عرض/ يحيى امقاسم
يكشف الباحث المصري الدكتور شحاتة محمد ناصر أوجهاً دقيقة في السياسية الخارجية للجمهورية الإيرانية تجاه دول مجلس التعاون الخليجي، في كتابه “السياسة الإيرانية تجاه دول مجلس التعاون الخليجي.. الاستمرارية والتغيير” 2015، وإن كان يحصر هذه السياسة في فترتين شهدتا الانفتاح على العالم ثم التراجع إلى المحافظين الذين تشددوا فيما بعد تجاه الخارج وعاد صوتهم الداخلي إلى التعالي الذي يعزز أن “إيران دولة كبرى ولا يمكن أن ترضخ للضغوطات الخارجية”، كما عبر المؤلف في استعراضه لتلك السياسات المتعدة باختلاف مرحلتي صعود محمد خاتمي لسدة الرئاسة ثم خروجه ليكون الدور لأحمدي نجاد، وهو في استعراضه البحثي يحلل توجهات إيران في منطقة الخليج فقط، ويقسم دراسته على عدة محاور محاولا الإجابة على كل محور منها، فكانت أسئلته هي ما أهم المحددات الداخلية والإقليمية والدولية التي حكمت توجهات السياسة الإيرانية وما أهدافها تجاه دول مجلس التعاون الخليجي، وما أهم قضايا تلك السياسة وطبيعة تأثيراتها، وما حدود استمراريتها والعوامل المساعدة في ذلك، كما يتساءل الباحث عن أشكال تلك السياسة، فما إذا كانت واحدة أو متعدة باختلاف دول المجلس، وما هي أدواتها والمؤثرات التي صاحبتها خلال العشرين السنة الماضية، وما بعد تأثير ما سمي بـ”الربيع العربي” على تلك التوجهات الإيرانية.
ويعيد شحاتة أسباب اختيار دراسته لفترة معينة إلى اعتبارات مختلفة منها “تغطية مرحلتين متمايزتين في طبيعة السلطة؛ وهما مرحلتا خاتمي ونجاد، وشهدت كل مرحلة منهما تحولات مهمة في موازين التغير وطبيعة القيادة وميزان القوة الداخلي على السياسة الخارجية الإيرانية تجاه دول مجلس التعاون…”، بينما على المستوى الإقليمي فالغزو الأمريكي لأفغانستان 2001م وللعراق 2003م وعدوان إسرائيل على لبنان 2006م، صعد من تلك السياسة في دول الخليج؛ فضلاً عن الانسحاب الأمريكي الأخير من العراق 2011م، ودخول تركيا في المنافسة مع إيران، مما خلق نوعاً آخر من التحالفات، والاعتبار الثالث لاختيار هذه الفترة هو التقلبات التي صاحبت العلاقات الإيرانية مع دول مجلس التعاون، ثم على المستوى الدولي من حيث تصاعد الصدام بين إيران والغرب حول البرنامج النووي الإيراني، “بشكل غير مسبوق مما مثل عامل ضغط على العلاقات الإيرانية ـ الخليجية”، وهذا ما يراه الباحث مهماً للتعرف على “تأثير العامل الدولي، والأمريكي على وجه الخصوص، على سياسة إيران تجاه دول مجلس التعاون الخليجي”.
وعن تلك المحددات التي تؤثر في سياسة إيران تجاه دول المجلس، التي يسمي بها المؤلف فصلا كاملا، نقرأ توزيعها الداخلي والإقليمي والدولي، ومنها “المحدد السياسي من حيث تأثير القيادة السياسية التي تصنع القرار وهي تدور حول “ولاية الفقيه” ممثلة بالمرشد الأعلى الذي “يعطيه الدستور صلاحيات طاغية، بحيث أنه يسيطر على شيء باعتباره نائباً عن الإمام الغائب المعصوم”، وعلى رغم انفتاح إيران في عهد رافسنجاني 1989م وتلاه حوار الحضارات مع خاتمي إلاّ أن الواقع عاد إلى نصابه بحلول نجاد في السلطة، وذلك يعود أن الأمر بيد السلطة وأن أي تحرك هو محكوم بالثوابت العليا، كما أن الناظم “معقد ويقوم على التوازن بين المؤسسات والقوى والأشخاص، وهذا يضع قيوداً على دور العامل الفردي في مجال السياسة الخارجية…”، وهذا ما قلص معه دور خاتمي في الانفتاح والتقدم في العلاقات، ويشير الكاتب في غير موضع أن نجاد نفسه وجد عوائق كبيرة وقلصت سلطاته عندما حاول التفرد بالقرارات، رغم أنه محافظ متشدد. والمحدد الثاني هو طبيعة النظام السياسي وما يحتدم داخله من صراع بين فريق يرى أهمية الانفتاح على الخارج خدمة لتوجهات الثورة وآخر متمسك بثوابت تلك الثورة والبقاء على ذات المنهج المتشدد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يشكل توزيع السلطات في النظام السياسي وعلاقات مؤسساته تأثيراً كبيراً من حيث الخطاب الخارجي والموجه لدول مجلس التعاون، والشواهد كثيرة على تضارب هذا الخطاب واختلاف حدته من مسؤول إلى آخر. كما تناول الباحث التأثير الشعبي في ذلك الخطاب، فهو تأثير محدود ولا يكاد يذكر أمام السلطة الدينية. وتناول الكاتب المحدد الجغرافي ويلاحظ أن إيران لا منفذ لها بحري سوى الخليج نظراً لطبيعة تضاريسها القاسية من جهة خليج عمان أو من الشمال. أما المحدد التاريخي لتلك السياسة فلا يذهب بعيداً شحاتة عن قول روح الله رمضاني “الماضي دائماً على قيد الحياة بالنسبة لإيران”، وحول هذا تحديداً يشير شحاتة إلى عدة أمور منها “عقد الخوف من التهديد الخارجي، وخاصة العرب.. حيث تنظر إلى نفسها أنها كانت ضحية في (اللعبة الكبرى) للتآمر الإمبريالي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. ولذلك فإن البعض يرى أن الثورة الإيرانية 1979 لم تكن رداً على سياسة شاه فقط، وإنما كانت في أحد جوانبها حلقة في سلسلة من ردود الفعل على محاولات الهيمنة الخارجية على إيران…”، فهذ العقد الملازمة أثرت بشكل قاطع في سياسة إيران تجاه جوارها الخليجي، وهي التي تقاطع أو تواجد أجنبي في المنطقة بناء على توجسها الدائم من الغرب، مما أفرز معه ذلك التوجس “سيكولوجية سياسية قوامها نظريات المؤامرة”، لذلك “تعتقد إيران أن دول الخليج المجاورة تساهم في (المؤامرة) عليها سواء بوعي أو بسبب الحاجة على الحامية الأجنبية”. وأضاف شحاتة حول المحدد التاريخي لسياسة إيران الخارجية إلى سعيها نحو إيجاد المكانة الإقليمية والعالمية وكذا الذاكرة التاريخية حول العرب والاختلاط البشري بعد الحضارة الإسلامية، وأخيراً المحدد الثقافي تلك السياسة الذي يأتي على مستويين هما “سمات الشخصية الوطنية الإيرانية من إحساس بالعظمة والتميز والغرور… إلخ، والاعتزاز القومي، والدهاء والغموض، مع ثنائية الخير والشر، والازدواجية، ثم البرجماتية وإعطاء الأهمية للقوة والبطولة، أما ثاني مستويات تلك الشخصية فهي صورة العرب في الثقافة الإيرانية وتقوم على نزعة فارسية استعلائية تجاه العرب”، وتظهر هذه الصورة في كثير من أدبيات إيران الحديثة والقديمة.
وعن المحدد الديني، وهو الأبرز في التناول، فـ”على الرغم من الحديث عن نهاية أو موت الأيديولوجيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي؛ فإنها ما زالت لها تأثيرها الكبير في تحريك مسار التاريخ… ويبدو الأمر أكثر وضوحاً بالنسبة إلى نظام سياسي يعتمد على نظرية دينية مثل النظام الإيراني”، وقد “برز مبدأ (تصدير الثورة) إلى الخارج، والذي أثار الكثير من التوترات في العلاقات الإيرانية ـ الخليجية، ويرفد هذا المحدد الديني المحدد الديموغرافي، فعدد سكان إيران يفوق عدد سكان دول مجلس التعاون مجتمعة، وتجد إيران نفسها دولة فراسية في محيط غير فارسي، وكذا شيعية في محيط سني، مما يعزز لديها العزلة، بحسب وصف الباحث شحاتة، وهو ما يجعلها السعي للعب دور إقليمي ليس منافساً وحسب؛ بل ومؤثر وقيادي، وتستخدم إلى ذلك كافة الجوانب السياسية والدينية والاقتصادية، موضحاً الكتاب المحددات الإقليمية الأخرى من حين التوازنات بين إيران ودول المجلس سكانياً وعسكرياً وجغرافياً، ويقرأ أيضاً تباين سياسات إيران باختلاف كل دولة، وأنها حريصة على الدخول في أي حل أمني أياَ كان. كما أن المحدد السعودي على وجه الخصوص، و”دور السعودية الإقليمي وتوجهاتها السياسية وطبيعة نظرتها إلى إيران وعلاقتها من العوامل الرئيسة التي تؤثر على سياسة إيران الإقليمية بشكل عام”، معرضاً الكاتب بالمحدد العراقي وسياسة دول كبرى عربية مثل مصر حيال تلك السياسات الإيرانية، ومؤكداً أن أهم محدد دولي في ذلك الحراك هو المحدد الأمريكي.
وأتت هذه الدراسة في 534 صفحة ونشرتها دار العين للنشر المصرية، وقدمت في نهاية كل فصل منها نتائج أهمها أنه مهما تعددت قضايا السياسة الخارجية الإيرانية تجاه دول مجلس التعاون، فإن قضيتها الأساسية هي “قضية أمن الخليج” التي تعد قضية مركزية بالنسبة لإيران ودول مجلس التعاون، كما أن العلاقة الإيرانية ـ الخليجية منذ 1979 قد “مثلت، وما زالت، محدداً أساسياً من محددات استقرار منطقة الخليج وتوازن القوى وصراعات النفوذ على ساحتها، ويؤكد بروز الاحتقان الطائفي، السني- الشيعي على الساحة الإقليمية منذ 2003، وتعمقه بعد اندلاع ثورات (الربيع العربي)، والتوظيف السياسي له من قبل الجانبين، الإيراني والخليجي.
إيران.. أزمة إقليمية معقدة
يعرض الباحث نتيجته حول السياسة الخارجية الإيرانية بعد ما سمي بـ”الربيع العربي” بدءاً من نهاية عام 2010، أن تلك الثورات ورغم ما أحدثته من تحولات جذرية في “البيئة الإقليمية للسياسة الإيرانية تجاه دول مجلس التعاون الخليجي…، فإنها في المجمل العام سبّبت أزمة إقليمية معقدة لإيران؛ حيث وصلت إلى سورية وهددت أهم حلفائها الإقليميين، ووضعتها في اختبار صعب بين مصالحها وشعاراتها الأيدولوجية، ونالت من شعبيتها وجاذبية نموذجها السياسي ـ الثوري في المحيط العربي.
المصدر/ صحيفة عكاظ