16 نوفمبر، 2024 11:41 ص
Search
Close this search box.

السعي إلى وقف التدهور: المصادر والأبعاد الاجتماعية لأزمات التضامن العربي

السعي إلى وقف التدهور: المصادر والأبعاد الاجتماعية لأزمات التضامن العربي

إعداد/ نبيل عبد الفتاح
يشهد الإقليم تراجع التضامن العربي كمفهوم وآليات وإجراءات في إطار السياسات الخارجية العربية الراهنة إزاء مصادر التهديد الإقليمية لأمن ومصالح الدول العربية، وذلك على الرغم من أنه جاء على أنقاض تآكل وضعف فكرة القومية والوحدة العربية، وتجاربها الفاشلة السابقة وهو ما يتجلى في حالة النظام العربي قبل وبعد الانتفاضات الجماهيرية الكبرى – التي يطلق عليها مجازًا بالثورات – والتي تتسم بالتفكك، والنزاعات البينية العربية – العربية، وطموح بعض الزعامات لبناء مكانة إقليمية تتجاوز حدود قدرات دولهم التي لا تزال في طور التشكيل البنائي، وفشلهم في بناء هويات جامعة تتجاوز أوضاع مجتمعاتهم الهشة، وذات الطبيعة الانقسامية من حيث مكوناتها الأولية العرقية والدينية والمذهبية، والقومية والمناطقية، وتنازع هويات كل مكون مع المكونات الأخرى، لاسيما في المشرق العربي ومنطقة الخليج وشبه الجزيرة العربية والسودان، والجزائر، على نحو يشكل أحد الأعطاب الهيكلية التي واجهت دولة ما بعد الاستقلال. يمكن القول أن غالب دول الإقليم العربي، تواجه عديد من الأزمات الاجتماعية / السياسية الداخلية التي أثرت سلبًا على مفهوم التضامن العربي في المرحلة الراهنة، والتي تتمثل فيما يلي:
1- هشاشة البناء التكويني للدولة ومؤسساتها، وعدم استكمال عمليات بناء الوطنيات داخلها، وذلك لفشل نموذج الدولة / الأمة باستثناء مصر والمغرب إلى حد ما-، وضعف السياسات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية العابرة للمكونات والولاءات الأولية، والقادرة على توليد ولاءات وهويات جامعة تتجاوز مكوناتها، وتعبر عن مشتركاتها وخصوصياتها في أطر وهياكل تعددية تسمح بتفاعلات سياسية واجتماعية وثقافية صحية بين أبناء هذه المكونات أيًا كانت انتماءاتهم. ثمة فشل تاريخي لاستراتيجيات بوتقة الصهر التي تم تطبيقها بقوة أجهزة الدولة الشمولية والتسلطية من خلال القمع الوحشي، والعنف الرمزي والأيديولوجي، وتسييد تصورات ورؤى النخبة الحاكمة – أيًا كانت انتماءاتها – حول هوية المجتمع والدولة، مع إقصاءات واستبعادات لمكونات أخرى، وتفضيل بعض المكونات الأولية “للطبقة السياسية”- نقولها مجازًا – المسيطرة على مقاليد الدولة وأجهزتها، بقطع النظر عن الآثار السلبية للإقصاءات على تجانس مكونات المجتمع، أو تفككه، وتهتك أنسجته الاجتماعية، وهو ما تجلى في دول المشرق العربي والسودان، وفي الجزائر.
2- صعود جماعات الإسلام السياسي، وتمددها وسط حواضن اجتماعية، وطروحاتها الدينية حول الخلافة الإسلامية، وصراعها الأيديولوجي مع الفكرة العربية الجامعة، والتشكيك فيها، وجحدها على أسس دينية، واعتبار أن مفهوم القومية العربية، وافد كجزء من ترسانة المفاهيم الغربية التي تم استعارتها، أو استيرادها من المنظومة الغربية العلمانية لفرضها على الهوية الإسلامية في الإقليم، واستبعادها! وذهب بعض منظري هذا التيار إلى أن مفهوم القومية العربية طرحه بعض المسيحيين العرب، كجزء من محاولات الانخلاع عن الدولة العثمانية. لا شك أن هذا الفهم لمساءلة العروبة والقومية العربية يتناسى الطابع الاستعماري للدولة العثمانية، والقهر والاستغلال الذي مارسته على المجتمعات العربية، وأن نمو الشعور القومي العربي، كان جزءًا من عمليات التحرر من نير العثمانيين، وكان جزءًا من تطور الوعي السياسي والاجتماعي للنخب العربية قبل وبعد الاستقلال عن الاستعمار الغربي للعالم العربي. أحد أبرز الآثار السلبية للطرح الأحادي لفكرة الخلافة والجامعة الإسلامية، هو أضعاف الفكرة القومية العربية، وفي ذات الوقت الوعي العربي الجماعي، لدى شرائح اجتماعية مختلفة.
3- ساهم التوظيف الرمزي والأيديولوجي للقومية العربية من حزب البعث الحاكم في سورية، والعراق – قبل انهيار الدولة والنظام والاحتلال الأمريكي – في قمع بعض المكونات الاجتماعية والعرقية والقومية والمذهبية في البلدين على نحو أدى إلى قمع بعض تطلعات هذه المجموعات الأولية في التعبير عن ذاتيتها الثقافية والهوياتية في إطار تمثيلي ومؤسسي في بنية هذه الأنظمة السياسية الشمولية.
4- تعرضت بعض الأقليات الدينية العربية – المسيحيين العرب في بعض المجتمعات- إلى أشكال من الاستبعاد، والتهميش السياسي، على نحو أدى إلى صعود هوياتهم الدينية والمذهبية، وتعبيراتها الثقافية والعرقية، نظرًا لانكسار الموحدات الجامعة في الإطار الوطني، واعتماد التكامل الداخلي على القسر والإرغام، ومن ثم غياب مبدأ المواطنة وحقوقها المختلفة.
5- ساهمت نخب ما بعد الاستقلال في سعيها لتأسيس الدولة على إنماء الروح الوطنية / المحلية وفقًا لأيديولوجية النخبة الحاكمة والنظام السياسي، ومن ثم تحولت الفكرة العربية إلى محضُ علامة رمزية من علامات الدولة، دون أن تكون جزءًا أساسيًا من مشروع النخبة لرأب الصدع فيما بين الوطنيات العربية الناشئة والصراعات بينها وبين الدولة العربية الأخرى على الحدود أو الدور والمكانة في الإقليم العربي. بينما تشير عديد المؤشرات إلى أن هذه الوطنيات الناشئة لا تزال هشة في ظل واقع موضوعي انقسامي داخلي.
6- تنامي أدوار دول الجوار الجغرافي العربي- إيران وتركيا وإسرائيل- في المنطقة العربية، وتوظيفها للخلافات العربية الداخلية، والبينية في تدعيم مكانتها وتمددها الإقليمي. إيران توظف الوجود الشيعي العربي، ومظلوميته التاريخية في الدعم المعنوي، على أساس الانتماء المذهبي، أو بالدعم المالي وبالسلاح لحزب الله في لبنان، وللشيعة في العراق ما بعد صدام، وفي تدريب قوات الحشد الشعبي، وفي دعم النظام الحاكم في سورية، وفي دعم شيعة البحرين، والسعودية، وتوظف القضية الفلسطينية وتدعم حركة حماس في قطاع غزة. من ناحية أخرى الدور الإقليمي التركي يستخدم الإسلام السياسي السني – جماعة الإخوان المسلمين وجماعات أخرى – في تمدد نفوذها السياسي، وإزاء بعض النظم كما في المثال المصري، وكذلك قطر بإرسال قوات عسكرية داعمة لها في مواجهة السعودية، والإمارات، والبحرين ومصر. تستفيد إسرائيل من هذه النزاعات العربية – العربية، في رفض تسوية سلمية للقضية الفلسطينية، وتشير عديد وسائل الإعلام إلى قيام بعض النخب العربية بإجراء بعض المفاوضات غير العلنية مع إسرائيل في سعيها لمواجهة بعض مصادر التهديد المحتملة من إيران لها. إذن ثمة توظيف إيراني، وتركي، وإسرائيلي للانقسامات الداخلية، في دعم التمدد الإقليمي على أنقاض تفكك عرى العلاقات العربية، وتراجع التضامن العربي.
7- أدى الدعم الإيراني المتعدد بعد الثورة وإلى الآن لبعض المنظمات السياسة والعسكرية – الشيعية كحزب الله اللبناني إلى تحولها إلى فاعل إقليمي ما دون الدولة، ناهيك عن كونها فاعل سياسي مؤثر داخل الدولة اللبنانية، ومن ثم إلى دخول الحزب ضمن الأطراف الإقليمية والدولية المشاركة في الحرب الأهلية في سوريا، إلى جانب إيران والدولة السورية، وروسيا. التغيرات الإقليمية الصراعية، انعكست سلبًا على البنيات الاجتماعية الانقسامية والطائفية وساهمت في عمليات التآكل والتفكك في بعض أنماط التعايش المشترك في هذه المجتمعات – سوريا والعراق ولبنان واليمن والبحرين – بدرجات مختلفة من حالة لأخرى، لاسيما في ظل التوترات والاحتقانات الاجتماعية في بعض هذه البلدان، أو انهيار الدولة والنظام فيها من جراء الحرب الأهلية، وهو ما ساهم في تمدد التشظي والتفكك والتوتر الاجتماعي. من ثم هيمنت التوترات المذهبية واحتقاناتها الملتهبة في بعض العلاقات الاجتماعية، وأثرت سلبًا إلى حد ما على الجامع العروبي المشترك.
8- قامت بعض النخب السياسية الحاكمة في الإقليم العربي، بتوظيف الانتماء المذهبي في الصراع الإقليمي، وامتداد بعض من فوائضه داخليًا، ومن ثم تحول الصراع حول المكانات والأدوار الإقليمية والمصالح الوطنية من الواقع إلى المجاز المذهبي / السياسي، وانعكاسات ذلك على الفكرة العربية الجامعة – العروبة – كحقيقة من حقائق الجغرافيا السياسية والدينية والثقافية والواقع التاريخي المستمر. إن تفكك الروابط الجامعة وأفكارها الكبرى الملهمة وتراجع أولوياتها في الإدراك السياسي للنخبة السياسية الحاكمة، وفي الوعي الاجتماعي لعديد من الشرائح الاجتماعية داخل كل دولة ومجتمع عربي، أثرت سلبًا على التضامن العربي بين الدول ووحدات الإقليم العربي، وبين مكوناته الاجتماعية الداخلية على تعددها وموحداتها النسبية / الهشة.
9- صعود الصراع المذهبي المسيس، أدى إلى ميلاد نمط من المذهبية المسيسة في الإقليم العربي، وفي الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط، ودخول تركيا إلى حومّة الصراع المذهبي، ونزوعها الإمبراطوري في المنطقة في أعقاب يأسها من الانخراط في إطار الاتحاد الأوروبي، ومن ثم يخايل زعامتها السياسية – منذ تورجوت أوزال إلى أردوغان- أضغاث أحلام الإمبراطورية العثمانية، ونظام الملل في المشرق تحت عمامة سليم الأول بديلاً عن قبعة كمال أتاتورك العلمانية على النمط الأوروبي.
من هنا تسعى سياسة “التسييس المذهبي” لدول الجوار الجغرافي العربي، وداخل بعض دول الإقليم العربي إلى إحداث تحولات وتفكيكات داخل البُنى الاجتماعية العربية، والأخطر أن بعض دول الجوار، ومعها دول عربية سعت ولا تزال لتوظيف بعض الصراعات السياسية والدينية الداخلية، في إحداث تغيرات داخل هذه الدول وهو ما يساهم في مزيد من التوترات والانقسامات الاجتماعية، ناهيك عن تحول بعضها إلى ملاذات آمنة لبعض هذه القيادات، ودعمها لبعض المنظمات والجماعات التي تمارس التطرف العنيف، والعمليات الإرهابية على نحو ما يتم في مصر، وليبيا، وتونس على سبيل المثال.

‌أ- أدى تراجع الآمال التي عقدت على بعض الانتفاضات الجماهيرية الكبرى –مصر وتونس- وعدم الاستقرار الأمني، والانقسامات الداخلية إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، إلى تراكم فائض من الإحباطات الاجتماعية في ظل غياب سياسات الأمل، وأولوية الأمن وإعادة قبضة الدولة وهيبتها إلى إنتاج عديد من المشكلات والأزمات الممتدة من مراحل ما قبل الربيع العربي – المجازي – إلى ما يشبه خريف عربي، ومن ثم إلى توترات داخلية على عديد الصعد، تؤثر على بنية الإجماع الوطني الداخلي، ومن ثم على التضامن العربي في إدارة بعض النخب السياسية لسياساتها الخارجية العربية وإزاء دول الجوار العربي، والدول الكبرى، وذلك على النحو التالي:

1- فرض المزيد من القيود القانونية والإدارية والأمنية على المجال العام، ومن ثم ضعفت نسبيًا الحيوية الاجتماعية، والحراك السياسي والاجتماعي الذي شهدته بعض المجتمعات العربية –مصر على سبيل المثال- في ظل الحراك الجماهيري الكبير في يناير 2011 وما بعد حتى 30 يونيو 2013.

2- بروز فجوات جيلية واسعة بين الكتل الجيلية الشابة – أيًا كانت انتماءاتها الاجتماعية – لاسيما الفئات الوسطى- الوسطى المدينية في مصر-، وبين النخبة السياسية الحاكمة، وبين بعضها والمؤسسات الدينية الرسمية التي ران عليها الجمود الفقهي والسكون التأويلي وبعض من التشدد التفسيري. ثمة حالة من الإحباط السياسي والاجتماعي مرجعه تراجع المشاركة السياسية والحزبية في ظل ضعف الأحزاب والمؤسسات السياسية، ومن ثم العودة إلى بعض من أشكال التسلطيات السياسية والدينية والتشريعية، ومن ثم فرض قيود على الحريات العامة، وتراجع حريات الرأي والتعبير في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، ومن ثم تحول بعضهم إلى الفضاءات الافتراضية لممارسة أوسع الحريات، وأشكال التعبير.

3- الفجوات والصراعات الجيلية في الحياة الاجتماعية – بين الفئات الاجتماعية المختلفة – في غالبُ البلدان العربية، تتفاقم واحتقاناتها تتزايد، في المجال العام المحاصر، وفي ارتفاع معدلات التضخم والبطالة، والفرص النادرة في الحراك الاجتماعي والوظيفي لأعلى، حتى لبعض العناصر الشابة الموهوبة والكفوءة، ومن ثم يواجه بعض أبناء الأجيال الشابة من ذوي الأصول الاجتماعية الوسطى – الوسطى، والوسطى الصغيرة، عسر على عسر، في التكيف مع بنية النظام السياسي – الاجتماعي، ومع بعض الإنتاج الديني التأويلي الوضعي المتشدد، والذي يميل إلى مجافاة طبيعة التحولات الكبرى في غالب مجتمعاتنا وعالمنا المتغير. لا شك أن الصراعات الجيلية تبدو فيما وراء ظاهرة اللامبالاة والأنامالية لدى بعض الشرائح الشابة من الفئات الوسطى – الوسطى في إطار التسلطية السياسية أو نمط الحكم الشمولي، ومن ثم تبدو ثمة فجوة بين بعض أنظمة الحكم العربية ونخبها السياسية الحاكمة، وبين الأجيال الشابة وتتفاقم، ومن ثم تفقد هذه النخب بعض مصادر التأييد الاجتماعي / السياسي الأكثر حيوية، الذي يضفي على نظام الشرعية السياسية التجديد والدينامية، ويوسع من هوامش حركة النخبة الحاكمة ودوائر صنع القرار عند قمة النظام. والسؤال الذي نطرحه هنا هل هناك تأثير لوضعية الفجوات والصراعات الجيلية الداخلية على أزمات التضامن العربي؟

يبدو لي وأرجو ألا أكون مخطئًا أن ثمة علاقة تتجلى فيما يلي:

1- اعتماد بعض القيادات والنظم العربية، على بناء علاقات تحالف وتعاون وثيق مع بعض الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وفرنسا وألمانيا، وإقليميًا المناورة مع الدول العربية الأخرى ودول الجوار الجغرافي العربي وتركيا، وإيران، وذلك لمعالجة بعض من مشاكل نقص مصادر الشرعية السياسية والدعم الداخلي، والنزاعات البينية العربية – العربية.

2- صعود بعض القادة الشباب إلى مواقع القيادة لاسيما في بعض النظم الملكية العربية، ومن ثم بدايات تغيير في هيكل ومعايير وتقاليد الخلافة السياسية، وهو ما يؤدي إلى احتمالات تغيير في قيادات الدولة والنظام السياسي، ومن ثم ضرورة وضع سياسات جديدة مستقبلية، لمراحل ما بعد الاعتماد على المصادر الريعية وعلى رأسها الثروة النفطية، وهو ما يفتح الباب أمام توسيع الفرص السياسية والاجتماعية أمام بعض الأجيال الشابة من الشرائح الاجتماعية الوسطى – العليا، والوسطى – الوسطى سواء في إطار الوظيفة العامة ومستوياتها القيادية والوسطى، أو في بعض المؤسسات السياسية، وهو ما سوف يجدد نسبيًا بعض مصادر الشرعية والدعم السياسي للقيادات الشابة الجديدة عند قمة الدولة والنظام. من ناحية أخرى سيطرح هذا التغير المحتمل بعض التحديات وعلى رأسها مواقع الأجيال الأكبر سنًا في الدولة ومؤسساتها، وقد يؤدي إلى بعض التوترات الجيلية المحتملة بين القادة الشباب الجدد، وبين القادة من الأجيال الأكبر سنًا، في الرؤى والسياسات الداخلية والخارجية.

3- تشير بعض ملامح النزاعات والتوترات العربية – العربية الراهنة إلى بعض من التوترات الجيلية بين جيل القادة الشباب الجدد، وبين القادة الكبار، بما تنطوي عليه من صراعات في الرؤى والمواقف السياسية لأنماط التحالف والتعاون فيما بين بعضها بعضًا، وبينها دول الجوار الجغرافي العربي، وحول هوامش المنادرة، والتنافس حول المكانة والدور الإقليمي.

4- التنافس بين بعض القادة الشباب، وبين بعضهم بعضًا حول المكانة والأدوار ونزوع بعضهم إلى إبراز الاستقلالية الذاتية النسبية إزاء الآخرين، والقدرة على المبادرة واتخاذ القرارات السياسية وتنفيذها في إطار بعض النزاعات الإقليمية.

لا شك أن هذه السياقات السوسيو-سياسة والجيلية، نجد بعض انعكاساتها في أطر إقليمية تتسم بالاضطراب وعدم اليقين وبعض من السيولة النسبية. من ناحية أخرى أدت بعض هذه التوترات الجيلية / القيادية، وبعض المشاكل الدينية / المذهبية، إلى تفاقم النزاعات والحروب الأهلية، وما خلفته من ثمار مرة، في ملايين الهجرة القسرية الداخلية، والخارجية إلى دول الجوار العربية –العربية، ودول الجوار – العربي- إيران وتركيا-، أو بعض الدول الأوروبية.

أخطر ما في هذا الصراع الجيلي – الجيلي بين الشباب والكبار إقليميًا، وداخليًا هو انعكاسه على الفكرة العربية، والتضامن العربي، بعد تحول أولويات الصراع الإقليمي، من أولويته الكبرى، وهو المسألة الفلسطينية – لم تعد محضُ قضية – وتراجعها، وبروز صراعات ذات طابع عربي – عربي، وحول قضايا أمنية، ومذهبية .. إلخ! من ثم المرجح تراجع نسبي في أولويات اهتمامات الأجيال الشابة تجاه القضايا العربية الجامعة والمشتركة، إلى اهتمامات “فردية”، لاسيما في ظل الدور الذي تلعبه الثورة الرقمية في تنشيط عمليات الفردنة وميلاد الفرد، ومن ثم التفكك النسبي في بنية الأبوية السياسية، والاجتماعية التقليدية والمحدثة.

5- أدت الصراعات على الدين والمذهب في العمليات السياسية الداخلية، إلى المزيد من التفكك في بنيات المجتمعات الانقسامية، وإلى تحول الدين / المذهب من آلة رمزية وعقائدية كبرى للنظام والنخب السياسية الحاكمة، إلى استخدام الجماعات الإسلامية السياسية، والدعاة الرسميين ودعاة الطرق – بتعبير الأستاذ العميد طه حسين- للآلة الدينية ومورثاتها التأويلية والتفسيرية على نحو مضاد ومتناقض مع بعض الاستخدامات الرسمية لنقض الشرعية الدينية والمذهبية والسياسية للدولة والنظام، وجحدها، والسعي إلى تغيير جذري في طبيعة الدولة الوطنية وهندساتها القانونية والاجتماعية. هذا الصراع السياسي / الديني حول القيم السياسية والأخلاقية والدينية، دار ولا يزال بين النظم والنخب السياسية، وهذه الجماعات على تعددها وبعض تمايزاتها البينية، على روح المجتمع، وتحديدًا روح الجيل الشاب، والفئات الوسطى – والوسطى الصغيرة، وبعض أبناء المعسورين، وعلى الفتيات والنساء لعديد الأسباب، وعلى رأسها ما يلي:

1- تديين نظام الزي، والحجاب والنقاب، والسعي إلى الترميز الديني لجسد المرأة / الفتاة المسلمة، ومن خلاله تديين المجال الخاص، ومن خلال حضور المرأة في المجال العام، والوظيفة العامة والقطاع الخاص، يتم ترميز المجال العام دينيًا.

2- التركيز على الأجيال الشابة صغيرة السن – من 17 إلى 25 سنة- في عمليات التجنيد لعضوية هذه الجماعات، وفي تكوينهم الأيديولوجي، والديني المذهبي.

3- توظيف فائض الحيوية الجيلية، عقائديًا في تأهيل هذه الكوادر واستخدامها كأدوات للتطرف العنيف، وفي العمليات الإرهابية على نحو ما تشير إليه غالبية من شاركوا في العمليات الإرهابية داخليًا – مصر وتونس على سبيل المثال-، وفي المناطق المضطرب، أو التي تشهد حروب أهلية في العراق، وسوريا مع داعش والنصرة، وفي اليمن مع الحوثيين، وفي ليبيا مع بعض الجماعات الإسلامية السياسية بعد انهيار نظام العقيد القذافي.

الصراع على روح الأجيال الشابة من خلال الآلة الدينية والمذهبية الرمزية، وعلى نحو عنيف أدى إلى انقسامات داخلية حادة ورأسية بين “المواطنين” على الأساس الديني والمذهبي، وإلى تمييزات على أساس المعيارين الديني والمذهبي، بين المواطنين المسلمين، والمواطنين المسيحيين، أو الذين ينتمون إلى أديان أخرى، وبين المسلمين وبعضهم بعضًا على أساس التمييز المذهبي. انتقلت هذه التمييزات والتحيزات من الأطر الاجتماعية / السياسية الداخلية إلى المجال الإقليمي في إطار العلاقات العربية – العربية، ومع دول الجوار الجغرافي العربي، إيران وتركيا، سواء على مستوى التنافس الإقليمي أو بناء التحالفات وتوظيفها في النزاعات والمنافسات بين النخب السياسية العربية الحاكمة. بعض الدول وظفت بعض الجماعات الإسلامية الراديكالية في مناطق النزاع والحروب الأهلية، أو إزاء بعض النظم العربية الأخرى أثناء وما بعد الربيع العربي، سواء بالتمويل المالي والدعم الإعلامي، أو الملاذات الآمنة … إلخ!.

من الملاحظ أن توظيف فائض التدين الوضعي السياسي، من خلال استخدام بعض الشباب أدى إلى تغيير في أولويات الاهتمامات الداخلية لدى القطاعات الجيلية الشابة، وآخرين من الأجيال الأكبر سنًا داخل الهياكل الاجتماعية، نحو أولوية الفكرة الإسلامية في طبيعة الدولة، والهندسة الاجتماعية الداخلية، وفي استراتيجيات التغيير السياسي الإقليمي والداخلي، ومن ثم إلى تراجع نسبي في الاهتمام بالفكرة العربية، والتضامن العربي وأولوياته وقضاياه وأزماته في الإقليم العربي.

6- شكلت ظواهر التدين السياسي، واستراتيجيات التغيير الراديكالية، والدعوة إلى تغيير الهندسات القانونية والاجتماعية الحديثة، إلى نظام الشريعة والخلافة الإسلامية، إلى بعض التحولات في أنماط التدين الشعبي، من الاعتدال إلى المحافظة إلى بعض من الغلو التي ساهمت فيها الجماعات والدعاة السلفيين، والمنظمات الراديكالية، وأدى فشل بعض البرامج الإنمائية، والإقصاءات والتهميش إلى تبلور بؤر اجتماعية حاضنة لبعض هذه المجموعات. من ناحية أخرى ساعد على ذلك بعض من الجمود الفقهي والتفسيري والتأويلي في مناهج التعليم الديني، واختراق بعض هذه الجماعات الكبرى لبعض المؤسسات الدينية، لاسيما في المثال المصري، على نحو أدى تراجع أدوار المؤسسات الدينية الرسمية، وتأثيرها في بعض الأوساط الاجتماعية، لاسيما ضمن بعض شباب الفئات الوسطى – الوسطى، وإقليميًا لم تعد تملك التأثير التاريخي لها، ومن ثم ضعف دورها في السياسة الخارجية المصرية، وفي التأثير النسبي والمحدود على النزاعات العربية – العربية، ومن ثم في السعي إلى “تلطيف” حدة النزاعات، أو المساعدة في احتواء هذه النزاعات ضمن أدوات أخرى للسياسة الخارجية المصرية. من ناحية أخرى ثمة بعض الاختلاطات لدى بعض رجال المؤسسة الدينية الرسمية، وبعض الدعاة بين الفكرة الإسلامية الجامعة والفكرة العربية الجامعة، وتذبذب بعضهم بين كليهما، حينًا الميل إلى الجامعة / الخلافة الإسلامية، وحينًا آخر نحو الجمع بينها وبين الفكرة العربية حسب السياقات السياسية المتغيرة، ومع حركة المد الإسلامي السياسي، غلب بعضهم، مع جماعة الإخوان المسلمين الفكرة الإسلامية بكل انعكاسات ذلك سلبيًا على الفكرة العربية والتضامن العربي.

من مجمل ما سبق نستطيع القول أن ثمة تفاعل بين بعض الجوانب والأزمات التي لحقت بالأبنية الاجتماعية الوطنية، وبين السياسة الخارجية، والسياقات الإقليمية، وأثرت سلبًا على العلاقات العربية – العربية، والتضامن العربي، ومن ناحية أخرى أدت أزمات التضامن والوفاق العربي – عند الحدود الدنيا – إلى تأثيرات وانعكاسات سلبية على بعض الأبعاد الاجتماعية الداخلية، أي التأثير المتبادل بين العوامل الداخلية / “الوطنية”، وبين العوامل الخارجية على العلاقات العربية – العربية وأزماتها الممتدة.
ثانيًا: هل هناك إمكانية للخروج من حد التفكك إلى حد التوافق: البحث عن مقاربات عملية: مقترحات جزئية.
هل هناك إمكانية للخروج من حد التفكك والتشظي إلى حد التضامن في حدوده الدنيا؟ يبدو لي وأرجو ألا أكون مخطئًا، أن الاختلالات الهيكلية في الأبنية الاجتماعية والسياسية والثقافية تتسم بطابعها البنيوي التاريخي، ومن ثم تبدو متراكمة وفائضه، ومن ثم معالجاتها تحتاج إلى عديد من السياسات الداخلية، وإلى آجال زمنية بعيدة، بالنظر إلى طبيعة هذه الاختلالات البنيوية في البُنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية والسياسات العامة، واستراتيجيات العمل التي اتخذتها الأنظمة والنخب السياسية الحاكمة. من ناحية أخرى تعتمد أية مقترحات على مواقف النخب السياسية وظروفها الداخلية، والإقليمية والدولية على اتخاذ هذه السياسة أو تلك أو رفضها بحسب حالاتها الموضوعية والضغوط التي تتعرض لها. من هنا السعي إلى بلورة أفكار عملية للتحرك الطوعي ومن مواقع مستقلة سعيًا وراء بعض من التضامن العربي تبدو صعبة ودقيقة ومحدودة في إقليم مضطرب، ودول انهارت، وحروب أهلية، وصراعات عربية – عربية، وشيوع أنماط من التطرف العنيف، والعنف والإرهاب.
هل هناك إمكانية لدبلوماسية شعبية تسعى لبناء حد أدنى من التضامن العربي، أو احتواء بعض النزاعات العربية – العربية، أو التلطيف من حدتها، وانعكاساتها على التفاعلات بين الشعوب العربية مع بعضها بعضًا؟
هل ثمة دور للمثقفين أو المنظمات الطوعية أو المؤسسات الثقافية العربية في رأب الصدوع أو تهدئة النزاعات العربية – العربية؟
مصطلح الدبلوماسية الشعبية، لا يزال أقرب إلى المجاز السياسي والدبلوماسي، لأنه يفتقر إلى تجسيدات وتجارب واقعية ذات إنجاز في الواقع الموضوعي العربي، وتحديدًا في إطار العلاقات العربية – العربية، وذلك لعديد الاعتبارات، ويمكن طرحها فيما يلي:
1- لا يوجد تراث من ممارسات الدبلوماسية الشعبية في بعض النزاعات العربية، أو العربية مع دول الجوار الجغرافي العربي.
2- بعض الأمثلة العربية على الدبلوماسية الشعبية كانت بعلم النظام وأجهزته الأمنية والاستخباراتية، ومن ثم تفتقد إلى الصدقية، وإلى الخيال السياسي والحيوية في طرح الأفكار والحلول العلمية.
3- بعض وفود الدبلوماسية الشعبية في مصر، تم تمويل سفرياتها من بعض رجال الأعمال إلى بعض دول حوض النيل بخصوص سد النهضة – أثيوبيا، وأوغندا، والسودان – ضمت وفودها بعض النشطاء السياسيين والحزبيين، ليسوا على معرفة عميقة بجذور النزاعات، ولم يكن لديهم تصورات عملية للتعامل معها واحتواءها أو إيجاد حلول لها. كانت دبلوماسية الاتجاه الواحد، ولم يكن ثمة مقابل لها من الأطراف الأفريقية.
4- ثمة غياب للوعي والمعرفة للتجارب المقارنة للدبلوماسية الشعبية في تكوين ووعي خبرات هذا النمط من الوفود التي أطلق عليها الدبلوماسية الشعبية.
5- بعض الوفود في إطار الأزمة بين الدول العربية الأربعة – السعودية / مصر / الإمارات والبحرين – كانت جزءًا من الآلة الدعائية لبعض الأطراف كما ظهرت في بعض القنوات الفضائية العربية التابعة لبعض هذه الدول المتنازعة.
السؤال الذي نطرحه هنا هل يكن اللجوء إلى دبلوماسية شعبية –في ظل إيماءات المصطلح وظلاله السلبية- في إطار بعض النزاعات العربية – العربية والسعي لاحتواءها أو التخفيف من حدتها؟
الإجابة أن ذلك من الصعوبة بمكان، لكن من الممكن ممارسة بعض من التأثير المعنوي على بعض الأطراف المتنازعة، وذلك على النحو التالي:
1- الدبلوماسية الثقافية الطوعية
بعض المفكرين والمثقفين العرب، لا يزال بعضهم – رغمًا عن كل التغيرات في المجال الثقافي العربي – يمتلك بعض من التأثير الرمزي داخل الجماعات الثقافية العربية، لاسيما ذوي المكانة والإنجاز الثقافي البارز، والخطابات العروبية والنقدية، كذلك بعض كبار الروائيين والشعراء والقصاصين، والفنانين التشكيليين، والسينمائيين، من ذوي الإبداعات المتفردة والمتميزة وذات الصيت والذيوع في أوساط اجتماعية عربية واسعة.
يستطيع بعض هؤلاء أن يساهموا في التحرك لتخفيض حدة النزاعات المستعرة، أو التحرك الاستباقي إزاء بعض النزاعات المحتملة، وذلك على النحو التالي:
1- تحديد قائمة من مائة مثقف ومبدع عربي بارز، يتم دعوتهم من بعض المراكز أو المؤسسات الثقافية العربية الطوعية المستقلة أو شبه المستقلة للحوار حول قائمة أعمال إحدى القضايا لإصدار بيان المائة الذي يتضمن مبادئ أساسية موجزة للتعامل مع النزاع موضوع البيان، وآلية التعامل معه، تعكس التوازن بين المصالح الوطنية لأطراف النزاع.
2- يمكن اختيار مجموعة من المائة شخصية من ذوي الخبرة والمكانة للتحرك إزاء أطراف النزاع، والأطراف التي تلعب دور الوساطة. من ناحية أخرى تقوم هذه المجموعة بالنقاش والحوار مع نظراءها من المثقفين والمبدعين داخل الجماعات الثقافية في دول الحكومات المتنازعة.
2- دبلوماسية المؤسسات الثقافية الطوعية (الأهلية) المستقلة أو شبه المستقلة
يمكن لبعض المؤسسات الثقافية العربية الأهلية أن تلعب دورًا في هذا الصدد، وذلك على النحو التالي:
‌أ- المبادرة بالحوار وجلسات نقاشية للنزاع المطروح للتداخل حوله وإصدار بيان جماعي، أو ثنائي أو ثلاثي – بحسب أطراف المبادرة- يرمي إلى احتواءه والسعي إلى تقديم مبادرة للتعامل والتفاوض بين أطرافه.
‌ب-تشكيل وفد متخصص للحوار مع أطراف النزاع أو المشكلة مباشرة وتقديم تصوراته للحل.
‌ج- الحوار مع المؤسسات الطوعية النظيرة داخل بلدان النزاع والتحرك سويًا للعمل المشترك.
3- إعداد دراسات معمقة حول النزاعات القائمة والمحتملة، وطرائق السعي لاحتواءها والحيلولة دون تأثيرها على العلاقات الشعبية بين مواطني البلدان المتنازعة، وذلك للحد من الآثار السلبية والانقسامية لهذه النزاعات في ظل اضطراب بعض العلاقات العربية، ودور بعض وسائل الأعلام في تفاقمها.
3- محاولات التأثير على الأجهزة الإعلامية العربية وأداءها في تفاقم النزاعات
تساهم بعض الأجهزة الإعلامية العربية – المرئية والمكتوبة والمسموعة – في أداء أدوار دعائية لصالح الجهات الممولة لها، على نحو يساهم في تفاقم الأزمات والانقسامات بين بعض الشعوب العربية وبعضها بعضًا، واستثارة النزاعات المذهبية، والعرقية والقومية، والأهلية، على نحو يكرس الفجوات الإدراكية بين المواطنين العرب، ويساهم في إضعاف الفكرة العربية لصالح الوطنية والمذهبية. بعض هذه الممارسات الإعلامية تنحسر عنها القواعد المهنية، والمواثيق الأخلاقية التي تؤطر العمل الإعلامي وفق التقاليد والمعايير المقارنة، وهذا النمط من الممارسة الإعلامية غير المهنية تزايد أثنا “الربيع” و”الخريف” العربي، ولا تزال، وساهمت في تعقيد حل بعض النزاعات، والأخطر بناء حوائط من العزلة والكراهية بين بعض المواطنين العرب وبعضهم بعضًا، من خلال استثارة النعرة المذهبية، و”الوطنية” القطرية، وهو ما يسهم في إضعاف الفكرة العربية – العروبة – لصالح الهويات الوطنية – في طور التشكيك – أو بإشعال التوترات المذهبية – السنية / الشيعية – والطائفية. من ناحية أخرى هذا النمط من الممارسات الإعلامية الأثارية والسجالية والقدحية دفع عديد من المواطنين العربي في المنطقة المغاربية ومعهم بعض المؤسسات الطوعية، بل والأنظمة والنخب السياسية الحاكمة إلى إعطاء ظهورها للمشرق العربي ومشاكله ونزاعاته، بكل تأثيرات ذلك السلبية على الفكرة العربية، وربما بعض من الأنامالية السياسية إزاء أزمات الإقليم العربي، وتجاه فكرة التضامن العربي، بل وتمدد الإدراكات السلبية إزاء الجامعة العربية وأزمات عدم فعاليتها، وضعف قدراتها على المبادرة خارج توافقات الدول الأعضاء على نحو أفقدتها قواعد واسعة للمناصرة الشعبية، تضفى عليها شرعية ما فوق الدول الأعضاء وتسمح لها بمبادرات تجاه المنظمات الطوعية والجماعات الثقافية لصالح تجديد العروبة مع الحفاظ على كيان الدولة / الوطنية – تحت التشكيل-، والدول الأعضاء في “بيت العرب” الرسمي.
4- السعي للتشبيك بين المؤسسات الثقافية والبحثية العربية
تشكل الثقافات العربية – العربية أحد أهم المصادر الحيوية للسعي للتكامل فيما بين بعضها بعضًا، وفي تشكيل هوية جامعة فوق الهويات التكوينية – الدينية والمذهبية والعرقية والقومية واللغوية والمناطقية – من خلال العمل الطوعي / الأهلي، بل والمؤسسات الرسمية في أطر من التكامل والتنافس الصحي المتبادل سعيًا وراء تجديد الثقافات العربية وموحداتها الداخلية والعابرة للوطنيات في إطار تعددياتها.
من هنا يمكن للمؤسسات الثقافية العربية المرموقة – ذات التاريخ والإنجاز – أن تبادر باتخاذ ما يلي:
1- التشبيك فيما بين بعضها بعضًا، ووضع آليات للعمل والتنسيق المشترك في الأنشطة، والدخول في أنشطة بحثية وحوارية مشتركة حول قضايا التضامن العربي.
2- إعداد لمؤتمر جامع بين هذه المؤسسات حول مشاكل التضامن العربي وإصدار بيان حول تجديد العروبة، ومبادئ عامة لاستعادة التضامن العربي وحل المنازعات التي قد تثور بين بعض البلدان العربية مع بعضها بعضًا، أو إزاء بعض دول الجوار الجغرافي العربي.
3- يمكن لمجموعة مختارة ذات خبرة من بين هذه المؤسسات، وبعض الحكماء العرب من سياسيين بارزين من ذوي الخبرة والحنكة والاستقلالية والإيمان بالعروبة، وبعض كبار المثقفين، أن تلعب دورًا مهما في الدبلوماسية الوقائية الطوعية، للحيلولة دون تحول بعض الاحتقانات السياسية أو الأهلية إلى نزاعات مستعرة في العلاقات بين بعض البلدان العربية الشقيقة وبعضها بعضًا. من ناحية أخرى يمكن لوفد الدبلوماسية الطوعية الوقائية أن يلعب دورًا في تخفيف بعض الاحتقانات المذهبية المشتعلة عربيًا، أو في النزاعات “الطائفية”، والتوترات الإسلامية – المسيحية، من خلال البيانات، ومؤتمرات جادة ورصينة حول تخفيض التوترات، وإرساء قواعد ومبادئ المواطنة والعيش المشترك وإعمال القيم الدينية المشتركة العابرة للأديان.
5- الدبلوماسية الطوعية الدينية الوقائية
يمكن لبعض المؤسسات الثقافية، وجماعات الحوار الديني / الديني المشترك أن تساهم في تخفيف حدة الصراع الديني / الديني، والمذهبي / المذهبي داخل الديانة الواحدة من خلال ما يلي:
أ‌- اختيار بعض الوجوه الحوارية المستقلة، وذات النزوع التجديدي والإصلاحي في الفقه والتفسير والتأويل، وفي اللاهوت المسيحي – متعدد المذاهب-، والتي تتمتع بحسن السمعة، والمكانة في الدوائر الحوارية، ومعهم بعض كبار المفكرين العرب. يشترط في هؤلاء وأولئك ألا يكونوا من ذوي النزعة الأثارية أو السجالية حول الأديان والمذاهب الأخرى، وسعيهم للتقريب بين المذاهب حول المشتركات الأساسية الجامعة، واحترامهم للخلاف المذهبي.
تقوم هذه المجموعة بالمبادرة للتقريب بين وجهات النظر في الخلافات المذهبية، والحوار مع المؤسسات الدينية الرسمية حول قضايا التقريب المذهبي، والحوار الديني / الديني حول القيم المشتركة العابرة للحدود بين الأديان والمذاهب، وإصدار بيان جامع في هذا الصدد.
6- مبادرة للحوار مع قادة النخبة الإعلامية العربية، وبعض الأجيال الإعلامية الشابة، حول مدونة مهنية وأخلاقية عربية.
إن ما يدعو إلى هذا الحوار الدور السلبي للإعلام العربي- المرئي والمسموع والمكتوب – في تفاقم النزاعات والخروج السافر على المعايير المهنية والقواعد الأخلاقية المعمول بها دوليًا في المؤسسات الإعلامية الدولية، في خطاباته حول الأزمات العربية – العربية. بعض هذه الممارسات اللامهنية واللاأخلاقية تمس شمائل بعض الشعوب الشقيقة أو تقاليدها أو عاداتها بما يحول النزاعات بين بعض حكومات ونخب سياسية إلى بين بعض الشعوب بعضها بعضًا بآثار ذلك على بناء الحدود النفسية والإدراكية بين بعضها بعضًا. من الممارسات السلبية الخطيرة، هو خطاب الذم والقدح والتجريح اللامهني واللاأخلاقي الماسة بشخصيات القادة والحكام، وفي بعض الأحيان يمتد إلى الأسر الحاكمة وسيداتها الفضليات، بكل آثار ذلك السلبية على إمكانات تخفيض التوترات والتفاوض لاحتواء النزاعات.
من هنا يمكن إصدار بيان من بعض المؤسسات الثقافية والمفكرين والسياسيين العرب الحكماء وشيوخ المهنة ورموزها في عالمنا العربي، يطالب الأجهزة الإعلامية العربية، لاسيما الفضائيات بضرورة الالتزام بالمهنية ومعاييرها وأخلاقياتها في التعامل مع النزاعات العربية – العربية.

خاتمة:
المقترحات العملية والإجرائية السابقة السرد، تتعامل مع الممكن والمتاح لمحاولة المساهمة الجزئية في وقف التدهور في التضامن العربي في إقليم مضطرب وغير مستقر، وبعضها يمكن الانطلاق منه فورًا من خلال بعض المؤسسات الثقافية والبحثية والشخصيات المرموقة، أو بدعوة الجامعة العربية إلى عقد ملتقى للحكماء العرب من السياسيين والمفكرين والإعلاميين للدعوة إلى تخفيض التوترات والاحتقانات السياسية العربية، وتشكيل وفد للالتقاء بأطراف بعض النزاعات لوقف التدهور في التضامن العربي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر/ المركز العربي للدراسات والبحوث

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة