17 نوفمبر، 2024 3:38 ص
Search
Close this search box.

السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي

السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي

الصحافة المريضة وحقيقة مواقع التواصل القبيحة في كتاب كرم نعمة
يصل مؤلف كتاب “السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي” الى الفكرة التي بقي يدافع عنها في متن هذا الكتاب بأن مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت الحنجرة العميقة بعد أن كان هذا الامتياز مقتصرا على الصحافة وحدها. وهنا يقتبس جملة المفكر البريطاني اشعيا برلين الشهيرة “الحرية للذئاب تعني موت الاغنان”.
المؤلف كرم نعمة في هذا الكتاب الصادر عن دار لندن للطباعة والنشر في 624 صفحة، اشبه بطبيب تشخيص لأمراض سوق الصحافة، لكنه مثل غيره من نجح في التشخيص واكتفي باقتراح العلاج، من دون أن يضمن الشفاء المرتقب.
الكتاب على حجمه الكبير، يتوزع على ثلاثة فصول تبدأ بالصحافة وازمتها الوجودية، ومن ثم ما يتعلق بمواقع التواصل الاجتماعي وشركات الانترنت في فصل “الحقيقة القبيحة وما بعدها” ويعرض في الفصل الثالث لعصر التلفزيون الذهبي. وفي ذلك يقدم طبقا إعلاميا مفيدا ليس لطلاب وأساتذة قسم الصحافة والاعلام، بل لكل المهتمين بمستقبل الصحافة وهي تدخل منذ سنوات في كساد سوقها المريضة.
يقول كرم نعمة: يميل الصحافيون إلى اعتبار أنفسهم مواهب فردية، مدفوعين بغرائزهم الجريئة، يجدون ويكشفون قصص الآخرين. بدلا من ذلك يجب أن يفكروا في عملهم كعنصر واحد ضمن نظام شامل، لأننا كصحافيين لم نعد وحدنا في بناء غرف الأخبار وإعادة تسويقها.
ويرى بأن المعضلة تكمن في الصحافيين الذين لا يمتلكون الجواب في تعريف أنفسهم ومن هم في العصر الرقمي، وما أهمية عملهم بين جيل الهواتف الذكية، ولسوء الحظ أن التاريخ نفسه عاجز عن تقديم دروسه لهم من أجل استلهامها! صحيح أن التاريخ قد أرخ لكل الإنجازات الصحافية في مدونته، لكن تلك المدونة على ضخامتها لا تقدم درسا في العصر الرقمي، إنها مدونة الحنين والمجد الآفل ليس إلا.
لذلك لم يكتف المؤلف بدور الشاهد على سوق الصحافة المريضة، بل ذهبت أبعد عندما حاول ربط القارئ العربي بأزمة الصحافة العالمية وكل ما تواجهه، بمتابعة تداعيات الأزمة الوجودية ليشعر الصحافيون العرب بأنهم ليسوا وحدهم يعيشون في كنف تلك الأزمة، كما ساهم بأطلاق الأسئلة واقتراح الحلول الممكنة وما يساور المجتمعات الديمقراطية من قلق على مصير الصحافة بوصفها التعبير الأمثل لربطها بديمقراطية حرة من الأفكار والمعلومات، محاولا تشجيع المجتمعات العربية على إبداء قلق أكثر على صوتها المخلص والمعبر عن جوهر الصحافة بعد أن تحولت مواقع التواصل الاجتماعي إلى الحنجرة العميقة.
ويقترح على الصحافي إعادة اختراع مهنته وليس التخلي عنها، كما يحدث لنسبة كبيرة من الصحافيين الذين افتقدوا إلى الثقة بالمستقبل.
ويقول كرم نعمة “ما يحدث اليوم أننا كصحافيين نعزل أنفسنا في فقاعات أيديولوجية، وحكومية وتجارية ونتعرض فقط لآراء الذين لديهم طريقة تفكيرنا نفسها. فعندما يدير الصحافي ظهره للأفكار المبتكرة، والخضوع لسيطرة الشركات والحكومات، فإنه سيجعل من الصحافة مقبرة لنفسه، مثلما يسهم في إبقاء مهنته راقدة في السوق المريضة”.
في مستهل الفصل الخاص بالحقيقة القبيحة وما بعدها، يتساءل المؤلف هل هو فيسبوك أم فيكبوك؟
ويستعين هنا بتجاهل الكاتب تيم هارفورد فكرة فحص الأخبار من قبل المستخدمين لفيسبوك، معترفا بأن أسباب تحيزه ضد هذا الموقع هي نفس الأسباب التي عادة ما يحتقر الناس بسببها فيسبوك: الخصوصية، وقوة السوق، والتشويش، والتفاعلات بالابتسامات الوهمية، وبقية الأمور الأخرى.
يركز كثيرا على فيسبوك ويعرض لتطور الموقع والفضائح التي مرت عليه، ويرى انها شركة تمثل الحقيقة القبيحة، ولا تكتفي بربط العالم، بل تهدف إلى حكم العالم، وتحقق في ذلك نجاحا مضطردا مع فشل الحكومات في مواجهتها، عندما نعرف أنها أكبر جمهورية افتراضية في العالم يسكنها أكثر من ثلاثة مليار مستخدم.
فَتحتَ صورة لمارك زوكربيرغ وهو يُرضع عجلا بزجاجة حليب، وبعد أيام من احتفاله باقتراب عدد سكان جمهوريته غير الأفلاطونية إلى ملياري مستخدم، طالب الكاتب جون نوتون، مؤسس فيسبوك بمحاولة العيش في العالم الحقيقي!
فإذا كانت فكرة الإنترنت وجدت في ربط العالم من أجل إطلاق سراح العالم، وفق تعبير أريك شميدت الرئيس التنفيذي السابق لشركة غوغل، فإن رسالة زوكربيرغ عن رحلة فيسبوك لبناء المجتمع العالمي، بدت -وفق مؤلف كتاب السوق المريضة- وكأنها تكرار لرسالة تاريخية لأحد القديسين إلى أتباعه.
لكن، في الواقع، وبما أن زوكربيرغ يتكلم في رؤية طوباوية عن البشرية جمعاء، لا يوجد أي اختبار لبناء مثل هذا المجتمع، ولأن الجمهورية افتراضية لا توجد فرصة للتفاوض.
يستعين هنا كرم نعمة بتساؤل جون نوتون الناقد الأدبي أستاذ التحليل التكنولوجي ومؤلف كتاب “من غوتنبرغ إلى زوكربيرغ: ما تحتاج معرفته عن الإنترنت” عما إذا كان زوكربيرغ يدرك ما يعنيه حقا إلى المجتمع بوصفه المرشد الأعلى لفيسبوك، لأن كل الدلائل القريبة منه تشير إلى أنه يمتلك فكرة خافتة عن ماهية المجتمع الحقيقي، تتعدى بقليل الفهم الذي يشير إلى مجموعة أشخاص لا يتوافقون على كل شيء “في أي قرية من العالم”، ولكنهم ابتكروا طرقا للتقدم والقيام بما يحتاجون إليه بشكل جماعي.
وبشأن تويتر يقول المؤلف كرم نعمة، لا نختلف بأنه منصة تعاني من مشكلة المعلومات المضللة، ولا تكتفي بكونها منصة ممتازة لقراءة الأخبار والعثور على الآراء، لكنها تظهر أيضا للمستخدمين خليطا من المعلومات التي يمكن أن تكون مرهقة. نقطة الخلاف هي الوسطية. يعتقد بعض المستخدمين أنها مفرطة في التقييد. يقول آخرون إنها متساهلة للغاية. كلا الجانبين يدعي أن هذا يدمر تويتر.
فلو تسنى لأحدهم إطلاق شحنة كهربائية مميتة من على لوحة مفاتيحه للقضاء على مغرد في الجهة الأخرى من الأرض، لفعلها لأنه لا يكتفي باللغة الضحلة التي يستخدمها، هناك ما هو أشرس يتمنى فعله!
ولا يتوقف المؤلف عند المنصات وحدها، بل يذهب بعيد في تحليل سلوك الشركات التكنولوجية الكبرى التي باتت تحكم العالم وتسيطر على مشاعر المستخدمين، حيث يصف فيكتور ماير أستاذ تنظيم الإنترنت في معهد أوكسفورد تردي العلاقة بين المستخدمين والشركات الكبرى على الإنترنت بـ”العواقب الوخيمة” وهو تعبير قد لا يفي بالقلق المتصاعد حول خصوصية المعلومات الشخصية فـ”الثقة دمرت والجميع يتحدث عن ذلك”.
واليوم صار على العالم أن يجد تعريفا واضحا لعلاقة التكنولوجيا بالحكومات، فجاريد كوهين مدير التخطيط في شركة غوغل رفض أن تحل التكنولوجيا محل الحكومات، بعدما ساعد محرك البحث العملاق على سقوط أنظمة الحكم في بعض البلدان العربية.
نص كتاب “السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي” مكتوب بلغة الصحافة الأدبية، لذلك لا يكتفي المؤلف باللغة التقريرية، بل يذهب أكثر من ذلك ويستعين بأمثلة من كبار المؤلفين وعلاقتهم مع الصحافة الرقمية.
فقد تزامن وصف الروائي الألماني غونتر غراس لمواقع التواصل الاجتماعي بـ”الهراء” والمطالبة بالابتعاد عنها مع تصريح الروائي الأميركي الأشهر على قائمة الكتب اليوم جوناثان فرانزين بتأثير تويتر على الحس الإبداعي العميق للكتابة.
الكاتبان يمثلان بطريقة أو بأخرى جانبا من المطبخ الإعلامي المشغول بإعداد وجبات متسارعة ومتنافسة بتصاعد مطرد بين الرقمي والورقي، مع إنهما يمثلان جيلين مختلفين تماما، وهذا ما يمنح كلامها أهمية أن يكون في المتن وليس في الهامش.
ويستعيد المؤلف أيضا بالكاتب الأميركي بريت إيستون إيليس، الذي أنفق في السنوات الأخيرة في سياق أحاديثه مع نصف مليون من متابعيه في تويتر، وقتا فاق بكثير الوقت الذي خصصه لروايته القادمة.
يبحث أيضا موضوع الحرية والكراهية السائدة على المنصات الرقمية، ويقول عندما وقف الروائي سلمان رشدي في أعلى منصة بمهرجان أدنبره الدولي للكتاب، واصفا العالم بأنه يعيش على وقع الكراهية المتصاعدة، وأن الناس باتوا يُعرّفون أنفسهم بما يكرهون. وحدد واحدة من خصائص العصر الحالي بنمو نوع من الثقافة مقترنة بسياسات الهوية والطائفية، أطلق عليها اسم ثقافة الإقصاء بدافع الكراهية.
كان رشدي يتحدث عن “مواطن صحافي” لا يحتاج أن يستأجر وسيلة إعلام لإيصال خطابه، فثمة تفاعل متصاعد ومستمر في الخطاب على تويتر مثلا، وجد أسرع الطرق للتعرف على الآخر أينما كان، سواء للتأثير عليه أو للإيقاع به.
لذلك يقول كرم نعمة “الإعلام أصبح صناعة مختلفة كليا ولم تعد التعريفات القديمة تفي بالغرض، بل أختلف الأمر حتى فيمن يضع مثل هذه التعريفات، ولم يعد خبراء الإعلام يستحوذون على مساحة التنظير والتعريف، الجمهور سيسأل بعدها: من أنتم؟”.
ولأن حرية التعبير لا تجلب مالا، لذلك وببساطة شديدة لا يمكن تحويل تويتر بصفته الميكرفون الأقوى في العالم إلى وكالة أنباء، كما يقول مؤلف هذا الكتاب عارضا الفكرة المتداولة حول تطوير موقع التغريدات القصيرة لأنها تضيق عندما تصل إلى اختصار مهمته في الأخبار العاجلة، بينما في حقيقة الأمر أوجد تويتر تعريفا جديدا لصناعة الأخبار لم يكن متداولا عند وكالات الأنباء العالمية.
ويعرض في ذلك من يدافع على تويتر كمنصة ملهمة، ويشبهها بالطفل “المزعج في صراخه” ينتظر أن يكبر كي يعقل قليلا، وهذا ما يتوق إليه الكثيرون، فتويتر الطفل سيتعلم المشي ويكبر بعدها، ويتوقف ربما عن الاعتداء على الآخرين!
ميزة هذا الكتاب وهو الخامس للكاتب الصحفي العراقي كرم نعمة، انه يتجول في تلك السوق المريضة ويعرض بلغة شيقة بضاعتها الكاسدة والرائجة ويرى في النهاية، أن الأزمة ليست فقط بتخلي الحكومات العربية عن الصحافة، إنها أزمة عالمية تبدأ من الصحافة الأميركية، مع أن الرجال الأقوياء الذين وضعوا الدستور الأميركي كانوا يفضلون دولة بلا حكومة على دولة بلا صحافة.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة