال المحاور الآتية:

1- ارتباط روسيا ومعظم دول المنطقة، بما فيها مصر، بأطر مؤسسية للتعاون الأمني في مجال مكافحة الإرهاب (في شكل مجموعات عمل، أو لجان مشتركة تضم ممثلين عن الجهات المعنية).

2- دعم نظام حكم بشار الأسد في سوريا سياسيا وعسكريا، منذ اندلاع الأزمة قبل أكثر من أربع سنوات. كما قدمت موسكو وساطتها في النزاع بين الأطراف الداخلية، مستضيفة جلسات حوار بين هذه الأطراف والنظام، وإن لم تسفر عن أية نتائج حتي الآن.

3- الدعم العسكري الذي قدمته للعراق، في إطار عقد تسليح بقيمة 4.2 مليار دولار، وقع مع رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، شمل تزويده بطائرات السوخوي الهجومية SU25، وطائرات الهيلوكوبتر MI-28NM، ونظم صواريخ مضادة للدبابات وللطائرات.

4- جهود موسكو لمساعدة جيرانها في جمهوريات آسيا الوسطي في مواجهة التطرف الإسلامي، خاصة مع انضمام بعض أبناء هذه الجمهوريات للقتال في صفوف “داعش”، وهناك تعاون أمني فعال بين موسكو والأجهزة الأمنية في معظم دول آسيا الوسطي، وجنوب القوقاز لتعقب من عادوا من سوريا والعراق من أبناء هذه الدول.

ومن المعروف أن روسيا قدمت دعما كبيرا لقوات التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، في حربها ضد طالبان والقاعدة في أفغانستان، بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، خاصة أن استقرار أفغانستان يعد بمنزلة مصلحة مؤكدة لروسيا.

ويلاحظ علي الموقف الروسي من الحرب علي الإرهاب ما يلي بصفة خاصة:

أ- التناقض الواضح تجاه الحركات الإسلامية. وعلي سبيل المثال، فإنه في الوقت الذي أدرجت فيه موسكو حركة الإخوان المسلمين في مصر علي قائمة المنظمات الإرهابية المحظورة في روسيا، احتفظت -ولا تزال- بعلاقات وثيقة وحوار متواصل مع حركة حماس بروابطها المعروفة بحركة الإخوان، والمصنفة كحركة متطرفة، أو حتي إرهابية في بعض الدول الغربية.

كذلك، انقلبت موسكو علي الإسلاميين في كل من سوريا، وليبيا، والعراق، كما أن لديها سياسة ثابتة في قمع المعارضة الإسلامية داخل روسيا ذاتها. وهناك ما يشبه الإجماع علي أن المعالجة الروسية للتطرف الديني في شمال القوقاز هي معالجة خاطئة، وأن إقبال أبناء القوقاز علي الحرب في صفوف “داعش” يرتبط بشدة بالأوضاع الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية في بلادهم، وأن انهيار الأوضاع المعيشية هناك هو السبب وراء حالة السخط العام، ولجوء أعداد متزايدة من الشباب إلي العنف، بما في ذلك انخراطهم في صفوف “داعش”(2).

ب- إن انخراط روسيا في الحملة الدولية لمكافحة الإرهاب، من خلال المحاور السابق الإشارة إليها، فرصة لدعم نفوذها في المنطقة الذي كان تقلص كثيرا بفعل ثورات الربيع العربي، وأنه في ضوء عزلة روسيا بسبب النزاع في أوكرانيا، قد تسهم مشاركتها في الحملة المشتركة ضد التطرف في تغيير هذا الموقف، لا سيما استضافة جلسات حوار المعارضة السورية في موسكو، ولو جزئيا.

ج- إن روسيا -شأنها في ذلك شأن الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموما- تستخدم قضية مكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط استخداما سياسيا في الإطار الأوسع الخاص بالعلاقات المتوترة بين الجانبين، منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية في فبراير 2014، وما خلفته من تداعيات سلبية علي علاقات روسيا بالغرب. وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلي ما يأتي:

علي الجانب الغربي، وارتباطا بالمناقشات الحامية التي جرت خلال المؤتمر الأخير لسياسات الأمن الذي عقد في ميونيخ في الفترة من 6 إلي 8 فبراير 2015، والتي كشفت عن خلافات أمريكية – أوروبية حول ما إذا كان من المناسب تزويد أوكرانيا بأسلحة هجومية لوقف المزيد من الاستيلاء علي أراضي تلك الدولة من قبل الانفصاليين في الشرق الأوكراني من عدمه، برز رأي قوي تقوده واشنطن، مفاده أن الوحدة الأورو-أطلنطية باتت أكثر أهمية من ذي قبل، ليس فقط بسبب تدخل روسيا في أوكرانيا، بل وأيضا بسبب “داعش” الذي أصبح يمثل تهديدا حيا لأوروبا علي النحو الذي حدث في باريس في 7-9 يناير 2015 (العملية الإرهابية التي استهدفت مجلة شارلي إبدو). وهنا، يثير بعض الكتاب الغربيين مسألة حتمية الدفاع عن “القيم الغربية”، وعن “النظام الليبرالي” في مواجهة التطرف الإسلامي ومنظومته، وكذلك النظم الديكتاتورية التي تسعي إلي هدم نظام ما بعد انتهاء الحرب الباردة، وذلك في إشارة واضحة إلي روسيا(3)، التي يري التحالف الأورو-أطلنطي أنها قامت بكسر نظام ما بعد الحرب الباردة، وتحدت علنا النظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.

علي الجانب الآخر، يؤكد الساسة الروس أن نجاحات “داعش” دليل واضح علي خطأ سياسات الولايات المتحدة الأمريكية والغرب في الشرق الأوسط. ذلك أن التخلي عن دعم نظم ما قبل الربيع العربي هو الذي أدي إلي صعود الإسلام السياسي وحالة الفوضي في العديد من دول المنطقة. كذلك، تقدر موسكو أن التحالف الدولي “الانتقائي” الذي يحارب “داعش”، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، لن يكتب له النجاح. فالغارات التي يشنها موجهة أساسا لنظام الأسد، وتعد انتهاكا للقانون الدولي. فوفقا لسيرجي لافروف، “لن يكون هناك مستقبل للتحالف المؤسس علي مصالح مجموعة بعينها من الدول، وتحييد التهديد جزئيا فقط في منطقة ما، بل وبتوجه أيديولوجي، ومقاربة تتسم بالمواجهة”(4).

5- يستهدف تحرك روسيا لمواجهة التطرف الإسلامي في الشرق الأوسط حماية مصالح الدولة الروسية ذاتها، وأمنها القومي، وهو ما كان قد دفع موسكو إلي تقديم دعم كبير لقوات التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، في حربها ضد طالبان والقاعدة في أفغانستان، بعد هجمات 11 سبتمبر 2001. ومع صعود الإسلام السياسي، بعد ثورات الربيع العربي، تزايد النشاط المناوئ للكريملين في أوساط المسلمين الروس.

6- أخيرا، فإن انخراط روسيا في مكافحة الإرهاب يستهدف تعزيز سمعتها في المنطقة، وتوجيه رسالة للعالم بأنها شريك فاعل في حل المشكلات الدولية. وفي هذا السياق، ورغم أزمة علاقاتها مع الغرب بسبب الملف الأوكراني، حرصت موسكو علي المشاركة في قمة البيت الأبيض (18 20 فبراير 2015) -والتي جاءت بمبادرة من الرئيس أوباما- بشأن مواجهة التطرف العنيف Violent extremism بوفد كبير برئاسة Alexander Bortnikov رئيس جهاز الأمن الفيدرالي (المعروف اختصارا بـ FSB والذي حل محل الـ KGB).

ثانيا- إيران في الاستراتيجية الروسية:

لإيران أهمية خاصة في استراتيجية السياسة الخارجية الروسية في منطقة الشرق الأوسط، بل إنها الدولة التي تعطي سياسة روسيا في المنطقة عمقا استراتيجيا، لأمور عديدة جيوسياسية واقتصادية، يمكن إيجازها في الآتي:

أ- تعد إيران الدولة الرئيسية في منطقة الجوار الروسي غير المستقرة، ولها تأثيرها الكبير في الأحداث في الشرق الأوسط، وفي منطقة جنوب القوقاز، ووسط وجنوب آسيا، بما فيها أفغانستان.

وتؤثر التطورات في هذه المنطقة الواسعة مباشرة في الأمن القومي الروسي، حيث يمثل التشدد الإسلامي والإرهاب التهديد الأول له.

ب- ينظر في روسيا إلي الشيعة في إيران كعامل توازن في المنطقة أمام النفوذ المتزايد لكل من الولايات المتحدة الأمريكية، وتركيا، أو ما يسمي أحيانا من قبل الخبراء الروس بالتطرف السني، النشط بصفة خاصة في منطقتي شمال القوقاز الروسي، وآسيا الوسطي المجاورة. وقد زاد التوتر الحالي في العلاقات بين روسيا من ناحية، والولايات المتحده الأمريكية وحلف شمال الأطلنطي من ناحية أخري، من قيمة إيران كشريك مهم في نظر موسكو.

ج- تعد إيران الحليف الوحيد الذي يدعم حكومة بشار الأسد، حليف موسكو. ومنذ اندلاع الأزمة السورية وحتي الآن، قدمت إيران لنظام الأسد دعما ماليا يقدر بنحو 20 مليار دولار، بما في ذلك قرض ميسر لتمويل شراء بترول وغاز، فضلا عن تقديم استشارات عسكرية من عناصر الحرس الثوري، ومشاركة العناصر العاملة مع حزب الله في لبنان مع قوات النظام.

د- تعد إيران دولة شابة بتعداد سكان يبلغ نحو 80 مليون نسمة، ولديها إمكانات هائلة للنمو الاقتصادي، بما تملكه من احتياطيات ضخمة من النفط والغاز(5). ويعد التبادل التجاري، والعلاقات الاقتصادية مع إيران ضمن أولويات المصالح الروسية في المنطقة.

في المقابل، وبجانب المشاريع الكبري التي أنشئت في إيران من قبل الاتحاد السوفيتي السابق (أكثر من 60 مشروعا صناعيا وزراعيا)، ظلت مسألة بناء شراكة وثيقة مع روسيا علي قائمة اهتمامات سياسة إيران الخارجية، الأمر الذي تجسد في تعاون كبير في مجال الطاقة، لاسيما الطاقة النووية. ومع التزام روسيا بسياسة العقوبات التي فُرضت علي إيران بسبب برنامجها النووي (في إطار مجموعة 5 + 1)، تقلص التعاون الثنائي بين الجانبين إلي حد كبير، كما سيأتي البيان.

وتمثل عودة بوتين للكريملين عام 2012 بداية لمرحلة جديدة في العلاقات الروسية – الإيرانية. فقد تأثرت رؤية بوتين لاستراتيجية سياسة روسيا الخارجية، التي بلورها في مستهل ولايته الثالثة، بعدد من التطورات الدولية التي دفعته إلي تفعيل اتصالات روسيا بدول الشرق الاوسط، بما فيها إيران التي التقي رئيسها محمود أحمدي نجاد في يونيو 2012، بعد شهرين من انتخابه. وتتمثل أهم تلك التطورات في الآتي:

– فشل مبادرات وخطط روسيا لتطوير علاقاتها بالولايات المتحدة الأمريكية، أو ما يسمي بإعادة إطلاق (Reset) هذه العلاقات إبان حكم ديمتري ميدفيديف (2008-2010).

– استياء موسكو من الموقف الغربي السلبي في ليبيا عام 2011، عندما دعمت روسيا قرار مجلس الأمن 1973 (امتنعت عن التصويت)، الذي بموجبه تدخل حلف شمال الأطلنطي عسكريا في ليبيا، إلا أنه تصرف خارج الولاية الممنوحة له بموجب القرار، مركزا علي تصفية القذافي.

– التأثيرات السلبية لثورات الربيع العربي في الحضور السياسي والاقتصادي لروسيا في الشرق الأوسط، وبدايات توتر علاقات موسكو بالغرب بسبب الملف السوري.

– التدهور الحاصل في العلاقات الروسية – الأمريكية بسبب الأزمة الأوكرانية، والتي أدت إلي فرض عقوبات اقتصادية ومالية علي روسيا، تماما مثل إيران بسبب برنامجها النووي.

– يضاف إلي التطورات السابقة تطور جديد مهم يتمثل في مطالب دول مجلس التعاون الخليجي بضمانات أمنية أمريكية تحميها من مغامرات إيران في المنطقة، استنادا إلي أن الصفقة المحتملة بين إيران والغرب -والتي ينتظر أن ترفع العقوبات عن طهران علي إثرها مقابل فرض قيود علي برنامجها النووي- ستوفر لإيران موارد مالية ضخمة لتمويل حروبها بالوكالة، وتوسيع طموحاتها في المنطقة. وفي هذا السياق، يجري الحديث عن عقد معاهدة دفاع مشترك بين دول الخليج والولايات المتحدة، خاصة بعد التدخل الإيراني السافر في اليمن، والذي لم يترك لدول مجلس التعاون الخليجي من خيار سوي التدخل العسكري في تلك الدولة في 26 مارس الماضي (عاصفة الحزم)، مدعومة في ذلك من مصر ودول أخري.

ومما لا شك فيه أن مثل هذه التطورات، لابد أن تدفع روسيا وإيران إلي المزيد من التعاون والتنسيق. وفي هذا السياق، يمكن تفسير قرار الرئيس بوتين، في 13 أبريل 2015، رفع الحظر علي تسليم منظومة الصاروخ الدفاعي S-300 لإيران، بعد توصل مجموعة 5+1 إلي اتفاق إطار مؤقت مع طهران في لوزان في 2 أبريل الماضي، وهو قرار يمكن عدّه بمنزلة إعادة نظر في قرار سلفه ميدفيديف بفرض الحظر، والذي لا يبدو أن الغرب قد تلقاه بما يستحقه من تقدير آنذاك. وفضلا عن ذلك، ربما أدركت روسيا -في ضوء تطورات علاقاتها بالغرب- أن استمرار وقف تصدير المنظومة الصاروخية سيكون مكلفا للغاية، ليس فقط بسبب خسارة قيمة الصفقة، بل وأيضا لأن مستقبل التعاون العسكري الروسي مع إيران، ومصداقية موسكو كمصدر رئيسي للسلاح لها قد باتا علي المحك. وبالنسبة للجانب الإيراني، بات التعاون مع روسيا في ضوء عاملين رئيسيين هما:

– إدراك القيادة الإيرانية أنه سيكون من الصعب الإلغاء السريع والكامل للعقوبات المفروضة علي إيران من الغرب.

– تظل العلاقات مع روسيا في الفكر الاستراتيجي الإيراني بمنزلة خيار بديل، إذا ما فشلت المفاوضات حول برنامجها النووي، أو أتت بنتائج قد لا تقبل بها طهران.

ثالثا – موقف موسكو من التمدد الإيراني في المنطقة:

منذ ثورتها الإسلامية عام 1979، تتبني إيران أيديولوجية عقائدية قومية واضحة تقوم علي تصدير نموذجها المذهبي القومي، بل وفرضه علي محيطها الإقليمي، لتحقيق أهداف جيوسياسية، والهيمنة علي الإقليم. وقد استثمرت إيران التناقضات وتعقيدات الأوضاع الداخلية في بعض دول المنطقة لإذكاء الصراعات الطائفية، واستخدام جماعات محلية موالية لها لخدمة أهدافها التوسعية، وتوظيف هذا الدور الإقليمي لتجاوز التحديات التي يواجهها النظام في الداخل، وذلك بدءا بأفغانستان ولبنان، ومرورا بالعراق وسوريا، وانتهاء باليمن. بل إن تحركات إيران لم تقتصر علي الشيعة فقط، وإنما شملت تقديم المال والسلاح لبعض الحركات الإسلامية السنية. وفي هذا السياق، استخدمت طهران الورقة الفلسطينية بما مكنها من بناء علاقات وثيقة مع حماس، ومع الإخوان المسلمين في مصر، علي النحو الذي تجسد بوضوح إبان حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي، والذي شهدت العلاقات المصرية – الإيرانية في عهده القصير تطورات غير مسبوقة، حيث مثلت الأيديولوجية، ومشروع الإسلام السياسي قاسما مشتركا بين نظامي إيران والإخوان.

وقد جاءت محاولات طهران امتلاك قدرات نووية، وهو الملف الذي يهم الغرب بعيدا عن مسألة تمدد إيران إقليميا، ليمثل عاملا إضافيا ألقي المزيد من الجدل حول نيات طهران، وحقيقة أجندتها الإقليمية، مما وضع الدول العربية أمام تحديات جدية، خاصة بعد أن باتت إيران حليفا للولايات المتحدة الأمريكية في محاربة إرهاب “داعش” في العراق وسوريا، بل وشريكا في المفاوضات التي يقودها المبعوث الأممي.

من ناحية أخري، فإن نظرة تحليلية لاستراتيجية السياسة الخارجية الروسية بصفة عامة، وسياستها إزاء إيران بصفة خاصة، يمكن أن تتضح من خلال الموقف الروسي من أزمتي سوريا واليمن.

1- الحالة السورية:

يتطابق موقف روسيا من الملف السوري مع نظيره الإيراني، حيث يدعم الطرفان النظام الحاكم في دمشق في حربه ضد المعارضة علي اختلاف أطيافها. وينطلق موقف موسكو في هذا الشأن من عدد من المحددات التي تصب أساسا في خدمة مصالح روسيا وأمنها القومي. فمن ناحية، نجد أن نظام الأسد الحليف هو الوحيد لموسكو في المنطقة العربية اليوم. ومن ناحية أخري، تعد موسكو المورد الرئيسي للسلاح لدمشق، ويتمتع أسطولها بتسهيلات في ميناء طرطوس.

وفي هذا الإطار، يمكن تفسير الموقف الروسي الداعم لنظام الأسد علي النحو الآتي:

– رفض روسيا من حيث المبدأ تغيير الأنظمة من الخارج، حيث يحظي مبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية بمكانة راسخة في استراتيجيه سياسة روسيا الخارجية. ويمتد الأمر هنا للدول المجاورة، التي لا تريد روسيا أن تكون هدفا لثورات مدعومة أمريكيا.

– ترفض روسيا تماما مساندة التدخلات العسكرية الأجنبية، حيث تراها مدمرة، أيا كانت دوافعها، حتي ولو كانت إنسانية، إذ تري فيها تشجيعا علي استخدام القوة في تسوية المشكلات الدولية، الأمر الذي يحظره ميثاق الأمم المتحدة، والقانون الدولي. وبطبيعة الحال، تدرك موسكو -من واقع التجربة- أن القوة العسكرية الهائلة للولايات المتحدة الأمريكية قد دفعتها إلي إدمان استخدام القوة.

– لا ترغب روسيا في إدانة الأسد وحده. فهي وإن كانت تعترف في اتصالاتها بالأطراف الأخري المعنية بأعمال القمع الوحشية التي يقوم بها النظام ضد شعبه، بل وإدانته علي ذلك، فإنها في الوقت ذاته تريد من الأطراف الأخري إدانة العنف المسلح الذي تمارسه فصائل المعارضة.

وفي تقديري أن تطابق موقف موسكو مع موقف طهران بشأن الملف السوري، وإن اختلفت مصالحهما من وراء ذلك، ربما يكون قد ولد الانطباع بأن روسيا تدعم تمدد إيران، وهو انطباع لا يسانده واقع الحال، سواء فيما يتعلق باستراتيجية سياسة روسيا الخارجية عامة، أو سياستها إزاء طهران خاصة. فالأولوية بالنسبة لموسكو كانت -وستظل دائما- لعلاقاتها بالغرب، الذي تربطه بها شبكة من المصالح الجيواستراتيجية والاقتصادية الضخمة، حتي ولو كان ذلك علي حساب علاقاتها بطهران. ويتبدي ذلك بوضوح في الموقف الروسي من الملف النووي الإيراني، حيث التزمت تماما بموقف المجموعة الغربية المشاركة في صيغة 5+1، بغض النظر عن التعاون القائم بين موسكو وطهران في مجال الاستخدامات السلمية للطاقة النووية. وقد أكدت روسيا مرارا أنها ترفض تماما تملك إيران قدرات نووية للاستخدام العسكري. وبسبب تصويتها لمصلحة جميع قرارات مجلس الأمن التي فرضت عقوبات اقتصادية علي طهران (ستة قرارات في الفترة من 2006 إلي 2010) لعدم تجاوبها مع متطلبات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، تأثرت مصالح روسيا بشدة(5). وامتد التزام روسيا بالعقوبات ليشمل التعاون العسكري، عندما قرر الرئيس السابق ميدفيديف -في 22سبتمبر 2010 وعلي نحو منفرد- فرض حظر علي تصدير منظومة صواريخ S-300 لإيران بقيمة 800 مليون دولار، مما دفع إيران إلي اللجوء لمحكمة التحكيم الدولية الدائمة طلبا لتعويضات عن إلغاء الصفقة بقيمة أربعة مليارات دولار.

وأكثر من ذلك، سعت الدبلوماسية الروسية -دون جدوي- إلي الاستفادة من علاقاتها بإيران كورقة سياسية لتطوير علاقاتها بالغرب، من خلال حلحلة الموقف الإيراني لتسوية الملف النووي. فقد رفضت طهران مقترح موسكو لبيع اليوارانيوم المخصب لها، في إطار عملية التفاوض مع مجموعة 5+1، لتشغيل محطات الطاقة النووية التي أنشأتها روسيا. كما فشلت مساعي موسكو للوساطة بين إيران والولايات المتحدة، والادعاء بقدرتها علي إقناع طهران بتقديم تنازلات خلال المفاوضات.

2- الحالة اليمنية:

من المعروف أن اليمن الجنوبي كان منطقة النفوذ الوحيدة للاتحاد السوفيتي السابق في شبه الجزيرة العربية، وهو نفوذ تقلص كثيرا بعد الوحدة اليمنية، وإن ظلت روسيا علي اتصالاتها بالقوي اليمنية المختلفة، بما فيها نظام الرئيس علي عبدالله صالح، سواء قبل الإطاحة به، أو فيما بعد، ممثلا في نجله أحمد.

وكقوة كبري تسعي إلي استعادة نفوذها في منطقة جيواستراتيجية تشهد منافسة محمومة علي الوجود من قبل قوي دولية عديدة، علي رأسها الولايات المتحدة، كما تشهد نشاطا متزايدا للقاعدة، فمن الطبيعي أن تستثمر روسيا علاقاتها بإيران، التي كانت قد أقامت روابط قوية مع بدر الدين الحوثي ونجله حسين، مؤسسي الحركة الحوثية منذ أواخر السبعينيات، خلال وجوده في إيران، وكذلك بصديقها صالح وأنصاره للتواصل مع الحوثيين، وإقامة اتصالات مباشرة معهم، خاصة مع تزايد نفوذهم في الداخل علي مدي العامين الماضيين، وتحالفهم مع صالح وأنصاره، وذلك تحت أعين الأمريكيين الذين كانت أولويتهم ملاحقة عناصر القاعدة (بالطائرات بدون طيار).

وبمعني آخر، قدرت موسكو أن الحوثيين وأنصار صالح بمنزلة أوراق رابحة في مستقبل العملية السياسية في اليمن، بما قد يعيد لروسيا نفوذها في هذه المنطقة الحيوية.

في السياق عاليه، جاءت رؤية روسيا للانقلاب علي الشرعية في اليمن، مؤسسة موقفها من “عاصفة الحزم” علي المحددات ذاتها السابق الإشارة إليها بشأن الحالة السورية، كالآتي:

– إن ما حدث في اليمن ليس انقلابا من جانب الحوثيين علي الشرعية بقدر ما هو مناورة من جانبهم لرفع سقف مطالبهم في إطار العملية السياسية الجارية في البلاد. فالأمر يتعلق بفصيل سياسي له حضور قوي لا يمكن تجاهله، وإنما يجب احتواؤه كشريك في العملية السياسية حفاظا علي الاستقرار في اليمن. وهنا، تتلاقي مواقف قوي دولية عديدة -بما فيها مصر- مع الموقف الروسي من حيث ضرورة احتواء الحركة في العملية السياسية، وتسوية الأزمة سلميا.

– حفاظا علي مصالحها مع دول الخليج، ورغم رفضها التدخل العسكري، اتخذت موسكو موقفا متوازنا من الصراع. فمن ناحية، لم تشأ إجهاض قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2216، الصادر في 14 أبريل 2015 -وفقا للفصل السابع- بتأكيد دعم الشرعية في اليمن، وإدانة أعمال الحوثيين، وفرض حظر جوي وبحري علي البلاد لمنع تزويدهم وأنصار صالح بالسلاح. ومن ناحية أخري، اهتمت موسكو بالجوانب الإنسانية للنزاع، تماما مثل إيران، وكانت في مقدمة الدول، ومعها أمريكا والصين، ودول أخري عديدة، التي دعت إلي هدنة إنسانية علي أساس أن استمرار الحرب سيقود إلي كارثة إنسانية، ويوفر مناخا لإرهاب القاعدة للتمدد في اليمن.

وبطبيعة الحال، تدرك الأطراف المختلفة المعنية بالأزمة -بما فيها مصر- أن موقع اليمن علي باب المندب، والقريب من الصومال الذي يشهد نشاطا لحركة الشباب المتطرفة منذ سنوات، يستوجب التصدي بقوة للإرهاب في هذه المنطقة الحيوية للملاحة العالمية.

والخلاصة أنه كما كان الوضع بالنسبة للحالة السورية، توظف روسيا علاقاتها بإيران لخدمة مصالحها الخاصة في اليمن. ومع ذلك، يصعب القول إن موسكو وطهران متفقتان بوضوح علي المجالات السياسية التي يمكنهما التعاون الوثيق بشأنها. ففي بعض القضايا، قد تبدو مواقف الجانبين متقاربة، إلا أنها لا تصل إلي حد التطابق. وفي هذا السياق، فإن المتأمل لمسيرة العلاقات بين الجانبين، خلال السنوات العشر الأخيرة، يجد إرثا من الشكوك وعدم الثقة المتبادلة. ولا يبدو ذلك فقط من الموقف الروسي تجاه إيران، ارتباطا بملفها النووي، علي نحو ما أسلفنا، بل وأيضا من السلوك الإيراني أحيانا. فقد صوتت طهران، في ديسمبر 2008، لمصلحة الدوحة لتكون مقرا للمكتب التنفيذي وسكرتارية منتدي الدول المصدرة للغاز، بعد أن افترضت موسكو أن صديقتها طهران ستصوت لمصلحتها، وذلك خلال اجتماع للإعلان عن قيام المنتدي في سان بيترسبرج (أيدت مصر وبعض الدول الأخري روسيا، وفازت قطر بالصوت الإيراني فقط). وكانت روسيا قد بذلت جهودا كبيرة لإنشاء المنتدي كأداة تتيح لها قدرا من السيطرة علي اقتصادات الغاز العالمية، إلا أن استضافة قطر لمقره حرمها من ذلك. كذلك، يتخذ كل من البلدين موقفا مختلفا بشأن النظام القانوني لبحر قزوين، الذي يجري التفاوض عليه منذ سنوات فيما بين الدول المطلة عليه، منذ سقوط الاتحاد السوفيتي السابق.

ومع ذلك، ثمة عوامل خارجية ستسهم في خلق مساحة للتعاون الروسي – الإيراني في بعض المجالات. غير أن قيام تحالف استراتيجي شامل، أو عسكري مع إيران، لا يزال خارج اهتمام روسيا. وقد أكد ذلك صراحة وزير الخارجية لافروف، في حديث إذاعي في 22 أبريل2015، إذ تقدر موسكو أن مثل هذا التحالف ستكون له تداعياته السلبية علي علاقاتها بدول أخري، خاصة كلا من إسرائيل ودول مجلس التعاون الخليجي، والتي سعت روسيا إلي تطوير علاقاتها بها، خلال السنوات العشر الأخيرة، سواء كان ثنائيا، أو في إطار منتدي التعاون الروسي – الخليجي.

كما لا ينبغي تجاهل حقيقة أن تأثير إيران أو حضورها علي الأرض في دول، مثل أفغانستان، ولبنان، والعراق، وحتي سوريا، يتجاوز الحضور الروسي. من ناحية أخري، لم يكن للسياسة الخارجية للاتحاد السوفيتي السابق، ووريثته روسيا، اهتمام يذكر بالاختلافات بين الشيعة والسنة، خاصة أن الأغلبية الساحقة من المسلمين الروس هم من السنة، وهو ما يصعب معه تبني موسكو توجها متعاطفا مع الشيعة، أو مفضلا لها.

وكما كان الحال في الماضي دائما، تظل مسألة تضحية روسيا ببعض مكاسبها من علاقاتها بإيران أمرا ممكنا، متي كان المقابل هو تحسين علاقاتها بالولايات المتحدة الأمريكية التي تمثل الأولوية في استراتيجية السياسة الخارجية الروسية. وفي هذا السياق، يصر الساسة الروس علي أن التوتر الحالي في العلاقات مع واشنطن وحلفائها هو وضع مؤقت، وأنه من المبالغة الحديث عن حرب باردة جديدة، حيث توجد ملفات دولية وإقليمية عديدة تحتاج الي تنسيق روسي – أمريكي وثيق.

قائمة المراجع :

(1) للتعرف علي أوضاع المسلمين في روسيا وتعامل السلطة معهم، إبان فترة الاتحاد السوفيتي السابق والآن، لاسيما أعضاء الجماعات المتشددة في شمال القوقاز، فضلا عن انعكاسات الهجرة من دول آسيا الوسطي الإسلامية لروسيا علي نظرة الشعب السلافي (الروسي) للمسلمين هناك، انظر:

Malashenko (A.), Islam in Russia, Russia in Global Affairs, vol12. N. 3, Sept 23, 2014.

انظر أيضا: رؤية غربية لأحوال المسلمين الروس في ظل حكم بوتين

Crews (R.) Moscow and the Mosque foreigh affairs, March / April 2014, pp. 125-135.
(2) راجع في ذلك

Demposey (J.), What Russia and the Islamic state mean for U.S European ties, Carnegie Endownment for international peace, Europe Feb9., 2015.

(3) لمزيد من التفصيل، راجع ملاحظات وزير الخارجية، سيرجي لافروف، أمام الاجتماع الثاني والعشرين لمجلس السياسة الخارجية والدفاعية الروسية في:

Russia in Global Affairs vol: 12, November 26, 2014.

(4) وفقا لآخر إحصاءات الشركة البريطانية للبترول(BP) حول الطاقة العالمية، لا تزال إيران هي ثالث أكبر دول العالم من حيث الاحتياطيات من الزيت (157مليار برميل)، بعد فنزويلا (298 مليار برميل)، والعربية السعودية (266 مليار برميل)، ولديها أكبر احتياطي عالمي مؤكد من الغاز الطبيعي (نحو 33.8 تريليون متر مكعب).

(5) حول الخسائر الاقتصادية والتجارية، التي تحملها الاقتصاد الروسي، جراء التزام موسكو بالعقوبات التي فرضت علي إيران بموجب قرارات مجلس الأمن الدولي، راجع:

Baklanov (A.), The Iranian key to the Middle East Door, Russia in Global Affairs Vol:11, October 27, 2013.
المصدر/ السياسة الدولية

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة